المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
الأخطل الصغير
في الأدب المصري المعاصر
أزمة الجنس في القصة العربية
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
في القصة المصرية القصيرة
لغة الأداء في القصة والمسرحية
رواية «الأرض»
من واقع الأدب في مصر
المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
الأخطل الصغير
في الأدب المصري المعاصر
أزمة الجنس في القصة العربية
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
في القصة المصرية القصيرة
لغة الأداء في القصة والمسرحية
رواية «الأرض»
من واقع الأدب في مصر
كلمات في الأدب
كلمات في الأدب
تأليف
أنور المعداوي
المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
المسرح بمفهومه المتكامل؛ أعني حين ننظر إليه كعمل ورسالة، شيء جليل خطير. وحين نلخص هذا المفهوم في صورته العملية، نقول إنه النص والعرض والتجسيم والمشاهدة. ومن وراء كل هذه الإمكانيات - وفي نطاق تحمل المسئولية - يقف الكاتب والمخرج والممثل والجمهور. أما الجانب الآخر من هذا المفهوم - أعني جانب الرسالة التي يمكن أن يؤديها المسرح - فتتركز في عملية الاتجاه القيادي المساير لروح العصر، والمدرك لمشكلات الجموع.
على هذا الجانب الأخير تعتمد خطورة المسرح، خطورة الدور الذي يلعبه؛ فهو هنا - كأداة تثقيف وتوجيه - يتصدر قائمة كل الأدوات المماثلة، من ناحية التأثير المباشر. وعلى الرغم من المنافسة الشديدة التي يلقاها من السينما والتليفزيون، فإنه ما يزال في بعض الدول التي توفر له كل نضج الإمكانيات، صامدا أمام منافسيه. إننا عندما نضع المسرح في ميزان المقارنة، وفي كفة ما سميناه بالتأثير المباشر، يتضح لنا فارق جوهري بينه وبين السينما والتليفزيون. إنه كأسلوب تجسيمي من أساليب العرض، يعتبر أكثر فعالية وإثارة؛ فنحن أمام خشبة المسرح، نشعر أننا نلقى الأحداث والمواقف ذلك اللقاء الحي، الناتج من كون النماذج الإنسانية التي تواجهنا نماذج حية. هؤلاء الممثلون الذين يجسمون لنا تلك الأحداث والمواقف، ويقدمون لنا الحياة من خلال قطاع اجتماعي معين. لا يبدون في رؤيتنا النفسية والبصرية - كما هو الحال في السينما والتليفزيون - وهم صور فوق شاشة.
إن مادية الإحساس في الجانب البصري من الرؤية، هي العامل الأبعد أثرا في تعميق مجرى انفعالاتنا الداخلية. وكأننا لا نقف أمام تسجيل مصور الحياة، وإنما نقف وجها لوجه، أمام الحياة نفسها وبلا وسيط؛ هذا الوسيط في السينما والتليفزيون هو الشاشة وجهاز العرض. فإذا ما حيل بين طاقتنا الانفعالية، وبين مدى التجاوب؛ فلأننا لم نستطع أن نلغي من إدراكنا الوجداني تلك الوساطة بيننا وبين الواقع.
من هنا تأتي قيمة المسرح وامتيازه. ولكن أي مسرح هذا الذي نعنيه؟ إنه المسرح الذي يجب أن يتوفر له كاتب معين وجمهور معين. في حدود هذين البعدين من أبعاد أزمتنا المسرحية، تتمثل المشكلة الأكثر تعقيدا وصعوبة. ولا نريد أن نذهب مع المهتمين ببحث هذه الأزمة إلى أن الكفاية للمسرح ليست بالأمر الهين، ولا إلى أن كتابنا المسرحيين الذين يجيدون هذا العمل قلة نادرة، فهذا كله مفروغ منه. من الممكن مع مختلف ألوان الدراسة والممارسة والتشجيع، أن يرتفع مستوى الوعي والإجادة للكتابة المسرحية، وأن يزداد عدد الكتاب. المشكلة كما أتصورها ليست مشكلة الفهم التكنيكي للعمل الدرامي، وليست مشكلة الكم العددي لما نحتاج إليه من كتاب مسرحيين. الكيف لا الكم هو الذي ننشده لمسرحنا العربي الحديث، ومن زاوية موضوعية محددة.
إننا نلاحظ - والواقع يزيد هذه الملاحظة - أن مسرحنا يعقد أكثر صلاته الاجتماعية مع ماضينا القريب، حتى ليمكن أن يقال إن هذا الماضي قد أصبح الوطن الروحي لأعمالنا المسرحية؛ وليس من شك في أن للماضي الذي مارسناه كتجربة نفسية معاشة، علاقة ارتباط وثيقة متعددة الجوانب بالحاضر الذي نعيشه اليوم، مع اختلاف لون التجربة. وبمتابعة خط السير الطبيعي لعجلة التطور، يصبح هذا الحاضر نقطة ارتكاز لمستقبل مرتقب يمكن أن يرسم له الكاتب من التصورات ما يحدد معالمه. هي إذن عملية متشابكة ومتداخلة، تحتاج إلى نوع من الرؤية العقلية البعيدة، التي تتخطى المنظور إلى ما وراء حدود المنظور. من هنا نستطيع أن نقول إن دوران المسرحية العربية الحديثة حول مشكلات الماضي، وبمثل هذه الصورة الملحة، لا يمكن أن يقدم إلينا الكاتب المسرحي الذي نريده؛ الكاتب الذي يملك من وسائل الخبرة الفنية، ما يتيح له أن يوجه سلوك أبطاله على أساس التفاعل الحدثي بين الماضي والحاضر، وأن ينسج مصيرهم من خيوط تصوراته العقائدية لواقع المستقبل، على ضوء تلك الرؤية العقلية البعيدة.
ولا نقصد بهذه التصورات أن يرسم لنا الكاتب المسرحي تخطيطات مفصلة لذلك الواقع المقبل الذي يمكن أن يتطور إليه حاضر الشخصيات؛ لأن العمل المسرحي يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن طابع الدراسة الاجتماعية أو الاقتصادية من جهة؛ ولأن المقصود من جهة أخرى هو نوع من التخيل، الذي لا يمكنه أن يتمثل الأشياء البعيدة بكل جزئياتها الدقيقة، وإنما يتمثلها في هيكلها الخارجي العام أو ملامحها الشكلية البارزة. إننا نستطيع في العمل المسرحي أن نجعل المتفرج «يرى» الماضي والحاضر، أما المستقبل فنستطيع أن نجعل نفس المتفرج «يتخيله»؛ فكل ما هو مدرج في قائمة الوجود المادي الذي يعاش كانفعال وتجربة، نطالب الكاتب المسرحي بأن «ينقله» إلينا كواقع مرئي ومحس، وكل ما يتضمن قابلية الإدراج في نفس القائمة، ويحتمل منطق النتائج المترتبة على المقدمات، نطالب هذا الكاتب بأن «يرسبه» في نفوسنا كواقع تصوري أو متخيل. وعملية الترسيب هنا - كما تفرضها مقتضيات المسرح - يجب أن تتم عن طريق التركيز والإيحاء، لا عن طريق التفصيل والتفسير، وذلك من خلال الاتجاه النفسي لسلوك الشخصيات.
أنطون تشيكوف في «بستان الكرز»، يقدم إلينا النموذج التطبيقي لهذا المسرح الذي نريده؛ يقدم إلينا حاضر الطبقة الأرستقراطية، بكل ما فيه من تفاهة وسطحية وانحلال، وهو يرينا هذا الحاضر من وراء لمسات تهكمية موجعة، نستخلصها من خطوط رسم كاريكاتيري لاذع. وعلى امتداد هذه الخطوط التحليلية المعبرة، تبدو هذه الطبقة وهي عاجزة عن التكيف مع الواقع؛ لأنها لا تفهم - أو لا تريد أن تفهم - منطق هذا الواقع؛ وتتعرج خطوط الكاريكاتير لنخرج من هذه التعارج بأن هذه الطبقة لا تصلح لشيء، وأن حاضرها يؤذن بالأفول. ومن نافذة الحاضر يسمح لنا أنطون تشيكوف، بأن نلقي نظرة ساخطة على ماض بشع؛ نلقيها ونحن ننصت إلى «تروفيموف» وهو يتحدث إلى «آنيا» الأرستقراطية المترفة، ويذكر بأن آباءها وأجدادها كانوا من ملاك الرقيق، وأن وجوه هؤلاء الأرقاء وأصواتهم ترنو إليها، وتصرخ من أعماق كل ثمرة وكل ورقة وكل شجرة في بستان الكرز. إن أهلها - طوال حياتهم - يعيشون عالة على وجود الغير، على وجود هؤلاء الرقيق؛ وهم، هي وأمها وخالها، عاجزون عن فهم أوضاعهم القائمة على هذه الحقيقة، فإذا أرادت أن تعيش معه في الحاضر فعليها أن تنزع من فوق جدران وجودها صورة ماضيها الكريه؛ يجب أن تضع لهذا الماضي حدا وأن تتخلص منه كل الخلاص. إن هناك مستقبلا سعيدا ينتظرهما، وإذا لم يقدر لكل منهما أن يعيش ليراه، فسيعيش غيرهما ليرى هذا المستقبل، ويجني ثماره.
هكذا يقوم المسرح التشيكوفي بعملية ربط هادفة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهو هنا لا يقدم إلينا تخطيطا مفصلا لمجتمع الغد كما تخيله تشيكوف، وإنما قدم إلينا - بواسطة الإيحاء المركز - مضمون الصورة العامة لواقع هذا المجتمع، عبر تلك الرؤية العقلية البعيدة. ومن الملاحظ أن بعض أبطال تشيكوف، ممن كانوا يعيشون أحلام الغد وتصورات المستقبل، تنقصهم إيجابية السلوك وقوة الإرادة؛ كانوا في حدود رسمه لهم، سلبيين في مواجهة وجودهم القابل للتغيير والتطور. ونفس الملاحظة تقودنا إلى ملاحظة أخرى، بالنسبة إلى موقف تشيكوف من سلبية أبطاله؛ وهو أنه كان يسخر من هذه السلبية المتمثلة في عجزهم عن تحقيق ما يتطلعون إليه من أحلام. من هذا الموقف الاتجاهي يمكننا أن نلتقط مفتاح قضية من قضايا الأدب والنقد، خلاصتها كما أوضحنا ذلك من قبل وفي غير هذا المكان، أن الكاتب يستطيع أن يكون إيجابيا من خلال السلوك السلبي لأبطاله القصصيين أو المسرحيين، حين يصب هذا السلوك في قالب من العجز المخفق، الذي يثير فينا دوافع الإنكار والسخط، والذي يوحي إلينا بأن الكاتب يشاركنا نفس الشعور، ويقف معنا على نفس الصعيد الالتزامي المعترض؛ المهم هو موقف الكاتب من سلوك أبطاله، موقفه من الناحية الفنية والالتزامية، وعند هذه النقطة تتحدد مسئوليته أمام القارئ والناقد.
نريد أن نقول عن الكاتب المسرحي الذي نريده، على ضوء هذا النموذج التطبيقي من أعمال تشيكوف: إنه الكاتب الذي يجب أن يعيش واقع حاضره وماضيه عن طريق الرؤية الفنية اللاقطة، ويعيش واقع مستقبله عن طريق الرؤية العقلية المتصورة. ولا جدال في أن هذه المطالب، لكي تصل إلى مرحلة عملية من التحقيق، تحتاج من روافد الثقافة وقيم الأخلاق، ما يهيئ للكاتب أن يكون صاحب موقف، أو صاحب وجهة نظر عقائدية، تحدد اتجاهه الفكري والخلقي من مشكلات المجتمع وقضية الإنسان.
وما دمنا في معرض الحديث عن أخلاقية الموقف الفكري لكاتب المسرح، فإن سارتر - على المستوى النموذجي للدراما الحديثة - يطالعنا كمسرحي ممتاز؛ إننا نذكر له - على سبيل المثال - موقفه من احتلال النازية لوطنه في «موتى بلا قبور»، وموقفه من اضطهاد الرجل الأمريكي الأبيض للزنوج في «البغي الفاضلة» أو «العاهر الحفية» إذا أردنا الدقة في الترجمة. في «موتى بلا قبور» يضعنا سارتر في الطرف المقابل من سلوك أبطاله، ليجعلنا نواجه - في حساسية فائقة وتوتر بالغ - وجهة نظره الفكرية فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من عدو غاصب؛ معنى ذلك أن تبدأ حركة المقاومة، وقد بدأت هذه الحركة في عمله المسرحي، بأصدائها المنعكسة على عدد من المجاهدين، الذين وقعوا أسرى في أيدي الألمان؛ إن «لوسي» بطلة المسرحية يحيلها سارتر إلى واجهة عرض ضخمة لموقفه الاتجاهي الصارم، بالنسبة إلى مفهوم البطولة النفسية في لحظة لقاء طويل ومرهق، بين سطوة المنتصر وكبرياء المهزوم. إن «لوسي» تعرض علينا - بالنيابة عن سارتر - كل المقومات السلوكية لهذه البطولة، لقد عرضوا كيانها الجسدي والنفسي لأبشع ألوان التعذيب: الضرب المبرح وهتك العرض، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يشيعوا في هذا الكيان الصامد معنى الذل، لقد كانت تمارس تجربة مرة، ولكنها كانت بالنسبة إلى فم وجودها الإنساني سائغة المذاق. مضمون هذه التجربة هو الكبرياء؛ كبرياء الألم؛ ولكي نمارس هذه التجربة بنجاح، يجب أن نفرض على أنفسنا لونا من الحقد الانطوائي المترفع. إن الذين يريدون أن يخربوا في الإنسان كل ما هو جميل وشريف وقيم، ينتظرون اللحظة التي تنبثق منها رغم أنف الإرادة بادرة من الضعف؛ إنها بالنسبة إليهم لحظة الشعور بهزيمتنا وانتصارهم! إننا في قبضة أيديهم، هذا صحيح؛ والأصح منه أنهم أيضا في قبضة أيدينا! إنهم لن يطلقوا سراح حريتنا وعلينا أن نعاملهم بالمثل، ألا نطلق سراح حريتهم؛ حريتهم في أن يرونا يوما وقد عرفنا الذل والخضوع! إنهم أسرانا، تماما كما نحن أسراهم؛ بهذا نشعرهم أن وجودنا شيء حقيقي ومجسم، ونشعر أنفسنا بأن وجودهم لا وجود له! ومن الواجب أن ننتصر على أنفسنا، وذلك بأن نلغي من قائمة عذابنا معنى الإحساس بالألم؛ هذا الألم يجب أن ينهزم، هذا هو المفهوم البطولي للتجربة، تجربة الكبرياء!
تقول «لوسي» لأخيها الصغير، وهي تشير إلى موقفها ممن هتكوا عرضها، ثم وهي تحذره من الاعتراف للعدو بأسرار حركة المقاومة تحت ضغط الإرهاب: «إنهم لم يلمسوني؛ لم يلمسني أحد ... لقد تحولت إلى قطعة من الحجر؛ ولم أشعر بأيديهم وهي ترغمني؛ كنت أتطلع إلى وجوههم وأفكر في أن شيئا لم يحدث؛ كلا، لم يحدث شيء؛ لقد كنت في النهاية أذيقهم طعم الخوف؛ إنك إذا اعترفت يا «فرانسوا» فإنهم يكونون في الواقع قد هتكوا عرضي!»
ويقول لها حبيبها «جان» أحد أبطال المقاومة: «إنني ألمح الجفاف في عينيك، وأدرك أن قلبك يحترق، ولكن لا يبدو عليك أثر للألم، ولا بقطرة من دموع، لقد استحال كل شيء فيك من فرط التوهج إلى بياض؛ ينبغي أن تتألمي من كونك لا تحسين بالألم! لقد فكرت كثيرا فيما تعرضت له من تعذيب، ومع ذلك فما كنت أتصور أن التعذيب يمكن أن يكسبك كل هذه الفظاعة من كبرياء الألم!»
وتجيبه «لوسي» معلقة على كلماته المعترضة: «قطرة من دموع؟! إنني لا أتمنى غير شيء واحد؛ أن يأخذوني مرة أخرى ويضربوني؛ حتى ألوذ من جديد بالصمت، وأسخر منهم، وألقي في قلوبهم الرعب. ترى هل كان الذنب ذنبي؟ إنهم هم الذين جرحوا كبريائي؛ إنني أمقتهم؛ وإذا كنت في قبضة أيديهم، فإنهم هم أيضا في قبضة يدي؛ إنني أشعر أنني قريبة إليهم أكثر من قربي منك!»
