وسبب ثان لدراسة هذا التاريخ الفرعوني، أنه في الحقيقة ليس تاريخ مصر وحدها بل تاريخ الحضارة الأولى للعالم، ونحن حين ندرسه إنما ندرس البواعث البشرية الأولى لإيجاد ثقافة زراعية، وكيف نشأت الأديان والحكومات والقوانين والأخلاق، ولا يمكن إنجليزيا أو صينيا أو برازيليا أن يعد نفسه مثقفا ما لم يدرس تاريخ مصر، ففي مصر - دون أقطار العالم - انتقل الإنسان من ذهول الطبيعة والغابة إلى وجدان الزراعة والحضارة، ومن مصر تفشت المعارف، أو بالأحرى العقائد الأولى، وعمت الدنيا القديمة وأوجدت الحضارة الأولى في القارات الخمس، والأساطير التي شاعت في مصر في العصور الفرعونية انتقلت إلى كثير من الأقطار، واتخذت أشكالا محلية مع احتفاظها بالأصول المصرية؛ فإن عبارة «ابن الإنسان» التي نجدها في الإنجيل نجدها أيضا في الدولة الثانية عشرة في مصر، وصلوات إخناتون تذكر أحيانا - بحروفها - في التوراة، وتحنيط الموتى قد وجد عاما في جزر الشرق الأقصى وأمريكا على الطريقة المصرية، وكثير من عقائد الفراعنة شأن الدين لا تزال حية في بعض الأديان الراهنة، بل إن رندل «هاريس» يعتقد أن كثيرا من أسماء المدن في بريطانيا إنما هو أسماء مصرية قديمة، ولعل القارئ لا يعجب بعد ذلك إذا عرف أن الأسماء الأربعة العربية للقمح، إنما هي مصرية فرعونية، ومن هنا تخصص عشرات المجلات الأوروبية لدراسة عصور الفراعنة.
ولا يسع الشاب المثقف أن يهمل كل هذا، ثم هنا سبب ثالث يحملنا على دراسة الفراعنة، وهو أن مصر معرض من أفخم المعارض في العالم للآثار القديمة، فنحن نمتاز بمتحف ليس له نظير في أي قطر آخر، يحوي من الآثار ما يعد أحقرها تحفة فذة في تاريخ البشر، ثم هناك مئات الآثار المتفرقة في مدن الصعيد والوجه البحري، آثار السذاجة البدائية للإنسان قبل الزراعة، ثم آثار الحضارة الأولى حين شرع الإنسان يتهجى كلمات الحكومة والدين والفضيلة والعائلة. وكثير من أبناء الأمم الأخرى لا يعدون ثقافتهم كاملة ما لم يزوروا مصر ويعاينوا آثارها.
وعلى كل مصري قادر أن يحج إلى هذه الآثار، وأن يدرسها ويفحص عن أصولها، وهو حين يفعل هذا يدرس كثيرا من أصول الدين والأخلاق والسيكلوجية، وهو إذا كان على معرفة بإحدى اللغات الأجنبية؛ فإنه واجد مئات الكتب عن تاريخ الفراعنة، ومنها المطول والموجز والعام والخاص بل هو يجد المجلات التي تتخصص في تاريخ مصر الفرعونية، وحسبه أن يسأل عن أسماء برستد وبروجس وبتري وإليوت سمث وبيري وماسبيرو، هذا غير المؤرخين القدماء مثل هيرودوتس وبلوتارك.
أما في اللغة العربية فيمكن القارئ أن ينتفع بقراءة مؤلفات سليم حسن وأنطون ذكري، وما ترجم عن برستد إلى اللغة العربية، وعبد القادر حمزة وسلامة موسى.
وهنا نحتاج إلى التنبيه، وخاصة لإخواننا العرب في العراق أو سوريا أو لبنان أو فلسطين أو تونس وغيرها، بأن دراسة الشاب المصري للفراعنة لا تعني بتاتا تحيزا للثقافة الفرعونية دون الثقافة العربية؛ فإنه ليس هناك أسخف من التعصب للتاريخ القديم، ولكنا نحن ندرس الفراعنة لأنهم أسلافنا وجدودنا، ولأننا نكشف بهذه الدراسة عن أصل الحضارة عامة، ولأن مصر حافلة بالآثار الفرعونية التي لا يسع شابا مثقفا أن يجهلها، ويجب كذلك على العراقي أن يدرس تاريخ البابليين والسومريين والكلدانيين الذين سكنوا بلاده، كما يجب على الفلسطيني واللبناني والسوري أن يدرسوا تواريخ بلادهم. وليس في شيء من هذا دعوة إلى الانشقاق أو كراهة للانتهاض الثقافي العربي.
لقد عنينا في فصول سابقة بإيضاح القيمة الكبيرة لدراسة الثقافة العربية القديمة، ويجب ألا تقل عنايتنا بدراسة الثقافة الفرعونية عنها.
اللغة الأجنبية
كان جوتيه الأديب الألماني الكبير يقول: «من لا يعرف غير لغته لا يعرف لغته»؛ وذلك لأنه - بالمقارنة - يستطيع أن يصل إلى الحقائق اللغوية التي لا يدريها المقتصر على لغته، وهو يترقى بهذه المقارنة إلى إدراك الميزات للغته الأصلية كما يقف على عيوبها، وفي كل لغة راقية ميزات وعيوب، ونحن حين نقرأ الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية نقف من المعاني فيهن على أضواء وظلال تختلف عما عرفناه في لغتنا العربية، وهذه المعاني تجعلنا أعمق فهما للغتنا وأكثر إدراكا وتقديرا للمحاتها وإيماءاتها الخفية.
وهذا إلى أننا نتصل عن سبيل اللغة الأجنبية بعشرات من العلوم والفنون، التي لا نقول إنها لم تعالج المعالجة الحسنة في اللغة العربية بل نقول إن مجرد أسمائها لم يعرف إلى الآن في لغتنا؛ وذلك لأن اللغات الأوروبية سبقت لغتنا في النهضة الكبرى، وارتفعت برقي الشعوب التي تتكلم بها، وفي القرون الخمسة الأخيرة، حين كان الأتراك يسحقوننا، والمماليك يتهتكون في الاستبداد بنا، كان الأوروبيون يغرسون الأصول لحضارة بشرية عالمية، وقد عالجوا لغاتهم بحيث صارت تؤدي المعاني الدقيقة، وتعين المفكرين على الابتكار والتوليد بما فيها من كلمات جديدة نمت بها وارتقت.
واللغات الأوروبية العصرية تختلف - زيادة على ما ذكرناه - من لغتنا في المزاج الأدبي؛ فإن لغتنا اقتباسية تقليدية، كثيرا ما يقوم الاقتباس فيها مقام التفكير، أما اللغات الأوروبية فيعتمد كتابها على الابتكار في تأليف المعاني، فيكسبونها حيوية ونشاطا لا تصل إليهما لغتنا في وقتنا الحاضر، وظني أن هذا الجمود الذي نجده في لغتنا، أو بالأحرى أن هذا الجمود الذي يعمد إليه بعض كتابنا، في الاعتماد على الاقتباس والتقليد بدلا من الابتكار والتفكير، إنما يرجع إلى أن لغتنا محرومة من نحو مئة علم وفن، وهذا الحرمان قد جعلها في قحط للمعاني المبتكرة، فانتكس الكتاب إلى المعاني القديمة، واقتصروا عليها، يجترونها ويقتبسون عبارات القدماء المزخرفة كأنها تفكير وابتكار.
Unknown page