والقارئ المصري يحتاج إلى أن يدرس أكثر من الديمقراطية والاشتراكية والفاشية؛ فإن القارئ الأوروبي يمكنه أن يقنع بدراسة هذه النظم؛ لأن مناخه السياسي يتألف منها جميعا، أو يتقلب فيها، أو يستقر على واحدة منها، أما القارئ المصري فيحتاج إلى دراسة أخرى، هي دولة تركيا التي انسلخت من الشرق وانضمت إلى الغرب بقيادة رجلها كمال أتاتورك الذي يزيد في عظمته وصدق فراسته وقوة خياله على آلاف ممن يسمون عظماء منذ الإسكندر إلى يومنا، ويجد القارئ في كتاب عزيز خانكي (بك) عن هذا الزعيم التركي ما يقفه على شيء من عظمته، ويحثه على الاستزادة من الدراسة للنهضة التركية الرائعة، وهو في هذه الدراسة سيجد أسبابا كثيرة لتأخرنا نحن في مصر.
وفي اللغات الأوروبية كثير من الكتب التي تشرح النهضة التركية وتوضح فلسفة هذا الانقلاب.
وكذلك يجب أن ندرس الهند ونظامها الجديد بعد جلاء الإنجليز عنها؛ فإنها بقيادة غاندي أولا، ثم نهرو ثانيا، قد فصل الدين عن الدولة، وألغت النجاسة، ومنحت المرأة الحقوق الدستورية التي ساوتها بالرجال في التصويت والانتخاب، وعينت المرأة وزيرة وسفيرة، وساوت في الميراث بين الذكر والأنثى.
وفي ظروفنا القائمة يجب أن ندرس الإمبراطوريات العصرية الفرنسية والبريطانية والهولندية، وألوان الحكم التي تفشت في مصر والهند وجاوة وتونس وغير هذه الأقطار، كما ندرس الاستعمار بأشكاله المختلفة في الأمم المتأخرة، والمرجو أن ينتهي الاستعمار وتموت المبادئ الإمبراطورية عقب هذه الحرب، ولكن هذا الرجاء في الوقت الحاضر يشبه الأمنية الخيالية أكثر مما يشبه الأمل الذي يتحقق، والعالم لا يزال في حاجة إلى كفاح لتحرير الشعوب الخاضعة، كما احتاج من قبل إلى كفاح لإلغاء الرق، ويجب أن نتزود بالإحصاءات السنوية والتعداد الذي يتم كل عشر سنوات مع أطلس جغرافي، وكل هذا متوافر في لغتنا، ولكن هناك أطلسا سياسيا ينشر في اللغات الأوروبية ويبين التغيرات الإقليمية التي تنص عليها المعاهدات أو تحدثها الحروب، وهذا أيضا ضروري لكل من يدرس السياسة ويقرأ أخبارها اليومية، ومما يؤسف له كثيرا أن بعض القراء يهملون الإحصاءات، مع أنها المواد الخامة التي يتألف منها كل مشروع إصلاحي، والعقلية الإحصائية هي العقلية العلمية، وهي أكثر العقليات سدادا لدرس السياسة والاجتماع.
ومن الحسن أيضا أن يشترك القارئ في مجلة أوروبية سياسية من تلك المجلات الأسبوعية التي تنقل التطورات السياسية وتعنى بإيضاحها. •••
كتبت هذا الفصل في 1945؛ ولذلك تحاشيت ذكر دولة الاتحاد السوفيتي اتقاء السجن، فلم أقل بضرورة الدراسة لهذا النظام. أما الآن - في 1948 - فإني أحتاج إلى تذكير القارئ بأن في العالم ألف مليون إنسان يعيشون في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرها في نظام اشتراكي كامل، ومن الحمق والغباوة أن يعد أحدنا نفسه مثقفا إذا لم يدرسه، وإذا لم يتابع التطورات الاشتراكية فيه.
دراسة التاريخ
لا نستطيع أن نفهم الاقتصاد والاجتماع والأخلاق والسياسة إلا إذا درسنا التاريخ، وزيادة على هذا فإن التاريخ يكسبنا العقلية الروحية البشرية؛ لأنه يشرح جهاد الإنسان نحو الرقي والحرية والحضارة، وهو بهذه المثابة يقوي في أنفسنا روح الخير، ولكنا نعني هذا التاريخ الحسن الذي يكتب بلا دعاية وطنية، بل ينظر إلى البشر كأنهم أمة واحدة تكافح من أجل الحضارة على الرغم من الأخطاء المتكررة.
وقد كان التاريخ يدرس قديما باعتباره فنا يراد منه الدعاية الوطنية أو المذهبية، وهو كذلك الآن في الأمم الفاشية، حيث هو وسيلة للتعصب والكراهية والحرب مع أن الرجل المثقف الذي عني بدراسة التاريخ في نزاهة ودقة يجد فيه الوسيلة للحب البشري والسلام والتسامح.
ويجب أن نجعل للتطور البيولوجي - أي انتقال الإنسان من الحيوانية إلى البشرية - أكبر قسط من دراستنا، أي يجب أن ندرس تاريخ الإنسان قبل التاريخ، وعلى القارئ أن يذكر كتابي هنا، وهو «نظرية التطور وأصل الإنسان»؛ فإنه على إيجازه يفتح بصيرته وقد يحمله على الاستزادة.
Unknown page