تناقض بين موقف اليوم وموقف الأمس، وكلمات يطلقها اللسان هناك ويكذبها هنا واقع الشعور. وما زلنا بعد هذا كله نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ مفتاح الطبيعة الأنثوية الشاذة، التي لم ينبض فيها عرق بعاطفة نحو رجل من الرجال! وقبل أن نقدم إليك هذا المفتاح نحب أن نرجع إلى تلك العبارة، التي ذكرت فيها مي اسم «توما» القديس، وأثر الوراثة في حياتها النفسية. هناك - كما تقول لجبران - ما هو أبعد من أثر تلك الوراثة في تكوين نفورها من الحب، هذه الكلمات التي تحمد الله على أنها لم تنطلق من بين شفتيها، وإنما انطلقت من بين شفتي القلم ... هناك «شيء» آخر تسأل عنه جبران، وتستنجد بذكائه ليلهمه الجواب، ومعذرة للذكي النابغ إذا لم يفطن لهذا «الشيء»، وهو بالنسبة إلى المشكلة مفتاح الباب؟ معذرة لجبران إذا لم يفهم لغة مي النفسية لأنه كان يحب، وفي الحب تقرأ القلوب وحدها ولا تقرأ العقول؛ إن عقل جبران لو لم يكن أمام لغة مي معصوب العينين، لرأى هذا «الشيء» البعيد وكأنه يراه من مدى قريب!
ما هو هذا الشيء؟ رجعة أخرى إلى الوراء؛ إلى رسالة قديمة من رسائل مي، لنلتقط من بين سطورها المفتاح! لقد أغاظها جبران يوما بكبريائه، كبرياء الرجل الذي يريد أن يشعر المرأة بأنه قادر على السيطرة والامتلاك؛ إزاء رجل من هذا الطراز لا تستطيع المرأة المعتزة بكرامتها إلا أن تثور، وإذا ما ثارت المرأة فهي الثورة التي تعصف بالوعي، وترفع عن وجه حقيقتها «الداخلية» كل قناع! هكذا تجد كل امرأة وهكذا تجد مي. وتختلف الحقائق بعد ذلك تبعا لاختلاف التكوين النفسي عند شتى النساء؛ لقد ثارت على جبران، وفي خلال ثورتها على مرجل وجودها الداخلي ولم يكن محكم الغطاء، فتطايرت قطرات السر الرهيب في هذه الكلمات: ... لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من وأين أنت؛ وكثيرا ما أنسى أن هناك شخصا، أن هناك «رجلا» أخاطبه! فأكلمك كما أكلم نفسي، وأحيانا كأنك «رفيقة» لي في المدرسة!
هكذا تكلمت مي، وإذا تكلمت مي فليس هناك زيادة لمستزيد؛ إن ذلك «الشيء» الذي سألت عنه جبران، قد أجابت عنه هنا في لحظة غضب ثائرة، ولم يكن في كلمة واحدة غير «الأنوثة المقتولة»، وإذا ما قتلت الأنوثة في أعماق المرأة فقد قتل إحساسها بالرجل، وانمحت الفوارق الجنسية في عالم الشعور؛ يبدو الرجل في منظارها وهو لا يختلف عنها في شيء؛ لأنها حرمت حاسة الجنس وسلبت توجيه الغريزة، وقل بعد ذلك أنه فقد الشهية نحو الأشياء، وما يترتب عليه من أثر في سلوك الأحياء: تفقد شهية الطموح فتزهد في المجد، وتفقد شهية القراءة فتشغل عن العلم، وتفقد شهية الأكل فتعزف عن الطعام؛ وكذلك المرأة حين تفقد شهية الأنوثة فتنسى الرجل وتنفر من الحب! لقد كانت مي في تلك السطور الأخيرة التي كتبتها لجبران، هي المرأة التي «نسيت» أن هناك «رجلا» تخاطبه، وكل امرأة تتعرض لهذا الشذوذ فهي واحدة من اثنتين: امرأة يتجرد إزاءها الرجل من أعمق صفات الرجولة، فإذا هو بوتقة إحساسها «رفيقة» من عالم النساء، وامرأة تتجرد إزاء الرجل من أبرز خصائص الأنوثة، فإذا هي في البوتقة نفسها «رفيق» من عالم الرجال، ومن هنا ينقطع «التيار» العاطفي بينها وبينه وكأنه تيار كهربائي بين قطبين سالبين ... وهذا هو المفتاح!
