1
وعلى هذا النحو استبان بعض الفلاسفة الأشياء كما فعل أمبيدقل مثلا، ولكن لم تقصر هذه النظرية على الفعل وعلى الانفعال، بل زعم أن الأجسام لا تختلط إلا متى كانت مسامها متناسبة المقياس على طريق التكافؤ، وقد اختط لوكيبس وديمقريطس بأحسن من غيرهما الطريق الحق وأوضحا كل بكلمة واحدة بأن صدرا عن نقطة الابتداء الحقيقية التي يعينها الطبع. وفي الواقع إن بعض القدماء قد ظن أن الموجود هو بالضرورة واحد وغير متحرك، فعلى رأيهم الخلو لا يوجد، وأنه لا يمكن أن توجد حركة في العالم ما دام أنه لا يوجد خلو منفصل عن الأشياء. وكانوا يزيدون على ذلك أنه لا يمكن أيضا أن يوجد تعدد ما دام أنه لا يوجد خلو يقسم الأشياء ويعزلها.
على أن دعوى أن العالم ليس متصلا لكن الموجودات التي تؤلفه متماسة مهما كانت منفصلة فذلك يرجع إلى القول بأن الموجود متعدد وليس هو واحدا، وأن الخلو موجود، وأنه إذا كان الموجود هو مطلقا قابلا للقسمة في جميع الاتجاهات فمن ثم لا توجد بعد وحدة لأي ما كان بحيث إنه لا يوجد أيضا تعدد، وأن الكل هو خلو كله. يقولون إنه إذا فرض أن العالم شطره على نحو وشطره على آخر فذلك إيضاح أشبه ما يكون بفرض مجازف فيه؛ لأنه حينئذ إلى أي نقطة ولماذا الجزء الفلاني من العالم يكون كذلك ومليئا في حين أن الجزء الفلاني الآخر مقسوم؟ وبهذه الطريقة يوصل أيضا على رأيهم إلى تأييد أنه بالضرورة لا يوجد حركة في العالم.
2
بالصدور عن هذه النظريات وبمعاندة شهادة الحواس والاستهانة بها بحجة أنه ينبغي اتباع العقل فقط انتهى بعض الفلاسفة إلى التصديق بأن العالم واحد غير متحرك وغير متناه؛ لأنه إن لم يكن كذلك فإن الحد بحسبهم لا يمكن إلا أن يحاد الخلو.
3
تلك هي إذن نظريات هؤلاء الفلاسفة، وتلك هي الأسباب التي دفعتهم إلى فهم الحق على هذا النحو، ولا شك في أنه إذا استمسك بالتداليل العقلية المحضة فذلك يشبه أن يكون مقبولا، ولكن إذا أريد اعتبار الحوادث الواقعية فيوشك أن يكون من الجنون تأييد آراء كهذه؛ لأنه لا يوجد مجنون ذهب إلى هذه النقطة من الضلال أن يجد أن النار والثلج هما شيء واحد بعينه. ولكن خلط الأشياء الجميلة لذاتها بالتي لا تظهر لنا كذلك إلا بالاستعمال من غير أن يرى فيها مع ذلك أي فرق ما بينها، ذلك لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لتيه حقيقي للعقل.
4
فأما لوكيبس فإنه كان يظنه محيطا علما بالنظريات التي - مع كونها متفقة مع الحوادث الواقعية المدركة بالحواس - لم تكن - بحسب مذهبه - لتتعرض للكون ولا للفساد ولا للحركة ولا للتعدد في الموجودات. ولكن بعد هذا التسامح الذي أسداه إلى حقيقة الظواهر قد أسدى غيره إلى أولئك الذين يقبلون وحدة الموجود بحجة أنه لا يوجد حركة ممكنة بدون الخلو، ويقبل القول بأن الخلو هو اللاموجود، وأن اللاموجود ليس هو شيئا مما هو موجود. وإذن - على رأيه - الموجود بالمعنى الخاص هو متعدد للغاية، والموجود على هذا المعنى لا يمكن أن يكون واحدا. وعلى العكس إن هذه العناصر تكون غير متناهية في العدد وتكون فقط غير مرئية بسبب لطافة حجمها للغاية، ويزيد على ذلك لوكيبس أن هذه الجزيئات تتحرك في الخلو؛ لأنه يقبل الخلو، وأنها باجتماعها تسبب كون الأشياء وبانحلالها تسبب فسادها، وأن الأشياء تفعل أو تنفعل تبعا لما أنها تتماس على طريق التكافؤ، وأنها على ذلك ليست هي شيئا واحدا بعينه، وأنها بتركبها واشتباكها بعضها ببعض تكون العالم كله.
ويستنتج لوكيبس من هذا أن التعدد لم يكن ليخرج ألبتة من الوحدة الحقة، كما أن الوحدة لا يمكن أن تأتي أيضا من التعدد الحق، وأن كل هذا هو محال على الإطلاق من جهة ومن أخرى. وأخيرا كما أن أمبيدقل وبعض الفلاسفة الآخرين يزعمون أن في الأشياء الفعل الذي تقبله وتعانيه هو يحصل فيها بواسطة المسام، فكذلك يرى لوكيبس أيضا أن كل استحالة للأشياء وكل انفعال لها إنما يحصل على هذا النحو نفسه، وأن الانحلال والفساد يكونان بواسطة الخلو، والنمو حاصل كذلك بواسطة الجزيئات الجامدة التي تدخل في الأشياء.
Unknown page