وهناك من يقول إن غاية الحياة هي السعادة، والفهم يؤدي إلى السعادة، إذا اعتبرنا أن السعادة هي الزيادة في الوجدان والدراية وليست الامتداد في العاطفة؛ لأن ما نأخذه من العاطفة إنما هو السرور فقط: نلتذ بالأكل والتزاوج واللعب والسيادة والفخر، ولكن هذه اللذه تزول بزوال ظروفها التي بعثتها وزوال العاطفة التي جعلتنا نلتذ بها، ولكننا نسعد السعادة العظمى حين نزداد وجدانا، أي دراية بهذه الدنيا؛ ومن هنا يجب أن تكون التربية للفهم حتى نحيا الحياة السعيدة، والسبيل إلى الفهم، الفهم العام المحيط، هو الثقافة.
ولكن الثقافة في أيامنا لم تعد عامة ولا محيطة؛ وذلك لأسباب كثيرة، منها ان المعارف قد كثرت وأصبحت الإحاطة بها شاقة، ومنها أن هذه الكثرة في المعارف قد بعثت على التخصص، وإذا أنت قرأت «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة وجدت أن الطبيب قبل ألف سنة كان «حكيما» كما لا يزال جمهورنا يدعوه؛ أي إنه لم يكن يعرف الطب فقط، بل كان أيضا يعرف الفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والدين، وربما يقال إن هذه «الحكمة» لم تكن تنفعه في العلاج، وهذا ما نشك فيه، وخاصة في أيامنا حين نعرف أن المرض يلابس البيئة الاجتماعية وينطوي في كثير من الأحوال على حال نفسية معينة، وإذا قلنا «حال نفسية» فقد قلنا «حال فلسفية»؛ فالطبيب الحق هو في النهاية «الحكيم» الذي لا ينظر إلى المريض بعينيه فقط، وإنما ينظر إليه من خلال عينيه، فيفكر في حالته الاجتماعية واتجاهه النفسي وموقفه الفلسفي، وإذا فرضنا أن الطب يجب ان يتجزأ، وأن الطبيب يجب أن يتخصص في فنه لتيسير العلاج؛ فإننا مع ذلك لا نستطيع أن نقول إن المختصين سواء في الطب أم في غيره قد حصلوا على تربية للحياة، وقصارى ما نصفهم به أنهم حصلوا على مهارة في الحرفة، فإذا اقتصروا على هذا التخصص فإنهم بذلك يبقون أميين في فن الحياة.
والحق أن الانتقال من «الحكيم» الذي يقص علينا ابن أبي أصيبعة حياته في كتابه، إلى «المتخصص»، هو وثبة من النور إلى الظلام، أو من الثقافة إلى العامية، وهناك رأي عام أو خاص بين الأطباء يعبر عن الكراهة للمبالغة في التخصص كما تدل على ذلك هذه النادرة التالية التي ترويها الدوائر الطبية الإنجليزية.
فقد تخرج أحد الطباء في الجامعة وقابل طبيبا كبيرا، فأدلى إليه بأنه يريد أن يتخصص، فسأله الطبيب الكبير: ما هو الفرع الذي تريد أن تتخصص فيه؟ فقال خريج الجامعة الجديد: «أريد أن أتخصص في الأنف وحده؛ لأن المألوف هو التخصص في الأنف والحلق والحنجرة، ولكن أجد أن الطبيب لم يعد يسعه أن يعالج كل هذه الأعضاء، وعليه أن يكتفي بواحد منها». فقال الطبيب الكبير ساخرا: وهل تبغي التخصص في المنخر اليمين أو المنخر اليسار؟
ومع أن القصة خاصة بالأطباء فإن قيمتها الرمزية تتجاوز حرفة الطب إلى الحياة التي يحياها كل منا؛ ذلك أننا نتخصص ونعين حدودا لاهتماماتنا النفسية والذهنية، بل أحيانا تغمرنا الحرفة حتى نعيش لها كأنها هدف الحياة وليست وسيلتها، وكذلك البقال الذي كان يرصد كل وقته للبقالة، فلما مات كتب على قبره: «ولد إنسانا ومات بقالا».