إن سارتر الفيلسوف، يتجه دائما - في قصصه ومسرحياته - إلى فلسفة مواقف أبطاله، وتغليف وجودهم النفسي بغلاف شفاف من وجهات نظره الالتزامية؛ أو إنها مجموعة من اللافتات الضوئية يسخرها للإعلان عن مضمون أفكاره. إن شخصياته وإن كانت تمثل موقفه الاتجاهي من قضية الإنسان الفرنسي حيال أزمة معينة في «موتى بلا قبور»، أو الإنسان الزنجي حيال أزمة مختلفة في «العاهر الحفية»، فهي في الوقت نفسه شخصيات، من لحم ودم، تتعادل فيها النسب التكوينية لطبيعة النفس الإنسانية ولطبيعة أفكار الكاتب. إن «لوسي» مثلا كما رسمها سارتر، لا تتحول إلى تمثال من الشمع لمجرد أنها قد قررت ألا تتألم؛ ولأنها قد نفذت هذا القرار، لقد كانت تحس في داخلها وخز الألم، وتمر بها لحظات من الضعف، ولكنها إرادة التماسك والتجلد، هي التي قامت بعملية الإلغاء لتلك المشاعر الداخلية، وهيأت لموقف الصمود؛ هي إذن نموذج بشري لا يبتعد كثيرا عن أصالة البشر، وما يبدو لنا في ذلك النموذج من بعد عن تلك الأصالة، فمرجعه إلى أن سارتر قد أراد أن يرسم لنا صورة للبشر الممتازين؛ من داخل الإطار المثالي لكبرياء الإنسان.
وسارتر هنا يختلف تماما عن تشيكوف، من حيث مفهوم السلبية والإيجابية بالنسبة إلى سلوك الشخصيات، وموقف الكاتب من هذا السلوك. إن شخصية «فوانيتسكي» مثلا في مسرحية «العم فانيا»، وكذلك شخصية «فرشنين» في مسرحية «الشقيقات الثلاث»، ثم شخصية «تروفيموف» في مسرحية «بستان الكرز»؛ شخصيات تملك جرأة الأحلام على تغيير الأوضاع، ولكنها لا تملك القدرة على التنفيذ؛ إنها تدرك حقيقة الواقع الذي تواجهه، ولكنها لا تعرف الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى تطوير هذا الواقع؛ وهي بعد ذلك تفتقر إلى حركة الدفع وقوة الإرادة. وليس من شك - كما فسرنا ذلك من قبل - في أن لتشيكوف فلسفته الاتجاهية الخاصة، من وراء وضع شخصياته في أمثال هذه المواقف؛ ولكن يبقى بعد ذلك فارق بين كاتب يستمد إيجابيته من اعتراضه الساخر على سلبية أبطاله، وكاتب آخر يستمد هذه الإيجابية من تعاطفه الواضح مع أبطاله الإيجابيين، من أمثال «لوسي» و«هنري» و«كانوري»؛ النماذج البطولية المكافحة في «موتى بلا قبور».
وكما يختلف سارتر في هذا المجال عن تشيكوف، فهو يختلف أيضا عن كثير من كتاب الواقعية الاشتراكية، من ناحية رسم الشخصية التي تحمل أفكار الكاتب. إنهم في سبيل تجسيم العقيدة المذهبية التي يعتنقونها في واقع الحياة والفن، غالبا ما يقومون بعملية تجويف للشخصية المسرحية والقصصية، ليملئوها في الوقت نفسه بأفكارهم العقائدية الخاصة. وتبدو الشخصية المجوفة وهي تحمل معنى الرمز التجريدي لفكرة معينة، أكثر مما تبدو وهي تحمل الخصائص النفسية الأصلية لسلوك الإنسان. ولو قدر مثلا لكاتب من هؤلاء الكتاب أن يتناول مضمون «العاهر الحفية» لسارتر، فإنه سينظر تلقائيا إلى مشكلة اضطهاد الزنوج في المجتمع الأمريكي من زاوية مختلفة، تتفق وطبيعة اتجاهه العقائدي المحدد؛ وفي فلك هذا الاتجاه يفرض على سلوك الشخصية المسرحية أن يدور. إن سارتر - على النقيض - لا يجعلنا نشعر على الإطلاق بأن بعض شخصياته هي التي تنوب عنه، في نقل طعناته القاتلة إلى المجتمع الأمريكي؛ ذلك لأنه لن يسمح لنفسه بأن يقف بيننا وبين شخصياته، بحيث نراه هو ولا نرى تلك الشخصيات، تبعا لأنه يتخذ فنيا جانب الحياد ولا يحجب الرؤية!
إننا دون أن نلمح وجه سارتر الفكري، نستطيع أن نلمح رأيه في المجتمع الأمريكي عبر القطاع الخاص باضطهاد الزنوج، حين نستطيع هذا الرأي من موقف «ليزي» الساقطة، والزنجي المعرض للقتل، و«فرد» الثري المترف، و«كلارك» عضو مجلس الشيوخ؛ إنه يتناول هذا المجتمع بالتجريح من ناحية المستوى العقلي متمثلا في النظرة إلى الحياة، ومن ناحية المستوى الحضاري متمثلا في النظرة إلى الإنسان، فبينما نرى العقلية الأمريكية تقيم الحياة على أساس الدولار، نرى الحضارة الأمريكية تقيم الإنسان على أساس اللون؛ ووسائل التقييم عندها لا تعرف شيئا اسمه الضمير، فبالدولار تلجأ هذه العقلية إلى شراء الذمم وتدبير المؤامرات.
لقد حاول «فرد» ومعه أبوه عضو الشيوخ - بدولاراتهما الخمسمائة - أن يجعلا «ليزي» تغير شهادتها أمام القضاء، لينجو «توماس» فتى العائلة الأبيض رمز الأمة الكريمة «العظيمة» والتاريخ «المجيد» من تهمة قتله لزنجي بريء؛ وعندما تجيبهما «ليزي» بأن الزنجي الشهيد لم يحاول أن يغتصبها، وإنما الذي قام بالمحاولة هو فتاهما الأبيض، وأنها مضطرة أمام القضاء إلى أن تعلن هذه الحقيقة، عندما تقول هذا يكون الرد المنطقي للعقلية الأمريكية، هو أنه لا يوجد هناك غير حقيقة واحدة: هناك بيض وسود ولا شيء غير ذلك! ومن خلال بعض اللقطات الجانبية لصورة المجتمع الأمريكي يبلغ سارتر قمة السخرية الجارحة، وهو يوحي إلى العقلية الأمريكية بأن المال يعجز في كثير من الظروف عن شراء الإنسان، وذلك حين اختار نموذجه الإنساني الرامز إلى هذه الحقيقة إحدى المومسات! ولقطة أخرى من لقطات سارتر، تطلعنا - بالنسبة إلى مستوى الحضارة الأمريكية - على مدى الوعي في اختيار الزاوية؛ يقول «فرد» للبغي الفاضلة، وقد سيطر عليه جنون الرغبة في امتلاكها بالقوة، إنه قد اشتهاها وهو ينظر إلى زنجي قد علقوه فوق شجرة؛ لقد شارك في قتله، وكان معه مسدسه؛ ولا يدري لماذا كان يرى جسدها وهو يرى جسد الزنجي المتأرجح فوق الأغصان؛ لكأنما كان جسدها في تلك اللحظة - عبر رؤيته النفسية المزدوجة - يتأرجح هو الآخر فوق ألسنة اللهب؛ في تلك اللحظة التي مرت منذ دقائق، اشتهاها؛ وأطلق على الزنجي الرصاص!
إن قيم الحضارة الأمريكية من وراء منظار سارتر، تبدو وهي قائمة على لونين من الشهوة: شهوة الجنس وشهوة الدم!
إننا حين نتطلع إلى النموذج المنشود لكاتبنا المسرحي الذي نريده، فإنما نتطلع إليه متتلمذا في البداية على مدرستي سارتر وتشيكوف، في حدود هذه القيم الاتجاهية التي قدمناها على ضوء التحليل والتطبيق. وتواجهنا بعد ذلك مشكلة الجمهور، إذا ما وضعنا في حسابنا عنصر الملاءمة بين المستويات الفنية اللازمة لمسرحنا الحديث. إن مستوى الكاتب - على مدار قوى التطور - يستطيع أن يرفع إليه تدريجيا مستوى الجمهور. ومن طبيعة المجتمع في خطواته التطورية، أن يلائم بين عمليات التفاعل المندمجة في خط سير إنساني، يشترك في ميدان النشاط العملي مع بقية الخطوط، فإذا كانت هناك قوى معينة من شأنها أن تسهم في تطوير المستوى العقلي لجمهور المسرح، حتى يستطيع أن يتجاوب مع مثل تلك القيم الاتجاهية تجاوب فهم وإدراك وتأثر، فإن من بين هذه القوى - وفي طليعتها - كاتبنا المسرحي الذي ينبغي له أن يقوم بدوره في عملية القيادة؛ إن أزمة جمهورنا المسرحي ليست أزمة الإقبال العددي على دور العرض، ولكنها أزمة التهيؤ العقلي لمسرح جديد تتوفر له تلك القيم إذا ما نضج المستوى الاتجاهي للكتاب؛ لأنه لا جدوى إذا ما نجح الكاتب وسقط الجمهور!
إن سقوط الجمهور معناه أن يسقط العمل المسرحي على الرغم من نجاحه، وهذا هو حادث لمسرحية «الطائر البحري» لتشيكوف، عندما واجهت في أول عرض جمهورا تخلف مستواه العقلي عن مستوى المضمون الرمزي للمسرحية؛ ولكنها في العرض الثاني وبعد ذلك بعامين، وعندما وجد الجمهور المتطور الإدراك، المكتشف لما وراء الرمزية الموضوعية من أفكار واتجاهات، تحقق لها ما هي جديرة به من تقدير ونجاح. ولقد نجحت مسرحية «الذباب» لسارتر - على الرغم من رمزيتها الفلسفية المسرفة - لأنها عرضت على جمهور استطاع بإدراكه المرهف، أيام الاحتلال النازي واندلاع حركة المقاومة، أن يفهم المعاني الخفية التي أراد الكاتب توصيلها عن طريق الرمز إلى مواطنيه؛ ما دامت قوى الاحتلال تحول بين أصحاب القلم وبين حرية التعبير!
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
هناك فنان فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر محدود لا يتناسب وخبرته العميقة، ولا يتفق وفهمه الأصيل. فما هو الفارق بين طبيعة «الفهم» وطبيعة «التذوق» في حياة الفنان؟ لتوضيح هذا الفارق الفني بين الطبيعتين نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك وتتذوقه بشعورك، نعني أن الفهم أداته الذهن الثاقب وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف ... إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية، هم الذين تتوقد في وجودهم شعلة الفهم وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى أي قيمة من قيم الفن وأي معنى من معاني الحياة. إن هناك مثلا من «يفهم» قصيدة من الشعر، يفهم فيها اللفظ والصورة، ويفهم فيها الوزن والقافية، ويفهمها اتجاهيا إذا طلبت إليه الشرح والتفسير، ومع هذا كله لا يستطيع أن «يتذوق» فيها وحدة العمل الفني، ولا إيحائية التركيب اللفظي، ولا تماسك التجربة الشعورية، وهي معروضة تفصيليا من خلال مضمون. وقل مثل ذلك عن الذي يفهم أصول النوتة الموسيقية للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لتصويرية النغم.
إن فهم الحياة هو أن نفتح «لمشاهدها» أبواب العقل، أما تذوق الحياة فهو أن نفتح «لتجاربها» أبواب الشعور؛ إننا «نراها» هناك تحت إشعاع الومضة الذهنية، ولكننا «نتلقاها» هنا تحت تأثير الدفقة الوجدانية، وعلى مدار هذه الكلمات نستطيع أن ننظر إلى كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب.
هذه الكلمات هي معالم الطريق إلى «الأداء النفسي»، أو إلى هذه المحاولة المذهبية التي تحمل ذلك العنوان، وهدفها أن تزن قيم الفن بميزان جديد، سواء أكان الفن ممثلا في قصة تحليلية أم في لوحة أم في مقطوعة موسيقية أم في قصيدة، وسواء أكان الفهم أو التذوق في كل أثر من هذه الآثار متعلقا بموقف الفنان من مشاهد الحياة وتجارب النفس حين ينتج، أم كان منتسبا إلى موقف الذين يحكمون على الفن ويقيمون له الميزان عن طريق الذهن أو عن طريق الشعور. إن الفن في جوهره ليس فهما للحياة يقف بنا عند حد الرؤية المادية والآثار العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي، تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن؛ نتيجة لذلك التجاوب الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد؛ نريد أن نقول إن اللقطة البصرية في الإنتاج الفني حيث يعقب عليها العقل وحده، ليست كل شيء مهما بلغت الطاقة الذهنية في التفكير والتعبير عن صور شتى وآفاق، وإنما العبرة باللقطة النفسية التي تفتح نوافذ الحس ثم تنحدر إلى كوى الشعور، وتستقر آخر الأمر في أعماق الذات الشاعرة في الطبيعة الإنسانية.
وعندما نقول الوجود الخارجي والوجود الداخلي، فإنما نقصد بالتعبير الأول ذلك المسرح الكوني الزاخر بالمشاهد المادية ونعني به الحياة، ونقصد بالتعبير الأخير ذلك المعرض الإنساني الحافل بالصور الوجدانية ونعني به النفس، هناك حيث ترقب المدركات الحسية وتتأمل، وهنا حيث تتلقى المدركات النفسية وتسجل. ولا بد من المشاركة الفنية التي يتم فيها التوافق بين عالم النفس وعالم الحياة، لنحصل على هذا المزيج الأخير من واقعيتين.
هذه الخواطر التي يثيرها في الذهن كل مشهد مادي في الواقع الخارجي، يجب أن يصهرها الفن في تلك البوتقة الداخلية لتتحول إلى مشاعر. أليس الفن في حقيقته المثلى عملية استقبال حسية تعقبها عملية إرسال نفسية؟ إنه لكذلك على التحقيق، وإننا لنفرق تبعا لهذا التحديد بين إنتاج فني لا يهز من الكيان الشاعر غير الحواس الخارجية، وبين إنتاج آخر يثير في هذا الكيان ما أثاره الإنتاج الأول، ثم يزيد عليه حقيقة أخرى حين يطرق أبواب الشعور في صدق وأصالة.
كلمات نؤيدها بالدليل حين ننتقل إلى مرحلة التطبيق، ونقدم أول مثال: دعي الموسيقار العظيم فرانز لست إلى حفل من تلك الحفلات الخاصة، التي كانت تزخر بها الصالونات الباريسية، ويدعى إليها جمهور خاص من الطبقة الأرستقراطية التي كانت تعشق فيما تعشق من متع الحياة أنغام الخالدين؛ وحين نهض لست ليأخذ مكانه من البيانو، طلب إليه المدعوون أن يعزف شيئا من آثار بتهوفن، وشيئا من آثار ذلك العبقري الآخر الذي كان يجلس بين الصفوف في انتظار العزف، صديقه فردريك شوبان. ومن المعروف عن لست أنه كان يجمع إلى موهبته الفذة في التأليف الموسيقى، موهبة أخرى لا يختلف في تقديرها النقاد، وهي أنه كان أقدر القادرين على عزف موسيقى بتهوفن خاصة، وموسيقى غيره من أقطاب النغم على العموم.
وحين انتهى لست من عزف مقطوعة «ألا داجيو» من سوناتة «دودييز مينير» لبتهوفن، أقبل عليه المدعوون وفي مقدمتهم شوبان، ليثنوا بمشاعرهم التي أغرقها في فيض الذهول سحر النغم، على تلك القدرة الفائقة التي أعادت إلى الأذهان صورة حية من صور بتهوفن الخالد. ومرة أخرى طلب الحاضرون إلى لست، أن يعزف لهم مقطوعة خاصة من مقطوعات «البريلود» لشوبان، وكانت مقطوعة يعتز بها الموسيقار البولوني ويعتز بها الفن؛ لأنها قطعة من نفسه الشاعرة في فترة من فترات ألمه النبيل، ذلك الذي طالما تحدث عنه إلى الناس في أنغام، وعندما فرغ لست من عزف المقطوعة ظهر عدم الارتياح على وجه شوبان؛ إن لست لم يخرج على أصول النوتة، ولم تخنه المقدرة على العزف في يوم من الأيام، ولم يستطع صديقه صاحب «البريلود» أن ينكر هذا عليه، ولكن؛ ولكن كان هناك شيء ناقص أحسه شوبان ولم يحسه أحد سواه، إلا حين نهض ليأخذ مكان لست من البيانو ويبدأ عزف المقطوعة من جديد.
لقد لمس الحاضرون أن هناك فارقا ملحوظا بين الأنغام، حين انطلقت في المرة الثانية من بين أنامل شوبان، ولقد كانت «مشاعرهم» هي المرصد الدقيق لتسجيل الفارق الفني هنا وهناك، حتى لقد أقبل لست على صديقه يعانقه ويقبله ويقول له: حقا يا عزيزي شوبان إن اللحن قد خرج من بين يديك وهو شيء آخر؛ لقد بعثت فيه من روحك لأنه قطعة من حياتك أنت.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق حين يتمثل في مقطوعة موسيقية، لقد كان الفارق الملموس بين لست وشوبان، هو الفارق بين من «فهم» اللحن بعقله حين نقله عن أصول النوتة، وبين من «تذوق» اللحن بشعوره حين نقله عن حديث الوجدان، ومن هنا بدت مقطوعة «البريلود» عند لست جسدا جميلا بغير روح، وبدت عند شوبان جسدا يفوق الأول جمالا؛ لأن فيه الروح الذي يضفي على الفن كل معنى من معاني الحياة.
