مواقف قليلة كما سبق أن قلت، تلك التي يقف فيها غالي شكري «ناقدا»، يرقب العمل الفني من داخله، ناسيا نفسه كباحث يجب أن يتخذ من الواقع الخارجي للظاهرة أو المشكلة، مادته الفنية اللازمة للتفسير والتبرير، ومع ذلك فما أكثر المواقف التي تواجهنا وفيها الباحث والناقد، ومن ورائهما مستوى لا ينكر من الفهم الناضج؛ ولنأخذ مثلا ثالثا في أحمد شوكت، نراه حاسما عندما انسحبت فتاة «المعادي» من حياته، لم يذب عمره في لحن جنائزي طويل، بل راح يبحث عن وجوده مع شريكة كفاحه في المبدأ والعمل؛ وكان الزواج إكليلا رائعا فوق هامتيهما، كان طريقا طبيعيا لبقية العلاقات الطبيعية الأخرى، حيث يصبح الجنس - لأول مرة - قيمة حقيقية في مستواها ونوعيتها، القيمة التي تطلب من نجيب محفوظ أكثر من ألف صفحة، ليرسم مقوماتها الضرورية ومعالمها الرئيسية، فتستمد دلالتها الإنسانية من طبيعة التكوين الاجتماعي لكل من أحمد و«سوسن»، القائم على أساس وطيد من المساواة الاجتماعية، التي تتولد عنها بالضرورة المساواة النفسية.
ولننتقل من «الثلاثية» إلى «بداية ونهاية» لنلتقي بغالي شكري، وهو يطوف بنا حول شخصية نفيسة مستخرجا لنا - من رسم نجيب محفوظ - أدق ملامحها النفسية: «وتنعكس مأساة الأسرة على هذه الفتاة، التي نكبت بوجه دميم وجسد يغلي، فلم يكن أمامها طريق أفضل من أن تدفن دمامتها في صدر كل رجل يستطيع أن يدفع غائلة الفراغ عن أمعائها وبطون إخوتها، ولا تعنيه الدمامة في غمرة ذهوله الحسي بين ثنايا جسدها. لم تكن دمامتها هي «العامل الحاسم» في سقوطها، فالسقطة الأولى في حياتها كانت احتجاجا لا واعيا على دمامتها، أرادت أن تؤكد ذاتها وتحقق وجودها، قبل أن تعي تلك الذات وهذا الوجود؛ لقد تطورت بها الحال من «تحقيق الذات» إلى مرحلة خطرة، إلى تلك الساعات التي تذهل فيها عما يدفعها إلى تسلية نفسها من دواعي اليأس والفقر؛ هنالك تنسى كل شيء إلا الرغبة المحرومة الجائعة، فتمثل بنفسها أفظع تمثيل. ولعلني لم أصادف أبشع - وأروع - من هذا التصوير لامرأة تجمدت خلايا ذهنها وقلبها ونفسها في بقعة دموية ذاهلة تدعى الجنس. لقد وصلت نفيسة إلى قمة تعاستها، فمن حيث أرادت تحقيق ذاتها، تلاشت هذه الذات وفنيت، وفقدت إحساسها بالوجود والحياة، حتى الشعور باللذة مات معها، وتحولت بقسوة إلى قطعة من لحم الأميبا؛ لأنها بعيدة الشبة عن ذكر النحل، الذي يستشهد فور أدائه للوظيفة الجنسية. إنه أفضل منها لأنه يحيا سعادته إلى أقصى حد ممكن، ثم يستشهد رغم أنفه، أما هي فقد أصبحت «رغبتها المحرومة الجائعة» عجلة قيادة تسرع بلا سائق!»
لماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس، ويهدف عامدا إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ، كما يفعل غيره من الكتاب بغية الرواج، أم أن له اتجاها معينا يتسم بالمنهجية التي يلتزمها كلون من ألوان التعبير عن وجوده العقلي؟ غالي شكري يرد على هذا التساؤل رد الباحث المقنع: «إن منهج نجيب محفوظ في التفكير يرى العلاقات الاجتماعية جميعها مترابطة بخيط واحد، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، ولا يمكن رؤيتها الواحدة بمعزل عن الكل؛ لأن العلاقة في مفهومها تتحدد بالضرورة والحتمية مع بقية العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كإفراز طبيعي للمجتمع، يتلون بلونه ويتشكل في قالبه ويتسم برائحته؛ لذلك يمضي الجنس في أعماله في مؤازرة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية. ونجيب محفوظ في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» بذل جهدا رائعا في أن يتجه بلوحاته الإنسانية إلى ذلك المنهج العميق. فلقد رأيناه يطرح للمناقشة الجادة، قضية هذه الفئات السفلى من الطبقة المتوسطة في مصر، ثم يتتبع تشابك علاقات أفرادها وتعقد الحياة من حولها، فإذا انحدرت بأحدهم علاقة ما - كالجنس - إلى الحضيض، فلأن كافة العلاقات الأخرى لا ترتفع عن مستوى التراب، وهنا يتألق منهجه في التعبير إذ هو يتخير بإحساس مرهف وشفافية، الزاوية النموذجية للكشف عن جوهر الحدث أو الشخصية أو الموقف الدرامي.»
بعد نجيب محفوظ أحب أن ألتقي - عند غالي شكري - بكاتب القصة القصيرة يوسف إدريس. في نطاق معنى الجنس يجد القارئ نفسه - أول ما يجد - أمام «أرخص ليالي»، أحد الأعمال الفنية المحلقة سواء في الشكل الفني أو المضمون الاجتماعي. في هذه القصة يضع يوسف إدريس يده على المأساة الحقيقية للقرية المصرية أو الريف المصري، يشير إلى المشكلة ويحرث الأرض من حول جذور المشكلة، حتى يعرض مكمن الداء لمختلف أنواع الرؤية؛ كل هذا في بضع صفحات يمكن أن تكون نقطة ارتكاز جوهرية لباحث اجتماعي، إذا ما حاول أن يرى القرية المصرية من خلال دائها الأصيل وعلتها المزمنة. القصة في كلمات، تعرض لنا مشهد إنسان قروي، يقع في حيرة متصلة، مصدرها البحث عن وسيلة من وسائل الترفيه يقضي بها ليلته، انتهى من صلاة العشاء في المسجد وبدأ يفكر، استعرض أكثر من طريقة وخطرت له أكثر من فكرة، ولكن كانت هناك عقبة تسد منافذ الطريق أمام وسائل التنفيذ؛ إن قتل الفراغ والعثور على مصدر من مصادر التسلية يحتاج إلى بضعة قروش، لا يملك هذه القروش القليلة. المهم عنده كيف يقضي ليلته؟ كيف يقضي على هذا الملل الذي يتسرب إلى داخله وينفذ إلى أغوار نفسه؟ وأخيرا، وعندما عجزت منه كل حيلة، لم ير عبد الكريم بدا من أن يعود إلى بيته؛ وهناك لم يلق غير زوجته، وكانت نائمة، حتى في بيته لم يجد رفيقا يؤنسه، وينقذه من وحش الملل الهائل الذي يريد أن يفترسه؛ إنه يريد أن يهرب من الوحش بأية وسيلة، أن يجد ملاذا يأوي إليه؛ كان مرغما على البحث عن هذا الملاذ، ولقد وجده - تحت ضغط الإرغام - في لقائه مع زوجته، هناك بين ثنايا الجسد. وبعد شهور، وكما تنتهي القصة، كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر!
لا شك في أن يوسف إدريس - من وراء المضمون العام لقصته - يريد أن يقول لنا شيئا، يريد أن يوصل إلينا فكرة، أن يكون له هدف يسعى إليه؛ فمن أي الزوايا نظر غالي شكري إلى مغزى الفكرة التي يريد أن يوصلها إلينا يوسف إدريس؟ إن الزوايا التي اختارها للرؤية تتلخص في أننا: «لن نستقبل الولد الجديد بفزع كما يتوهم الكاتب، بل إننا نستقبل تجربة الأب بفيض من التساؤلات، حول الأزمة الضاربة المحكمة حول عنق الإنسان الكادح في بلادنا، وكيف أن شبحها يظلل كافة المنافذ أمامه بالسواد، فلا تعود عيناه تريان ومضة نور؛ وإنما تصبح حياته نسيجا داكنا من الذل والفاقة والعلاقات غير الإنسانية، حتى إن العلاقة بين الرجل والمرأة، تصبح تعويضا عن الملل، وتعبيرا قاسيا عن أنه لا يوجد شيء آخر؛ إنه الضياع الجنسي ربيب الضياع النفسي، وكلاهما نتاج الضياع الاجتماعي. والجانب الفكري والاجتماعي لمعادلة يوسف إدريس، هو الاهتمام بالطبقات الشعبية اهتماما إنسانيا، يتعاطف مع قضاياها في الحياة، وإن ما نراه من شرور وآثام في سلوك أبناء هذه الطبقات، ليس إلا نتاجا للأنظمة الاجتماعية السيئة!»
