إن القضية الصهيونية قضية تقوم على العلم وتشاد على المعرفة، وهي حركة عالمية يؤيدها المال اليهودي الضخم في العالم أجمع، كما أنها تعتبر بالدرجة الأولى حركة رأسمالية استعمارية؛ لهذا نجدها قد تضافرت مع جميع القوى الاستعمارية كافة في الدنيا، وما زالت أكبر دول العالم تمالئها وتسير في ركابها، أيام كنا نائمين نحلم بالمجد الغابر ونفخر بالعز القديم. ومهما كانت المتناقضات في النظام الرأسمالي قريبة الوقوع، بحيث تتراءى لنا كأنها على وشك أن تفصم العرى وتبعد الشقة بين الأمم المستعمرة، فلا يغررنا مثل تلك الخلافات، فنطمئن إليها، آملين ألا نكتفي بإيقاع الشقاق بين الأمم وزرع البغضاء في صفوفها؛ لأن هذه المتناقضات مخدرات يستعملها المستعمرون لاقتسام الفريسة وتوزيع الغنائم. سأبقى على صراحتي هذه مهما كانت مؤلمة، وإني لأرجو أن يكون هذا الألم دافعا لشبابنا للقيام بواجبهم إزاء هذه الكارثة التي حاقت بالأمة العربية جمعاء، وباعثا لنشاط أولئك الشباب الذين عليهم وحدهم يقوم اعتماد الأمة وأملها. إني أقول لهم إننا قد دخلنا حرب فلسطين وليس لدينا أية معلومات عن حقيقة العدو، في حين كان العدو يعلم عنا ما كنا نحن نجهله عن أنفسنا، وقد كان أكثر المراقبين الدوليين الذين وفدوا إلى بلادنا من مختلف الجهات والميادين جواسيس علينا، ولقد ذهب بنا الغباء أن كنا نقدم إليهم أجل الخدمات وأرفعها، فكنا نسمح لهم بالتجوال في أنحاء البلاد حتى في خطوطنا الأولى، وإني لأخجل من القول إنه علاوة عما اتسمت به أعمالنا من الفوضى والاضطراب، لم يكن للأمة العربية في مكافحة الصهيونية هدف معين متفق عليه، ولا اتخذت لتحقيق أمانيها وسائل محددة مرسومة المعالم، بل كانت في جميع أعمالها تخبط خبط عشواء، ولكن العاقل من اتعظ بأخطاء الماضي، فحاول أن يجتنبها في مستقبله، فماذا ترانا فاعلين الآن وقد أصبح للصهيونيين في قلب البلاد العربية كيان إذا لم نعترف به نحن فقد اعترف به العالم بالرغم عنا، وكيف نقاوم هذه الدولة الجديدة التي تتاخم حدود أربع من الدول العربية السبع، وتجد من العالم الخارجي كل تأييد وتقدير بواسطة دعايتها المنظمة، وأموالها التي أغدقتها على من فسدت ضمائرهم، فاشترتها وسخرتها لمآربها، تصنع بها ما تشاء. إن هذا الخطر المميت الجاثم فوق صدورنا ليتطلب منا تغييرا أساسيا في سياستنا، وتعديلا جوهريا في المنهج الذي نسير عليه. (3) أطماع الصهيونية
يجرم في حق أمته وبلاده من يقول إن الصهيونيين قد نالوا - فيما أقاموه لأنفسهم من كيان في فلسطين - الغاية النهائية التي يسعون إلى تحقيقها، وإنهم لن يلجئوا بعد ذلك إلى الفتح والغزو، وإنه لن يصيب الأمة العربية في بقية أقطارها شر إذا تركت الصهيونيين وشأنهم فيما اغتصبوه من فلسطين. إن الواجب وحقيقة الحال يدعواننا إلى اعتبار ما حل بفلسطين جولة أولى، ستتلوها جولات في الصراع مع الصهيونية، وعلى موقفنا من هذه الجولات وشدة مراسنا وقوة بأسنا وحسن استعدادنا يتوقف مصير هذا الجزء من العالم، ويتقرر مستقبله بأوسع ما تعني هذه الكلمات من معان، فقد جاء في خطاب بن غوريون في 7 حزيران 1949 ما يلي (والخطاب منشور بكامله فيما بعد):
نحن لم نحرر من بلادنا غير قسم واحد فقط، وأما الأقسام التالية فسيكون مصيرها مصير القسم الذي تسيطر عليه قواتنا الباسلة الآن.
