Kam Cumr Ghadab
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Genres
5
هذا كلام رائع بغير شك؛ فكل من يستنكرون مهاجمة الحكام بعد موتهم إنما يهدفون، في حقيقة الأمر، إلى مصادرة حق الناس في توجيه أي نقد إلى الحاكم، سواء خلال حياته أو بعد مماته؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم الذين يشاركون في قمع حريات المعارضين والتنكيل بهم، واتهامهم بالعمالة والخيانة لو انتقدوا الحاكم حيا، وهم الذين يتمسحون بالفضيلة والأخلاق وتقاليد المجتمع والدين لو وجدوا من يهاجم الحاكم ميتا، وهكذا فالنقد أثناء الحياة ممنوع، وبعد الموت عيب وحرام، فهل هذا - كما قال هيكل بالضبط - معقول؟
ولكن المهزلة الكبرى تتمثل في أن هيكل نفسه، الذي يتلفت الآن حواليه ببراءة ويتساءل: أهذا معقول؟ كان هو نفسه من أهم من استخدموا هذه الحجة المتهافتة، وكان من أقوى الناس نقدا لمن يهاجمون الحكام بعد موتهم، وهكذا نجد أنفسنا إزاء «لا معقول» آخر، غير ذلك الذي يمثله خصوم هيكل، هو «لا معقول» هيكل نفسه.
فلنبدأ بتأمل رأي قريب العهد لهيكل. لقد نشرت الصحف في مصر والكويت، الرسالتين المتبادلتين بين توفيق الحكيم وهيكل، فماذا نجد في هاتين الرسالتين بشأن الموضوع الذي نتحدث عنه الآن؟ قال توفيق الحكيم مخاطبا هيكل: «إن حالتي تشبه حالتك؛ فأنت كتبت كتابا «خريف الغضب» اعتبر هجوما ضد السادات بعد موته، وأنا كتبت كتابا هو «عودة الوعي» اعتبر هجوما على عبد الناصر بعد موته.» ولكن هيكل يرفض هذا التشبيه بين الكتابين، ويهمنا في رفضه السبب الثاني الذي قدمه للاختلاف بينهما: «لم أكتب بعد موت أحد، كتبت في حياته رأيي، وكتبت بعد موته نتائج دراستي لما حدث.» وهو يؤكد في موضع آخر أن الحكيم ألف كتابه «بعد ثلاث سنوات من رحيل عبد الناصر»، على حين أنه هو ذاته نقد السادات منذ فبراير 1974م.
علام يدل هذا الحرص على نفي فكرة نقد الحاكم بعد موته؟ على شيء واحد، هو أن هيكل يقف على نفس الأرض التي يقف عليها خصومه، ويفكر بنفس منطقهم، ويتبنى نفس قيمهم؛ فالمعنى الضمني لديه هو أن نقد الحاكم بعد موته جبن، أو عمل غير أخلاقي، ومن هنا كان حرصه على تأكيد أنه نقد السادات حيا، ولم ينتظر ثلاث سنوات كما فعل توفيق الحكيم، وكل ما فعله بعد موت السادات هو أنه «كتب نتائج دراسته لما حدث».
ولكن، لنترك المعاني المفهومة ضمنا وننتقل إلى الكلام الصريح، فقد نشر هيكل مقالا بجريدة «الوطن» الكويتية
6
بعنوان: «ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين!» وهو في ذاته عنوان بالغ الدلالة، يتهم فيه هيكل من ينقدون الأموات بالجبن؛ لأنهم لم يمارسوا «شجاعتهم» إلا على الغائبين، في هذا المقال يروي لنا هيكل قصة عتابه لعبد الناصر على قيامه باعتقال شخصية من الشخصيات المرتبطة بصحيفة «الأهرام»، ثم يعلق قائلا: «لا أسمح لنفسي أن أقص عليك ما قلته له، ذلك الآن تجاوز لا يليق، لو كان حيا واقتضت الظروف أن أروي الحديث كله لرويته، ولكنه لم يعد بيننا؛ ولهذا لا أستبيح لنفسي أن أدعي الشجاعة على غائب، ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين! الفئران كلها تعربد في غياب القطط، ولم يكن جمال عبد الناصر قطا، وإنما كان أسدا مهيبا وشامخا.»
وهكذا يصف هيكل توجيه النقد للحكام بعد موتهم بأنه عربدة فئران في غياب القطط، ولا يدري أنه بعد أعوام قلائل من حديثه ذاك، سيجد بدوره من يشبهه بنفس التشبيه، بعد أن مارس هو أيضا شجاعته على حاكم غائب، والمفارقة الساخرة أن قائل هذا الكلام هو نفسه الذي يهتف في أيامنا هذه باستنكار: هل من المعقول أن يفعل الحاكم ما يشاء فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟
وهكذا فإنه، عندما كان الأمر متعلقا بنقد تصرفات لعبد الناصر، وجد هيكل في مهاجمة الأموات جبنا، وعندما أصبح متعلقا بالهجوم على السادات، استنكر عدم مناقشة الحاكم بعد مماته (ولاحظ أنه استخدم في هذه الحالة الأخيرة عبارة «كل حاكم» أي أنه كان يصدر حكما منطبقا على جميع الحالات)، هذا التناقض يدل على أن هيكل وخصومه يقفون جميعا على أرض واحدة، ويؤمنون بمجموعة واحدة من الأفكار الباطلة، التي ترتكز على نزعة أخلاقية زائفة تخاطب عواطف الناس لا عقولهم، وتخلط بين الموت من حيث هو كارثة إنسانية شخصية، وبين التقييم السياسي من حيث هو ممارسة لا صلة لها بالموتى أو الأحياء.
Unknown page