هذا فهم جيد لجوانب الفكرة التي يرمي إليها يوسف إدريس، ولكنه - على هذا المستوى الذي أشرنا إليه - فهم للجوانب ويبقى بعد ذلك الجانب البعيد؛ إننا يجب أن نخالف غالي شكري ونستقبل الولد الجديد بفزع، الولد السابع في حياة فلاح فقير، لا يجد بضعة قروش يقضي بها ليلته؛ إننا هنا أمام ظاهرة الكم العبثي على حد تعبير سيمون دي بوفوار، وإن كانت العبثية بالنسبة إلينا تنحصر في معنى المجتمع ولا تنحصر في معنى الوجود. الريف المصري مشكلته الأساسية هي الفقر والجهل والمرض، مرتبطة بعضها ببعض، ارتباط ثالوث محكم متداخل الحلقات ... إن الأبناء في الريف نسخ مكررة من الآباء، يعيدون دورة المشكلة من جديد حين يكبرون فلا يجدون غير الفراغ، ولا يجدون غير العلاقة الجنسية كوعاء يصبون فيه هذا الفراغ، ومرة أخرى يكثر الإنجاب ويتعدد النسل وتتضخم المشكلة؛ مشكلة الفقر والجهل والمرض. هنا مفتاح القضية التي يعالجها يوسف إدريس في ثنايا المضمون العام لقصته، إنه - كما سبق أن قلت - يحرث الأرض حول جذور المشكلة، ليقع مكمن الداء تحت أضواء الرؤية، رؤية الإصلاح الاجتماعي إذا أريد له أن يكون.
من «أرخص الليالي» وهي بداية الإنتاج الفني ليوسف إدريس، ينقلنا غالي شكري إلى قصة «العيب»، وهي أحدث مراحل هذا الإنتاج؛ وفي رأيه أن كل ما هناك من فروق بين القصتين، يتركز في أن القصة الأولى - حين ظهرت - كانت دفعا ثوريا للقصة القصيرة، وأن القصة الأخيرة لم تضف شيئا جديدا في مجال النظرة التعبيرية والفكرية إلى التجربة المبكرة. ويمضي غالي شكري فيقدم إلينا تلخيصا موجزا لقصة «العيب»، التي تتناول الخطيئة كثمرة أنضجتها أوضاع المجتمع الخاصة في «المدينة»؛ فتاة تعمل في إحدى المصالح الحكومية، تفاجأ بجو موبوء عماده الرشوة وفساد الذمم بين زملائها من الموظفين، ويثور ضميرها وتحاول أن تبقى نظيفة، ولا تتيح لهذا الجو الملوث أن يمتد إلى وجودها النفسي، مهما تعددت وسائل الإغراء. وتصمد الفتاة فترة من الزمن أمام العروض المغرية من أحد زملائها الموظفين، بأن تتنازل عن ضميرها - ولو مرة - وتنضم إلى الزمرة الفاسدة. تصمد على الرغم من الوضع المؤلم الذي تعرض له شقيقها في المدرسة، حين لم يستطع أن يواصل الدراسة عجزا عن سداد المصروفات. ومع ذلك فإن صمودها لم يستطع أن يصمد حتى النهاية: موقف أخيها من ناحية، وإغراء المال من ناحية أخرى، وعين الذئب التي كانت تخدرها من ناحية ثالثة، وتشتهيها كأنثى ناضجة. وأخيرا تسقط «سناء» أمام ضغط الحاجة وبريق الذهب. وفي لقطات واعية يناقش غالي شكري مضمون القصة عبر ما فيها من معنى الجنس: «التجربة عند يوسف إدريس - تجربة الفتاة التي تدخل مصلحة «رجالي» لأول مرة في تاريخ هذه المصلحة - هي تجربة أصيلة وبنت مجتمعنا، بالإضافة إلى أنها تسجل