صَحِيحُ أَبِي عبدِ الله البُخَارِيّ
بشرح الكرماني
دار إحياء التراث العربي
بيروت
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الحمد لله الذي أنعم علينا بجلال النعم وأعظمها هو نعمة الإسلام، وجعل ديننا أشرف الأديان وملتنا خير الملل وأمتنا أوسط الأمم ونبينا هو أفضل الأنام، بين الحلال والحرام وشرع الشرائع وسن السنن وعلم بالقلم وقد أحكم الأحكام، وأتبع الكتاب بالسنة لتفصيل مجملاته وتجزئة كلياته وشرح مشكلاته رحمة للعالمين، وشفع القرآن بالحديث لتوضيح نصوصه وتبيين فصوصه وتخصيص عمومه رأفة وعناية بالمؤمنين، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى من مشكاة ميامين وجوده تتوقد جميع أنوار الكمالات والسعادات ومنها الاقتباس' ومن شجرته المباركة ظهرت أصول خيرات الدنيا والآخرة وتبين فروعها الكافيات الشافيات وقد قال تعالى (لتبين للناس)، كلما ذكر الذاكرون والذاكرات وكلما غفل عنه الغافلون والغافلات، ورضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الذين نشروا العلوم في الآفاق، وطهروها من دنس الشرك والنفاق، وقد قطعوا عن الدنيا العلائق وزينوا مشارق الأرض ومغاربها بمحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق، فأولئك أفاضل الخلائق ما اتصل أسانيد الرواة من الأخلاف إلى الأسلاف، وارتفع الدرجات بشرائف العلوم الأصناف الأشراف أمّا بعد: فإن علم الحديث بعد القرآن هو أفضل العلوم وأعلاها، وأجلّ المعارف وأسناها، من حيث إنه به يعلم مراد الله تعالى من كلامه، ومنه تظهر المقاصد من أحكامه لأن أحكام القرآن جلها بل كلها كليات، والمعلوم منه ليس إلا أمورا إجماليات، كقوله: تعالى (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وإنّ السنة هي المعرفة بجزئياتها كمقادير أوقات الصلاة وكيفياتها وفرائضها ونوافلها وآدابها وأوضاعها وصفاتها، وهي الموضحة لمعضلاتها كأقدار نصب الزكاة وأنواع ما يجب فيها وأوقات الأداء ومن وجب عليه وما وجب منها وهلمّ جرا، وكذلك أعلى العلماء قدرا، وأنورهم بدرا، وأفخرهم خطرا، وأنبلهم شأنا، وأعظمهم عند الله منزلة ومنزلا، وأكرمهم مكانة ومكانا، حملة السنة النبوية وناقلوا أخبارها، وحفظة حديثها وعاقلوا أسرارها، ومحققوا ألفاظها وأرباب رواياتها، ومدققوا معانيها وأصحاب درايتها، وهم الطائفة المنصورة المشيدة لمباني الحق والمسالك، ولن يزالوا ظاهرين عليه حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك، وكان
1 / 2
كتاب (الجامع الصحيح) للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاري) جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، أجل الكتب الصحيحة نقلا ورواية، وفهما ودراية، وأكثرها تعديلا وتصحيحا وضبطا وتنقيحا، واستنباطا واحتياطا، وفي الجملة هو اصح الكتب المؤلفة فيه على الإطلاق والمقبل عليه بالقبول من أئمة الآفاق، وقد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخصّ بالمزايا من بين دواوين الإسلام تشهد له بالبراعة والتقدم الصناديد العظام، والأفاضل الكرام، وفوائد هذا الكتاب العظيم الشأن الرفيع المقدار، الذي يستشفى ببركاته ويستسقى بختماته أكثر من أن تحصى وأغزر من أن تستقصى وكيف لا وهو شامل لأكثر أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحواله متناولا لأكثر أخباره وآثاره وأعماله وفيه مشاهده وغزواته، وأخلاقه، ومعجزاته، وكرمه آدابه، ومناقب أصحابه، إلى غير ذلك مما لا يخفى من غموض الاستنباطات التي ترجم عليها في الأبواب والإشارة إلى المذاهب المستخرجة من الأحاديث للأصحاب وإني لم أر له شرحا مشتملا على كشف بعض ما يتعلق من الكتاب فضلا عن كلها، أو مستقلا بما يتعلق بالبحث عن عويصاته فضلا عن جلّها، مع ارتحالي إلى بلاد كثيرة هي مظان وجدانه، ولم أظفر بعد التفتيش والتنقيب إلا على فقدانه، والشروح التي شرحها الشارحون لا تشفي عليلا، ولا تسقي غليلا، وهاهو ذا كتاب الإمام أبي الحسن علي بن خلف المالكي المغربي المشهور بابن بطال إنما هو غالبا في فقه الإمام مالك ﵁ من غير تعرض لما هو الكتاب مصنوع له، وكتاب الشيخ العلامة أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي شكر الله مساعيه فيه نكت متفرقات، ولطائف على سبيل الطفرات،وأما الذي ألفه الإمام العالم المشهور بمغلطاي التركي المصري فهو بكتب تتميم الأطراف أشبه، وبصحف تصحيح التعليقات أمثل، فكأنه من إخلائه عن مقاصد الكتاب على ضمان، ومن شرح ألفاظه وتوضيح معانيه على أمان، ولا أقول ذلك والله أعلم به غضا من مراتبهم الجليلة العلية. أو وضعا من رفيعات أقدارهم الشريفة السنية، حاشا من ذلك، وكيف وإني مقتبس من لوامع أنوارهم الشارقات، ملتمس من جوامع آثارهم البارقات، فهم القدوة وبهم الأسوة، ﵃ وعن جميع أسلافنا أئمة جابوا في تحصيلها الفلوات، ونسوا في خدمتها اللذات والشهوات، ومارسوا الدفاتر، وسامروا المحابر، فأجالوا في نظم قلائدها أفكارهم وأنفقوا على اقتناص شواردها أعمارهم، ووقفوا لتقييد أوابدها ليلهم ونهارهم فأخذوا وبلغوا، وأصّلوا وفصّلوا، ومهّدوا وأسّسوا، وجمعوا وفننوا، ووضعوا وأتقنوا، وألّفوا وصنّفوا ورتّبوا ودوّنوا، وفرّعوا وبوّبوا، وصحّحوا ونقحوا، صانوها عن
1 / 3
التحريف والفساد وحفظوها عن التصحيف والنقص والازدياد، وكلّما عرض لهم ولها شيء من الفترة، ردّ الله لها الكرّة، وأكمل لهم المعونة والنصرة حتى وصلت إلينا صافية المشارع ضافية المدارع، ورياض صحائفها تصبح ممرعة وحياض لطائفها تضحى مترعة، فعظّم الله تعالى أقدارهم الفاخرة، ورفع أخطارهم الشريفة في الآخرة، وأعلى درجاتهم في أعلى علّيين مع الذين انعم عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وإنما قصدت بذلك إظهار احتياج هذا الكتاب_ الذي هو ثاني كتاب الله تعالى_ إلى شرحٍ مكمّل للفوائد شامل للعوائد عام المنافع تامّ المصالح، جامع لشرح الألفاظ اللغوية الغريبة، ووجه الأعاريب النحوية البعيدة وبيان الخواص التركيبية واصطلاحات المحدثين ومباحث الأصوليين، والفوائد الحديثية والمسائل الفقهية، وضبط الروايات الصحيحة، وتصحيح أسماء الرجال وألقاب الرواة وأنسابهم وصفاتهم، ومواليدهم ووفياتهم، وبلادهم ومروياتهم، والتلفيق بين الأحاديث المتنافية الظواهر، والتوفيق بينها وبين التراجم المستورة عن أكثر الضمائر، ولتوضيح ما صعب من سلوك مناهجها، وتبيين ما لم يظهر من مقدماتها ونتائجها، وتليين ما لم يذلل من صفاتها، ولم يخضع للفهم رقابها