وكان يبدو للناظر في الصحيحين وقد بلغا في الصحة والدقة، والاقتدار على الصناعة، وفي سنن الإمام أبي داؤد السجتاني فقد جمع شمل أحاديث الأحكام بترتيب حسن ونظام جيد، إنهم ما تركوا لمن يأتي بعدهم شيئًا، وإن وضع كتاب في الأحاديث الصحيحة يكون من قبيل تحصيل الحاصل. وجهادًا في غير جهاد، وجاء الإمام أبو عيسى فوضع هذا الكتاب، وقد نيف على الستين من عمره وهي سن النضج والنبوغ العقلي والحصافة، فظهرت فيه شخصيته التأليفية الفنية واضحة جلية، وبرهن على أنه سد عوزًا في هذه المكتبة الزاخرة التي كانت قد تكونت في هذا العصر الباكر، وعلى أنه زاد في هذه الثروة، وجاء بشيء جديد، فقد جمع بين طريقتي شيخيه البخاري ومسلم في الجمع بين الفقه وبين وضع الحديث في موضعه، وجمع بين محاسنهما واختصاصاتهما، فجمع الروايات المتعددة في مكان واحد، كما فعل مسلم، وأتى بالفوائد الإسنادية كما هو دأب البخاري في مواضع من كتابه، وتكلم على أحاديث كتابه حديثًا حديثًا، وتفرد بمصطلحات ومسائل علمية خاصة به، لا توجد في غير كتابه.
وكان من أول من طرق موضوع ما يسميه الناس اليوم بالفقه المقارن، وكان له فضل كبير يجب أن تعترف الأمة به في حفظه لفقه المدارس الاجتهادية في عصره، ولولاه لضاع منه الشيء الكثير، وعفا عليه الزمان، وتلك خصيصة لجامعه تفرد بها من بين مصنفات الحديث والسنة، فهو من أوثق المراجع وأقدمها في الخلاف، سيما في معرفة المذاهب المهجورة، كمذاهب الأوزاعي والثوري، وإسحاق بين راهويه، وكان من حسناته أنه حفظ للمتأخرين مذهب الشافعي القديم.
ويكاد يكون كتابه «الجامع» المرجع الأساسي في الأحاديث الحسنة، وهي ثروة حديثية لا يستهان بقيمتها، ولا يستغني عنها، ولا نعرف أحدًا من المحدثين الكبار الذين عليهم العمدة في هذه الصناعة اعتنى بهذا الجانب مثل اعتنائه، حتى قال الإمام أبو عمر عثمان بن صلاح في كتابه «علوم الحديث» (١) «كتاب
_________
(١) ص ١٤ - ١٥.
1 / 3