هنا، في هذا المثال، مفرق الطريق بين أسلوبين في تقديم الأثر الفني إلى الجماهير: أسلوب يعتمد على الذهن «الفاهم»، وأسلوب يعتمد على الشعور «الذواق»، أو قل إنه اختلاف بين طبيعتين: طبيعة تتلقى الإثارة عن طريق الحس، وطبيعة تتلقى الإثارة عن طريق النفس، أو قل مرة أخرى إنه اختلاف بين مزاجين: مزاج يحلق بالتجربة المادية في آفاق الفكر، ومزاج يحلق بالتجربة النفسية في آفاق الشعور ...
وإنه لذلك الاختلاف الذي تبرزه الفوارق الدقيقة بين فنان تذوق الحياة منعكسة على الذات الشاعرة، وبين فنان فهم تلك الحياة منعكسة على الورقة الناقلة؛ ونعني بها النوتة الموسيقية التي نقل عنها لست فترة من حياة صديقه نقلا ذهنيا لا حرارة فيه.
اقرأ قصة «أم» لفرانسو مورياك، إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة التحليلية الضخمة، التي تطالعك بها آثار كاتب مثل بلزاك أو دستوفسكي أو ستندال، ولا بذلك الفهم الواسع الذي يحيط بصور الحياة، ليفرغها بعد ذلك في إطار؛ ليس فيها شيء من هذا الذي أشرنا إليه، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته، ويتمثل التجربة تمثلا شعوريا لا غلو فيه، ويتذوق الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق.
هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي نعنيها في قصة مورياك، وقبل أن نقف بك عند تلك اللحظة، نلخص لك مضمون القصة بصراعه النفسي، وهو مضمون العلاقة «الخالدة» بين كل أم وكل زوجة ابن، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وبالثانية صلات الزوجية. هذا الرجل الذي يقف بين «العدوتين» موقف الحائر المتردد، الذي تتعرض حياته في كل وقت لهبوب العواصف والأعاصير. الابن هنا، وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف؛ خوفا من تلك الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه، وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا أن يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور. والأم كازيناف امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب، الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تتحكم وأن تستأثر، ولا يشاركها في هذا اللون من حب التملك إنسان. والزوجة، وهي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة، ما ينوء به الطوق ويفرغ معه الصبر؛ ومع ذلك فقد صبرت واحتملت ، ولقيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل.
وتمضي القصة في طريقها لتصور لك أدوار الصراع، الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد حالة وضع، قوضت من الجسد المتهالك آخر حصن من حصون المقاومة، أو آخر معقل من معاقل الكفاح، ولقد ماتت وحيدة، لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر ... وحين انتهى كل شيء، وسكتت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم وأن يوجه إلى أمه كلمة عتاب.
ونلتقي باللحظة التي يصور فيها مورياك موقف النادم أمام الجثة الهامدة؛ تلك اللحظة النادرة من لحظات «التذوق» لمشهد من مشاهد الحياة منعكسا على صفحة الشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيدة، وكأنه يقف أمام قديس ليعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب؛ ترى من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان، وهذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها، حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة وينكشف له منها في لحظة عابرة، ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟ ترى هل يستطيع أن يفعل شيئا لهذا الجسد، الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئا ولو كان صغيرا ضئيلا لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب الموت ما عجز أن يقدمه في رحاب الحياة؟ إنه يريد الآن أن يعبر للجسد الهامد عن عطفه، عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام، ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف، حين خطر «لذبابة» هائمة أن تستقر على الوجه الحزين؛ لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الأثيم عن تلك البقعة «الآمنة»، البقعة التي لن يسمح بعد الآن بأن «تقلق» أمنها هجمات المعتدين.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في قصة تحليلية، إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك «الفهم» الواسع، الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك التذوق للحياة في لحظاتها النفسية، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق؛ تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة، اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه، وتلك الزاوية الفريدة التي اختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء، بلمسات قليلة موجزة قوامها «الذبابة الهائمة»، التي راح يدفع عدوانها عن الوجه الحزين؛ كل هذه القيم التصويرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية في فن القصة، نستطيع أن نلخصها في معنى واحد هو المحور الرئيسي، الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به التذوق الشعوري الكامل للوجود الخارجي، حين يتحول إلى تجربة داخلية كاملة في النفس الإنسانية.
أما عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في لوحة تصويرية، فارجع إلى اللوحة الثمينة التي رسمها جيرار لمدام ريكامييه، قف أمامها طويلا، وتأمل نظرة العينين في ذلك الوجه الساحر الآسر، إنها ومضة الأسى الدفين اللافح يشع من عيني امرأة؛ امرأة كانت وحيا ملهما لأقطاب الشعور والتصوير والأدب. إن جيرار لم يكن يعلم كل شيء عن قصة مدام ريكامييه، التي كان واقع حياتها أعجب من الخيال وأغرب من الأسطورة، هذا الواقع الذي لم يفهم كل الفهم سره العميق ولكنه تذوقه، حين أوحى التذوق إلى ريشته البارعة، أن تصور هذا الأسى اللافح في العينين الساحرتين.
لقد قدر لهذه المرأة الجميلة أن تتزوج من أبيها، الذي كان أحد الأثرياء في عصره، ولم تكن تعلم أن الزوج هو الأب، الذي انحدرت من صلبه وقضت كل أيام الحياة معه، وهي عذراء؛ أما هو فكان يعلم أنها ابنته، ولكن ظروفا قاهرة هي التي أملت عليه أن يقترن بها، وأن يعيش معها تحت سقف واحد، دون أن يعرف سره
1
الحقيقي غير أمها وغير الله، من هنا تعذبت لأن حياتها قد خلت من الرجل؛ الرجل الزوج، والرجل الآخر الذي حال بينها وبينه سياج من العفاف والطهر، في بيئة كم امتحنت صمودها بألوان من المغريات. لقد عاشت كل أيامها في أسر الحرمان؛ حرمان الروح والجسد.
هذا المعنى الأخير، استطاع جيرار الفنان أن يتذوقه وأن يستشفه، وأن يصبه صبا في نظرة العينين الحالمتين. إنه كما قلنا لم يكن «يفهم» الكثير من قصة تلك الحياة، ومع ذلك فقد استطاع أن ينفذ شعوره الملهم إلى ما وراء المجهول، وأن «يتذوق» الحياة في قصة، وأن يصورها في نظرة، وأن يتحدث بها إلى الناس في ألوان وظلال.
هذا التذوق الشعوري الكامل هو أساس الأداء النفسي، أو هو الطريق إليه في مختلف الفنون. لقد كان طريق شوبان إلى هذا الأداء الذي نعنيه في مقطوعة «البريلود»، وكان طريق مورياك إلى هذا الأداء نفسه في قصة «أم»، وقل مثل ذلك بالنسبة إلى جيرار في لوحة «مدام ريكامييه».
ونحن بعد هذا لا ننكر أثر «الفهم» كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكن الذي نريد أن نقوله وقد سبق أن قلناه، هو أن الفن في جوهره ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، وإنما هو - إلى جانب هذا - حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يعقبها انفعال؛ وكل هذه النقلات المترابطة تكون في مجموعها عملية التذوق، التي تمهد الطريق للأداء النفسي. ولو قدر للفنان أن يملك هذه الموهبة، فلا بد له من أن يملك القدرة على التعبير الصادق ليبلغ الهدف الأخير من ذلك الأداء.
إن الأداء النفسي لا يكمل معناه، إلا وهو قائم على دعامتين، هما: الصدق الشعوري والصدق الفني؛ متحدين في مجال صورة تعبيرية. أما الصدق الشعوري فهو ذلك التجاوب بين التجربة الحية وبين مصدر الإثارة، أو هو تلك الشرارة المشعة التي تندلع في الوجود الداخلي من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق الشعور، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة؛ هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور.
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
إذا وصفت العلاقة بين مي وجبران بأنها مشكلة، فأنا لا أعدو الواقع بالنسبة إلى الحقيقة التي عاشت في نفسي ردحا من الزمن، وكانت مفرق الطريق بيني وبين غيري من الدارسين؛ هل كانت علاقة مي بجبران لونا من الصلة الشعورية، التي تندرج تحت كلمة الحب حينا وكلمة العاطفة حينا آخر، وتتصل من قريب ومن بعيد بأنوثة المرأة ورجولة الرجل، إذا ما حددنا العاطفة الأنثوية نحو الطرف المقابل بأنها تفضيل وتمييز وإيثار؟ هذه هي المشكلة؛ المشكلة التي يتطلب بحثها الكثير من الوعي والكثير من الحذر والكثير من الأناة؛ لأن الباحث المسرع في الدراسة أشبه بالسائق المسرع في القيادة، كلاهما وهما في سبيل الوصول إلى هدفه المنشود في أقرب وقت قد يرتكب جريمة قتل، وفي خلال الطريق قد يكون المقتول بالنسبة إلى السائق رجلا وبالنسبة إلى الباحث حقيقة؛ والحقيقة التي قتلها الدارسون «المسرعون»، هي أن عاطفة «الأنوثة» في مي لم تتجه يوما إلى جبران!
إن صورة تلك العلاقة قد بدأت في نفسي، وهي داخل إطار من الشك المثير. أما مصدر هذا الشك فهو طبيعة من الأنثوية. لقد بدت لي هذه الطبيعة يوما وهي مغلفة بالانحراف ملفعة بالشذوذ، حتى استحالت في بوتقة الفكر إلى سؤال حائر ينتظر الجواب: هل كانت مي امرأة؟ امرأة ورثت كغيرها من النساء تلك التركة الخالدة عن الأم الأولى وهي حواء؟ إن المرأة الطبيعية في رأيي هي تلك التي يستيقظ في أعماقها الشعور بالرجل، سواء أكانت هذه اليقظة في صورة حب مضطرم، أم كانت في صورة عاطفة جياشة، أم كانت في صورة حس مشبوب؛ هذه هي المرأة الطبيعية. أما المرأة الشاذة فهي تلك التي «تنام» في أعماقها مثل هذه «اليقظة»، هي تلك التي تلهب دون أن تحس بين جنبيها وهج النار، هي تلك التي تثير ولا تثار؛ هي مي في حقيقتها العميقة التي لم «تتذوق» طعم الحب؛ لأنها فقدت «شهية » الأنوثة، وهذا هو الباب المغلق الذي يحتاج ليفتح على مصراعيه إلى طرق عنيف!
لقد تتبعت حياتها النفسية وهي بين الرجال، وهي في صالونها الأدبي في أيام الثلاثاء، وكان من بين أولئك الذين يحيطون بها رجال ممتازون؛ بعضهم لا تنقصه الرجولة، وبعضهم لا تنقصه الشهرة، وبعضهم لا تنقصه المكانة الأدبية والاجتماعية، وكل هذه الصفات جديرة بلفت نظر المرأة واجتذاب أعمق ما فيها من غرائز الأنوثة، تلك التي تنشد في الرجل وجها معينا من وجوه الإثارة. كانت تجتمع بهم، وتتحدث إليهم، ثم لا شيء وراء الحديث المألوف واللقاء المتكرر مما يتصل بالشعور الأنثوي والعاطفة الوجدانية. ولقد شغف بها بعضهم ذلك الشغف الذي يؤدي بالكرامة ويعصف بالوقار، ومع ذلك فقد ظل القلب العجيب على هموده، وخموده، وكأنه لا يعرف النبض ولا يعترف بالخفوق! هذا ولي الدين يكن يقول لها يوما في إحدى رسائله:
سيدتي ملكة الإلهام؛ ما أسكت هذا القلم عن مناجاتك إلا حرب الأيام، إنه منذ أيام كثيرة أسيرها الذي لا يرجى فكاكه. غير أني كنت أناجي روحك كلما بدت لعيني أشياء من محاسن هذا الوجود؛ كم وقفت أمام الأبيض المتوسط أرتجل العبرات، هذه أشعاري لا أهديها إليك، إني لأشفق أن أحييك بغير الابتسامات؛ وكم دخلت الروض أساجل قماريه، تلك أغان أرجعها لديك، إني لأخاف أن أغنيك بغير المسرات. والآن عندي قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل أضعها تحت قدميك، إن تقبليها تزيدي كرما وإن ترديها فقصاراي الامتثال. وبعد، فإني في انتظار بشائر رضاك، وطاعة لك وإخلاص!
أسلوب في الأدب والحب عند ولي الدين يكن، يلتقي مع أسلوب مماثل عند الرافعي. واستمع له هو الآخر وهو يوجه الخطاب بعد المقدمة الشعرية إلى مي فيقول:
يا نسمة في ضفاف النيل سارية
مسرى التحية من ناء إلى ناء
يا ليت رياك مست قلب هاجرتي
فتشعريه بمعنى رقة الماء
ليست تحب سوى ألا تحب فما
أعصى الدواء على من حبه دائي!
هذا، وإن النفس لتنازعني إليك، ولكن لم أتطفل على أحد من قبلك ولن أتطفل عليك مرتين، نقول الشمس والقمر والنجوم، فإذا أنت تريدين أن نراك من مرصد فلكي! وأي بليغ يراك ولا يعرف فيك فنا جديدا في حسن معانيه ومبانيه، ويعرفك ولا يرى فيك أبدع البديع فيما يعانيه من افتنانه؟ لله الحمد أن جعلنا نتلقى الماء ولم يجشمنا أن نصعد من أجله السماء!
أسلوبان كلاهما في الحب ذليل وفي الأدب مصنوع، وكم قلت لنفسي وأنا أستعرض ما فيهما من المواكب اللفظية، المواكب التي كانت تمر تحت شرفة مي، وهي تقدم تحية المقهور وولاء التابع وضراعة المبتهل: أتكون مي قد نظرت إلى الرجلين نظرة المرأة المدلة بكبرياء الأنوثة إلى كل حب ذليل؟ أم تكون قد نظرت إليهما كأديبين نظرة الأديبة المعتزة بشرف الثقافة إلى كل أدب غير خلاق؟ فرضان إذا وضعتهما تحت مجهر الفكر لم يظفر أحدهما بما ينشده الباحث من وسائل الإقناع. تريد أن تطمئن إلى كلا الفرضين فيقلقك هذا الخاطر الذي يثب من مكمنه ليعترض عليك: ألم يكن في حياة مي محب كريم على نفسه؟ محب لا تنحني بين شفتيه ظهور المعاني ولا تخر على قدميها الكلمات؟ ألم يكن في حياة مي أديب تثق بفنه؟ أديب لا تختنق في أدبه الأخيلة تحت ضغط الصنعة المسرفة، ولا تتحول الصور إلى جثث محنطة قد أطبقت عليها توابيت الألفاظ؟ يعترض هذا الخاطر فلا تملك إلا أن تعترف بالواقع، الواقع الذي يشير في حياة مي إلى وجود جبران ... وعندئذ تتبخر في الفضاء كل الظنون وتنهار تحت أقدام الفكر كل الفروض!
لقد كانت طبيعتها الأنثوية واحدة هنا وهناك؛ فتور عجيب يزلزل في نفسك قوائم الإيمان بأنها كانت امرأة، امرأة يضطرب بين جنبيها الإحساس الخالد بالأنوثة، وينطلق من وجودها الداخلي نداء الأعماق. إن بين أيدينا رسائلها ورسائله، فتعال نبحث بين السطور عن أثر الأنثى الطبيعية، وتعال بعد ذلك نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ المفتاح الذي نديره في ثقب الباب المغلق ليفتح على مصراعيه، إذا لم يؤمن الذين نادوا بحب مي لجبران بنتيجة الطرق العنيف!
أنا ضباب يا مي؛ أنا ضباب يغمر الأشياء ولكن لا يتحد وإياها؛ أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه انفرادي ووحشتي، جوعي وعطشي. ومصيبتي هي أن الضباب وهو حقيقتي، يتوق إلى استماع قائل يقول: لست وحدك ونحن اثنان، أنا أعرف من أنت!
