Keynes Muqaddima Qasira
جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا
Genres
يجب على الاقتصادي المتمكن أن يمتلك مزيجا نادرا من الهبات ... يجب أن يكون عالم رياضيات ومؤرخا ورجل دولة وفيلسوفا، بدرجة ما. عليه أن يفهم الرموز ويتحدث بالكلمات. عليه أن يتأمل ما هو خاص في ضوء ما هو عام، وأن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير. وعليه أن يدرس الحاضر في ضوء الماضي من أجل المستقبل. ويجب ألا يخرج أي جزء من طبيعة الإنسان أو مؤسساته عن دائرة اهتمامه بشكل كامل. وعليه أن يكون هادفا ونزيها معا؛ فينعزل ويتسامى عن الشوائب مثل الفنان، لكن ينزل إلى أرض الواقع أحيانا مثل رجل السياسة.
وكتبت زوجة كينز - ليديا لوبوكوفا - إن كينز كان «أكثر من مجرد اقتصادي»؛ فقد رأى كينز نفسه أن «عوالمه كلها» أثرت فكره الاقتصادي. فهو أشبه ما يكون بعالم الاقتصاد السياسي - ذلك المفهوم القديم الذي يصعب تعريفه - وهو شخص يعتبر الاقتصاد فرعا من فروع إدارة الدولة، لا علما منغلقا على ذاته له قوانينه الثابتة. ذات مرة سأله أحد محاوريه في لجنة المالية والصناعة (لجنة ماكميلان): ألم تعطل مزايا الضمان الاجتماعي عمل «القوانين الاقتصادية»؟ رد كينز بقوله: «لا أعتقد أن من بين القوانين الاقتصادية ما ينص على أن تميل الأجور إلى الانخفاض أكثر من ميلها للارتفاع. إن الأمر يتعلق بالحقائق. والقوانين الاقتصادية لا تصنع حقائق؛ بل تبين تبعاتها.» وفي منتصف عمره، كان دائم الشكوى من أن الاقتصاديين الشباب لم يكونوا يتلقون تعليما مناسبا؛ فلم تكن لديهم ثقافة واسعة تمكنهم من تفسير الحقائق الاقتصادية. وفي هذا إشارة لمشكلة علم الاقتصاد، وكذلك للثورة الكينزية؛ فقد أشعل كينز نار الإبداع بين المختصين، لكنهم ظلوا مجرد مختصين؛ فقد استخدموا أدواته لكنهم لم يضيفوا جديدا لرؤيته.
وزعم كينز في مقاله عن توماس مالتوس أن «رجل الاقتصاد الأول في كامبريدج» لديه «حدس اقتصادي عميق»، و«مزيج غير عادي من انفتاح الذهن على الصورة المتغيرة للتجربة والتطبيق المستمر لمبادئ التفكير المنهجي على تفسيرها.» وفي هذا ملخص لفلسفة كينز في الاقتصاد؛ فقد أخبر روي هارود عام 1938 أن علم الاقتصاد «هو علم التفكير باستخدام النماذج ممزوجا بفن اختيار النماذج المناسبة للعالم المعاصر ... فالاقتصاديون الأكفاء نادرون؛ لأن موهبة توظيف «الملاحظة الواعية» لاختيار النماذج الجيدة ... تبدو غاية في الندرة.» وفي مقاله عن إسحاق نيوتن، نقل كينز كلمات دي مورجان عنه: «إنه سعيد جدا بحدسه بحيث يبدو وكأنه يعلم أكثر مما يمكنه إثباته.» وهذا الكلام ينطبق على كينز الذي كان يشعر بصحة النتيجة قبل أن يتمكن من تقديم الدليل عليها.