وبعض عويصاتها، مما جعل جنابها عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحد بعد واحد، فاستخرت الله تعالى واستعنت به في تأليف شرح موصوف بالصفات وزيادة، معروف بإفادة ذلك ونعم الإفادة مع اعترافي بالقصور وقلّة البضاعة، والفتور وقصر الباع في هذه الصناعة، فتصديت لذلك وشرحت مفردات اللغة الغير الواضحة، وذكرت توجيه الإعرابات النحوية الغير اللائحة، وتعرّضت لبيان خواصّ التراكيب، بحسب علم المعاني وإظهار أنواع التصرفات البيانية، من المجاز والاستعارة، والكناية والإشارة، إلى ما يستفاد منها من القواعد الكلامية، من أصول الفقه، من العام والخاص والمجمل والمبيّن وأنواع الأقيسة الخلافية والخطابية، والمسائل الفقهية والمباحث الفروعية ومن الآداب والدقائق ونحوها، ولما يتعلق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدثين من المتابعة والاتصال، والرفع والإرسال والتعليلات وغيرها، وتصحيح الروايات واختلاف النسخ وترجيحها والتعرض لأسماء الرجال وتعجيم ألفاظها وتوضيح ملتبسها، وتكشيف مشتبهها وتبيين مختلفها،وتحقيق مؤتلفها وأنسابهم وألقابهم وبلادهم ووفياتهم إلى آخر تراجمهم، ولفقت بين الأحاديث التي بحسب ظواهرها متنافية، والأخبار التي بادئ الرأي مقتضياتها متباينة، وبينت مناسبة الأحاديث التي في كل باب لما ترجم عليه، ومطابقتها بما عقد له وأشير إليه، وهو قسم عجز عنه الفحول البوازل (١) في الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأنصار فتركوها واعتذروا عنها
_________
(١) البازل الرجل الكامل في تجربته
1 / 4
بأعذار، ومن جملتها ما قال القاضي الحافظ أبو الوليد سليمان الباجي (بالموحدة والجيم) المغربي في كتاب (التعديل والتجريح) لرجال البخاري، قال: أخبرنا أبو داود عبيد بن محمد بن أحمد الهروي، حدثنا أبو إسحاق المستملى إبراهيم بن أحمد، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصل كان عند محمد بن يوسف الفربري، فرأيته لم يتم بعد، وقد بقيت منه مواضع مبيضة كثيرة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض، قال: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق ورواية أبي محمد ورواية أبي الهيثم، ورواية أب زيد وقد نسخوا من أصل واحد فيها التقديم والتقديم والتأخير وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة في موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث، قال: وإنما أوردت هذا لما عني به أهل بلدتنا في طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ والبخاري ﵀ وإن كان من أعلم الناس بصحيح الحديث وسقيمه فليس ذلك من علم المعاني وتحقيق الألفاظ بسبيل، كيف وفيها روى أبو إسحاق العلة في ذلك وبينها أن الحديث الذي يلي الترجمة ليس بموضوع لها وإنما هو موضوع ليأتي قبل ذلك بترجمته ' ويأتي للترجمة التي قبله من الحديث بما يليق بها، وسعيت فيه في توضيح العبارات وكشف القناع عن المشكلات، ولم أبال عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان ولا في تعجيم بعض الأسماء التي هي واضحة عند أهل هذا الشأن، لأني قصدت فيه النفع للمبتدئين والمنتهين، والفائدة للمتقدمين والمتأخرين' وقد جرى في هذه الأيام في بعض أمهات بلاد الإسلام أمر، وهو أن سلطانها مرض وأراد التبرك بقراءة البخاري لاستشفاء علّته واستسقاء غلته، فأشار إلى أهلها بقراءته وأمرهم بتلاوته، فاشتبه عليهم أكثر الأسماء مثل ابن بكير هل هو مصغّر أو مكبر حتى كادوا يتركون قراءته لذلك فصار هذا أيضا مضافا إلى ما كنت قصدته من الزيادة على التوضيح في قسم الأسماء، لاسيما وقد صار هذا الفن مهجورا في أكثر الأمصار، وليس للعقل فيه دخل ولا للقياس فيه اعتبار، فجاء بحمد الله كتابا حافلا بكل ما يحتاج إليه المحتفل به فهو شيخ للطالب، أستاذ للمتعلم، مرشد للمشتغل به فيا لها نعمة عظيمة أخلصت لك نقاوتها، وطعمة جسيمة حببت لك حلاوتها، وغنيمة باردة اخترت صنعها، ولقمة هنيئة أعددت لك نقيها وهكذا تنمي الجدود وتسفر عن مطالعها السعود فعش بجد صاعد، فرب ساع لقاعد فإنك استغنيت به عن ألف كتاب أو أزيد، ولو كان لكتابي هذا نفس ناطقة ولسان مطلقة، لقال بمقال صريح وكلام فصيح لله درّ مؤلف هذا التأليف الرائق الرئيس، ولا شلّت يد مصنف هذا التصنيف الفائق النفيس وهذا الكتاب لابد أن يقع لأحد رجلين: إما عالم منصف فيشهد لي بالخير ويعذرني
1 / 5
فيما كان من العثار، الذي هو لازم الإكثار وإما جاهل متعسّف، فلا اعتبار لوعوعته، ولا اعتداد بوسوسته، ومثله لا يعبأ به لا لمخالفته،ولا لموافقته وإنما هو الاعتبار بذي النظر الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها
هذا ولا أّدعي العصمة والبشر محل النقصان إلا من عصم الله والخطأ والنسيان من لوازم الإنسان لكن المقصود طلب الإنصاف والتجنب عن الحسد والعناد والإعتساف ' وفّقنا الله تعالى للسداد وثبتنا على السداد والرشاد، وتوصلت به إلى غرض دنيوي، من مال أو جاه أو تقرب إلى سلطان أو خليفة، كما هو عادة أبناء زماننا من أصحاب الهمم القاصرة والعقول الضعيفة، بل جعلته لله ولوجهه خالصا، سائلا أن ينفعني به، حين يكون الظل في الآخرة قالصا وأن يهب عليه قبول القبول فإنه أكرم مسئول وأعز مأمول وشرفت ديباجته باسم حبيبه سيد الأولين والآخرين، محمد عليه أفضل الصلوات وأكملها وأشرف التسليمات وأجلّها وجعلته وسيلة إلى حضرته الشريفة المطهرة المعظمة ووسيطة إلى عتبته الجليلة المقدّسة المكرّمة صلى الله عليه وعلى آله أزكى صلاة وأعلاها وكنت زمان مجاورتي بمكة المشرفة مكملا لهذا الشرح فيها إذا عانقت الملتزم المبارك كنت أجعل الكعبة المعظمة -زادها الله تعالى عظمة وجلالا- شفيعا في أن يتقبلّه الله تعالى منّي أحسن التقبلات ويصير عنده ﷺ من أشرف الوسائط وأحسن الوسيلات، ولكل مثن على من أثنى عليه وكلّ متوسل على من يتوسل إليه مثوبة من جزاء أو عارفة من عطاء فأنا أرجو شفاعته في أن يعفو عن الزلات، ودعوته في أن يرحمني ويرفع الدرجات جائزة وادخارا وعطيّة واستظهارا، اللهم لا تخيب رجانا، واستجب دعانا ولا زلت متفكرا في تسميته، إذ كنت في بعض الليالي في المطاف، بعد فراغي من الطواف، فألهمني ملهم بأنه هو «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» فسميته به واسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا فيه، وان يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا إنه هو الجواد الكريم، الرءوف الرحيم.
