فسكت طويلا ثم تساءل: ألم تدر بأنه لم يعد بيني وبين زينب إلا ذكريات زمالة قديمة؟!
ودهشت لاعترافه بالرغم من أنني توقعته، وأنه جاء مؤيدا لملاحظاتي واستنتاجاتي، وسألته: هل حدث ذلك فجأة؟ - كلا، ولكن ليس من اليسير اختفاء رائحة جثة إلا بدفنها، في وقت ما وبخاصة عقب تخرجنا شعرنا بأنه آن لنا أن نشرع في الزواج، وتحدثت معها في ذلك رغم مشاعري الأليمة الدفينة، فلم تعترض ولكنها لم توافق، أو قل إنها لم تتحمس، وتحيرت في معرفة السر، ولكنني ارتحت إلى الموقف بصفة عامة، ثم لم نعد نطرق الموضوع إلا في فترات متباعدة، ولم نواظب على اللقاء كما كنا نفعل، وفي الكرنك كنا نتجالس كزميلين لا كحبيبين، ولم أنس أن بوادر تلك الحال بدأت في أعقاب الاعتقال الثاني، ولكنها استفحلت بعد الاعتقال الثالث، ومضت العلاقة الخاصة تهن وتتفتت حتى ماتت تماما. - مات الحب إذن؟ - لا أظن. - حقا؟ - نحن مرضى، أنا مريض على الأقل، وأعرف أسباب مرضي، وهي مريضة أيضا، وقد ينتعش الحب يوما وقد يستسلم لموت أبدي، ونحن على أي حال ننتظر ولا يؤرقنا الانتظار.
إنهما ينتظران، ومن ذا الذي لا ينتظر؟
زينب دياب
من أول نظرة جذبتني زينب بحيويتها وملاحتها، بوجهها الخمري الرائق وقسماتها النامية في حرية وعذوبة، وجسمها القوي الرشيق. ولعل استشفافها لإعجابي بها بغريزتها الفطنة هو ما مكن لصداقتنا أن تتوطد وأن تتناهى إلى ذروة الثقة، وهي قد نشأت في بيئة إسماعيل وفي ربعه. أبوها بياع لحمة رأس وأمها في الأصل غسالة ثم صارت دلالة بعد كفاح طويل، ولها أخ سباك، وأختان متزوجتان. وبفضل مهنة الأم الأخيرة وفرت للأسرة بعض ضرورات العيش وابتاعت لزينب الحد الأدنى مما يلزمها من ملابس. وكان نجاح زينب في المدرسة أمرا غير متوقع بقدر ما كان مثيرا للعجب والمتاعب. ولم يجدوا بأسا من تركها تلهو بتلك اللعبة حتى يجيء ابن الحلال؛ ولذلك فإن الأم لم ترحب من بادئ الأمر بإسماعيل الشيخ، وكانت تعتبر التلميذ متعطلا بلا نهاية، وعقبة في سبيل أي فتاة جميلة. وكانت أم زينب هي القوة الحقيقية في الأسرة، أما الأب فكان يكدح نهاره نظير بضعة قروش ما يلبث أن يبددها في خمارة البوظة، ويختم سعيه بمشاجرة عائلية عنيفة. ومن عجب أن الأب المتدهور كان وسيما، يمكن أن يتكشف وجهه الكالح النابت الشعر المغبر الأخاديد عن قسمات مليحة ورثتها زينب، أما الأم القوية فكانت أشبه برجل خشن.
ونشبت الأزمة المتوقعة وزينب في الثانوية العامة إذ تقدم لطلب يدها تاجر دجاج، يعتبر في الحي الفقير من الأغنياء. كان في الأربعين، أرمل، أبا لثلاث إناث متزوجات، رحبت به الأم لينتشل بنتها من الربع والتعب الفارغ، ويهيئ لها حياة سعيدة. وعندما رفضت زينب العرض غضبت الأم، ولفح غضبها إسماعيل وأسرته، ثم قالت لابنتها: ستندمين، ستبكين بالدموع الغالية.
ولم تمر الواقعة بسلام فقد أطلق التاجر لسانه فيما بين زينب وإسماعيل، ففجر بذلك عاصفة في الربع، ولكن إرادة زينب انتصرت. وكان للتجربة أثرها في سلوكها؛ فتحديا للاتهامات الباغية قررت أن تحافظ على نفسها. ولم تبال أن تتهم بالرجعية في نظر «البعض»، ولم تؤثر ثقافتها الواسعة في موقفها. - نحن نمثل المحافظة في تقدميتها الوئيدة؛ ولذلك وجدت في صيغة ثورتنا ما ترتاح إليه نفسي وبه تستقر.
وكانت تفهم نفسية إسماعيل بقدر ما تحبه، وتؤمن بتماثل موقفهما، وبأنه لن يغفر لها تهاونها معه لو حدث مهما ادعى من أقوال لا يؤمن بها في قرارة نفسه. - وعم حسب الله تاجر الدجاج كان يريدني بأي ثمن في تلك الأيام، ولم ييئس من رفضي يده، وتشفع عندي بعجوز من المتعاملات معه ولكني لقنتها درسا! - أرادك بغير زواج؟ - وبثمن غال.
وكانت تروي ذلك بفتور يتناقض مع الموقف، فلم أفهم وقتذاك سر فتورها. - وكذلك زين العابدين عبد الله فيما بعد. - لا.
ندت عني في دهشة فقالت بثقة: بلى. - ولكنه مجنون بقرنفلة؟
Unknown page