وليس بعد هذا من مجال للشك في مطامع الصهيونية الواسعة. إن صفحة التاريخ المشرقة التي ابتدأت بعهد ابن الخطاب، وما تلا ذلك من مجد، مهددة بالفناء الأبدي، أقول الأبدي غير وجل من مواجهة الحقيقة المرة التي سنصير إليها إذا لم نتعظ بالماضي، ولم ندرك الخطر، ولم نهيئ العدة لمواجهة المستقبل المملوء بالمفاجآت المرعبة والخطوب المريرة الداهية، ولم نتخذ أهبتنا لهذا الواقع القريب. إن ما تعنيه كلمة العروبة بنظر الملايين من سكان هذه الأقطار ما تثيره في نفوسهم من صور وذكريات، وما تمثله من تراث خالد ومجد أثيل. كل ذلك سيصبح أثرا بعد عين، وسينكمش على نفسه ويتضاءل، فلا تربطه بسكان هذه الأقطار أية رابطة ما لم نوحد كلمتنا ونهب لندرأ عن أوطاننا هذا الخطر المحقق.
فلا تضيع أعمال مئات الألوف من الأبطال الغر الميامين الذين بذلوا أرواحهم في الذود عن هذه البلاد ودفع الضرر عنها، وجعلها نبراسا يرسل النور في وقت غمرت فيه حلكة الظلام سائر العالم.
لقد فتح العرب الأندلس بحد سيوفهم وقوة إيمانهم، فاستقروا في بعض أجزائها وأقاموا فيها دولة عربية زاهرة، ثم دب الفساد بينهم، فشغلوا بأنفسهم عن وطنهم الجديد، وأعماهم حب اللذات عن رؤية العدوان المحدق بهم، وألهاهم ما كانوا فيه من فتنة الدنيا ومباهج الحياة عن التبصر بالعواقب، ففتك العدو بهم، وأبادهم وأخرجهم من ديارهم لا يلوون على شيء، وأزال في بضع سنين ما بذلوا في إقامته من الجهد عصورا طويلة، فعفت آثارهم وامحت معالمهم، وذهبوا مثلا في التخاذل وتفرق الكلمة، وليست الأندلس بالنسبة إليهم كبلادنا التي يجب أن ندافع عنها؛ لأنهم دخلوا بلاد الأندلس فاتحين، وأقاموا فيها حاكمين، فأين ذلك من بلاد ورثناها عن الآباء والجدود، ارتوت أرضها بدمائهم، وكانت مسرحا لأعمالهم، وما عرفنا غيرها في يوم من الأيام وطنا، ولا اتخذنا سواها في عصر من العصور بلدا ، فكيف تكون الحال إذا سقطت في يد العدو المتربص بها، فشتت شمل أهليها، وأزال عنها صبغتها التي اتسمت بها منذ آلاف السنين؟ فمن الواجب علينا أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، بل وبأكثر عدة وأبعد حيلة، نستوحي مفاهيمنا من العقل والعلم، ونجعل عدتنا الخلق المتين والعقيدة الراسخة التي لم يعد لعديدنا وحده الرأي النهائي فيها؛ لأن للعلم والتنظيم الكلمة الحاسمة في كل مضمار وميدان، ولا تغرننا كثرة عددنا إذا لم نعن بتهذيب هذا العدد وإحسان تكوينه وتوجيهه.