1 / 6
مقدمة
اعلم أن صحيح البخاري لا حاجة له في بيان حاله، إلى تعديل رجاله. لأنه ينقسم إلى قسمين: رجال بينه وبين رسول الله ﷺ، واتفق الأمة المكرمة المعظمة الأقدار، على أنهم عدول ثقات أخيار أبرار، فما ذكرنا إلا أنسابهم ووفياتهم، ونحو ذلك مما تميل الخواطر إليها وذلك لتكثير الفوائد، وتغزير العوائد، والاستئناس بها، لا للتعديل والتجريح أو التصنيف والتصحيح، وصححنا أسماءهم احترازا الاختلاط والتحريف، واتقاء عن الاختباط والتصحيف، وذلك أنما هو من كتب متعددة مشهورة عند أبناء الزمان، وصحف متكثرة مذكورة بين أصحاب هذا الشأن وأكثرها من كتاب الشيخ أبي نصر احمد بن محمد بن الحسن المكلاباذي، ومن تقييد المهمل للحافظ أبي علي حسين الغساني «بالمعجمة وشدة المهملة والنون» الجياني «بالجيم وتشديد التحتانية وبالنون» المغربي، ومن كتاب الإكمال، للأمير أبي نصر ابن ماكولا، ومن جامع الأصول للإمام أبي السعادات ابن الأثير، جزاهم الله خيرا، ورجال بيننا وبين البخاري، ولا حاجة لنا إلى معرفتهم بذواتهم، فضلا عن جرحهم وعدالتهم. لأن صحيحه بالنسبة إلينا متواتر. ولا الى الإسناد إليهم، لكن لما كان الإسناد خصيصة هذه الأمة المباركة ومن جملة شرفها. فلا بد من اعتباره اقتداء بالسلف. وحفظ للشرف. فأقول: فأما إسنادي إليه فهو من شيوخ متوافرة، وعلماء متكاثرة، من أهل الحرمين الشريفين، مكة والمدينة، ضاعف الله شر فهما، والقدس، والخليل فهما، والقدس، والخليل ومصر، والشام، والعراق، وغيرها. ورحلت لأجله خاصة إلى هذه البلاد برها وبحرها. لكن السماع التام الشافي، والاستماع الكامل الكافي، إنما هو من شيوخ ثلاثة:
الأول: الشيخ الإمام العامة محدّث الجامع الأزهر من القاهرة المعزّية بالديار المصرية ناصر الدين محمد بن أي القاسم بن إسماعيل بن محمد بن المظفر أبو عبد الله الفارقي، كان شيخا فقيها صوفيا عالما بما يقرأ ضابطا مصنفا كان يأكل من أجرة الكتابة، وكان قد داوم سنين على قراءة شيء من صحيح البخاري صبيحة كل يوم بالجامع الأزهر مات في حدود ستين سنة وسبعمائة فإنه حدثني بأكثره قراءة منه، وأخبرني بالباقي قراءة عليه قال: أخبرني مشايخ جمّة منهم أبو عبد الله محمد بن أبي الحرم «بالمهملة والراء المفتوحتين» مكيّ منسوب إلى مكة المشرّفة ابن أبي الذكر «بكسر المعجمة» عبد الغني القرشي الغزّي الدمشقي كان شيخا مباركا صحيح السماع مكثرا وكان رقاما بدار الطراز من القاهرة، مات سنة تسع وتسعين وستمائة سماعًا. قال:
1 / 7
أخبرني الشيخ أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد الربعي «بفتح الراء الموحّدة والمهملة» الزبيدي (بفتح الزاي وكسر الموحّدة) البغدادي الفقيه، كان دينا خيرا حنبليا حدث بالعراق والشام، وألحق الأحفاد بالأجداد. ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة، ومات سنة إحدى وثلاثين وستمائة سماعا قال: اخبرني أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السنجري (بكسر المهملة) الهروي الصوفي قراءة عليه وكان أبوه قد حمله على رقبته من هراة إلى فوشنج لسماع الحديث، وصار شيخا صالحا، ألحق الصغار بالكبار، وكان حاضر الذهن، مستقيم الرأي وصحب شيخ الإسلام أبا عبد الله الأنصاري، ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ومات سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ببغداد ودفن بالشوينيزية قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود الداودي الفوشنجي (بضم الفاء وسكون الواو وفتح المعجمة وتسكين النون وبالجيم) منسوب إلى بلد بقرب هراة خراسان قراءة عليه ونحن نسمع كان أحد أعيان الشافعية والأئمة أثنوا عليه في علمه وورعه ورسوخ قدمه في التقوى، يحكي أنه ترك أكل اللحم وقت نهي التركمان (١) مكتفيا بالسمك فحكى له أن بعض الأمراء أكل على حافة الموضع الذي يصاد منه السمك له ونفض ما فضلمن سفرته فيه فما أكل السمك منه بعد ذلك مات سنة سبع وستين وأربعمائة قال: أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية (بفتح المهملة وشدة الميم المضمومة وإسكان الواو بالتحتانية (السرخي) بفتح المهملة وسكون المعجمة وقد يقال بسكون الراء وفتح المعجمة) سماعا عليه، كان ثقة صاحب أصول حسان ولد ثلاث وتسعين ومائتين ومات سنة إحدى وثمانين وثلثمائة قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح الفربري) بفتح الفاء وكسرها وفتح الراء الأولى وإسكان الموحدة) منسوبا إلى قرية من قرى بخارى قراءة عليه كان ثقة ورعا، سمع الصحيح من البخاري مرتين: مرّة بفربر، ومرّة ببخارى وقيل ثلاث مرات وهو حامل لواء البخاري رواية، ونعم المحمول ولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين ومات سنة عشرين وثلاثمائة.
