وقد كانت الغاية الأولى إرشاد أولئك الذين لم تتح لهم ظروفهم الحصول على تعليم عال، ولكني رأيت بعد التفكير أن المتعلمين يحتاجون أيضا إلى الإرشاد الثقافي، وظني أن القارئ العادي لن يجد صعوبة في فهم الفصول التالية والعمل بها والانتفاع منها، وخاصة إذا قرأ الكتاب بترتيبه القائم.
والكتاب - كما يرى القارئ من تأمل الفهرست - جزءان، فإن فصول الجزء الأول الأول تعالج الخطة العامة للدراسة، وتبحث الأساليب والقيم والظروف، أما فصول الجزء الثاني فتعالج التفاصيل في دراسة المواد المختلفة، ولهذا الترتيب قيمته إذا راعاه القارئ.
ورجائي أن ينتفع الشباب بهذا الكتاب، وأن أجد النقد الذي ينبهني عن الخطأ أو التقصير حتى أتلافاه في طبعة أخرى.
المدرسة والجامعة
في مجتمعنا الحاضر المدرسة ضرورة لكل فرد من الجنسين، وفي مجتمع راق ننتظره ونحلم به، سوف تعد الجامعة ضرورة أيضا لكل فرد من الجنسين، ولكن المدارس على ضرورتها ليست عامة في مصر، أما الجامعة فمقصورة على نحو خمسين ألفا من أبناء الأثرياء والمتيسرين.
وكلنا نعرف أن ما نحصل عليه في المدارس من المعارف مقدار صغير، إزاء الحاجات التي تطلبنا بها الحياة؛ ولذلك فإننا نحس الجهل في مواجهة الصعاب، كما نحس الحاجة إلى الدراسة، والتعليم المدرسي يتناول طائفة من المعارف تعد أساسية في التثقيف، ولكن المدرسة مع ذلك تعامل جميع التلاميذ كما لو كانوا على قامات متساوية، يحتاجون إلى قطع لا تختلف من القماش، كي تصنع لكل منهم بذلة خاصة له، ولما كان كل إنسان فذا في هذه الدنيا، فهو محتاج إلى معارف تتفق وكفاياته وحاجاته الخاصة، فالبرنامج التعليمي الذي يوضع لمليون صبي أو شاب لا يمكن أن يؤدي حاجات كل صبي وكل شاب إلا على وجه عام نتجاهل فيه الخصائص والميزات التي لكل فرد.
ثم هذه المعارف التي نحصل عليها في المدارس، حتى مع الدقة في اختيارها، إنما تعد أساسا نبني عليه حين نخرج من المدرسة، فإذا ركدنا فإن هذا الأساس لن يغني؛ فنحن في حاجة - عقب المدرسة، بل عقب الجامعة - إلى أن نوالي الدراسة، والمعلم الممتاز هو ذلك الذي لا يقتصر على إيصال المعارف إلى أذهان تلاميذه، بل يضع لهم الخطط للدراسة بحيث يمكنهم أن يستغنوا عنه وأن يعلموا أنفسهم مستقلين مدى حياتهم، وقل أن نجد مثل هذا المعلم، ومجتمعنا في تطوره السريع في حاجة إلى جمهور مثقف، في نشاط ذهني مستمر؛ كي يستطيع حل المشكلات الطارئة، وكي يحول دون وثوب الطغاة من المستعمرين الأجانب ومن المستبدين المصريين، يزعمون القدرة على ترقية الأمة بإنكار حقوقها. والجمهور الجاهل هو أعظم الوسائل لتجرئة الوصوليين والمستبدين على الطغيان؛ لأنه سريع الانقياد، ينخدع بالألفاظ البراقة والادعاءات الرنانة وبهلوانية المنابر.
ومن هنا قيمة الكتاب والجريدة والمجلة؛ فإننا نعيش - بعد المدرسة والجامعة - نحو خمسين سنة وهي غذاؤنا الذهني ووسيلة رقينا الثقافي، فلن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة - لا بل الدراسة - عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية.
والمجتمع الراقي يؤمن بحرية الثقافة، وهو يسن من القوانين ويضع من الأنظمة ما يساعد على رواج الكتب والمجلات، بل الجرائد أيضا. وفي الأمم الديمقراطية الأوروبية نجد آلاف المكتبات التي تشتري الكتب، وتشترك في المجلات والجرائد السيارة، زيادة على ما يشتريه الأفراد؛ فالنشاط الذهني يجد السوق الرائجة في تلك الأمم لمنتجاته، وإذا دخل أحدنا بيتا أوروبيا وجد الكتب تزين كل غرفة فيه تقريبا، بل لقد رأيت في لندن حتى الممر الضيق إلى المطبخ يحمل رفا من الكتب لا يقل ما فيه عن مئتي مجلد، وهذا إلى التباهي باقتناء الكتب الجديدة ووضعها على الموائد في الصالونات، كأنها من الأثاث الفاخر.
ولهذا السبب كثيرا ما نجد فيلسوفا عظيما في أوروبا لم يتعلم قط في جامعة، بل إن تعليمه في المدرسة كان ناقصا، فهذا مثلا هربرت سبنسر فيلسوف الإنجليز لم يحصل على تعليم ابتدائي كامل، بل لقد عاش نحو ثمانين سنة وهو يفخر بأنه لم يتعلم «الأجرومية»، وكذلك برناردشو أيضا، بل يمكن أن نذكر عشرات الزعماء من الساسة والأدباء ممن لم يتعلموا في مدرسة أو جامعة، ولكن المجتمع الراقي الذي عاشوا فيه هيأ لهم جامعة كبري من الكتب والمجلات التي درسوها، فنمت أذهانهم، وحصلوا منها على النضج الثقافي الذي ربما لم يبلغه خريجو الجامعات.
Unknown page