وكما ترغب الأمة في القوة العسكرية، وفي الأخلاق الإيجابية، وفي صحة الأجسام، وفي زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، كذلك هي ترغب في القوة الثقافية التي تدرب بها ذكاء أبنائها وتوجههم بها نحو المستقبل.
وقد أرسلت إجابتي إلى مجلة الآداب، ولكني عدت بالتأمل، ثم التفكير، في الثقافة الشائعة في مصر والأمم العربية من حيث قدرتها على تخريج الرجل العصري الذي يستطيع المواجهة للمشكلات القائمة ويحيا الحياة السوية، بل الحياة العبقرية، إن استطاع. •••
وكما يختلف الجندي العصري عن الجندي القديم، من حيث سلاحه وعتاده ومرانته، كذلك يختلف رجل الثقافة العصرية عن رجل الثقافة القديمة من حيث دراستها ووجهته وهدفه، والجندي القديم، والجندي العصري، سواء في الشجاعة، ولكن الفرق العظيم بينهما هو تغير الظروف في حوافز القتال من ناحية وفي أدوات القتال من ناحية أخرى.
وكذلك الشأن بين رجل الثقافة العصرية ورجل الثقافة القديمة، فهما سوء في الذكاء والفهم، ولكن حوافز الثقافة في عصرنا تختلف أكبر الاختلاف من حوافز الثقافة قبل ألف أو ألفي سنة، فإن قدماءنا كانوا ينبعثون - في الأغلب - للدفاع عن العقائد والنظم الإقطاعية، وكان إحساسهم طبقيا؛ إذ كانوا يعيشون لخدمة الأمراء والملوك والزعماء، فكان أدبهم لا يخرج عن المعاني التي تلابس هؤلاء الحاكمين أو تخدمهم أما الشعب فلم يكن مذكورا.
وأكثر من هذا خطرا أن مجتمعهم، أي مجتمع هذه الطبقة الحاكمة، كان مجتمع الرجال فقط، ثم كان الرجل المثقف لا يكاد يحس أن هناك شعبا مؤلفا من الفلاحين والصناع، بل حتى التجار لم يكونوا مذكورين إلا في الأقل النادر، أما المرأة فلا تكاد تذكر في الأدب العربي إلا فلتة أو سهوا.
ومن هنا غرابة الأدب العربي القديم، بل الثقافة العربية القديمة جميعها للمثقف العصري؛ فإنها غريبة عن أذواقنا، أجنبية الأسلوب والهدف أمام أرواحنا.
وقبل أكثر من عشرة سنوات احتفل بعض أدبائنا من غير المفكرين بمرور ألف سنة على المتنبي، ولم أشترك في هذا الاحتفال لأني أحسست أن المتنبي لا يختلف عن شوقي، من حيث أن كليهما قد أرصد حياته لإطراء أميره، بل لعله أفسده بذلك، فكان المتنبي يكذب على سيف الدولة ويرفعه إلى السماء. أما الشعب، الناس، العامة، الكادحون، الذين كانوا يستحمون في عرقهم، فهؤلاء كانوا مجهولين لديهما.
واعتقادي أن الذين احتفلوا بالمتبني إنما انبعثوا إلى هذا الاحتفال بالإحساسات السقيمة التي أحسوها وهم يعيشون في ظل فؤاد وفاروق، ولو أن ميعاد هذا الاحتفال كان قد وقع بعد الثورة، بعد 23 يولية من 1952، لما أحس أحد أية كرامة أو شهامة في مدح المتنبي أو الاحتفال بذكره. •••
من هو الرجل العصري؟
هو رجل جديد، لا يرجع تاريخه إلى أكثر من خمس مئة سنة حين شرع الأوروبيون يعتمدون على المعارف العلمية بدلا من العقائد الموروثة.
Unknown page