أخبريني يا مي، أفي ربوعكم من يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب؛ فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية، تعال ندخل إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة؟ قولي يا مي: أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟
أرأيت إلى هذا الأسلوب الجديد في الأدب والحب؟ أرأيت إلى جبران الإنسان تحترق في موقد العذاب خلجات نفسه، وإلى جبران الفنان تنتشر في متحف الإبداع لوحات أفكاره؟ إنه الرجل الذي يعيش في الضباب ويود أن يلمح من خلاله شبح أنثى، أو بارقة عطف، أو طيف أمل؛ وها هو ذا ينادي، ينادي أنثاه نداء الوحدة والغربة، والانفراد والوحشة، والجوع والعطش، ترى هل فهمت لغة نفسه، ووعت منطق شعوره، وتذوقت في النداء حرارة الدعاء؟ إن الأنوثة الخامدة تقدم إليك هذا الجواب:
لقد قصصت شعري؛ وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم يا جبران من هن في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وأن تقول لهن في سرك إنك تعرف من يشبههن! كنت إلى شهور راغبة في التخلص من هذه الذوائب، التي يقولون إن لطولها يدا في قصر عقل المرأة، وهو افتراء طبعا. ولكن عندما رأيت شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحا أمامي، تداعبه يد المزين شعرت بأسف على هذه الخسارة! غير أن المزين طيب خاطري بعبارات، تكسرت فيها الكلمات الألمانية والإيطالية، وهو روماني على ما يقول، فهل كان في وسعي أن أضحك؟ لقد مضى يصف لي جمال الشعر القصير ومنافعه ومميزاته، لا سيما وأنه، على ما زعم المزين الصالح، يليق لي كثيرا؛ وسألته إلى كم امرأة يقول كل هذه الكلمات، فأجاب : «أنت فيلسوفة!» أرأيت هذه الفيلسوفة التي تسعى إلى قص شعرها ثم تحزن عليه، ثم تضحك لأن المزين يعزيها عن فقده بكلمات مسرحية؟!
هذه هي المرأة التي كان يخاطبها جبران؛ المرأة التي كان يخاطبها بلغة الشعر فتخاطبه بلغة الشعر، ويحدثها عن قلبه وهو بين يدي الأشواق، فتحدثه عن رأسها وهو بين يدي الحلاق، وإنه لحديث الأنوثة المكفنة بأثواب العدم، ومن حولها صرخة من أصدق صرخات الوجود!
أنوثة مقتولة ولو التمست لها مي شتى الأسباب والمعاذير، ولو حاولت أن تبرر شذوذها وهي تقول لجبران في رسالة سابقة، تمهد بها لهذا الشذوذ:
جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد كلمة الحب؛ إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون عليها الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرا، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر! أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء في الحب خير من النزر اليسير؛ كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري! الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا؛ لأني بها حرة كل الحرية؛ أتذكر قول القدماء من الشرقيين إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. قل أنت ما هو هذا؟ وقل لي ماذا كنت على ضلال أو هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول.
أصدق ما يقال هنا عن هذا التمهيد أنه متعمد ومقصود، أو أنه حركة بارعة من حركات التغطية والتعمية والإيهام؛ تزعم مي أنها تخشى الحب، ولو صدقت لقالت إنها لا تستطيع أن تتذوقه؛ لأنها كما سبق القول قد فقدت أبرز الخصائص عند المرأة الطبيعية! تخشى الحب ولماذا تخشاه؟ ألأنه قد يأتيها بالنزر اليسير، وهي لا ترضى بما دون الكثير؟ وما هذا الكثير إن لم يكن هو الرباط المقدس في منظار حواء؟ لقد لوح لها جبران يوما بهذا الأمل المشتهى عند كل أنثى، فلم يلق منها غير الصد والإعراض؛ لقد أرادتها صداقة فكرية وأرادها جبران علاقة وجدانية، وها هي مي ترفض عرضه وتدور حول هذا المعنى بهذه الكلمات: ... لقد فهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمته على وجه لم أقصده! ثم سطت عليك الكبرياء، كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا أبدا كصديقين مفكرين؛ آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فأعلمني أنك لم تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية؛ لأنك لو كنت سعيدا بها مثلي لما كنت رميت إلى أبعد منها! وصار معنى سكوتك عندي: «إما ذاك وإما لا شيء»، وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي!
تناقض بين موقف اليوم وموقف الأمس، وكلمات يطلقها اللسان هناك ويكذبها هنا واقع الشعور. وما زلنا بعد هذا كله نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ مفتاح الطبيعة الأنثوية الشاذة، التي لم ينبض فيها عرق بعاطفة نحو رجل من الرجال! وقبل أن نقدم إليك هذا المفتاح نحب أن نرجع إلى تلك العبارة، التي ذكرت فيها مي اسم «توما» القديس، وأثر الوراثة في حياتها النفسية. هناك - كما تقول لجبران - ما هو أبعد من أثر تلك الوراثة في تكوين نفورها من الحب، هذه الكلمات التي تحمد الله على أنها لم تنطلق من بين شفتيها، وإنما انطلقت من بين شفتي القلم ... هناك «شيء» آخر تسأل عنه جبران، وتستنجد بذكائه ليلهمه الجواب، ومعذرة للذكي النابغ إذا لم يفطن لهذا «الشيء»، وهو بالنسبة إلى المشكلة مفتاح الباب؟ معذرة لجبران إذا لم يفهم لغة مي النفسية لأنه كان يحب، وفي الحب تقرأ القلوب وحدها ولا تقرأ العقول؛ إن عقل جبران لو لم يكن أمام لغة مي معصوب العينين، لرأى هذا «الشيء» البعيد وكأنه يراه من مدى قريب!
ما هو هذا الشيء؟ رجعة أخرى إلى الوراء؛ إلى رسالة قديمة من رسائل مي، لنلتقط من بين سطورها المفتاح! لقد أغاظها جبران يوما بكبريائه، كبرياء الرجل الذي يريد أن يشعر المرأة بأنه قادر على السيطرة والامتلاك؛ إزاء رجل من هذا الطراز لا تستطيع المرأة المعتزة بكرامتها إلا أن تثور، وإذا ما ثارت المرأة فهي الثورة التي تعصف بالوعي، وترفع عن وجه حقيقتها «الداخلية» كل قناع! هكذا تجد كل امرأة وهكذا تجد مي. وتختلف الحقائق بعد ذلك تبعا لاختلاف التكوين النفسي عند شتى النساء؛ لقد ثارت على جبران، وفي خلال ثورتها على مرجل وجودها الداخلي ولم يكن محكم الغطاء، فتطايرت قطرات السر الرهيب في هذه الكلمات: ... لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من وأين أنت؛ وكثيرا ما أنسى أن هناك شخصا، أن هناك «رجلا» أخاطبه! فأكلمك كما أكلم نفسي، وأحيانا كأنك «رفيقة» لي في المدرسة!
هكذا تكلمت مي، وإذا تكلمت مي فليس هناك زيادة لمستزيد؛ إن ذلك «الشيء» الذي سألت عنه جبران، قد أجابت عنه هنا في لحظة غضب ثائرة، ولم يكن في كلمة واحدة غير «الأنوثة المقتولة»، وإذا ما قتلت الأنوثة في أعماق المرأة فقد قتل إحساسها بالرجل، وانمحت الفوارق الجنسية في عالم الشعور؛ يبدو الرجل في منظارها وهو لا يختلف عنها في شيء؛ لأنها حرمت حاسة الجنس وسلبت توجيه الغريزة، وقل بعد ذلك أنه فقد الشهية نحو الأشياء، وما يترتب عليه من أثر في سلوك الأحياء: تفقد شهية الطموح فتزهد في المجد، وتفقد شهية القراءة فتشغل عن العلم، وتفقد شهية الأكل فتعزف عن الطعام؛ وكذلك المرأة حين تفقد شهية الأنوثة فتنسى الرجل وتنفر من الحب! لقد كانت مي في تلك السطور الأخيرة التي كتبتها لجبران، هي المرأة التي «نسيت» أن هناك «رجلا» تخاطبه، وكل امرأة تتعرض لهذا الشذوذ فهي واحدة من اثنتين: امرأة يتجرد إزاءها الرجل من أعمق صفات الرجولة، فإذا هو بوتقة إحساسها «رفيقة» من عالم النساء، وامرأة تتجرد إزاء الرجل من أبرز خصائص الأنوثة، فإذا هي في البوتقة نفسها «رفيق» من عالم الرجال، ومن هنا ينقطع «التيار» العاطفي بينها وبينه وكأنه تيار كهربائي بين قطبين سالبين ... وهذا هو المفتاح!
ترى هل كف جبران بعد ذلك عن السير مع عاطفة مي «السابقة» أو المسلوبة إلى نهاية الطريق؟ كلا؛ لأنه ما زال يحدق في لغة نفسها بعقل معصوب العينين:
لدي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر، ولكن علي أن أبقى صامتا عنها، وسوف أبقى صامتا حتى يضمحل الضباب، وتتفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب: تكلم فقد ذهب زمن الصمت، وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة! متى يا ترى تتفتح الأبواب الدهرية؛ هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟ ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية، فلنجلس هنيهة يا مي ولنتحدث قليلا، نحن لا نستطيع البقاء هنا دائما؛ لأنني أرى عن بعد قمة أعلى، وعلينا أن نبلغها قبل الغروب!
إنه ما يزال يسأل عن أبواب الأمل متى تفتح، الأبواب التي تقف من ورائها امرأة تنتظره وفي شفتيها همس، وفي عينيها لهفة، وفي يديها ذلك المنديل الإلهي، الذي تجفف به عرق النفس وتمسح غبار الروح، بعد رحلته الطويلة المضنية في طريق الحياة؛ إنه يريد أن يجلس قليلا ليستريح ويتحدث عن تلك القمة، التي يود أن يبلغاها معا قبل أن تحتضر شمس العمر على فراش الغروب! ولكن الأيام تمر والأبواب لا تنفتح، وليس هناك من ينتظر، والقمة التي بلغها وحيدا بلا رفيق أو حبيب، كانت قمة اليأس والخيبة وضيعة الرجاء. وانتهى الحديث عن اللقاء، وابتدأ الحديث عن الرحيل، وها هو جبران ينثر بين يديها أشلاء شعور تمزقت أوصاله على بقايا الصخور:
أتعلمين يا مي أني ما فكرت في الانصراف الذي يسميه الناس موتا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل؟ ولكني أعود فأذكر أن كلمة لا بد من قولها، فأحار بين عجزي واضطراري وتغلق أمامي الأبواب. لا لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، أقول لك يا مي، ولا أقول لسواك، إني إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها، فإني سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي؛ أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفي الإرادة البشرية قوة اشتياق تحول السديم فينا إلى شموس!
وأخيرا ودع جبران الدنيا ورحل عن عالم الأحياء؛ أما مي فقد بقيت من بعده وحيدة، لقد أضحت حياتها فراغا من كل شيء: فراغا من عطف الأبوة وحنان الأمومة، من صحبة الرفيق ونجوى الصديق، من ألق الشهرة وفنون المجد، من رونق الصبا وهتاف المعجبين؛ وما كان أصدقها وهي تعبر عن هذا الفراغ، في رسالة إلى نسيبها الدكتور زيادة فتقول:
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة وينبغي خلق تعبير جديد، لتفسير ما أحسه في وحولي. إن هناك أمرا يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة! لقد تراكمت علي المصائب في السنوات الأخيرة وانقضت علي وحدتي الرهيبة - التي هي معنوية أكثر منها جسدية - فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذابا كهذا! وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل وأعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة، لعلي أنسى فراغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي!
وقفة متأملة عند بعض الصور التعبيرية في هذه الرسالة؛ لأن تلك الصور ما هي إلا اعترافات نفسية لم تفصح عن مدلولها الكلمات؛ ما هو هذا «الأمر» الذي كان يمزق أحشاء مي، ويميتها في كل يوم كما تقول؟ أليس هذا الأمر الذي يرمض جوانحها بالعذاب، هو ذلك «الشيء» الذي كانت تسأل عنه جبران؟ أليس هو الشعور بأثر «الأنوثة المقتولة» التي حرمتها الرجل حبيب قلب وأنيس وحدة وشريك حياة؟ ألا تسمعها وهي تشكو «فراغ المسكن» وتصور وحدتها الرهيبة، بأنها كانت «معنوية أكثر منها جسدية»؟ لقد كانت وحدة نفس أكثر مما كانت وحدة جسد؛ لأن المرأة التي تقتل فيها الأنوثة، قلما تحس ذلك القلق الناتج عن كبت الغريزة، وإنما الشيء الذي يكثر إحساسها به من غياب الرجل هو فراغ الحياة! لقد كانت أضواء الشهرة تحول بين ناظريها وبين رؤية هذا الفراغ، كما كانت صيحات الإعجاب تغطي على طنينه الضخم، كلما طرق السمع من حين إلى حين ... وعندما أقبل اليوم الذي همدت فيه من حولها كل حركة، وخفت كل صوت وانطفأ كل بريق، تجلت لها الدنيا على حقيقتها المفزعة، التي لا وهم فيها ولا خداع!
على ضوء هذا كله نستطيع أن نقول إن علاقة مي بجبران، لم تكن علاقة قلب وإنما كانت علاقة فكر، وإن عاطفتها نحوه لم تكن عاطفة حب، وإنما كانت عاطفة إعجاب؛ ولقد كان جبران جديرا بإعجابها وتقديرها وتفضيلها له على كل معاصريه من الأدباء؛ لأنه في رأينا ورأي الحق قد سبق بفهمه لحقيقة الفن، ذلك الجيل الذي عاش فيه! إن الفن في جوهره كما قلنا عنه يوما ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية من البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن، نتيجة لذلك الفناء الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد.
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
1 «بين القصرين» عمل فني جديد ظفر أخيرا بجائزة الدولة؛ ونجيب محفوظ صاحب هذا العمل، ظفر بتقدير النقد قبل أن يظفر بتقدير الدولة، منذ أن بدأت خطوط فنه الروائي تتجمع في نقطتي ارتكاز رئيسيتين، لا بد من توافرهما لكل عملية انطلاق فنية، هدفها الوصول إلى نقطة النهاية. عنصر المراقبة النفسية الدقيقة لشتى التجارب الجماعية المعاشة هي نقطة الارتكاز الأولى لعملية الانطلاق الفني، حين تتركز هذه التجارب في بؤرة العدسة اللاقطة، لتبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ وانصهار الملكة القاصة في بوتقة الممارسة المذهبية لكتابة العمل الروائي هي نقطة الارتكاز الثانية، حين تكون هذه الممارسة تفاعلا ثقافيا واعيا مع المقاييس النقدية المتطورة، بحيث تنبثق من خلاله - أعني هذا التفاعل - قيم الكاتب من الناحية الفنية.
إن أعمال نجيب محفوظ - على مدار نقطتي الارتكاز الأولى والثانية - تمثل نوعا من التصاعد الهرمي الذي يتدرج من القاعدة ب «خان الخليلي»، و«القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، و«السراب» و«بداية ونهاية»، ثم ينتهي إلى القمة في «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، وهي الأجزاء الثلاثة التي تكون في مجموعها عمله الروائي الأخير، أو ملحمته الروائية الجديدة. وإذا كان هذا التصاعد الهرمي لم يسجل تفاوتا كبيرا بين الأعمال الأولى والعمل الأخير، من ناحية المستوى الفني للكاتب، إلا أنه قد سجل هذا التفاوت، من ناحية الوعي الاتجاهي بين درجات التصاعد وقمته.
إن المستوى الفني عند نجيب محفوظ، ما يزال يحتفظ بمقوماته، فطريقته في رسم الأبعاد النفسية للشخصيات، وأسلوبه في إبراز الأبعاد المكانية كإطار مادي للأحداث والمواقف، وطابعه في اختيار النموذج الإنساني الرامز إلى المشكلة، هي التي تكون حتى اليوم، الملامح الثابتة لشخصيته الروائية. وإذا كان هنا بعض التغير، فهو خاص بعرض المونولوج الداخلي في صورة جديدة، قوامها تسجيل الحركة النفسية مباشرة قبل كل عملية تطوير موقفية، ورسم الحدث من الداخل وليس من الخارج، كما فعل في تقديم اللحظة التي استشهد فيها فهمى، بطل الجزء الأول من روايته الطويلة.
ولكن الخطوة الكبيرة الزاحفة كما قلنا، هي التي سجلها العمل الأخير من ناحية الوعي الاتجاهي، الذي يمثل موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ فبعد أن كان نجيب يقتطع المشكلة الجماعية من واقع مرحلة زمنية واحدة، بحيث تمثل قطاعا عرضيا من قطاعات المجتمع في جيل معين، بعد هذا اتسعت لديه دائرة العرض الفني، بحيث تركزت فيها مشكلات العصر على امتداد أجيال ثلاثة، هي : الجيل الذي عاش قبل ثورة 1919، والجيل الذي عاصر تلك الثورة، والجيل الذي جاء بعدها ومهد لتلك الانتفاضة الشعبية المتمثلة في ثورة 1952؛ ومن خلال قطاع طولي ممتد، عبر الأجيال الثلاثة، استخدمت فيه شتى القطاعات العرضية، كروافد نهرية تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، تبرز لنا أسرة السيد أحمد عبد الجواد تاجر البقالة بالنحاسين، بما فيها من الأبناء والأحفاد، كرمز إنساني صادق لتطور المجتمع المصري في تلك المرحلة التاريخية الطويلة، من مختلف الزوايا السياسية والاجتماعية والفكرية.