وكلنا على هذه الحال أو حال قريبة منها، وقليل منا من يرفض هذا التخصص الحرفي ويغزو ما حوله من شئون اجتماعية وفنية، فالطبيب لا يدرس الهندسة والأديب يجهل الكيمياء، والعلميون لا يقرءون الشعر، ولذلك لا يستطيع واحد من جميع هؤلاء أن يقول إنه مثقف؛ لأن الثقافة يجب أن تكون عامة محيطة تؤدي إلى فهمنا للطبيعة والإنسان، أي يجب أن نعرفها جميعا على سبيل الإحاطة الاجمالية حتى نعرف ارتباطاتها، وحتى نستطيع أن نسددها إلى الخدمة البشرية، وعندما أتامل الدمار الذي أحدثته مشروعات الري في مصر بصحة التربة والنبات والحيوان والإنسان أحس الحسرة والأسف لأن المهندسين الذين وفروا المياه كانوا يجهلون الطب والبيولوجية، ولو أنهم عرفوا القليل عنهما لما وفروا هذه المياه التي فتكت بصحة الفلاحين ومزقت لحومهم بالديدان، فضلا عن الدمار الذي أحدثته للتربة المصرية، إلا بعد الاحتياط من الأضرار التي كانت ستنشأ من توفيرها.
فهناك ارتباط بين الطب والهندسة كان جديرا بنا - لو عرفناه وعملنا به - أن ننقذ صحتنا العامة ونصونها من البلهارسيا والإنكلستوما والأسكاريس، ولو أن الذين كانوا يعملون في استغلال الذرة كانوا قد درسوا الفلسفة أو الاجتماع أو الدين لما ظهرت هذه القنبلة الذرية التي تهدد الحضارة بالفناء، وقصارى ما نقول هنا إن هؤلاء العلماء الذين كشفوا عن ماهية الذرة، واستخدموها لصنع القنابل، لم يحصلوا على تربية للحياة، وإنما حصلوا على تربية للحرفة، ثم تخصصوا فكان تخصصهم هذا بمثابة الغمامة التي توضع على عيني الجواد حتى لا يرى ما حوله، بل يقصر نظره على ما أمامه فقط.
وأنا لا أعني ضرورة التثقيف العام لمنفعة المجتمع فقط، وإن كانت هذه المنفعة لا تنكر ، وإنما أقصد إلى أن هذا التثقيف ضروري للفرد نفسه حتى يؤدي غاية الحياة وهي الفهم، أي زيادة الوجدان، أي السعادة؛ لأنه ما دامت الحياة أكبر من الحرفة فإن التثقيف يجب أن يكون للحياة قبل أن يكون للحرفة، وأضرب مثلا لاثنين من عظماء المفكرين أحدهما الجاحظ والثاني داروين.
ومع أن داروين قد غير الاتجاه الثقافي لجميع البشر حين وضع نظريته المادية مكان العقائد الغيبية القديمة؛ فإنه بالمقارنة إلى الجاحظ يعد ناقصا لم يحصل على تربية للحياة كما حصل الجاحظ، وهذا بالطبع مع اعتبار العصر الذي عاش فيه كل منهما؛ ذلك أن داروين قد تخصص في البيولوجية فأهمل الأدب والفلسفة والدين والشعر والفنون عامة، حتى لقد كتب وهو في شيخوخته يقول:
إلى أن بلغت الثلاثين من العمر كانت أشعار ملتون وجراي وبيرون ووردزورث وكوليردج وشيلي تثير في نفسي البهجة، وكنت وأنا تلميذ أجد سرورا عميقا في أشعار شكسبير، وخاصة في دراماته التاريخية، وقد سبق أن قلت إن رؤية الرسوم الفنية والاستمتاع للموسيقا كانا يشيعان السرور العظيم في نفسي، ولكني الآن ومنذ سنين لم أعد أطيق قراءة بيت من الشعر، وقد حاولت أن أقرأ شكسبير فوجدته من التفاهة، بحيث أثار الغثيان في نفسي، وفقدت الذوق للرسوم الفنية والموسيقا، وفقداني لهذا الذوق هو فقدان السعادة، وربما يكون أيضا مضرا بالذهن، بل المرجح أنه يضر بالأخلاق؛ لأنه يضعف الناحية العاطفية في طبيعتنا.
Unknown page