الثاني: الشيخ الإمام الحافظ محدث الحرم الشريف النبوي صلى الله على ساكنه أبو الحسن على ابن يوسف بن الحسن الزرندي (بفتح الزاي والراء وإسكان النون وبالمهملة) الأنصاري كان عالم المدينة في أوانه المضروب إليه أكباد المطيّ في زمانه'وكفاه فضلا انه كان من أصحاب الإسماع عند الروضة الشريفة، وأرباب الإفادة عند العتبة الكريمة المنيفة ' صلوات الله وسلامه على صاحبها، مات سنة اثنتين وسبعين وستمائة. قال: أخبرنا الشيخ المعظّم جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الله
_________
(١) هكذا بالأصول التي بأيدينا ولعلّها نهب التركمان
1 / 8
ابن يوسف الأنصاري، عرف بابن شاهد الجيش «بالجيم والتحتانية والمعجمة» كان ثبت العلم وكان رئيسا لديوان الإنشاء بحلب الشام مات بعد ستين وسبعمائة سماعا. قال أخبرنا الشيخ أبو الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن أبي العز بن أبي عزون «وهو بفتح المهملة وضم الزاي المشددة وبالواو والنون» الأنصاري الشافعي المصري والشيخ نظام الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن رشيق «بفتح الراء وكسر المعجمة» الربعيّ «بالراء والموحدة المفتوحتين وبالمهملة» المالكي قراءة عليهما وأنا أسمع خلا شيئا يسيرا وهو من باب المسافر إذا جدّ به السير إلى كتاب الصيام ومن باب ما يجوز من الشروط في المكاتب إلى باب الشروط في الجهاد ومن باب غزوة المرأة في البحر إلى باب دعء النبي ﷺ الناس فإنه بالإجازة قالا أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود الأنصاري البويصري «بضم الموحدة وسكون الواو وكسر المهملة وإسكان التحتانية وبالراء» قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن بركات ويقال ابن هلال السعدي النحوي اللغوي سماعا قال: أخبرتنا أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية سماعا، قالت: اخبرنا الإمام أبو الهيثم «بفتح الهاء وإسكان التحتانية بالمثلثة» محمد بن مكي «بفتح الميم وشدة الكاف والتحتانية» ابن محمد بن زراع «بضم الزاي وخفة الراء بالمهملة» الأديب الكشميهني «بضم الكاف وتسكين المعجمة وبفتح الهاء وكسرها وقد تمال الألف وقيل الياء على الأصل» وهي قرية بمرو، سماعا عليه، قال: أخبرنا الفربري سماعا عليه.
الثالث: الشيخ الكبير الثقة بقية السلف' قدوة الخلف جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن عبد المعطي الأنصاري المكّي، محدّث الحرم الشريف الإلهي كثير الطاعات والعبادات، غزير المناسك والطوافات أخبرنا أنه حج خمسا وسبعين حجّة سمعنا عليه صحيح البخاري بمكّة المشرّفة بالمسجد الحرام بباب الرحمة تجاه الكعبة المعظمة زادها الله عظمة حذاء الركن اليماني إلا من كتاب الشهادات إلى سورة الفتح فإنه كان بداره المباركة التي بقرب الباب المشهور بباب إبراهيم من الحرم الشريف في ثلاثة أشهر آخرها شهر رمضان سنة خمس وسبعين وسبعمائة' قال أخبرنا الشيخ الرواية شيخ علماء الشرق والغرب إمام مقام إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه رضى الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري مات سنة اثنين وعشرين وسبعمائة سماعا بسماعه على الشيخ الجليل المسند، ركن الدين عبد الرحمن بن أبي حرمى «بالمهملة والراء المفتوحتين» ابن بنين (بلفظ جمع الابن» الكاتب المكيّ ما خلا من باب قول الله تعالى وإلى مدين أخاهم شعيبا إلى باب مبعث النبيّ ﷺ فإنه بالإجازة قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي
1 / 9
ابن حميد «بضم الحاء» ابن عمار «بتشديد الميم» الأطرابلسي «بفتح الهمزة وإسكان المهملة وبالراء وضم الموحدة وباللام وبالمهملة» المكي سماعا، قال أخبرنا أبو مكتوم «بالفوقانبة» عيسى بسماعه عن والده الحافظ أبي ذرّ «بفتح المعجمة وشدّة الراء» عبد بن محمد بن أحمد الهروي، ولد سنة خمس أو ست وخمسين وثلاثمائة، ومات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بسماعه عن الأئمة الثلاثة أب الهيثم الكشميهني وأبي محمد السرخسي المتقدّم ذكرهما وأبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أحمد المستملي ببلخ وكان من الثقاة ' مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة هذا وللشيخ رضى الدين إمام المقام طريقة غير طريقة الفربري' وهي من النفائس' وبها يكمل لنا من البخاري في كل مرتبة راوبان' وهو مهتم به معتنى عليه عند أهل هذا الشأن قال: أخبرنا الشيخ ركن الدين عبد الرحمن الكاتب عن الحافظ أب طاهر أحمد بن محمد بن سلفه «بكسر المهملة وفتح اللام وبالفاء» وهو أعجمي ومعناه بالعربي: ثلث شفاه لأن شفته كانت مشقوقة وأصله كان بالموحدة فأبدلت بالفاء الأصفهاني ولد سنة ثنين وسبعين وأربعائمة ومات سنة ست وسبعين وخمسمائة فجأة بالإسكندرية قال أخبرني أبو الخطاب «بالمعجمة وشدّة المهملة» نصر «بسكون المهملة» ابن أحمد بن البطر «بفتح الموحدة وكسر المهملة» القارئ من القراءة سماعا ولد في سنة ثمان وتسعين وثلثمائة ومات سنة أربع وتسعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحي بن زكريا المؤدب ويعرف بابن البيع «بفتح الموحدة وكسر التحتانية الشديدة» ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات سنة ثمان وأربعمائة قال: أخبرنا القاضي الفقيه أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الضبي «بالمعجمة» المحاملي كان احد أجداده يتبع المحمل الذي يركب عليه وهو آخر من روى عن البخاري ببغداد، وقال بعضهم: سماعه منه إنما هو لبعض صحيحه، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين ومات سنة ثلاثين وثلثمائة.