وعندما نستعرض النماذج البشرية، التي يتألف منها الكيان الاجتماعي لهذه الأسرة التي بدأت حياتها قبل ثورة 1919، نلمس أن لكل نموذج تركيبته النفسية التي تميزه وتوجه سلوكه حيال الأحداث؛ فالسيد أحمد عبد الجواد، رب الأسرة، شخصية ازدواجية تمثل اتجاهين متناقضين في الحياة؛ فهو من جهة: شعار واقعي لطبقة التجار الميسورين في جيله، وهي الطبقة التي كانت تبحث عن المتعة الروحية والجسدية، وتمزج بينهما مزجا كاملا على ما بين المتعتين من تفاوت صارخ؛ يملك الأذن الحساسة والشعور المرهف، لاستقبال الصوت الإنساني المطرب والنغمة الموسيقية الشجية، ويسعى إلى مجالس الغناء والطرب، ويشارك فيها إذا جاوزت النشوة عنده حدها المعقول؛ وهو من جهة أخرى يضيف إلى هذه المتعة الروحية، متعة أخرى تتركز في اتجاهه الديني الذي يحرص عليه، إلى الحد الذي لا يتصور معه، أن مثله قد يفكر يوما في ارتكاب المعصية، ومع ذلك فهو عبد خاضع يستلذ عبوديته لسلطان الغريزة، بدافع الفتوة الجنسية التي كانت المباهاة، عند أبناء جيل عاش في فراغ هائل من تمثل القيم الإنسانية الرفيعة، كنتيجة طبيعية للحرمان من توجيه الثقافة. وهو، ذلك المرح العربيد خارج بيته، شخصية أخرى تتميز داخل البيت بالجد والوقار والاستبداد والعنف، حتى تحول البيت أمام تقاليده الإرهابية إلى سجن مرهق، قيدت فيه - بالنسبة إلى نزلائه - حرية السلوك والإرادة.
وأمينة - الزوجة - تمثل تركيبة نفسية أخرى، هي تركيبة الأكثرية المطلقة من بنات جيلها المتزوجات؛ إنسانة - تبعا لفهم المجتمع المصري لوضع المرأة في ذلك الحين - لا تصلح إلا للقيام بدورها المصنع الآدمي لإنتاج النسل، والبقاء كل فترات العمر خلف جدران البيت، لتؤدي فروض الطاعة للزوج، على طريقة الجواري المجلوبات من سوق الرقيق.
وياسين - الابن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد من الزوجة الأولى المطلقة - شاب يعيش على هامش الحياة كرمز معبر عن كل النماذج التي عاشت في جيله، ممثلة لتكرارية النسخ العقلية المشوهة، حيث تكتفي هذه النسخ بقسط ضئيل من التعليم، لتواجه به المصير في معركة الحياة؛ وهكذا ورث هذا الابن الأكبر - كاتب مدرسة النحاسين - ورث نظرة أبيه إلى القيم الحياتية، حين تتركز هذه القيم في بؤرة إشباع الغريزة عن طريق السلوك الجنسي، هذا السلوك الذي تلقى فيه ياسين - بحكم قانون الوراثة المزدوج - جانب الاندفاع فيه عن الأب النزق، وجانب الانحطاط عن الأم المطلقة.
وفهمي - الابن الثاني لرب الأسرة، الشاب المثقف طالب الحقوق - هو النموذج الوحيد الذي يمكن أن يتخذ عنوانا ضخما لتلك الانتفاضة العقلية المتوثبة التي وعت سطورها الشبيبة المثقفة، وعكست أهدافها الجارفة على خط السير الكفاحي لثورة 1919. إن صورة هذه الشخصية - كما رسمها نجيب محفوظ - تماما مع طبيعة الدور الذي قامت به: شاب هادئ، متزن، لا يتكلم إلا بحساب، وتحت رماد الهدوء الخارجي، تختفي جمرات تنتظر اللحظة المناسبة، لتبهر بوهجها كل العيون؛ وإنسان يغلف اتزانه بأثواب طبيعية من الطموح الحزين. لم يكن فهمي يعيش من أجل ذاته، ولكنه كان يعيش من أجل المجموع؛ ولهذا علق على صورة سعد زغلول - الرمز الكبير الخالد لكفاح الشعب - علق هذه الصورة على جدران فكره وشعوره. كان يدرك الإمكانيات الرهيبة التي يملكها المستعمر، لمواجهة حركة شعبية عزلاء، يقودها زعيم أعزل؛ من هنا كان الشعور بالحزن. ومع ذلك فقد كان طموحه يتفوق على حزنه، حين يمتلئ أملا في أن تنتصر قوة الحق الأعزل على قوة الباطل المدججة بالسلاح. وفي سبيل القيم الإنسانية الرفيعة التي عاش من أجلها فهمي، لقي بطل «بين القصرين» مصرعه في إحدى المظاهرات التي نظمتها لجنة الطلبة التنفيذية، ابتهاجا بعودة الزعيم من منفاه.
وإذا ما انتقلنا إلى شخصية كمال الابن الأصغر، والطالب بمدرسة خليل أغا الابتدائية - تصادفنا أخطر شخصية في العمل الروائي كله، بل أخطر شخصية رسمتها ريشة نجيب محفوظ على الإطلاق. ولكننا لن نجد في «بين القصرين» إلا جذور هذه الشخصية، أو بداية نموها الإنساني، فإذا ما انتقلنا إلى «قصر الشوق» و«السكرية» طالعتنا امتداداتها الفكرية السامقة، التي تبرز لنا كل الأبعاد الموضوعية لتلك الأزمة، التي عاناها جيل كان من أبنائه نجيب محفوظ، ومجموعة الذين استمدوا قيمهم الهادفة، من جلال الكلمة وقدسية الثقافة، ثم عاشوا ليروا بأعينهم، كيف انهارت قيمهم تحت أقدام الرجعية السياسية والاجتماعية.
ويبقى بعد ذلك من أفراد الأسرة ومن نماذجها البشرية، ابنتا السيد أحمد عبد الجواد؛ وهما خديجة وعائشة، ولكل منهما اتجاهها السلوكي الناتج عن وجهة نظر نفسية إلى واقع الحياة.
وعلى ضوء هذا الاتجاه السلوكي، الذي يميز كل شخصية من شخصيات العمل الروائي في «بين القصرين»، يمكننا أن نحدد مفهوم الواقعية عند نجيب محفوظ؛ إنها واقعية النمط الإنساني في إطار الأكثرية المطلقة، والمحافظة على تقديم هذا النمط، في حدود مستوياته النفسية والعقلية، من خلال الخط الاتجاهي لسير الأحداث والمواقف. إن أسلوب نجيب في التعبير عن المضمون الاجتماعي للمشكلة، هو أسلوب الواقعية الإيحائية، التي تحرص على نقل هذا المضمون مرتبطا بالتزامية الصدق التاريخي، بحيث لا يخلو هذا الالتزام من عنصر الإيحاء الفكري الخاص بوجهة نظر الكاتب الموقفية. ولا تعد وجهة النظر هنا - بالنسبة إلى طريقة نجيب محفوظ - نوعا من أيديولوجية الواقع التي يلتزمها أصحاب الخط السياسي في أدب القصة، حين يتدخلون بفلسفة معينة توجه المضمون الاجتماعي على أساس الرؤية العقائدية لمجتمع مثالي لم يوجد في واقع الحياة، ولكنه ينبغي - تبعا لوجهة نظرهم - أن يوجد في واقع الفن.
ومن خلال المنظار النقدي المحايد، تبدو لنا واقعية نجيب محفوظ، أكثر ضمانا لسلامة العرض الفني بالنسبة إلى التجربة الجماعية؛ ذلك لأن تدخل الكاتب بفلسفة عقائدية معينة، يفرضها على خط السير الاتجاهي للعمل الروائي، من شأنه أن يحجب رؤيتنا الداخلية الحقيقية، للمستوى النفسي والعقلي لكل شخصية من الشخصيات؛ وفي هذا الجو الضبابي لا نستطيع إلا أن نلمح غير شبح الكاتب؛ لأنه يقف حائلا بيننا وبين الآخرين.
من هنا يبدو أحمد عبد الجواد، وأمينة، وياسين، وكمال، وبقية أفراد الأسرة يبدو كل منهم حيال الأحداث التي تمر بهم، على حقيقة مستوياتهم النفسية والعقلية؛ إنهم حيال أحداث الثورة مثلا أنماط واقعية متباينة: فبينما نجد فهمي بحكم وعيه وثقافته وإدراكه لقيمة اللحظة الصاعدة التي تصنع الحاضر والمستقبل، دائم الثورة على الاستعمار، دائم التقديس لكفاح سعد زغلول، مضحيا بنفسه في النهاية من أجل أهدافه ومبادئه، نجد في الأطراف الأخرى المقابلة: أمينة، وهي لا تكف عن دعاء الله أن ينشر السلام، ويصفي قلوب المصريين والإنجليز، والأب وهو قانع دائما من وطنيته بالمشاركة الوجدانية، دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة، ثم وهو يحاول أن يستغل سلطته الأبوية الرهيبة، في تجميد كل الخطوات الزاحفة لفهمي في طريق الكفاح، ولتنمحي الثورة في منطق الأنانية، طالما كان الخطر بعيدا عن أبنائه؛ ونرى ياسين وهو يعلق على الأحداث بأسف هادئ، لا يمنعه من مواصلة حياته المعتادة، والسهر حتى منتصف الليل في أوكار العاهرات؛ وإحدى فتيات الأسرة وهي تصب سخطها على سعد زغلول؛ لأنه في رأيها سبب هذا الشر كله، ولولاه لعاش هو وعاش معه بقية المصريين في دعة وسلام؛ أما صغير الأسرة كمال، فكل ما يعنيه من تلك الأحداث هو أن الجنود الإنجليز، في معسكرهم القائم أمام البيت يحتفون به ويداعبونه ويقدمون له قطع الشيكولاتة، كلما أطرب آذانهم بصوته الطفولي الحبيب؛ وبهذا الأسلوب من الواقعية الإيحائية، لا يحول المؤلف بيننا وبين رؤية السلوك الاتجاهي لكل شخصية من شخصياته؛ لأنه يضعنا وجها لوجه - دون أن يتدخل - أمام مستويات التفكير الحقيقية لتلك الشخصيات.
ونجيب محفوظ يقدم الشخصية المرسومة أحيانا بطريقة جديدة، يقدم إلينا النموذج الإنساني في موقف من المواقف وكأنه مرآة ذات وجهين، يعكس أحدهما صورة الوجود الداخلي للنموذج نفسه، بينما يعكس الوجه الآخر صورة أخرى لنموذج إنساني مغاير، يشترك مع النموذج الأول في التقاء الخطوط النفسية المنطلقة من نقطة ارتكاز الحدث. إننا نرى أحمد عبد الجواد مرة من خلال أمينة، ونراه مرة وكأنه واجهة عرض مزدوجة؛ فإذا ما فكر ياسين مثلا في شخصية أبيه، وإذا ما فكرت أمينة في تلك الشخصية؛ تحول كل منهما - إلى واجهتي عرض: إحداهما أمامية تلمح من ورائها صورته النفسية الأصيلة، والأخرى جانبية تطالعنا بالصورة المقابلة التي تتفق معها أو تختلف، في مدى التأثر بواقع التجربة الإنسانية المعاشة.
2
مفهوم السلبية والإيجابية في العمل الفني، من أي زاوية يمكن أن ينظر إليه؟ الواقع أن هذا المفهوم يحتاج إلى تحديد. إن شخصية فهمي مثلا - كما رسمها نجيب محفوظ - شخصية تخيرت طريقها بأسلوب إرادي صارم، ورسمت لهذا الطريق بداية واعية صاعدة، كانت نهايتها أشبه بعملية تتويج بطولية، لمجموعة من خطوات النضال الهادف؛ وإزاء هذا التحديد الاتجاهي للشخصية الإنسانية، يبدو نجيب محفوظ - على ضوء الرؤية النقدية عند بعض النقاد - كاتبا واقعيا تتميز واقعيته بالطابع الإيجابي، الذي ينبغي للروائي أن يلتزمه عند تصوير الشخصيات، والإيجابية المقصودة مصدرها أن فهمي بطل «بين القصرين»، لم يكن سلبيا في مواجهة المشكلات، ولم يكن سلبيا في مواجهة الموت؛ على عكس بعض الشخصيات الأخرى كحسنين ونفيسة في «بداية ونهاية»، حين عالج كل منهما مشكلته بالانتحار، وهو - على ضوء تلك الرؤية النقدية عند هؤلاء النقاد - موقف هروبي بالنسبة إلى المشكلة؛ لأن الانتحار - بمضمونه النفسي والإنساني - ما هو إلا عملية إنهاء سلبية لحياة غير هادفة؛ ومن هنا يتهم نجيب محفوظ بأنه لم يكن في عمله الروائي السابق، كاتب الواقعية الإيجابية كما ظهرت بنسيجها المحكم، في الجزء الأول من روايته الأخيرة «بين القصرين»؛ وقد يتهم مرة أخرى بأنه كان سلبيا بالنسبة إلى بعض المواقف، التي أبرز من خلالها أخطر شخصية رسمتها ريشته، وهي شخصية كمال بطل «قصر الشوق» و«السكرية».
من هنا كان مفهوم السلبية والإيجابية يحتاج إلى تحديد. إن الحكم بسلبية العمل الفني أو إيجابيته، يجب أن يستمد من موقف الكاتب نفسه، وليس من موقف الشخصية المرسومة؛ من الموقف «التأثيري» لذلك الكاتب وليس من الموقف «السلوكي» لهذه الشخصية. فقد يكون الكاتب - من ناحية التأثير الانفعالي في قرائه - إيجابي الهدف، حين تكون الشخصية التي يرسمها سلبية السلوك أو سلبية الاتجاه، وعلى العكس؛ إذا لم يستطع الكاتب أن يفجر في وجودنا الداخلي تلك الطاقة الانفعالية، فهو كاتب سلبي على الأساس التحديدي للسلبية التأثيرية. إن الكاتب الإيجابي الهادف هو الذي يفتح عيون الطبقات على مشكلاتها، وذلك عن طريق تجسيم هذه المشكلات بأي أسلوب من أساليب العرض، ولن تتم هذه العملية التجسيمية، إلا إذا استطاع الكاتب أن يصب المشكلة في نفوس قرائه، وأن يملأ وجودهم الداخلي بكل عنصر من عناصر الإثارة. وفي رأينا أن نجيب محفوظ، قد حقق هذا الهدف الإيجابي، وهو يدفع حسنين ونفيسة إلى الانتحار في «بداية ونهاية»، ثم وهو يدفع بكمال إلى هاوية التردد والحيرة والكفر بالقيم، في بعض المواقف من «قصر الشوق» و«السكرية».
لقد كانت المشكلة التي دار حولها نجيب بمجموعة الأحداث والمواقف في «بداية ونهاية» هي مشكلة الفقر، في مجتمع إنساني متخلف لا ضمان فيه؛ فإذا انحرفت نفيسة عن طريق الشرف لتمارس الخطيئة «ضمانا» للقمة العيش، وإذا تحول حسن عن الحياة النظيفة ليعيش في كنف العاهرات؛ «ضمانا» لاستمرار بقائه، وإذا اضطر حسنين أن يعتمد على صدقات أخيه البلطجي، «ضمانا» لاستكمال تعليمه بالكلية الحربية، وإلى أن يحكم بعد ذلك على أخته وعلى نفسه بالموت؛ «ضمانا» لإنقاذ سمعته بعد أن أصبح محترما في المجتمع، فتلك هي الواقعية الإيحائية التي يلتزمها نجيب محفوظ؛ إنه هنا يبدو إيجابيا من خلال المواقف السلبية لشخصياته؛ لأن هدفه الإيحائي من وراء هذه العملية التجسيمية، هو أن يفتح عيوننا على الواقع البشع للمشكلة، وكأنه في موقف المحتج - الذي يدفعنا معه إلى الاحتجاج - على مجتمع تعود أن يرغم بعض أفراده - تبعا لخلوه من ضمان للحياة الشريفة، على أن يلتمسوا تلك الضمانات المنحرفة، التي تتفق مع منطق الفقر والحاجة، وتعود أن يقنع البعض الآخر أن الموت - بالنسبة إلى حياتهم القاسية - يعد طريقا من طرق الخلاص.
هذه الواقعية الإيحائية التي التزمها الكاتب في «بداية ونهاية»، هي التي تطالعنا مرة أخرى - بوجهها الإيجابي - من خلال بعض المواقف السلبية لشخصية كمال في «قصر الشوق»؛ إن كمال يبدو لنا أكثر من واجهة عرض مزدوجة، إنه مجموعة من واجهات العرض المتداخلة، التي قدم نجيب محفوظ من وراء زجاجها الشفاف، مختلف الخيوط الناسجة لمشكلات جيل مأزوم، لم تستطع صحته النفسية أن تقاوم أمراض مجتمع فاسد؛ إنه الجيل الذي عاش من بعد ثورة 1919 إلى ما قبل 1952. لقد بدأ كمال حياته وهو صحيح النفس، كان امتدادا طبيعيا لفهمي، حين ورث عنه إيمانه بكل القيم الرفيعة، وحين اقتبس منه أشرف جوانب شخصيته، وحين اختار نفس الطريق الذي سار فيه. فإذا ما تعثرت خطوات كمال، بعد أن دميت قدماه تحت صدمات الصخور المعوقة، وإذا ما شك في قيمة قيمه التي آمن بها، بعد أن رأى مثله العليا تنهار تحت أقدام الرجعية السياسية والاجتماعية، فتلك هي اللحظات الموحية، التي تتيح لنا رؤية الموقف الاحتجاجي للكاتب، من خلال التصوير المجسم لواقع مجتمع مريض. إننا نستطيع أن نحدد مفهوم الإيجابية الموقفية للكاتب الروائي، بمدى نجاحه في هز وجودنا الفكري بالقلق؛ القلق الذي يصبح عملية بدء موجهة، لكل محاولة جماعية لتغيير الأوضاع، ويستطيع الكاتب - من خلال لحظات الضعف في حياة أبطاله - يستطيع أن يصب في نفوسنا هذا القلق، حين يربطنا بهذا الضعف ربطا شعوريا، عماده تصور المشكلة بأنها ليست مشكلة فرد، ولكنها مشكلة مجموع.