كان كينز أكثر الاقتصاديين اعتمادا على الحدس؛ والحدس المقصود هنا هو الحدس «الأنثوي»، وهو شعور باليقين بعيد كل البعد عن العقلانية. (ويرجع تشارلز هيسون، واضع إحدى سير حياة كينز، إبداعه إلى مزيج من الحدس الأنثوي والمنطق الذكوري.) ويجب التفريق بين الحدس بهذا المعنى والحدس الفلسفي الذي آمن كينز به أيضا، والذي ينص على أن المعرفة تنبع مباشرة من التأمل الذاتي. كان كينز يتمتع بقدرة ثاقبة على إدراك الصورة الكلية في مجمل المواقف، وكان لديه قدر كبير من الخيال العلمي الذي عزاه إلى فرويد، والذي «يمكنه أن يقدم سيلا من الأفكار المبتكرة والاحتمالات المثيرة والفرضيات المفيدة، التي لها جميعها أساس كاف في الفطرة والتجربة.» كما كانت الحقائق الاقتصادية أكثر ما يجذب تأملاته، عادة من الناحية الإحصائية. وكان دائما ما يقول إن أفضل الأفكار التي خطرت بباله جاءته في أثناء «عبثه بالأرقام ومحاولة اكتشاف مدلولاتها.» لكنه مع ذلك كان متشككا في علم الاقتصاد القياسي المعني باستخدام الطرق الإحصائية لأغراض التنبؤ. كما طالب بتطوير علم الإحصاء، ليس من أجل فهم أفضل لأمور مثل معامل الانحدار، ولكن ليعتمد عليه حدس الاقتصادي.
كان من أهم مصادر فهم كينز لمجال الأعمال انخراطه الشخصي في جني الأموال؛ فقد قال عنه نيكولاس دافينبورت صديقه ورفيقه: «لقد كان فهم كينز لنزعة المراهنة هو ما جعل منه اقتصاديا عظيما.» وأضاف:
الاقتصادي الأكاديمي لا يعلم حقا دوافع رجل الأعمال، ولم يفضل أحيانا أن يراهن على مشروع استثماري، بينما يفضل في أحيان أخرى الاحتفاظ بالسيولة النقدية. أما مينارد فقد فهم تلك الدوافع؛ لأنه كان نفسه مراهنا، وأدرك نزعتي المراهنة والحفاظ على السيولة لدى رجل الأعمال. وفي مرة قال لي: «تذكر يا نيكولاس أن الحياة دائما رهان.»
وغالبا ما كان يتعارض شغف التعميم عند كينز مع حسه الثاقب نحو الأشياء الخاصة المهمة. فقد كافح دائما من أجل «أن يرى عالما كاملا في حبة رمل ... وأن يرى الدهر في ساعة.» لقد كانت قدرة كينز على «أن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير» ميزة باهرة ومحيرة في نفس الوقت لأفكاره الاقتصادية. ولم يكن الناس على علم قط بمستوى التجريد في تفكيره. وقد شكا زميل كينز في جامعة كامبريدج، والذي يدعى بيجو، في أثناء نقده لكتابه «النظرية العامة»؛ من رغبة كينز في «تحقيق مستوى عال من التعميم؛ بحيث تجب مناقشة كل شيء في نفس الوقت.» وقال شومبيتر الكلام ذاته تقريبا؛ فقد قال إن كتاب كينز «النظرية العامة» قدم «في ثوب من الحقيقة العلمية العامة، نصائح ... لا معنى لها إلا في سياق المقتضيات العملية لموقف تاريخي مميز في زمان ومكان محددين»؛ فقد عرض الكتاب «حالات خاصة منحها ذهن الكاتب وطريقة عرضه تعميما خادعا.»
وجاء من زميل آخر لكينز في جامعة كامبريدج، وهو دينيس روبرتسون، نقد ذو صلة يلخص في عبارة «التأكيد المفرط المتتابع»، فقد قال في هذا الشأن:
يمكنني القول إنني - بقدرتي على التواصل المستمر مع جميع عناصر مشكلة ما بشكل تقليدي غير مميز - مثل دودة براقة تنشر ضوءها الضعيف على جميع الأشياء المحيطة بها؛ لكنك في المقابل - بفكرك الأكثر قوة - مثل منارة تسلط شعاعا أقوى بكثير، وإن كان مشوها جدا أحيانا، على شيء واحد ثم الذي يليه.
انتقد ألفريد مارشال في جيفنز ما انتقده الكثيرون في كينز: «حتى أخطاؤه عززت نجاحه ... فقد دفع الكثيرين للاعتقاد أنه يصوب أخطاء عظيمة، بينما كان ما يفعله حقيقة هو إضافة تفسيرات هامة.»
Unknown page