1 / 10
ترجمة البخاري
رضي الله تعالى عنه
وأما البخاري فهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة «بفتح الموحدة وإسكان الراء وكسر المهملة وتسكين الزاي بالموحدة» الجعفي «بضم الجيم وسكون المهملة وبالفاء» بخاري، أسلم المغيرة وكان مجوسيا على يد اليماني الجعفي والي بخارى، وأبوه إسماعيل كان من خيار الناس،وأمه كانت مجابة الدعوة وكان البخاري ﵀ قد ذهب بصره وهو صغير ' فرأت أمه في المنام إبراهيم الخليل ﵇ وقال: يا هذه قد ردّ الله على ابنك بصره لكثرة دعائك أو بكائك فأصبح بصيرا، ولد ببخارى سنة أربع وتسعين ومائة' وألهم حفظ الحديث في صغره وهو ابن عشر سنين أو أقلّ ثم حجّ به أبوه فرجع أبوه وهو أقام بمكة المكرمة في طلب العلم، وذلك سنة ثمان عشرة من عمره ورحل رحلات واسعة في طلب الحديث إلى أمصار الإسلام، وكتب عن شيوخ متوافرات وأئمة متكاثرات قال رحمه الله تعالى: كتبت عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم إلاّ صاحب حديث كلّهم كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. حتى صار إمام أئمة الحديث والمقتدى به في هذا الشأن، وأجمع المحققون على أن كتابه أصح كتاب بعد القرآن. وروى عنه خلائق كثيرون نحو من مائة ألف أو يزيدون، أو ينقصون' وعظمه العلماء غاية التعظيم وكرمه الفضلاء نهاية الإجلال والتكريم، حتى أنّ مسلما صاحب الصحيح كلما دخل عليه يسلم ويقول: دعني أقبل رجليك يا طبيب الحديث في علله. ويا أستاذ الأستاذين، ويا سيد المحدّثين، وقال أبو عيسى الترمذي: لم أر مثله وجعله الله زين هذه الأمة. وقال أبو نعيم: إنه فقيه هذه الأمة، وقال محمد بن بشار «بإعجام الشين» وكان علماء مكة يقولون هو إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان' وقال ابن المديني: ما هو رأى مثل نفسه. وقال ابن خزيمة «مصغّر الخزمة ' بالمعجمة والزاي» ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وأحفظ وقال بعضهم هو آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض، ونحو ذلك وكان ﵀ في سعة من الدنيا. وقد ورث من أبيه مالا، وكان يتصدّق به وربما كان يأتي عليه نهار لا يأكل فيه وإنما كان يأكل أحيانا لوزتين أو ثلاثا، وكان يختم في كل ثلاث ليال وكان حفظه الله في غاية الكمال وقال: خرجت هذا الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث وقال: ما وضعت في كتابي هذا حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين وقيل كان ذلك بمكة المشرفة، شرّفها الله تعالى والغسل بماء زمزم والصلاة خلف المقام وقيل كان بالمدينة صلى الله على صاحبها، وترجم أبوابه في الروضة المباركة.
1 / 11
وصلى لكل ترجمة ركعتين وقيل صنف الجامع في ست عشرة سنة والله أعلم بذلك، ودخل بغداد مرات وانقاد أهلها له في الحديث بلا منازعة ولهم معه حكاية مشهورة في امتحانهم له بقلب الأسانيد والمتون فصحح كلها في الساعة وحين وقعت الفتنة واشتدت المحنة في مسالة خلق القرآن رجع من بغداد إلى بخارى فتلقاه أهلها في تجمل عظيم ومقدم كريم وبقي مدّة يحدّثهم في مسجده فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الهذلي يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدّثهم به في قصره فامتنع البخاري من ذلك وقال: لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس' فحصلت وحشة بينهما فأمره الأمير بالخروج من البلد ويقال إنّ البخاري دعا عليه فلم يأت شهر حتى ورد أمر دار الخلافة بأن ينادى على خالد في البلد فنودي عليه على أتان وحبس إلى أن مات،ولما خرج من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه إلى بلدهم فسار إليهم فلما كان بقرية خرتنك «بفتح المعجمة وإسكان الراء وفتح الفوقانية وسكون النون» وهي على فرسخين من سمرقند بلغه أنه وقع بينهم بسببه فتنة فقوم يريدون دخوله وقوم يكرهونه' فأقام بها حتى ينجلي الأمر فضجر ليلة ودعا- وقد فرغ من صلاة الليل-اللهم لقد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فمات في ذلك الشهر سنة ست وخمسين ومائتين وعمره اثنان وستون سنة، فإن قلت كيف استجاز الدعاء بالموت وقد خرّج هو في صحيحه «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» قلت: نصوا بأن المراد بالضرّ هو الدّنيوي وأمّا إذا نزل به ضرّ ديني فإنّه يجوز تمنيه خوفا من تطرّق الخلل في الدّين ولماّ دفن رحمة الله عليه فاح من تراب قبره رائحة الغالية أطيب من المسك وظهر سوار بيض في السماء مستطيلة حذاء القبر' وكانوا يرفعون التراب منه للبركة حتى ظهرت الحفرة للناس ولم يكن يقدر على حفظ القبر بالحراّس فنصب على القبر خشبات مشبكات فكانوا يأخذون ما حواليه من التراب والحصيات ودام ريح الطيب أياّما كثيرة حتى تواتر عند جميع أهل تلك البلاد وأمثال هذه الكرامات الإلهية لا يستعظم بالنسبة إلى أمثال هؤلاء العباد، رفع الله تعالى ذكره الشريف وقد فعل وجعل له لسان صدق في الآخرين وقد جعل.
واعلم أن الحديث موضوعه: هو ذات رسول الله ﷺ من حيث أنه رسول الله وحده: هو علم يعرف به أقوال رسول الله ﷺ وأفعاله وأحواله. وغايته: الفوز بسعادة الدارين. وان عدد كتب الجامع مائة وشيء وعدد الأبواب ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسون بابا مع اختلاف قليل في نسخ الأصول وعدد الأحاديث المسندة فيه سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا، والمكررات منه قريب النصف فأحاديثه بدون التكرار تقارب أربعة آلاف وعدد مشايخه الذين خرج عنهم فيه مائتان وتسعة وثمانون وعدد من تفرّد بالرواية عنهم دون
1 / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، آمِينَ:
بابٌ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَوْلُ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)
ــ
مسلم مائة وأربعة وثلاثون، وتفرد أيضا بمشايخ لم تقع الرواية عنهم كبقية أصحاب الكتب الخمسة إلا بالواسطة ووقع له اثنان وعشرون حديثا عاليا رفيعا، ثلاثي الإسناد ' أعلى الله درجته ودرجتنا يوم التناد على رؤوس الأشهاد ورزقنا شفاعة من توسلنا إليه بكلامه ' خير خلائقه وأفضل أنامه، وجمعنا عند حضرته الشريفة ﷺ في دار الكرامة، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو عبد الله البخاري-﵁:-
بسم الله الرحمن الرحيم