إن نجيب محفوظ - بقسوته المسرفة على بعض أبطاله - يذكرنا بالكاتب الفرنسي مورياك ... لقد سئل مورياك مرة: لماذا تسرف في القسوة على أبطالك؟ فأجاب: ليزداد القارئ عطفا عليهم؛ والواقع أن هذا هو المفتاح، مفتاح الغرفة النفسية الكبيرة التي يضعنا فيها كل من مورياك ونجيب محفوظ، ونعني بها غرفة الشعور بالعطف والرحمة، إزاء لحظات الضعف في حياة الآخرين. إن عطفنا على حسنين ونفيسة في «بداية ونهاية»، وعلى كمال في «قصر الشوق» هو وليد ذلك التأثر الانفعالي، الناتج عن تقديرنا بأن القوى المعوقة التي اعترضت طريق حياتهم كانت - بالنسبة إلى إمكانياتهم الكفاحية - أكبر من أن تقاوم. ومما يعمق مجرى الشعور بالعطف على هؤلاء الأبطال، إحساسنا بأننا لو وجدنا في ظروف قاسية كظروفهم، فربما سرنا مثلهم في نفس الخط، وتعرضنا مثلهم لنفس المصير، ومن هنا نمتلئ عطفا عليهم، بل وثورة من أجلهم. والكاتب الإيجابي الهادف، هو الذي يستطيع أن يكسب لأبطاله - سواء كانوا إيجابيين أو سلبيين - يستطيع أن يكسب لهم من إدراك قرائه تلك اللحظات المضيئة بالعطف والثورة.
كمال في «قصر الشوق» - وكما رسم نجيب محفوظ شتى الأبعاد النفسية لشخصيته - لم يكن يمثل نفسه، بل كان يمثل جيلا من المثقفين وعى رسالته، وحدد دوره، ورسم لنفسه بداية الطريق؛ ولكن عوامل كثيرة - عرضها الكاتب من خلال العمل الفني في «السكرية» - قد عوقت هذا الجيل وأزمت وجوده؛ لأنها كانت أضخم من قدرته النضالية على تغيير الأوضاع: فانتكاس الحركة الوطنية بعد موت سعد، وتزييف الإرادة الجماعية بواسطة زعماء الأقليات طمعا في الحكم، وتآمر القصر مع الاستعمار لخنق انتفاضات الشعب، ورواسب الصراع الطبقي في الوجود الإنساني للبرجوازية الصغيرة، وانهيار قيم الفكر والثقافة في مجتمع، سيطر عليه الانحلال الخلقي وخلا من تكافؤ الفرص؛ كل هذه القوى المدمرة هي التي صنعت جذور الأزمة النفسية لجيل المثقفين بعد ثورة 1919. ولقد كان كمال هو الرمز الكبير، الذي رأينا من خلاله جذور الأزمة في «قصر الشوق»، وامتداداتها الرهيبة في «السكرية».
إن المشاهد التي تقدم لنا كمال - كشخصية متماسكة تمثل المضمون الثوري للإنسان - هي تلك التي يعرضها نجيب محفوظ من خلال الأحداث والمواقف في «قصر الشوق». هو ثائر على رأي أبيه، الذي يريد له أن يلتحق بمدرسة الحقوق، ليكون في المجتمع من أصحاب النفوذ؛ ولهذا قرر أن يلتحق بمدرسة المعلمين، ليتخذ من تعلم اللغات الأجنبية معبره الحقيقي إلى شتى الثقافات. ومن خلال هذا المشهد الثوري، نرى كمال وهو يقول لصديقه فؤاد: «وا أسفاه! إن والدي كأكثر الناس ممن يهيمون بالمظاهر الزائفة؛ الوظيفة، النيابة، القضاء؛ هذا كل ما يهمه، لست أدري كيف أقنعه بجلال الفكر والقيم السامية، الجديرة بأن ينشدها الإنسان من هذه الحياة!» ويقول فؤاد: «قيم جليلة من غير شك، ولكن أين البيئة التي ترفعها إلى المنزلة اللائقة بها؟» ويرد كمال في إصرار نبيل: «لا يمكنني أن أنبذ عقيدة سامية لا لشيء، إلا لأن من حولي لا يؤمنون بها!»
هذا المشهد يقدم لنا إنسانا مثاليا يؤمن بدور الثقافة، يؤمن بدورها في حياة الفرد والمجموع؛ ومن نافذة قيمه الثقافية الجديدة، أطل على كثير من قيم الأمس الممتدة على حدود الرؤية العقلية، وأطلق عليها ثورته؛ ثار على سلطة الأب المستبد، كان بالأمس يخاف هذا الأب، أما اليوم فبعد أن قرعت يداه أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى، التي تحدت الملك هاتفة: «سعد أو الثورة ...» فتراجع الملك واستقال سعد من الاستقالة. أما بعد ذلك فلن يذعن لقوة الخوف، إنه وهم كسائر ما امتحن به من أوهام. وثار على جهل أمه كما ثار من قبل على استبداد أبيه، لا بالتحدي والعصيان، ولكن بالتحرر من قيد أفكارهما الموجهة؛ ويقول كمال مخاطبا نفسه: «أبي هو الفظاظة الجاهلة، وأمي هي الرقة الجاهلة. إن جهلك يا أمي هو الذي ملأ حياتي بالأساطير، فأنت همزة الوصل بيني وبين عالم الكهوف، وكم أشقى اليوم في سبيل التحرر من آثارك، كما سأشقى غدا في سبيل التحرر من أبي!»
ثار مع الشعب على القصر، وثار وحده على الأب، أما ثورته على الأم؛ فلأنها قد غرست في تربة نفسه منذ الطفولة، بذور مفهوم خرافي عن الدين؛ وما لبث أن ثار على هذا المفهوم الخرافي، الذي ربطه بعالم الكهوف. واتسع بعد ذلك الحيز النفسي لثورته، فشمل زعماء الأقلية الذين تعاونوا مع الاستعمار والقصر، كان الوفد «عقيدة تلقاها عن فهمي، واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته!»
هذا الاتجاه الشعبي لبطل «قصر الشوق»، يبرز لنا من خلال المناقشات المحتدمة في السياسة، بين كمال وبين مجموعة من أصدقاء المدرسة الأرستقراطيين. كانوا بحكم نشأتهم الأرستقراطية المنعزلة، يتعالون على الشعب، وإذا ما تكلموا عنه فكأنما يتكلمون عن شعب غريب. أما هو - ذلك المنحدر من صلب الشعب - فكان يدافع عنه ويقف إلى جنبه، وفي شخص زعيمه سعد زغلول، ومن هنا - وفي كل معركة كلامية تنشب بينه وبينهم، يصبح هو مندوب سعد ويصبحون هم مندوبي عدلي وثروت ومحمد محمود. كان أحدهم مثلا يناقشه بهذا المنطق: «إذا كان سعد وعدلي سيين عندي في الناحية السياسية، فإنني لا أراهما كذلك كرجلين؛ لا يمكن أن أتجاهل ما يمتاز به عدلي من كريم الأصل، وعظيم الجاه والثقافة، أما سعد؛ فما هو إلا أزهري قديم.» ويقول له الآخر: «ليست الوطنية عند سعد إلا نوعا من البلاغة تستهوي العامة.» وينفجر كمال في غيظ وسخرية: «إن الذين تؤمنون بهم ليسوا إلا خونة، ليسوا إلا طبقة من الإنجليز المطربشين؛ أنتم تقللون من شأن الكلام كأنه لا شيء، الحق أن أخطر ما تمخض عنه تاريخ البشرية من جلائل الأمور، يمكن إرجاعه في النهاية إلى كلمات، الكلمة العظيمة تتضمن الأمل والقوة والحقيقة، نحن نسير في الحياة على ضوء كلمات. على أن سعدا ليس صانع كلمات فحسب، إن سجله حافل بالأعمال والمواقف؛ ولست في حاجة إلى أن أذكركم بأن العظمة شيء غير الفقر والغنى، وغير العمامة والطربوش!»
نجيب محفوظ يقدم الصراع هنا في صورة مزدوجة: الصراع السياسي والصراع الطبقي، في مجال واحد متشابك الخطوط؛ حسين شداد ابن المليونير صنيعة الخديو، وحسن سليم ابن المستشار صنيعة أحزاب الأقلية في جانب، وكمال أحمد عبد الجواد ابن تاجر البقالة بالنحاسين في الجانب الآخر؛ أو عدلي وثروت في طرف، وفي الطرف المقابل سعد زغلول، الأرستقراطيون يواجهون الشعب، والصراع حول كرم الأصل وشرف المنبت والفوارق الشاسعة بين طبقتين. ويبلغ الصراع قمته حين يفصح كمال عن حبه لعايدة أخت حسين شداد، ويكشف عن رغبته في أن تكون زوجة له؛ لقد هزم الشعب في المعركة، وخرج منها ودماؤه تنزف، لقد سخرت عايدة من أوهام كمال، وتزوجت من ابن طبقتها حسن سليم؛ فضلت ابن المستشار على ابن تاجر البقالة؛ وكانت نقطة تحول ضخمة في خط السير النفسي لكمال، تناولها نجيب محفوظ - من خلال العمل الفني في «السكرية» - كبداية لأثر الصراع الطبقي في أزمة جيل عاش في مجتمع مريض!
3
في آخر صفحة من «قصر الشوق»، يرسم لنا نجيب محفوظ خط اتجاه نفسي جديد لشخصية كمال، وهو يتلقى الصدمة الثانية بموت زعيمه وزعيم الشعب: سعد زغلول؛ كان خط الاتجاه النفسي الأول، حين ركز كل اهتمامه العاطفي في حب فتاة من طبقة غير طبقته، ثم خرج من هذا الصراع الطبقي وهو مهزوم؛ لقد فقد في الصدمة الأولى حبه العاطفي، وفقد في الصدمة الثانية حبه القومي، وكلاهما كان نقطة ارتكاز موجهة لأبرز انطلاقات السلوك الفكري والموقفي بالنسبة إلى شخصية كمال في «السكرية»، وهي الجزء الأخير من هذه الرواية الطويلة «ومات سعد» ... المنفى والثورة والحرية والدستور مات صاحبها، كيف لا يحزن وخير ما في روحه من وحيه وتربيته؟! وماتت عايدة؛ بمعنى أنها خرجت من حياته. الموت حادث نسبي، مضمونه الشعوري بالنسبة إلينا هو أن يخرج من حياتنا إنسان نحبه؛ ولقد هز موتهما - موت حبه القومي وموت حبه العاطفي - جانبا كبيرا من قيم وجوده: الأمل والتفاؤل، والخطوة الزاحفة إلى المستقبل، فوق معبر من الطموح والثقة بالنفس.
صورة طبيعية لشخصية إنسانية صميمة، لونها نجيب محفوظ، دون أن يلجأ إلى افتعالية الرتوش؛ إنه يقدم إلينا عنصر التبرير الموضوعي لتحول هذه الشخصية من موقف إلى موقف. أقوى الأقوياء لا تخلو حياتهم من لحظات الضعف، ولكن افتعالية الرتوش هي التي تظهر لنا الصورة الإنسانية، وقد خلت من ألوان تلك اللحظات، وكأن الإنسان آلة تسيرها قوة منظورة إلى طريق مرسوم. نجيب محفوظ - كدارس سيكولوجي واجتماعي من خلال العمل الروائي - لا يتورط في فرض تلك الآلية على أبطاله، ومن هنا تبدو شخصياته وهي بعيدة عن قابلية التحول من موجات نفسية تندفع وتنحسر في نهر الحياة، إلى دمى خشبية تفرض عليها الأصابع المحركة أن تتخذ أوضاعا معينة!
في الفصل الرابع من «السكرية» نرى كمال وهو يندفع مع الجموع الشعبية إلى سرادق الاحتفال بعيد الجهاد الوطني، «كان هذا ثامن عيد يشهده، وكان كالآخرين قد امتلأ بمرارة التجارب السياسية التي خلفتها الأعوام السابقة، والأعوام التي تلت موت سعد، وقال لنفسه وهو يستعيد ذكريات تلك المرارة: لقد عاصرت عهد محمد محمود، الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد واغتصب حرية الشعب، كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي، التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد؛ كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاما له، ولكنه كان يجد فوق رأسه دائما أولئك الجلادين البغضاء، تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقول له بلغة أو بأخرى: أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء؛ والشعب يخوض المعارك دون توقف، فيخرج من كل معركة وهو يلهث، حتى اتخذ في النهاية موقفا سلبيا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بموقف المتفرج وراح يشجع رجاله في همس، دون أن يمد لهم يدا. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائما، رغم عقله التائه في ضباب الشك!»
من خلال هذا التسجيل النفسي والتاريخي، يتخذ نجيب محفوظ من شخصية بطله كمال، إحدى اللافتات المضيئة التي تشير إلى منعطفات الدروب الاتجاهية، بالنسبة إلى جيل بدأت خطواته وهي ثابتة، ثم انتهت وهي متعثرة؛ لأن رصيده من أسلحة المقاومة لم يكن متكافئا مع رصيد أعدائه من أسلحة القمع والإرهاب. وفي ضوء هذه اللافتة، نرى كمال وقد بدأ يتأزم، نراه وقد بدأ إيمانه بالقيم يهتز؛ هذا الشعب الذي استكان للطغاة في سلبية مثيرة، أهو ذلك الشعب الذي كان يلتقي به في عيد الجهاد الوطني، فيذكره هديره العاصف بأن في «مكتبته - أي مكتبة كمال - أصدقاء قليلين ممتازين مثل دارون وبرجسون ورسل، وفي هذا السرادق ألوفا من الأصدقاء يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون هؤلاء المفكرين خلقا للحوادث وصنعا للتاريخ؟!» إن إيمان كمال بالشعب بدأ يعتريه الشك؛ وزحف الشك بعد ذلك إلى إيمانه بالعلم وبالفلسفة، لقد أصبح من رأيه أن «الفلسفات قصور جميلة، ولكنها لا تصلح للسكنى.» أما العلم فقد غدا من خلال رؤيته العقلية: «دنيا مغلقة من حولنا، لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة، لقد اطلع على آراء نخبة من العلماء، يرتابون في مطابقة الحقيقة العلمية للحقيقة الواقعية، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال، وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقة المطلقة؛ فلم يلبث أن حرك رأسه مرتابا!»
كان له إيمانه الديني ثم إيمانه بالحقيقة، ولم يلبث الله أن خرج من عالم كمال، ولم يلبث أن خرج بعده رسل وبرجسون وإسبينوزا ودارون؛ ويقول له صديقه عبد العزيز الأسيوطى صاحب مجلة «الفكر الحر»، التي يشارك في تحريرها ببحوثه ودراساته: «أنت أعزب في فكرك كما أنت أعزب في حياتك!» ويقول كمال لنفسه: «ترى أكانت عزوبته نتيجة لفكره، أم كان فكره نتيجة لعزوبته، أم أن الاثنين كانا نتيجة لشيء ثالث؟!»
