فضحك هازئا وقال: يا لك من ماجن حقا!
ثم مستدركا: إنه ليس الأول ولا الأخير!
وغادرنا بيته حوالي العاشرة، سرنا صامتين، أصبحت أشق الأوقات علينا تلك التي نخلو فيها إلى أنفسنا. وافترقنا، هي بحجة العودة إلى الربع، وأنا بحجة الذهاب إلى الكرنك، وضربت في الشوارع على غير هدى، عجزت عن اتخاذ قرار، وطيلة الوقت عذبني الخوف على نفسي، على زينب، لم أتخذ قرارا. رجعت إلى الربع حوالي منتصف الليل، استلقيت فوق الأريكة بملابسي، قلت لنفسي: «لأتخذن قرارا أو أجن.» ولكنني لم أتخذ القرار، قررت تأجيل ذلك إلى الصباح ولكنني لم أنم، وكنت ما أزال مسهدا حين اقتحموا علي خلوتي. - تعني رجال الأمن؟ - أجل. - في نفس الليلة؟ - في نفس الليلة. - ولكنه أمر مذهل وغير مفهوم. - إنه السحر، ولا تفسير له إلا أنهم كانوا يراقبوننا معا ويتصنتون علينا من بعيد.
فقلت له مواسيا: على أي حال فإنك رفضت أن تبلغ عن صديقك. - حتى ذلك لا أستطيع أن أدعيه بصدق لأنني لم أتخذ قرارا.
هكذا وقع الاعتقال الثالث. ومثل أمام خالد صفوان قبيل الفجر فاستقبله بوجهه البارد وقال: خنت الأمانة وسقطت في أول امتحان.
فلم أنبس. فقال: حسن، نحن لا نقسر أحدا على صداقتنا.
وجلد مائة جلدة ثم ألقي به في الزنزانة، في الظلام الأبدي.
وحدثني عن مصرع حلمي حمادة، فقال: إنه مات في حجرة التحقيق، كانت به عصبية وجرأة، استفزتهم إجاباته، تلقى صفعات فهاج غضبه، وحاول أن يرد الاعتداء بمثله؛ فانهال عليه حارس باللكمات حتى أغمي عليه؛ ثم تبين أنه فارق الحياة. - وعشت في الظلام زمنا لا أدريه حتى ذبت في الظلام.
واستدعي ذات يوم فظن أنه ماض لمقابلة خالد صفوان، ولكنه رأى وجها جديدا، فأبلغه بنبأ الإفراج عنه. - وقبل أن أغادر المبنى علمت بكل شيء.
ولاذ بالصمت مليا ثم استطرد: بقصة الطوفان من أولها إلى آخرها. - تعني الحرب؟ - أجل، مايو، يونيو، حتى خبر القبض على خالد صفوان نفسه! - يا لها من ساعة! - تخيل حالي إن استطعت! - أجل ... أستطيع ذلك. - وكانت الدنيا قد عبرت ذروة النكسة، وأفاقت من الذهول الأول، فوجدت الميدان مكتظا بالأشباح والأحاديث والحكايات والشائعات والنكات ... وانعقد الإجماع على أننا كنا نعيش أكبر أكذوبة في حياتنا. - وهل شاركت في ذلك الإجماع؟ - بكل قوة العذاب الذي كان يفتت مفاصلي، تبخر إيماني وفقدت كل شيء. - أظنك اليوم جاوزت ذلك الموقف؟ - درجات ولا شك، على الأقل فإنني حريص على تراث الثورة. - وكيف كان موقف زينب؟ - مثلي تماما، ولكنها تكلمت قليلا ثم صمتت إلى الأبد، أذكر أول لقاء لنا عقب الإفراج عني، تعانقنا بميكانيكية، قلت لها بمرارة: لنتعارف من جديد فنحن بإزاء دنيا جديدة. فقالت لي: إذن دعني أقدم لك نفسي، أنا شخص بلا اسم ولا هوية. فقلت لها: إني أعرف الآن تماما معنى قبض الريح. فقالت لي: الأفضل أن نعترف بحماقتنا وأن نحترمها فهي كل ما بقي لنا. فأخبرتها عن مصرع حلمي حمادة فانخطف لونها وشردت طويلا، ثم قالت: نحن الذين قتلناه كما قتلنا الألوف غيره. فقلت - غير مؤمن بما أقول - ولكننا ضحايا ألا يمكن اعتبار الحمقى ضحايا. فقالت بامتعاض وسخرية: إن ذلك يتوقف على درجة حماقتهم. ثم وقعنا جميعا في الدوامة كما تعلم، ومضت تتقاذفنا خطط الحرب، ومشاريع السلام، ولا يلوح لنا شاطئ. وثمة بارقة أمل وحيدة حيث يوجد الفدائيون. - إذن فأنت تؤمن بالفدائيين؟ - وعلى اتصال بهم وأفكر جادا في الانضمام إليهم، ولا ترجع أهميتهم إلى أعمالهم الخارقة، ولكن إلى مزاياهم الفريدة التي تمخضت عنها الأحداث، إنهم يقولون لنا إن الإنسان العربي ليس كما يعتقد الكثيرون ولا كما يعتقد هو في نفسه، ولكنه يستطيع أن يكون معجزة في الشجاعة إذا شاء. - ولكن هل توافقك زينب على ذلك؟
Unknown page