باب كيف كان بدء الوحي. قوله: (باب) يجوز فيه وفي نظائره أوجه ثلاثة احدها رفعه مع التنوين والثاني رفعه بلا تنوين على الإضافة وعلى التقديرين هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب والثالث باب على سبيل التعداد للأبواب بصورة الوقف فلا إعراب له. فأقول: «وقول الله» هو مجرور عطفا على محل الجملة التي هي كيف كان بدء الوحي أو هو مرفوع عطفا على لفظ البدء وأجاز القاضي
1 / 13
الرفع على الابتداء وذكر البخاري الآية الكريمة لأن عادته أن يستدل للترجمة بما وقع له من قرآن أو سنة مسندة وغيرها وأراد أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه. وقال الإمام أبو الحسن علي بن بطال المالكي المغربي: معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد ﷺ كما أوحى إلى سائر الأنبياء وحي رسالة لا وحي إلهام لأن الوحي ينقسم إلى وجوه. وأقول إنما ذكر نوحا ولم يذكر آدم لأنه أول مشروع عند بعض العلماء أو لأنه أول نبي عوقب قومه فخصصه به تهديدا لقوم رسول الله ﷺ «بدء الوحي» البدء على وزن محتمل أن يكون مهموزا فهو بمعنى الابتداء أو أن يكون ناقصا فهو بمعنى الظهور والوحي أصله الأعلام في خفاء وقيل الأعلام بسرعة وكل ما دلت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي ومن الرؤيا والإلهام وأوحى ووحي لغتان والأولى أفصح وبها ورد القرآن وقد يطلق ويراد به اسم المفعول منه أي من الموحي وأما بحسب اصطلاح المتشرعة فهو كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه. وقال الإمام أبو عبد الله التيمي: الأصفهاني الوحي أصله التفهيم وكلما فهم به شيء من الإشارة والإلهام والكتب فهو وحي قيل في قوله: تعالى «فأوحى إليهم إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا» أي كتب وفي قوله: «وأوحى ربك إلى النحل» وأما الوحي بمعنى الإشارة فكما قال الشاعر:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء
وقال وأعلم أنه لما كان كتابه معقودا على أخبار الرسول ﷺ طلب تصديره بأول شأن الرسالة والوحي ولم يرد أن يقدم عليه الخطبة. فإن قيل ترجمة لبيان بدء الوحي والحديث لبيان كون الأعمال محتاجة إلى النية قلنا. قال: العلماء: البخاري ﵀ أورد هذا الخبر بدلا من الخطبة وأنزله منزلها فكأنه قال بدأت بهذا الكتاب وصدرته بكيفية بدء الوحي وقصدت به التقرب إلى الله تعالى فإن العمال بالنيات. قال وأعلم أنه لو قال كيف كان الوحي وبدؤه لكان أحسن لأنه تعرض لبيان كيفية الوحي لا بيان كيفية بدء الوحي. وكان ينبغي أن لا يقدم عليه بعقب الترجمة غيره ليكون أقرب إلى الحسن وكذا حديث ابن عباس ﵄ كان رسول الله ﷺ أجود الناس لا على بدء الوحي ولا تعرض له غير أنه لم يقصد بهذه الترجمة تحسين العبارة وإنما مقصوده فهم القارئ والسامع إذا قرأ الحديث علم مقصوده من الترجمة فلم يشتغل بها تعويلا على فهم القارئ. أقول ليس قوله: لكان أحسن مسلما لأنا لا نسلم أنه ليس بيانا لكيفية بدء الوحي إذ يعلم بما في الباب أن الوحي كان ابتداؤه على حال المنام ثم في حال الخلوة بغار حراء على الكيفية المذكورة من الغط ونحوه ثم ما فر هو عنه لازم عليه على هذا
1 / 14
١ - حَدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
ــ
التقريب أيضا إذ البدء عطف على الوحي كما قرره فيصح أن يقال ذلك إيرادا عليه أيضا وليس قوله: كان ينبغي أيضا مسلما إذ هو بمنزلة الخطبة وقصد التقرب كما قال هو بنفسه والسلف كانوا يستحبون افتتاح كلامهم بحديث النية بيانا لإخلاصهم فيه وليس قوله: وكذا حديث ابن العباس مسلما إذ فيه بيان حال الرسول ﷺ ابتداء نزول الوحي أو عند ظهور الوحي والمراد من حال ابتداء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان كما في التعلق الذي للحديث الهرقلي وهو أن القصة وقعت في أحوال البعثة ومبادئها أو المراد من الباب بجملته بيان كيفية بدء الوحي لا كل حديث منه فلو علم من مجموع ما في الباب كيفية بدء الوحي من كل حديث شيء مما يتعلق به لصحت الترجمة قوله: (الحميدي) أُشرف الكتاب أولا بنسب رسول الله ﷺ وما يناسب ثم أشرح الباقي بترتيب الكتاب وهو ﷺ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اليأس (١) بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. إلى هنا إجماع الأمة وما بعد مختلف فيه والنضر هو أبو قريش في قول الجمهور وقيل فهر وقيل غيره. وأمه ﷺ آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب المذكور ومناف بفتح الميم وقصي بصيغة التصغير وكلاب بكسر الكاف وباللام الخفيفة ومرة بضم الميم وتشديد الراء ولؤي بالتصغير وغالب بالغين المنقطة وفهر بكسر الفاء وبالراء وبالنضر بالنون المفتوحة وسكون الضاد المعجمة وخزيمة مصغر الخزمة بالمعجمة والزاي ومدركة بصيغة اسم الفاعل ومضر بضم الميم وفتح الضاد المنقوطة ونزار بكسر النون وبالزاي والراء ومعد بفتح الميم. وأما مولده ﷺ فالصحيح من الأخبار أنه عام الفيل وقيل بعده بثلاثين أو أربعين سنة وأنه في يوم الاثنين من ربيع الأول لثنتي عشرة خلت منه وقيل ثمان أو لليلتين أو لعشر. وبعث رسولا إلى الناس كافة بمكة ابن أربعين سنة ثم أقام بعد النبوة بها ثلاث عشر سنة على الأصح ثم هاجر إلى المدينة فأقام عشرا بالاتفاق فالصحيح غي عمره ثلاث وستون سنة وقدم المدينة يوم الاثنين ضحى لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول وابتدأ التاريخ الإسلامي من هجرته ﷺ. قال الحاكم أبو أحمد ولد ﷺ يوم الاثنين وخرج من مكة مهاجرا يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين صلى الله
_________
(١) اليأس بالهمز: وهو أوّل من أصابه اليأس «أي السلّ»
1 / 15
الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، ﵁، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
ــ
