الهواية في الثقافة
إذا كانت الثقافة هواية، يهواها الصبي في المدرسة، ثم ينشأ عليها شابا، فإنها ستلازمه إلى الكهولة فالشيخوخة، ومعظم الأوروبيين في إنجلترا وروسيا وألمانيا وفرنسا ينشأون ولهم غرام بالثقافة؛ لأنهم تعودوها من الصبا بل من الطفولة، ولكن الحال ليست كذلك في مصر؛ لأن الطفل لا يجد من الكتب المغرية ما يجعله يهوى الثقافة في طفولته ثم في صباه، وهنا يجب أن نشيد بما يقوم به بعض المؤلفين المتخصصين من تزويد صبياننا بالكتب التي تجعلهم يقرءون ويفكرون، ولكن هذا المجهود يجب أن يضرب في مئة حتى يفي بالغاية.
ويجب على الآباء أن يشجعوا صبيانهم على اقتناء الكتب والاشتراك في المجلات وقراءة الجرائد، حتى تصير هذه الأدوات بعض المناخ الحضاري الذي يعيشون فيه ولا يمكنهم في المستقبل الاستغناء عنه، كما يجب أن ينفقوا على الهواية الثقافية التي يتعلق بها الصبي حتى يحثوا ذكاءه على الالتماع ويبعثوا نشاطه على التفكير، وبعض الآباء يبخل على ابنه أو ابنته بالنفقات لهذه الهواية، أو يضن بوقتهما كي لا يضيع في دراسة ليس لها قيمة في الامتحانات والشهادات، ولكن هذه الدراسة هي التي ستعيش وتبقى مع الصبي على حين يصير رجلا وشيخا. وهي التي ستجعله إنسانا إنسانيا، حين ينسى ما تعلمه في المدرسة أو الجامعة من دروس لعله لم يكن يقصد منها سوى الاحتراف للكسب.
وقد يعترض القارئ بأنه لم يجد التشجيع في صباه، وهو الآن لا يجد الرغبة في الثقافة، ولكن هذه الأمية يمكن علاجها؛ فإن أي شاب يمتاز بذكاء متوسط أو حتى دون المتوسط بقليل، يجد في نفسه اهتمامات ثقافية مختلفة من قراءة الجريدة اليومية إلى الاستماع للرديوفون إلى غير ذلك، ولا بد أنه سيجد البؤرة تتشعب اهتماماته، فيجد الرغبة في الدرس.
وعلى من ينشد الثقافة أن يختار أصدقاءه من المثقفين، حتى يجد فيهم المشورة الحسنة والاختيار السديد، ويتجنب أولئك الأميين الذين غرست فيهم المدرسة أو الجامعة الكراهية للكتب، أو أولئك الذين حملتهم الاعتبارات المادية في مجتمعنا على ألا يقيموا وزنا لأي نشاط إلا إذ كان حرفيا يزيدهم درجة أو يأتي لهم بعلاوة في الوظيفة.
فإذا وجد الشاب البؤرة التي يتجمع فيها نشاطه فعليه أن ينفق بسخاء ويشتري كل ما يتصل بها كي يتوسع ويتعمق، وقد تكون هذه البؤرة فنا أو علما، وفي العالم منهما نحو 130 أو أكثر، ومن البعيد ألا يجد شاب في هذا العدد شيئا يتعلق به؛ فإن الأغلب أنه سيجد أكثر من علم أو فن، فهو قد يهوى دراسة الحيوان أو التاريخ أو الكهرباء أو السيكلوجية أو الاقتصاديات أو السياسة أو الاجتماع، أو هو قد يتعلق بفنون الرسم أو النحت، أو بتلك الفنون العصرية التي يغرم بها بعض الشباب، وهي التي تتعلق بالرديوفون أو السينماتوغراف أو التليفزيون.
وكل واحد من هذه الفنون أو العلوم سيتفرع إلى فن أو علم آخر لارتباط المعارف، فلست تجد رساما إلا وهو يدرس التاريخ والحركات الاجتماعية التي غيرت الطراز والاتجاهات، ولست تجد مؤرخا إلا وهو متنبه إلى السياسة العالمية، للتجاوب المستمر بين السياسة والتاريخ، ولست تجد بيولوجيا إلا وهو اجتماعي، بل هو يدرس أيضا الدين والسيكلوجية والأخلاق؛ لأن نظراته البيولوجية قد ولدت في ذهنه رؤيا جديدة، وهلم جرا.
فالشاب يبتدئ في الثقافة هاويا، وكأنه يتخصص، ليس له غير اهتمام واحد، فإذا به ينتهي وهو مشغول باهتمامات ثقافية عديدة، وهو هنا سريع إلى التبريز؛ لأنه قد اختار عن هوى وحب، فالعاطفة هنا تؤيد العقل وتخدمه، ثم هو يستخدم فراغه لهذه الهواية، وفي كل مجتمع متمدن يزيد الفراغ على مدة العمل الحرفي، واستخدامه للثقافة يتيح أحسن الفرص للتربية الذاتية، واستخدامه في غير أغراض ثقافية قد يفتح أبوابا للفساد لا تحصى، ثم هذا الفراغ يزداد كلما اتسعت الحضارة وشملت بعض الطوائف من العمال، مثل أولئك الذين يعملون في المصانع الكبيرة، والعامل الذكي الذي يشغل هذا الفراغ المتزايد بتربية نفسه يجد أنه في رقي لا ينقطع، وأنه يحصل على مقدار من الثقافة قد يغبطه عليها أولئك الذين وهبهم القدر الاقتصادي تعليما مدرسيا أو جامعيا لم يحصل هو عليهما.
الجريدة والمجلة
الجريدة والمجلة هما أعظم المواد الثقافية خطرا وخطورة في مجتمعنا؛ لأنهما بطبيعة الظهور الدوري لأعدادهما تهيئان القارئ لألوان من الإيحاء أو الدعاية قد تكون حسنة مرجوة الخير، أو سيئة حبلى بالشر، والجريدة رخيصة يسهل شراؤها، كما إنها تجذب القارئ بمختلف الألوان على مائدتها، من خبر إرجافي في السياسة إلى صور مغرية إلى قصص مسلية إلى غير ذلك، وهي في أيدي التجار تجارة، وقد تكون مثل تجارة النخاسة في بيع الرذائل، فالمتجر بالصحافة يستكتب العوام كي يكتبوا للعوام، ويخاطب أحط الرذائل في القراء، ثم يجعل جريدته إعلانات في ظهورها بعض الأخبار والصور التي تخضع للغاية من هذه الإعلانات؛ فالجريدة التي تعينها إحدى الشركات التي تبيع الخمر أو الدخان مثلا لا يمكنها أن تكتب مقالا في الضرر الذي يعود منهما على صحة الجمهور.
Unknown page