في هذا المنولوج الداخلي الموجز، يقدم نجيب محفوظ خريطة المعالم النفسية لأزمة بطله كمال، وعلى امتداد الخطوط في هذه الطريقة، نستطيع أن نحدد تضاريس تلك الأزمة، التي صنعت شتى الاتجاهات الأخيرة لشخصيته؛ إن مضمون الفكر الأعزب والحياة العزباء، هو في جوهره مضمون الوحدة المقلقة، وهذه الوحدة كما تساءل كمال بينه وبين نفسه - كانت نتيجة لشيء ثالث، والشيء الثالث كان في ضوء الواقع شيئين: لقد هزم الشعب - بعد موت سعد - في صراعه القومي ضد الأقلية والاستعمار والقصر، وهزم هو - أي كمال - في صراعه الطبقي ضد «عايدة». ومن هنا، من هذين المنبعين الرئيسيين، انبثق تيار الأزمة العقلية والنفسية، جارفا معه إيمان كمال بأكثر ما اعتنقه من قيم، وتدفقت بعد ذلك في حياته تيارات أخرى من منابع جديدة، عمقت مجرى الأزمة وجسمت معالم المشكلة. لقد سيطر الانحلال الخلقي على المجتمع، وأصبح المنحلون أخلاقيا - من أمثال رضوان ابن أخيه ياسين - هم أصحاب الحظوة والنفوذ لدى المسئولين من رجال الحكم، أما هو - الإنسان الجاد الذي كان مرتبطا في حياته بقيم ومبادئ - فقد بقي مدرسا مغمورا يلقن مبادئ اللغة الإنجليزية لتلاميذه الصغار، واستمر موظفا لم يتخط بعد عشرة أعوام من العمل المرهق حدود الدرجة السادسة. وحين يتقرر نقله إلى أقاصي الصعيد لا يجد من يتوسط له ويبقيه في القاهرة غير ابن أخيه الناعم المنحل الذي لا يعرف مبادئ الشرف؛ وماذا كانت النتيجة التي خرج بها من إيمانه بالثقافة؟ لقد أدرك أخيرا أن الثقافة لا كرامة لها في بلده! إن أخاه الجاهل ياسين - بفضل المكانة المرموقة لنجله المنحرف - قد سبقه في ميدان المكاسب المادية من وظائف الحكومة؛ وصديقه فؤاد - ابن جميل الحمزاوي الذي كان عاملا في محل أبيه السيد أحمد عبد الجواد - أصبح يخاطب رب نعمته بلغة التعالي والكبرياء، وقد وضع ساقا على ساق؛ لأنه اليوم وكيل للنيابة بعد أن تخرج في مدرسة الحقوق أو مدرسة النفوذ، ولم يتخرج كما فعل هو في مدرسة المعلمين أو مدرسة الثقافة؛ والدراسات الجادة العميقة التي كان ينشرها في مجلة «الفكر الحر»، لم تجد من يقدرها في مجتمع تسوده في ميدان الفكر والخلق والسياسة كل أسباب التدهور!
ويقول له صديقه رياض قلدس الكاتب القصصي، الذي كان يشاركه في تحرير تلك المجلة: «إنك تعاني أزمة فريدة، كل ما عندك مزعزع الأركان، عبث وقبض الريح، نضال أليم مع أسرار الحياة والنفس، وملل وسقم، إني أرثي لك؛ إنك توحي إلي بشخصية الرجل الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، الذي دار حول نفسه كثيرا حتى أصابه الدوار!» ويقول كمال لنفسه وقد تفجر في داخله أحد المنبعين الرئيسين لأزمته: «يتكلم عن الشرق والغرب؛ ولكن من أين له أن يعرف عايدة؟ قد تكون التعاسة متعددة الجوانب.»
هل انتهى كمال، الشخصية المصرية الصميمة، المعبرة عن واقع جيل مأزوم، والتي انتزع لها نجيب محفوظ - من خلال لحظات ضعفها النبيل - كل ما في نفوسنا من إيجابية الثورة على مجتمع بشع، تعود أن يحطم أروع ما يستقر في نفوس أفراده من إيمان بالقيم؟!
لقد انتهى كمال ليبدأ من نقطة النهاية؛ ليبدأ في شخصية أخرى رسمها نجيب، لتكون واجهة عرض جديدة للجيل المتطور؛ الذي مهد لثورة 1952، إنها شخصية أحمد شوكت، المكافح الشاب صاحب الأفكار التقدمية، المعبر عن انتفاضة الشعب الناطقة بعد صمت طويل؛ انتهى فهمي ليبعث في كمال، وانتهى كمال ليبعث في ابن أخته أحمد، من خلال قطاع طولي ممتد عبر العمل الروائي على مدار الأجزاء الثلاثة، ومن وراء الزجاج الشفاف لواجهة العرض الجديدة، نلمح مجموعة القيم العقائدية لشخصية أحمد شوكت. «إن الوفد حزب الشعب، وهو خطوة تطورية وطبيعية في آن؛ كان الحزب الوطني حزبا تركيا دينيا رجعيا، أما الوفد فهو مبلور القومية المصرية ومطهرها من الشوائب، إلى أنه مدرسة الوطنية والديمقراطية. ولكن المسألة أن الوطن لا يقنع ولا ينبغي له أن يقنع بهذه المدرسة؛ نريد مرحلة جديدة من التطور، نريد مدرسة اجتماعية لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة، ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية. أما الأدب فهو وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، فمن الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرضية عملت أجيالا على تجميد العقل والروح؛ والعلم أساس الحياة الحديثة؛ ينبغي أن ندرس العلوم وأن نتشبع بالعقلية العلمية، الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريا. وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعد العلم وقفا على العلماء، أجل لهؤلاء التضلع والتعمق والبحث والكشف، ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه؛ ادرس الآداب كما تشاء، ولكن لا تنس العلم الحديث، ولا يجب أن تخلو مكتبتك - إلى جانب شكسبير وشوبنهور - من كونت ودارون وفرويد وماركس وإنجلز، لتكن لك حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن تذكروا لكل عصر أنبياءه؛ وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء!»
هذه الأفكار والمبادئ تلقاها البطل الثاني للسكرية، عن أستاذه عدلي كريم رئيس تحرير مجلة «الإنسان الجديد»، وسرعان ما آمن بها، واستقرت جذورها في أعماقه، واتخذ منها شعاره القومي والإنساني في معركة المصير؛ ولقد كان أحمد شوكت معجبا بخاله كمال، ككاتب يمثل الطبقة المثقفة في جيله، ولكنه يتلقى من زميلته سوسن حماد - الصحفية المستنيرة التي أصبحت فيما بعد شريكة حياته - يتلقى من نقدها الموضوعي لموقف كمال الثقافي، ما يضيف إلى وجوده الفكري مزيدا من اللحظات المضيئة؛ إن كمال الكاتب، من خلال المنظار النقدي لسوسن: «واحد من الذين يهيمون في تيه الميتافيزيقيا؛ إنه يكتب كثيرا عن الحقائق القديمة: الروح؛ المطلق؛ نظرية المعرفة، هذا جميل، ولكنه - فيما عدا المتعة الذهنية والترف الفكري - لا يفضي إلى غاية! ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف، وأن يكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم، والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر. الإنسانية في معركة متواصلة، والكاتب الخليق بهذا الاسم حقا يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أما وثبة الحياة فلندعها لبرجسون وحده؛ عندما يكون الإنسان متألما يركز اهتمامه في إزالة أسباب الألم، مجتمعنا متألم جدا، فيجب أن نزيل الألم قبل كل شيء؛ ولنا بعد ذلك أن نلهو وأن نتفلسف!»
هذه اللحظات المضيئة التي تصنعها الكلمة الموجهة، تبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره ... إنها تمثل دورا قياديا بالنسبة إلى المحيط الفكري للمجموع القارئ. ونجيب محفوظ لا يقتصر على الواقعية الإيحائية لإبراز مثل هذا الموقف الالتزامي، ولكنه يجسم عملية العرض بمجموعة من الأحداث المتشابكة، التي يربط فيها بين السلوك الداخلي والسلوك الخارجي لشخصياته؛ ومن هنا يمكننا أن نتابع خطوات أحمد شوكت - النموذج الصاعد للجيل الذي مهد لثورتنا الأخيرة - وهو يشق طريقه إلى هدف محدد، تقوده أضواء باهرة من الإيمان بقيم جديدة، عماده التطلع إلى حياة أفضل!
لقد انتهت هذه الخطوات بصاحبها إلى المعتقل، ومن وراء القضبان كانت أفكار أحمد شوكت ومبادئه تتسلل إلى الخارج، لتنضم إلى أمواج المد التطورية في نضالها الزاحف. وعلى أصداء تلك الأفكار والمبادئ استيقظ ماضي الجيل المأزوم ممثلا في كمال، وبدأ يرتبط بالحاضر ويتفاءل بالمستقبل؛ ويقول كمال لصديقه رياض قلدس، بعد أن هزت ضميره قوى الدفع الجديدة: «إن من المستحسن دائما أن يتأمل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام، وعلى ذلك فالتصرف هروب، كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب، وإذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانا جديرا بالحياة؛ دعني أخبرك بما قال لي أحمد شوكت، عندما زرته في سجن القسم قبل نقله إلى المعتقل، لقد قال لي إن الحياة عمل وزواج وواجب إنساني عام، وليست هذه المناسبة للحديث عن واجب الفرد نحو مهنته أو زوجه. أما الواجب الإنساني العام فهو الثورة الأبدية، وما ذلك إلا العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ، ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى؛ أتدري ماذا قال أيضا؟ قال إني أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب؛ كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم، متى ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة. وهذا هو معنى الثورة الأبدية!»
لقد بدأ كمال يفيق من الإغماءة النفسية الطويلة، بدأ يستعيد إيمانه بنفسه، وبالشعب وبالحياة؛ لقد انتفض مع الانتفاضة الجديدة؛ وحين التقى القطب السالب بالقطب الموجب، اندلعت الشرارة المقدسة التي أضاءت للجموع الزاحفة معالم الطريق!
4
المضمون الاجتماعي والاتجاهي - كما عرضناه في نقدنا لهذه الملحمة الروائية - ينحصر حتى الآن في نطاق القطاع الطولي لمجرى الأحداث والمواقف. أما القطاعات العرضية فيستخدمها الكاتب - كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة - كروافد فنية، تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، هذه القطاعات أو هذه الروافد تمثل الأطراف المتقابلة على جوانب الحيز الامتدادي لخط التطور، كما رسمه الواقع التاريخي للمجتمع المصري، وكما لونه الالتزام الموقفي لنجيب محفوظ.
إن الأطراف المتقابلة تواجهنا مرة من داخل الإطار السلوكي للشخصية، وتواجهنا مرة أخرى من داخل الإطار الاتجاهي للثقافة، وتواجهنا مرة ثالثة من داخل الإطار المذهبي للعقيدة السياسية والدينية؛ هناك تقابل من ناحية المفهوم الثقافي والسياسي بين كمال وأحمد شوكت، وتقابل من ناحية المفهوم القومي والديني بين كمال ورياض قلدس، وتقابل من ناحية العقيدة المذهبية بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم، وتقابل من ناحية الوضع الاجتماعي بين أمينة وسوسن حماد. فبينما نجد مفهوم الثقافة عند الجيل الذي يمثله كمال، هو مفهوم القراءة والاطلاع لمجرد الترف العقلي والمتعة الذهنية، نرى هذا المفهوم يتطور عند الجيل الذي يليه والذي يمثله أحمد شوكت، بحيث تتحول الكلمة المقروءة من عملية إضاءة بالنسبة إلى الفرد، إلى عملية قيادة بالنسبة إلى المجموع؛ إلى تحقيق مصير عادل بالنسبة إلى قضية الإنسان. وبينما نرى كمال يؤمن بالوفد كحزب، يمثل الأغلبية الشعبية وأمانيها في الاستقلال، ويقف بإيمانه عند هذا الحد كنقطة نهائية لهدفه الاتجاهي ، نرى أحمد شوكت وهو يتخطى بتفكيره هذه النقطة، وينظر إلى الوفد على أنه مرحلة انتقالية، يجب أن تعقبها مراحل أخرى من البناء الهادف إلى إسعاد الجماهير. وكمال وعايدة يقابلهما - داخل الإطار السلوكي للشخصية - أحمد شوكت وعلوية صبري، نفس الصراع الطبقي الذي ينتهي هنا كما انتهى هناك، بهزيمة الطرف الممثل للطبقة الوسطى من الشعب! ولكن حين يتأزم كمال وتترك الأزمة رواسبها العميقة في نظرته إلى الحياة والناس، يتماسك أحمد شوكت ويرتفع بطموحه فوق مستوى الموقف، ويرتبط بفتاة من طبقته ويحول الهزيمة إلى انتصار؛ لقد بقي كمال مأزوما حائرا، حتى بعد أن أحب بدور أخت عايدة، ولم يستطع أن ينتصر على نفسه ليرتبط بهذه الفتاة، التي أرغمها الزمن على أن تهبط من عليائها، إلى المستوى الطبقي الذي ينتمي إليه!
يقول له صديقه رياض: «أمن المعقول أن تحبها وأن يكون في وسعك أن تتزوجها؛ ثم تمتنع عن زواجها؟!» فيجيبه بأنه يحبها ولكنه لا يحب الزواج! فيقول له محتجا: «إن الحب هو الذي يسلمنا للزواج، فما دمت لا تحب الزواج كما تقول، فأنت لا تحب الفتاة!» فيجيب بإصرار: «بل أحبها وأكره الزواج!» فيقول له: «لعلك تخاف المسئولية»، فيجيبه محتدا: «إني أحمل من أعباء المسئولية في بيتي وفي عملي ما لا تحمل بعضه!» ويعقب رياض: «لعلك أناني أكثر مما أتصور!» فيقول ساخرا: «وهل يتزوج الفرد إلا مدفوعا بأنانيته الظاهرة والخفية؟!» ويقول له: «لعلك مريض؛ فاذهب إلى طبيب نفساني لعله يحللك!» فيجيب: «من الطريف أن مقالتي القادمة في مجلة الفكر عن «كيف تحلل نفسك»!» فيقول له: «أشهد لقد حيرتني»، فيكون جوابه: «أنا الحائر إلى الأبد!»
كان مصابا بانقسام الشخصية من ناحية، وبدا له الحب من ناحية أخرى «ديكتاتورا»، وقد علمته الحياة السياسية في مصر، أن يمقت الديكتاتور من صميم قلبه، «ففي بيت العالمة جليلة كان يحب «عطية» بجسده، ثم سرعان ما يسترده، وكأن ما كان لم يكن! أما هذه الفتاة المستكنة في حيائها، فلن تقنع بما دون روحه وجسده جميعا إلى الأبد!»
إننا مرة أخرى أمام لحظة تفجير لأحد المنبعين الرئيسيين لأزمة كمال، أمام هزيمة الشعب في صراعه السياسي ضد الديكتاتورية! لقد مرت بنا لحظة تفجير أخرى للمنبع الآخر، حين أثار رياض في نقاشه مشكلة الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، فأثار بها في نفسه مرارة الذكرى المترسبة في مشكلته مع عايدة؛ لقد كره الدكتاتور الطبقي في شخص عايدة، كما كره الدكتاتور السياسي في شخص صدقي ومحمد محمود؛ وعلى طول المدى الانفعالي بهذه الديكتاتورية السياسية والطبقية، تعذب كل ما فيه حتى الحب!
وإذا ما انتقلنا إلى القطاع العرضي الذي نرى من خلاله كمال كرمز للأكثرية المسلمة، ورياض قلدس كرمز مقابل للأقلية المسيحية في المجتمع المصري - رأينا نجيب محفوظ يطالعنا بوجهة نظر موقفية لمشكلة الوضع الديني والقومي لهذه الأقلية، مع التزامية الصدق التاريخي في عرض جوانب المشكلة. يقول رياض لصديقه كمال: «إن الأقباط جميعا وفديون، ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة؛ القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين، على اختلاف عناصرهم وأديانهم. أعداء الشعب يعلمون ذلك؛ ولهذا كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم!» ويقول له كمال في دعابة: «ها أنت تتحدث أنت الذي لا تؤمن إلا بالعلم!» ويعقب رياض في حماسة: «إني حر وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت ... ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي! شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة، كما أرادها سعد زغلول!» ويقول كمال وصدره يجيش بالعواطف: «لا تؤاخذني، فقد عشت حتى اليوم دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية؛ فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع، ثم شببت في جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.» ثم يسأله: «وكيف نستأصل مشكلة كهذه من الجذور؟» ويجيب رياض: «من حسن الحظ أنها ذابت في مشكلة الشعب كله، مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب؛ إذا اضطهد اضطهدنا، وإذا تحرر تحررنا!»
إن التزامية الصدق التاريخي هنا، تبدو لنا من خلال الواقع الاجتماعي الذي يصوره نجيب محفوظ بأمانة؛ ذلك لأن اضطهاد الأقباط في تلك الفترة بواسطة الدكتاتورية الحاكمة، وأشياعها من أبناء الرجعية الشعبية، كان بسبب الاتجاه السياسي، ولم يكن بسبب العقيدة الدينية، ولعل نجيب محفوظ يرمز إلى الوحدة الشعورية كرباط قومي بين الأكثرية المسلمة والأقباط، بتلك الصداقة الخالصة من التعصب بين كمال ورياض قلدس. وكل خلاف طائفي يمكن النظر إليه على ضوء الجانب الموقفي للكاتب، وهو جانب الدعوة إلى الفناء في القومية المصرية. ولقد اتسع الأفق المذهبي اليوم لهذه الدعوة، حتى شمل المفهوم الإنساني العام لمعنى «الفناء»، بالنسبة إلى القومية العربية!