ترى هل كف جبران بعد ذلك عن السير مع عاطفة مي «السابقة» أو المسلوبة إلى نهاية الطريق؟ كلا؛ لأنه ما زال يحدق في لغة نفسها بعقل معصوب العينين:
لدي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر، ولكن علي أن أبقى صامتا عنها، وسوف أبقى صامتا حتى يضمحل الضباب، وتتفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب: تكلم فقد ذهب زمن الصمت، وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة! متى يا ترى تتفتح الأبواب الدهرية؛ هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟ ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية، فلنجلس هنيهة يا مي ولنتحدث قليلا، نحن لا نستطيع البقاء هنا دائما؛ لأنني أرى عن بعد قمة أعلى، وعلينا أن نبلغها قبل الغروب!
إنه ما يزال يسأل عن أبواب الأمل متى تفتح، الأبواب التي تقف من ورائها امرأة تنتظره وفي شفتيها همس، وفي عينيها لهفة، وفي يديها ذلك المنديل الإلهي، الذي تجفف به عرق النفس وتمسح غبار الروح، بعد رحلته الطويلة المضنية في طريق الحياة؛ إنه يريد أن يجلس قليلا ليستريح ويتحدث عن تلك القمة، التي يود أن يبلغاها معا قبل أن تحتضر شمس العمر على فراش الغروب! ولكن الأيام تمر والأبواب لا تنفتح، وليس هناك من ينتظر، والقمة التي بلغها وحيدا بلا رفيق أو حبيب، كانت قمة اليأس والخيبة وضيعة الرجاء. وانتهى الحديث عن اللقاء، وابتدأ الحديث عن الرحيل، وها هو جبران ينثر بين يديها أشلاء شعور تمزقت أوصاله على بقايا الصخور:
أتعلمين يا مي أني ما فكرت في الانصراف الذي يسميه الناس موتا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل؟ ولكني أعود فأذكر أن كلمة لا بد من قولها، فأحار بين عجزي واضطراري وتغلق أمامي الأبواب. لا لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، أقول لك يا مي، ولا أقول لسواك، إني إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها، فإني سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي؛ أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفي الإرادة البشرية قوة اشتياق تحول السديم فينا إلى شموس!
وأخيرا ودع جبران الدنيا ورحل عن عالم الأحياء؛ أما مي فقد بقيت من بعده وحيدة، لقد أضحت حياتها فراغا من كل شيء: فراغا من عطف الأبوة وحنان الأمومة، من صحبة الرفيق ونجوى الصديق، من ألق الشهرة وفنون المجد، من رونق الصبا وهتاف المعجبين؛ وما كان أصدقها وهي تعبر عن هذا الفراغ، في رسالة إلى نسيبها الدكتور زيادة فتقول:
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة وينبغي خلق تعبير جديد، لتفسير ما أحسه في وحولي. إن هناك أمرا يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة! لقد تراكمت علي المصائب في السنوات الأخيرة وانقضت علي وحدتي الرهيبة - التي هي معنوية أكثر منها جسدية - فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذابا كهذا! وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل وأعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة، لعلي أنسى فراغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي!
وقفة متأملة عند بعض الصور التعبيرية في هذه الرسالة؛ لأن تلك الصور ما هي إلا اعترافات نفسية لم تفصح عن مدلولها الكلمات؛ ما هو هذا «الأمر» الذي كان يمزق أحشاء مي، ويميتها في كل يوم كما تقول؟ أليس هذا الأمر الذي يرمض جوانحها بالعذاب، هو ذلك «الشيء» الذي كانت تسأل عنه جبران؟ أليس هو الشعور بأثر «الأنوثة المقتولة» التي حرمتها الرجل حبيب قلب وأنيس وحدة وشريك حياة؟ ألا تسمعها وهي تشكو «فراغ المسكن» وتصور وحدتها الرهيبة، بأنها كانت «معنوية أكثر منها جسدية»؟ لقد كانت وحدة نفس أكثر مما كانت وحدة جسد؛ لأن المرأة التي تقتل فيها الأنوثة، قلما تحس ذلك القلق الناتج عن كبت الغريزة، وإنما الشيء الذي يكثر إحساسها به من غياب الرجل هو فراغ الحياة! لقد كانت أضواء الشهرة تحول بين ناظريها وبين رؤية هذا الفراغ، كما كانت صيحات الإعجاب تغطي على طنينه الضخم، كلما طرق السمع من حين إلى حين ... وعندما أقبل اليوم الذي همدت فيه من حولها كل حركة، وخفت كل صوت وانطفأ كل بريق، تجلت لها الدنيا على حقيقتها المفزعة، التي لا وهم فيها ولا خداع!
Unknown page