عليه وسلم. وأما الرواة فالحميدي بصيغة التصغير وياء النسبة هو أبو بكر الحميدي عبد الله بن الزبير ابن عيسى بن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي منسوب إلى جده الأعلى وهو رئيس أصحاب سفيان بن عيينة توفي بمكة سنة تسعة عشر ومائتان ٠واما «سفيان» فهو بضم السين على المشهور وحكي فتحها وكسرها أيضا وهو أبو محمد بن عيينة بن أبي عمران الهلالي الكوفي سكن مكة ومات بها قال قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين وكتبت الحديث وأنا ابن سبع سنين وروي عن ابن أخيه الحسن بن عمران بن أبي عيينة قال: قال لي سفيان بمزدلفة قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل مرة اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان وقد استحييت من الله من كثرة ما أسأله فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة وروى سفيان الثوري عن يحيى القطان عن ابن عيينة وهذا من الطرف لأنه من رواية الأكابر عن الأصاغر أما «يحيى» فهو أبو سعيد بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري تابعي اتفق العلماء على جلالته وحفظه وعدالته قال احمد بن حنبل ﵁ يحيى بن سعيد اثبت الناس توفي سنة أربع أو ثلاث أو ست وأربعين ومائة بالعراق وقيل بالهاشمية مكان والأنصاري نسبة إلى الأنصار الذي هو كالعلم للقبيلتين الأوس والخزرج ولهذا أجاز النسبة إلى لفظ الجمع وسموا أنصارا لأنهم نصروا رسول الله ﷺ قال تعالى «والذين آووا ونصروا وواحد» الأنصار نصير كشريف وأشراف وأما «محمد» فهو أبو عبد الله بن إبراهيم بن الحارث بن محمد بن خالد بن صخر ابن عامر بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة المدني القرشي التيمي تابعي توفي سنة عشرين أو إحدى وعشرين ومائة وأما «علقمة» فهو بفتح العين المهملة «والوقاص» بتشديد القاف «والليثي» بالياء المثناة من تحت والثاء المثلثة توفي بالمدينة في خلافة عبد الملك وأما «عمر ﵁) فهو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بالمثناة التحتانية ابن عبد الله بن قرط بضم القاف وبالطاء المهملة ابن رزاح براء مفتوحة ثم زاي والحاء المهملة بن عدي ابن كعب القرشي العدوي اسلم ﵁ بمكة قديما وشهد مع رسول الله ﷺ بدرا ولمشاهد كلها وهو أول من سمي بأمير المؤمنين من الخلفاء ولى الخلافة عشرة سنين وخمسة
1 / 16
ﷺ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ
ــ
أشهر أو ستة أشهر طعنه أبو لؤلؤة المجوسي يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة أو لثلاث سنة ثلاث وعشرين وتوفي في مستهل المحرم لسنة أربع وعشرين وهو ابن ثلاث وستين سنة مثل سن النبي ﷺ وأبي بكر ﵁ على الصحيح ودفن مع رسول الله صلى الله وعليه وسلم وأبي بكر ﵁ في حجرة عائشة ﵂ صلى عليه صهيب ومناقبه أكثر من أن تحصى وقد ذكر البخاري طرفا منها كما سيجيء بشرحه أن شاء الله تعالى٠واعلم أن البخاري ﵁ على ما في بعض النسخ ذكر الثلاثة الأول من السند بلفظ التحديث والثلاثة الأخر بلفظ السماع والرابع بلفظ الأخبار وعلى ما سيذكره هو عن الحميدي في كتاب العلم لا تفاوت بينها قال ثمة قال الحميدي كان عند أبي عيينة حدثنا واخبرنا وأنبأنا بين المفرد والجمع كما قال في الأخبار بلفظ اخبرني مفردا وفي التحديث بلفظ حدثنا جمعا وقيل بغير ذلك أيضا ٠ثم اعلم أن في هذا الإسناد لطيفة وهوان فيه ثلاثة من التابعين المدنيين يروي يعضهم عن بعض وهم يحيى ومحمد وعلقمة وقد يقع ما هو ألطف منه وهو ما عن أربعة من التابعين قوله: «على المنبر» بكسر الميم وهو مشتق من النبر وهو الارتفاع وهو بلفظ الآلة لأنه آلة الارتفاع واللام فيه للعهد يعني به منبر رسول الله ﷺ الذي بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قوله: «إنما الأعمال بالنيات» هذا التركيب مفيد للحصر اتفاقا من المحققين أي لا عمل إلا بالنية فقيل لأن الأعمال جمع محكي باللام مفيد للاستغراق وهو مستلزم للقصر إذ معناه كل عمل بالنية فلا عمل إلا بالنية وإلا فلا يصدق كل عمل بالنية وأما إنما فلا تفيد إلا التأكيد وعليه بعض الأصوليين، وقيل إنما للحصر فقيل إنما إفادته له بالمنطوق وقيل بالمفهوم ووجهه بأن إنّ للإثبات وما للنفي فيجب الجمع بينهما وليس كلاهما متوجهين إلى المذكور ولا إلى غير المذكور بل الإثبات متوجه إلى المذكور والنفي إلى غير المذكور إذ لا قائل بالعكس اتفاقا واعترض عليه بأنه لا يجوز إجماع ما المنفية بان المثبتة لاستلزام اجتماع المتصدرين على صدر واحد ولما يلزم من إثبات النفي لأن النفي هو مدخول الكلمة المحققة فلفظ ما هي ما المؤكدة لا النافية فتفيد الحصر لأنه يفيد التأكيد على التأكيد ومعنى الحصر ذلك وأقول المراد بذلك التوجيه أن إنما كلمة موضوعة للحصر وذلك سر الوضع فيه لأن الكلمتين والحالة هذه باقيتان على أصلهما مرادتان بوضعهما فلا يريد الاعتراض وأما توجيهه بكونه تأكيدا على تأكيد
1 / 17
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ، يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
ــ
فهو من باب إيهام العكس إذ لما رأى الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما فيه تأكيد على تأكيد حصر وليس كذلك وإلا لكان والله إن زيدا لقائم للحصر وهو باطل. قوله: «بالنيات» هو جمع النية وهو القصد إلى الفعل. قال الشيخ أبو سليمان الخطابي: معنى النية قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له وقيل هي عزيمة القلب التيمي: النية ههنا وجهة القلب. القاضي البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا، أو مآلا. والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى وامتثالا لحكمه والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه لما بعده تقسيمه إلى من كانت هجرته إلى كذا وكذا فغنه تفصيل لما أجمله واستنباط للمقصود عما أصله وقال والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية والمراد به نفي أحكامها كالصحة والفضيلة والحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ولأنّ اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات وبالتبع على نفي جميع الصفات فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقي دلالته على نفي جميع الصفات. قال النووي: النية القصد وهو عزيمة القلب أقول ليس هو عزيمة القلب لما قال المتكلمون القصد إلى الفعل هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد العزم قد يتقدم عليه ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد ففرقوا بينهما من جهتين فلا يصح تفسيره به وكلام الخطابي أيضا يشعر بالمغايرة بينهما. فإن قلت النيات جمع قلة كالأعمال وهي للعشرة فما دونها لكن المعنى أن كل عمل إنما هو بنية سواء كان قليلا أو كثيرا. قلت الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف. قوله: «لكل امرئ ما نوى» الامرؤ الرجل وفيه لغتان امرئ نحو زبرج ومرء نحو فلس ولا جمع له من لفظه وهو من الغرائب لأن عين فعله تابع للام في الحركات لثلاث دائما وكذا في مؤنثه أيضا لغتان امرأة ومرآة وفي هذا الحديث استعمل اللغة الأولى منهما من كلا النوعين إذ قال «لكل امرئ وإلى امرأة» قوله: «هجرته» الهجرة الترك وههنا أراد ترك الوطن ومفارقة الأهل وسمى الذين تركوا مكة وتحولوا إلى المدينة من الصحابة بالمهاجرين لذلك قوله: «إلى دنيا» لفظة دنيا مقصورة غير منونة لأنها فعل من الدنو وموصوفها محذوف أي الحياة الدنيا قال الشيخ ابن مالك في كتاب الشواهد في استعمال دنيا منكرا إشكال لأنها افعل التفضيل فكان حقها أن تستعمل باللاء كالكبرى والحسنى إلا أنها خلعت عنها الوصفية رأسا وأجريت مجرى ما لم يكن وصفا ونحوه قول الشاعر:
1 / 18
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
فإن الجلى مؤنث الأجل فخلعت عنها الوصفية وجعلت اسما للحادثة العظيمة. أقول والدليل على جعلها اسما قلب الواو ياء لأنه لا يجوز القلب إلا في الفعلى الاسمية. التيمي: الدنيا مؤنث الأدنى لا ينصرف مثل حبلى لاجتماع أمرين فيها احدهما الوصفية والثاني لزوم التأنيث. أقول ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها إذ لا وصفية ههنا بل لامتناع صرفه للزوم التأنيث للألف المقصورة وهو قائم مقام العلتين فهو سهو منه. قوله: «إلى دنيا» هو إما متعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة أو خبر لكانت إن كانت ناقصة. فإن قلت لفظ كانت إن كان باقيا في المضي فلم يعلم أن الحكم بعد صدور الكلام من الرسول أيضا لذلك أم لا وان نقل العكس فيها بسبب تضمين من لحرف الشرط إلى معنى الاستقبال ففي الجملة الحكم إما للماضي وإما للمستقبل، قلت جاز أن يراد به أصل الكون أي الوجود مطلقا من غير تقييد بزمان من الأزمنة الثلاثة أو يقاس أحد الزمانين على الآخر أو يعلم من الإجماع أن حكم المكلفين على السواء لا لعارض. قوله: «إلى ما هاجر إليه) إما أن يكون متعلقا بالهجرة والخبر محذوف أي هجرته إلى ما هاجر إليه غير صحيحة أو غير مقبولة وإما أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت وادخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. فإن قلت المبتدأ والخبر بحسب المفهوم متحدان فما الفائدة في الإخبار. قلت لا اتحاد إذ الخبر محذوف وهو فلا ثواب له عند الله والمذكور مستلزم له دال عليه أو فهي هجرة قبيحة خسيسة لأنه الخبر وكذا الشرط والجزاء إذا اتحدا صورة يعلم منه التعظيم نحو أنا أنا وشعري شعري ومن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله أو التحقير نحو فهجرته إلى ما هاجر إليه ثم لا يخفى أن إنما الأعمال بالنيات لقصر المسند إليه على المسند وإنما لكل امرئ ما نوى قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لعمل كل امرئ ما نوى إذ القصر بإنما لا يكون إلا في الجزء الآخر وإذا قلنا تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي إنما لكل امرئ ما نوى نوعان من الحصر. واعلم انه تقرر في الأصول أن الجمع إذا ذكر في مقابلة الجمع يفيد التوزيع فمعناه كل عمل إنما هو بنية. فإن قلت النية عمل لأنه من أعمال القلب فإن احتاج كل عمل إلى نية فالنية أيضا تحتاج إلى نية وهلم جرا. قلت المراد بالعمل عمل الجوارح نحو الصلاة والزكاة فإذ ذاك خارج عنه بقرينة العقل دفعا للتسلل. فإن قلت المتروك أيضا عمل لأن الأصح أن الترك كف النفس فيحتاج إلى النية. قلت نعم إذا كان المقصود منه امتثال أمر الشارع وتحصيل الثواب أما في إسقاط العقاب فلا فالتارك للزنا يحتاج فيه لتحصيل الثواب إلى النية وما اشتهر أن المتروك لا يحتاج إليها يريدون به في الإسقاط وههنا بعدما ذكرنا من اللغة والإعراب والبيان والأصول والفقه يستفاد منه مسالة أخرى أصولية وهي أنه لا يجوز تكليف الغافل فإن الفعل
1 / 19
امتثالا يعتمد العلم ولا يكفي مجرد الفعل فإن قلت فما قولك في إيجاب معرفة الله تعالى للغافل عنه قلت لا مدخل له في المبحث لان المراد تكليف الغافل عن تصور التكليف لا عن التصديق بالتكليف ولهذا كان الكفار مكلفين لأنهم تصوروا التكليف لما قيل لهم إنهم مكلفون وإنما كانوا غافلين عن التصديق الخطابي. صدر أبو عبد الله البخاري كتابه بحديث النية وهو حديث كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديمه أمام كل شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليها في جميع أنواعها ووقع في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله وإلى ورسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله» ولست ادري كيف وقع هذا الإغفال ومن جهة من عرض من روايته وقد ذكره البخاري في هذا الكتاب في غير موضع من غير طريق الحميدي فجاء به مستوفى مذكورا بشطريه ولا شك في أنه لم يقع من جهة الحميدي فقد رواه لنا الأثبات من طريقه تاما غير ناقص قال وقوله: «إنما الأعمال بالنية» لم يرد به أعيان الأعمال لأنها حاصلة حسا وعيانا بغير نية وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما يقع بالنية وان النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح وكلمة إنما عاملة بركنيها إيجابا ونفيا فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية صحت وإذا لم تصحبها لم تصح. أقول علم من تقريره أن الباء للمصاحبة وإنها متعلقة بيقع صحيحا أي بيصح قال ومقتضى حق العموم فيها يوجب أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها إلا نية ودخل فيها التوحيد الذي هو رأس أعمال الدين فلا يصح إلا بقصد الإخلاص فيه أقول ليس قوله: ودخل فيها التوحيد مسلما لأن التوحيد من الاعتقادات لا من العمليات اللهم إلا أن يراد بالتوحيد قول كلمة الشهادة وبالعمل ما يتناول عمل اللسان وقال قوله: «لكل امرئ ما نوى» تفصيل لبيان ما تقدم وفيه معنى خاص لا يستفاد من إنما لا أعمال بالنيات وهو إيجاب تعيين النية للعمل الذي يباشره فلو نوى أن يصلي ركعتين يكونان عن فرضه أن فاته وإلا فهي تطوع لم تجزه عن فرضه لأنه لم يمحض النية له وإنما داول في النية بين الفرض وبدله فلم تجد النية قرارا وأما مواضع النية فمنها ما يجب مقارنتها للعمل كنية الصلاة ومنها ما يجوز تقديمها عليه كالصيام وقد يقع في بعض الأحوال على إبهام ثم يقع التعيين فيما بعد كمن عليه كفارتان من قتل وظهار فأعتق رقبة ونوى بعده لأحدهما وعلى كل حال فلا ينفك عمل من العبادات عن نيتها وإنما جاز التقديم والتأخير لأسباب ليس هذا موضع ذكرها وقد يستدل من هذا الحديث في مواضع من المعاملات وما يتصل بهما كمن أكره على الكفر فتكلم به وهو ينوي خلافه فإنه لا يكفر وككنايات الطلاق فإنه لو لم ينو الطلاق لم يقع وزعم قوم أن الاستدلال به في غير العبادات غير صحيح لأن الحديث إنما جاء في اختلاف مصارف وجود العبادات لكن عوام الفقهاء ينظرون إلى اتساع اللفظ واحتمال الاسم
1 / 20