وإني لأعجب من أن «1500» مليون مسيحي، و«500» مليون مسلم في العالم يهنون ويخذلون أمام حفنة من اليهود لا يزيد عددها عن بضعة عشر مليونا من الناس، استطاعت بما اختلقته من أكاذيب الدعاية وأضاليلها أن تخدر هذه الملايين من حماة قبر المسيح ومهده، ورعاة الصخرة المباركة في القبلة الأولى. (4) خطورة مسألة فلسطين على ضوء أقوال المسئولين اليهود
أيها العرب! أفيقوا من غفلتكم، وارفعوا عن أعينكم الغشاوة، واعلموا أن هذه الأوطان في أعناقكم أمانة، واذكروا أن على عاتقكم مهمة المحافظة على تراث محمد وعيسى، وأنكم إن وهنت قواكم وتخاذلتم ذهبت ريحكم وقضيتم على هذا التراث إلى أبد الآبدين. واعلموا أن الأجيال تطل عليكم في محنتكم الحاضرة تراقب سلوككم وتتبع أعمالكم، فكونوا عند حسن الظن بكم، وابذلوا الرخيص والغالي في سبيل الذود عن بلادكم وحفظ عروبتها؛ وأن ما أصاب إخواننا الفلسطينيين الذين نزحوا عن بلادهم سيصيبنا نحن إن ظللنا نائمين، وأنا إن بخلنا بالقليل من أموالنا اليوم، فسنبكي على هذه الأموال عندما نغادر هذه البلاد. وإذا وجد اللاجئون الفلسطينيون اليوم في هذه البلاد بعض المأوى والمأكل، فإنا غير واجدين ذلك إذا اضطررنا إلى ترك بلادنا غدا. ولو أن أبناء فلسطين ومن ورائهم العرب بذلوا ولو جزءا قليلا مما بذله اليهود، لما حل بهم ما حل من مصائب وويلات وضياع أموال وأنفس.
ليس فيما صورته من الأخطار، وما بينته من ضروب الغدر التي بيتها العدو للأمة العربية أية مبالغة من التصوير أو الإغراق في التشاؤم. لا ، بل إنها لمجمل سريع لما بيته العدو من خطط محكمة، وقد أحسن وضعها ورتب تفاصيلها منذ سنين بعيدة، فكان يظهرها للملأ حينا ويهمس بها القائمون على أموره أحيانا أخرى، حتى إذا واتاهم النصر الأخير، أصبح المهموس جهرا، وما كان سرا من الأسرار يعلن من أعواد المنابر وعلى رءوس الأشهاد، فلم تكن فلسطين كلها بوضعها الجغرافي الحاضر غاية آمالهم، فلا البلاد تتسع لملايينهم، ولا مواردها الطبيعية من الوفرة والغنى لتسد حاجتهم مهما أجري فيها من التحسين، وإنما هم يصبون إلى البلاد الممتدة من الفرات شرقا حتى النيل غربا، فذلك مجالهم الحيوي كما يدعون، وملك أرض آبائهم وأجدادهم كما يهتفون، وقد وضعوا الخطط لغزوها بأموالهم أولا، وبنفوذهم السياسي ثانيا، وبدهائهم ودناءتهم ثالثا، ثم يغزونها بجيوشهم وجحافلهم أخيرا كما يأملون، ما لم ندرك مدى خطرهم ونقف سدا منيعا دون تنفيذ ما يهيئون.
لقد أرسل دافيد بن غوريون رئيس الوزارة في إسرائيل حاليا من لندن إلى اللجنة المركزية لحزب المباي في تل أبيب - وهو حزب العمال ذو الأكثرية - كتابا مطولا عام 1938، نشره حزب العمال بصورة تقرير استعرض فيه الوضع السياسي الذي أحاط بالصهيونية في ذلك الوقت من جراء الثورة العربية التي اشتد أوارها في ذلك الحين، ثم عرض ما يبذله اليهود من ضغط على أعوانهم من النواب البريطانيين، وذوي المقام من الموظفين وأصحاب النفوذ من الصحفيين في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما من البلدان الأوروبية، للضغط على الحكومتين البريطانية والأمريكية، وحملها على إخراج اليهود من المأزق الذي وقعوا فيه. وإليكم كتاب بن غوريون، وقد نشره المكتب العربي عام 1939، وإذا قرأنا هذا التقرير بإمعان ودقة فإنه يظهر لنا الحالة السيئة التي كانت تحيط باليهود في ذلك الوقت في البلاد العربية. (5) تقرير اللجنة المركزية للمباي «حزب العمال الفلسطينيين»
Unknown page