هذه هي الشروط الأربعة للرجل المثقف كما رآها الرئيس ولسون، وهي جديرة بأن تثمر في صاحبها أحسن الثمرات، فتحركه إلى العمل وتجعله داعية للحق والإصلاح والرقي؛ فإن الرجل المثقف لا يطيق الظلم، ولا يرضى بالجمود؛ لأن ثقافته قد امتزجت بدمه وأصبحت جزءا من روحه وإرادته، وهو لا يمكنه أن يحبس في نفسه أفكارا عن الرقي والإصلاح قد اختزنها ذهنه بالقراءة أو التفكير في حين يرى الوسط حوله وهو ينادي بل يصرخ بالحاجة إليها، فهو لا بد مناد أيضا بها، ولو اصطدم في ذلك بالعقبات التي تؤذيه في عيشه، وهذا الروح الشريف هو روح الاستشهاد في سبيل الحق والشرف والرقي الإنساني.
ومثل هذا الرجل المهذب لا يمكنه أن يمالئ الاستبداد؛ لأن ذهنه حافل بالجهود التي بذلت في سبيل الحرية، ولا يمكنه أن يتعصب لفكرة ما أو مذهب ما تعصب الاضطهاد والكراهة؛ لأنه يعرف قيمة التسامح في تاريخ البشر، ثم يكره الحرب؛ لأن تاريخ العالم قد أشعره بالأخوة البشرية، ثم هو إذا كان علميا في مزاجه التفكيري، متدينا في مزاجه العاطفي؛ فإنه يحب الرفاهية ويرجو الخير لمستقبل الإنسانية.
فما عندك من هذه الشروط الأربعة، وماذا أثمر فيك ما عندك منها؟ •••
ولكن يجب أن نلاحظ أن ولسون قد أهمل الفنون الجميلة، حتى لكأنه لا يبالي الأدب والموسيقا والشعر والرسم والنحت، وظننا أنه - حين عين الشروط الأربعة - إنما قصد إلى موقف الرجل المثقف من حيث فائدته للمجتمع، فهو يريد أن يربي ذهنه، ويصحح منطقه الاجتماعي، حتى يخدم المجتمع، أما الرقي النفسي والاستمتاع العاطفي فلم يبالهما، وهذا إهمال.
ثقافة بشرية
يعيش البشر في القرن العشرين وهم مرتبطون بروابط اقتصادية كثيرة الاشتباك؛ فالبيت العادي في القاهرة أو باريس أو نيويورك ونعني البيت المتمدن، يحوي من المحصولات والمصنوعات ما لا يمكن جمعه إلا من خمسين قطرا أو أكثر، وهذا الارتباط الاقتصادي قد جعل المواصلات تزداد في الوسائل، كما جعل هذه الموصلات تزداد في السرعة، والرجل المتمدن يحس لهذا السبب أن وطنيته كوكبية وليست قطرية، وهذا الإحساس يزداد حدة وقوة بتطور الثقافة الذي غرس في قلوبنا روحا بشريا جديدا يشعرنا بأننا أسرة واحدة، نملك هذا العالم نعيش عليه وليس لنا غيره، ولو أن هذا اليقين الجديد لا يمنعنا من أن نقرع جدران هذا الكون لعلنا نجد خلفه من الحقائق ما يزيد عقولنا فهما وحياتنا سعادة.
والجريدة اليومية، والمجلة الأسبوعية، والكتاب، بل كذلك السينماتوغراف والرديوفون، كل هذه تذكرنا بأننا مرتبطون بجميع البشر في أنحاء العالم، ونحن نقرأ الحوادث في بكين أو توكيو أو ريو دو جانيرو بنفس الاهتمام الذي نقرأ به الحوادث في الإسكندرية أو أسيوط، لا لأننا نحس فقط أن لهذه الحوادث «الأجنبية» صدى في وطننا، بل لأننا تعودنا النظرة العالمية، وربما كان للحرب الكبرى الماضية ولهذه الحرب القائمة أثر عظيم في إيجاد هذا المزاج العالمي في كل منا؛ فإن التطور الصناعي، ثم الحربي، قد جعل كل حرب أجنبية حربا أهلية عند جميع الأمم في هذا العالم، والمصري المثقف في عصرنا يناقش الديمقراطية والفاشية الاشتراكية والحرب والسلم والدين باهتمام كبير، حتى ولو لم يجد لهذه المبادئ أثرا عمليا في وطنه في الوقت الحاضر، فنحن نتطور في السياسة والاجتماع من النظرة القطرية إلى النظرة العالمية، وهذا التطور يجري على الرغم منا، وقد كان كارل ماركس يقول: «إن الحرب هي قاطرة التاريخ»؛ أي إن التاريخ يسرع خطواته فيها، وهاتان الحربان قد عملتا على نقلنا، أو على الأصح، نقل المثقفين والأذكياء منا، إلى الآفاق الرحبة في اهتمامنا، حتى صارت مشكلات القارات الخمس مشكلاتنا الوطنية.
وبكلمة أخرى نقول: إن ظروف العالم الاقتصادية والاجتماعية والحربية، وما اتفق لنا من وسائل سريعة للمواصلات، ثم هاتان الحربان وامتدادهما السرطاني إلى كل قطر تقريبا، كل هذا قد حملنا على أن نعتنق ثقافة عالمية، كما كان أسلافنا يعتنقون الأديان الجديدة، فنحن بقوة هذه الظروف وضغطها في «بشرية» جديدة، تحملنا على الإحساس بالإخاء والتضامن والرغبة في الخير والرقي.
والرجل المثقف في عصرنا ليس هو ذلك الذي يدعو إلى ثقافة عربية أو إنجليزية أو ألمانية، وإنما هو الذي يعتنق ثقافية عالمية، لا هي شرقية ولا غربية، وإنما هي ثقافة هذا الكوكب، وهي ثمرة المجهود البشري منذ ربع مليون سنة إلى الآن، يدرس تاريخ الصين ومصر وروسيا وغيرها لأنه تاريخه هو، وهو يدرس الجغرافيا في آسيا وأمريكا وغيرهما؛ لأن هذه القارات هي ملكه، والعالم هو قريته الكبرى التي يحق له ويجب عليه أن يعرفها ويطلب إصلاح دروبها وخططها، وهو يتحمس لحرية الهند والصين كما يتحمس لحرية وطنه، وهو يشتغل بالعلوم ويرقيها لأنها تحقق لنا الفتوحات الرائعة التي لم يفتح مثلها الإسكندر أو جنكيز خان؛ لأننا نطرق بها أبواب المستقبل ونتسلط بها على ما كان يسميه أسلافنا القدر.
والغاية من الثقافة البشرية هي الفهم أولا؛ وذلك بأن نتصل بالعقل العام ذلك العقل العالمي المتطور الذي يرود المجاهل ويخترع تلك المخترعات الاجتماعية والآلية التي تغير الدنيا، ثم بعد ذلك نسلك السلوك البشري الذي لا يرتبط نفسيا بوطن أو مذهب سوى وطن العالم ومذهب البشرية، أو بكلمة أخرى نقول: إن غاية الثقافة أن نجعل الإنسان إنسانيا، والآن قد يسأل القارئ: على الرغم من الظروف العالمية العصرية التي تجعل ثقافتنا بشرية كوكبية، ما هي الدراسة التي يجب أن تتبع كي نبلغ أحسن النتائج؟
Unknown page