إحدى المراحل الهامة في تاريخنا الاجتماعي. ولقد اكتفى يوسف إدريس في تعبيره الوجداني عن هذه المرحلة، بأن القديم ما يزال قويا وأنه يستطيع أن يغتال الجديد. وهذا صحيح، ولكن الأزمة الحقيقية ليست كامنة في عملية الاغتيال هذه؛ وبالتالي ليست كامنة في مئات الظروف الشاقة المريرة المحيطة بالموظفين عامة، وسناء خاصة؛ إن سقوط إحدى القلاع في ذات الإنسان كقبول سناء للرشوة مثلا، لا يعني مطلقا سقوط بقية القلاع، فتفرط في شرفها مرة واحدة. إن مجموعة القيم عند الفرد والجماعة موغلة في التشابك حقا، ولكنه تشابك معقد، بحيث لا نستطيع أن نجمع هذه القيم على قماشة بيضاء، إذا رفعها الإنسان في لحظة ضعف، رفعت بأكملها، وإذا أبقى على واحدة منها، أبقى على الكل. وهذا هو ما يجعل قصة يوسف إدريس، تبدو كما لو أنها كتبت بخطة عقلانية مسبقة!»
ويمضي غالي شكري في استعراض عدد آخر من قصص يوسف إدريس، نترك مراجعته للقارئ أو لغيرنا من النقاد.
وينتهي بنا المطاف إلى رائد من رواد القصة القصيرة في مصر، هو يحيى حقي؛ كيف ينظر هذا القصاص إلى معنى الجنس في أدبه؟ غالي شكري يرد بأن الجنس في مرآة يحيى حقي الفنية، يتجلى لنا وهو قوة ذاتية دافعة، ولكنها ليست القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني، وبذلك يختلف مع فرويد وأنصاره من الأدباء والفنانين، حين يجعلون من الجنس محورا اتجاهيا لهذا السلوك؛ بعد ذلك يتناول قصة «احتجاج» من مجموعة «أم العواجز»، كواجهة عرض تطبيقية لوجهة نظره الناقدة؛ بطلة القصة «بمبة» عانس في الأربعين، تعمل خادمة عند أسرة يرثها أفرادها جيلا بعد جيل، فهي من هذه الناحية - ناحية لقمة العيش - مطمئنة إلى أن في حياتها لونا من الضمان، بالنسبة إلى الحاضر والمستقبل، هي إذن لا تفكر إلا في ذلك الشاب، الذي استأجر دكانا أسفل البيت، وبدأ يداعبها وتداعبه، تلمس جسده أحيانا في شغف، وتثور ثورة عارمة حينما يتعرض أفراد الأسرة لشخصية الأسطى حسن، ويشير كل منهم إلى حاجته لبنت الحلال التي تصلح زوجة له. وحين لم يرد اسمها على لسان أحد منهم، تصيح في غضب هائج: «يعني إيه ... تأخذوا الجدع من إيدي؟!»
ما هو جوهر السلوك الحركي لتلك العانس حيال ذلك الشاب؟ إنها عند غالي شكري «لا تعبر عن ضراوة الجنس تعبيرا ضاريا أو وحشيا؛ لأنه لا يتوسد في خفاياها نتيجة أزمة طارئة أو عابرة؛ لقد أمسى مع السنوات الأربعين رمزا للحياة نفسها، ليس رمزا خياليا؛ إنه يموج بالرغبة الدافعة لخلاياها، أن تستصرخ الضمير الاجتماعي حقها في الحياة. ولم يعد هذا الحق هو ارتفاع مستواها المعيشي، فأعصاب وعيها الاجتماعي ماتت مع المستوى الراهن؛ ولم يبق لها سوى أعصاب الجنس التي تختلج لمرأى حسن، كما كانت تختلج في ليالي الزفاف مع بنات الأسرة!»
Unknown page