وفي مجال الأسرة الصغيرة - أسرة شوكت - يدير نجيب محفوظ صراعا مذهبيا بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم؛ إنه الصراع الذي شهده المجتمع المصري بين اتجاهين متناقضين، لكل منهما نظرته العقائدية الخاصة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس معينة. ومن داخل هذا القطاع العرضي الجديد، نتابع خط السير الفكري لأحمد التقدمي المتطور، والخط الآخر المضاد الذي يتخذه عبد المنعم، كشعار اتجاهي للإخوان المسلمين؛ يقول عبد المنعم في معرض النقاش بينه وبين أحمد: «لسنا جمعية للتعليم والتهذيب فحسب، ولكننا نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله، دينا ودنيا وشريعة ونظام حكم؛ ماذا تعرف عن الإسلام حتى تهرف بما لا تعرف؟!» ويرد أحمد بهدوء: «أعرف أنه دين، وحسبي ذلك، أنا لا أؤمن بالأديان.» ويتساءل عبد المنعم مستنكرا: «ألديك برهان على بطلان الأديان؟!» ويجيب أحمد بنفس الهدوء: «ألديك أنت برهان على حقيقتها؟!» ويعقب عبد المنعم محتدا: «عندي وعند كل مؤمن، ولكن دعني أسألك أولا كيف تعيش؟» ويقول أحمد باعتداد: «بإيماني الخاص، إيماني بالعلم وبالإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد!» ويصيح عبد المنعم في غضب: «لقد هدمت كل ما الإنسان إنسان به!» ويواصل أحمد انطلاقه الجدلي: «بل قل إن بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة ليست آية على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان؛ ذلك ضد معنى الحياة المتجددة؛ ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل؛ طالما كان الإنسان عبدا للطبيعة والإنسان، وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع، كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية؛ ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!»
هكذا يرافق نجيب محفوظ موكب التطور الحياتي، للمجتمع المصري من مختلف زواياه، وما تزال الروافد الجانبية في العمل الروائي، تصب في المجرى الكبير؛ فشخصية سوسن هي الامتداد التطوري لشخصية أمينة. لقد حطمت المرأة المصرية قضبان السجن وخرجت إلى الحياة؛ من البيت إلى الشارع، ومن رق الزوجية إلى حرية الإرادة، ومن جمود الانطواء إلى حركة الانطلاق، ومن سلبية الوضع الاجتماعي إلى إيجابية المشاركة في توجيه المصير، ونظرة الرجل إلى المرأة تتفاوت هي الأخرى على مدار الأجيال: ينظر إليها أحمد عبد الجواد في صورة أمينة، كمصنع آدمي لإنتاج النسل، وكجارية تناديه دائما بكلمة «يا سيدي»، تجسيما للعبودية المعترفة بالاستبداد كحق مشروع! وينظر إليها في صورة زنوبة، وزبيدة وجليلة كنموذج ترفيهي في مجال العلاقة الجنسية؛ وينظر إليها فهمي في صورة مريم جارته الجميلة، التي تبلغ من فهم الحياة مرحلة تتساوى فيها مع أختيه خديجة وعائشة، وتتفوق فيها نسبيا على أمه؛ وينظر إليها كمال في صورة عايدة، كنموذج للمستوى المعيشي الرفيع، والجمال الأرستقراطي الباهر والثقافة الفرنسية المتميزة، كرد فعل لحرمان بيئته الشعبية من كل هذه القيم المغرية! وينظر إليها أحمد شوكت في صورة سوسن، الفتاة المكافحة المستنيرة، التي تكسب قوتها بعرق الجبين، ولا تستمد فتنتها الأنثوية في نظره من جمال الوجه، كما يفعل الآخرون، وإنما تستمدها من جمال الفهم لمشكلة الحياة وقضية الإنسان!
وعلى ضوء الرؤية النقدية لواقعية نجيب محفوظ الإيحائية، نستطيع أن ننظر إليه وهو يتخذ موقفه، إلى جانب التطور بالنسبة إلى الأطراف المتقابلة، حتى لقد جعل كمال في نهاية «السكرية»، يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع خطوات النضال الجديد. ونجيب في واقعيته لا يفرض الشخصية على الموقف، وإنما يفرض الموقف على الشخصية، بمعنى أنه يضع الشخصية في مستوى عقلي معين، يتحتم معه أن ترتبط بسلوك موقفي مناسب، وهذا ما نلاحظه على شخصياته في مختلف المواقف والمستويات؛ إن فرض الشخصية على الموقف عند كتاب الواقعية الأيديولوجية، ناتج من كون الموقف جاهز الإعداد مقدما في ذهن الكاتب، وأن الشخصية قد تكون غير جاهزة الوجود في الواقع الخارجي، ومن هنا نشعر أن الكاتب الأيديولوجي غالبا ما «يجوف» الشخصيات ليملأها بأفكاره الذاتية!
ومع ذلك فإن هذه الملحمة الروائية - كعمل فني يقف موقف الندية من أنضج الأعمال المماثلة في أدب الغرب - لا تخلو من بعض المآخذ، فنجيب محفوظ مثلا - وعلى الأخص في «بين القصرين» - يسرف أحيانا في رسم الأبعاد النفسية لبعض الشخصيات من خلال عملية السرد؛ وعيب هذه الطريقة أنها تطبع خط السير الحدثي بطابع البطء والرتابة!
إن الحركة بطيئة في بعض فصول الجزء الأول من هذه الرواية، ولو رسم نجيب تلك الأبعاد النفسية من خلال اللقطات الحديثة والموقفية، لرأينا تلك الحركة الجياشة، التي شملت الوجود الداخلي والخارجي للشخصيات في «قصر الشوق»، وبلغت الذروة في إبراز العنصر التجسيمي والتركيز لمختلف اتجاهات النسيج الروائي في «السكرية».
وهناك قطاعات عرضية قليلة، تخرج عن نطاق البعد الموضوعي الرئيسي للمشكلة في خطوطها العامة؛ وذلك حين يعمد نجيب إلى التفصيلات الجزئية، لما يدور أحيانا من أحداث ذاتية في الجو العائلي لآل شوكت، أو في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات، من أمثال زبيدة وجليلة زنوبة، أو في جو العلاقات البيئية والشعورية بين أحمد عبد الجواد وأصدقائه من طبقة التجار؛ لا تخلو عملية الالتقاط من الإسراف في تجميع كل الزوايا من أجل اكتمالية الصورة، وكنا نفضل لو لجأ نجيب إلى «الاختيار»؛ فاختيار الزاوية المعبرة قد تغنينا عن زوايا كثيرة، واختيار اللقطة الموحية قد تغنينا عن مجموعة كاملة من اللقطات!
الأخطل الصغير
دراسة فنية لشعره «عندما يتزوج الفكر الحياة، تولد التجربة في الفن.»
إذا لم تخني الذاكرة، فألبير كامي هو صاحب هذه الكلمات، وبقدر ما تحمل كلماته هنا من روح الشعر، فهي تحمل الكثير من منطق التحديد العلمي الضابط للمقاييس النقدية؛ ذلك لأن مفهوم المزاوجة بين كل طرفين متقابلين، هو أن تكون عملية ارتباط تفاعلية، يتحقق فيها عنصر التبادل المثمر والمشاركة المنتجة، إنها عملية يتوفر فيها جانب الإرادة، كما يتوفر فيها جانب الإدراك؛ لأننا حين نفكر في أن نرتبط بالطرف المقابل لوجودنا الإنساني، ندرك ما وراء اتجاهنا من رغبة ملحة في الشعور المكثف بالحياة؛ من خلال رؤية عقلية معينة، من هنا يتم تفتيت اللحظة الزمنية في بوتقة التفاعل المزدوج، بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي، أو بين حركة التأمل الفكري للفنان، وحركة الحياة المندمجة في حركة الزمن. وتفتيت اللحظة الزمنية إلى جزئيات: متغيرة ونامية، هو ما نعبر عنه بمراحل التجربة. والتجربة النفسية في الفن تقتضي - لكي تتم لها كل أبعاد التجسيم - أن نعيش في قلب اللحظة الزمنية، وأن نراقب نموها من الداخل؛ ذلك لأن عملية المعايشة من الخارج، بعيدا عن مجال المراقبة التأملية الدقيقة، لا يفتح من نوافذ الرؤية لمراحل النمو المطرد غير تلك النافذة التي نطل منها على مرحلة التبلور النهائي، عندما يقتصر الفنان على أن يعطينا خلاصة التجربة. وعملية المعايشة من الخارج يترتب عليها من جهة أخرى أن تعرض التجربة وهي مبتورة، وبمعنى آخر: وهي جذور بغير امتدادات. وإذا ما اقتصرت هذه المعايشة على دور التفاعل الحسي بيننا وبين مشاهد الحياة، فهنا تتلاشى التجربة النفسية المكثفة، لتأخذ مكانها اللوحة الوصفية المجردة.
بشارة الخوري أو الأخطل الصغير - في هذا المجال التحديدي وعبر الرؤية النقدية - يبدو وهو شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة؛ إنه رسام لوحات مبدع، وصاحب لغة شعرية ممتازة. وهو في محيط التعبير بالألفاظ والصورة، يتيح للنقد أن يعتبره واحدا من شعراء الجيل الماضي، وأن يعتبره في الوقت نفسه واحدا من شعراء هذا الجيل. إن النقد - على ضوء السمات التعبيرية لشعره - يستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التقليدي إلى جانب شوقي ومطران، ويستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التجديدي، إلى جانب إيليا أبي ماضي وعلي محمود طه؛ فكما نجد في شعره من ملامح المدرسة الأولى، ذلك الميل إلى التقرير والخطابية والاحتفاء برنين اللفظ، نجد من ملامح المدرسة الثانية تلك العناية بأن يحل التجسيم الإيحائي والموسيقى الداخلية والصورة المركبة، محل التقرير والخطابة والتعبير المباشر.
في محيط الشكل التعبيري؛ يمكننا أن ننسب بعض شعر الأخطل الصغير إلى المدرسة الأولى، وأن ننسب بعضه الآخر إلى المدرسة الثانية. وعندما نقول إنه ليس شاعر التجربة، فإنما نعني التجربة بشكلها الفني الناضج، كوليد كامل النمو لزواج الفكر بالحياة. إن عملية الارتباط التفاعلي بالوجود المقابل عند بشارة الخوري، تعتمد على حركة الحواس الخارجية اللاقطة، أكثر مما تعتمد على حركة المشاعر الداخلية المتأملة؛ وفي نطاق التخطيط الإطاري والموضوعي للقصيدة، نلمس بوضوح مدى تفوق اللوحة المرسومة على التجربة المعاشة، بل إن هذا التفوق ليبلغ من السيطرة ذلك الحد الذي تتضاءل معه التجربة، بحيث تبدو لنا هي نقطة ارتكاز بغير انطلاقات. وإذا ما نظرنا إلى الشعر على أنه مزيج متعادل من المعايشة الحسية والنفسية للوجود المقابل، فإننا نستطيع أن نكتشف جوهر التفاوت بين نجاح اللوحة وإخفاق التجربة في شعر الأخطل الصغير. وجوهر التفاوت بين المدرسة الأولى والمدرسة الثانية، عندما نذكر «الطلاسم» مثلا لأبي ماضي أو «الله والشاعر» لعلي طه، كنموذجين تطبيقيين لتلك العلاقة الزوجية بين الفكر الشعري وبين حقائق الوجود، ومدى ما توفر للتجربة من توازن الأبعاد الموضوعية المختلفة، في مجال انعكاس المد الخارجي على جدران الذات.
وإذا ما نظرنا إلى بشارة الخوري كواحد من شعراء المدرسة الثانية - بالنسبة إلى الشكل التعبيري واتجاهات المضمون الشعري - فإنه يؤكد لنا أصالته كوجه فني لا يعكس ملامح الآخرين. إنه هنا نسخة غير مكررة، لا تحمل طابع أبي ماضي ولا طابع علي طه، على الرغم من وحدة الخط التجديدي الذي يلتقي على امتداده الشعراء الثلاثة. إن من أهم القيم الفنية لشعرنا المعاصر، أن يكون لكل شاعر طعمه الخاص، ولونه المتميز وطابعه المستقل؛ إننا بذلك نضمن تنوع الشخصية الشعرية، على أساس من تنوع الأداء، حتى لا يستطيع شاعر واحد يمثل مركزية الطابع والاتجاه، أن يلغي من وجودنا الذوقي كل المتفرعين من نقطة البداية. ولقد قلنا يوما ونحن نشير إلى الفن الغربي، ممثلا في القصة واللوحة والقصيدة، إن النسخة الأصيلة هناك، تبهرنا دائما حيث لا تحدث ظاهرة التكرار والتقليد لشكلية العمل الفني وموضوعيته، مهما اتحد الاتجاه المذهبي عند الكتاب والشعراء والمصورين؛ جان بول سارتر وألبير كامو بينهما اتجاه وجودي في القصة، وبول إيلوار ولوي أراجون يجمع بينهما اتجاه يساري في الشعر، وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي يجمع بينهما اتجاه سريالي في التصوير، ومع ذلك فلن تجد واحدا من هؤلاء - في حدود الاتجاه المذهبي - نسخة مكررة من الآخر؛ إنهم جميعا يمثلون هذه الظاهرة الجميلة في تاريخ الفن، ونعني بها ظاهرة الاستقلال والأصالة.
هذه هي صورة الأخطل الصغير كشاعر مجدد، أما حين نلقاه كشاعر كلاسيكي من داخل الإطار الذي يضم صورتي شوقي ومطران، فإننا لا نستطيع أن نميز وجهه الشعري في زحمة الوجوه المتشابهة؛ ذلك لأن المجرى التعبيري العام لتدفق الطاقة الشعرية عند شعراء المدرسة الأولى، كان يعتمد على كثير من الروافد الجانبية للشعر العربي القديم، من هنا فقد شعر هذه المدرسة - وهي المدرسة التي اقتطعت جزءا من الوجود الفني والزمني لبشارة الخوري - جوانب مهمة من مفهوم التنوع الحاسم للشخصية الشعرية، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يقوم إلا على أسس ثابتة من الاستقلال والأصالة.
ونعود بعد ذلك إلى مجموعة من نماذج التطبيق، لنكرر القول بأنه شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة. إنك في معرض هذا الشاعر الرسام، يواجهك عدد من اللوحات الوصفية، منها: «هند وأمها»، «سلمى الكورانية»، «الصبا والجمال»، «عمر ونعم»، «ندى ووداد». ونشير إلى هذه اللوحات؛ لأنها تمثل في مجال التعبير بالصور ملامح المدرسة التجديدية، وتقدم إلينا ذلك الطابع الاستقلالي المتميز، لواحد من شعراء المدرسة الثانية، ولنقف أمام لوحة رسمتها ريشة الأخطل الصغير:
أتت هند تشكو إلى أمها
فسبحان من جمع النيرين!
فقالت لها: إن هذا الضحى
أتاني وقبلني قبلتين
وفر فلما رآني الدجى
حباني من شعره خصلتين
وما خاف يا أم بل ضمني
وألقى على مبسمي نجمتين
وذوب من لونه سائلا
وكحلني منه في المقلتين
وجئت إلى الروض عند الصباح
لأحجب نفسي عن كل عين
فناداني الروض: يا روضتي!
وهم ليفعل كالأولين
فخبأت وجهي ولكنه
إلى الصدر يا أم مد اليدين
ويا دهشتي حين فتحت عيني
وشاهدت في الصدر رمانتين!
وما زال بي الغصن حتى انحنى
على قدمي ساجدا سجدتين
وكان على رأسه وردتان
فقدم لي تينك الوردتين
وخفت من الغصن إذ تمتمت
بأذني أوراقه كلمتين
فرحت إلى البحر للإبتراد
فحملني ويحه موجتين
فما سرت إلا وقد ثارتا
بردفي كالبحر رجراجتين
هو البحر يا أم كم من فتى
غريق وكم من فتى بين بين!
فها أنا أشكو إليك الجميع
فبالله يا أم ماذا ترين؟
فقالت وقد ضحكت أمها
وماست من العجب في بردتين
عرفتهم واحدا واحدا
وذقت الذي ذقته مرتين
في هذه القصيدة صور جزئية، تعبر عن مختلف النقلات التخطيطية للريشة الراسمة؛ إن الشاعر يرسم لنا لوحة ممتازة، مضمونها إبراز المفاتن الجسدية لفتاة جميلة في دور التكوين، ثم يتيح لنا أن نتابعه وهو يتنقل بريشته من مرحلة إلى مرحلة، وكأنه بسياحة خارجية لمعالم هذا التكوين الجسدي، من الوجه الأنثوي إلى القدم. وهو يستخدم الضحى والليل والروض والغصن والبحر، يستخدمها كمجالات خلقية لصوره المرسومة؛ ومن الملاحظ أنه لم يلجأ - كما هو الحال عند المدرسة الكلاسيكية - إلى التعبير المباشر في التشبيه، لم يلجأ إلى طريقة التجسيم التقليدية ليشبه بياض الوجه بنور الضحى، وسواد الشعر بظلام الليل، وبريق الأسنان بضوء النجوم، إلى آخر السلسلة من تلك القائمة الرتيبة والمكررة. لقد كانت وسيلته الأولى إلى التجسيم، قائمة على الرمز الإيحائي للصورة المركبة؛ صورة الضحى مثلا في موقف التقبيل، الدجى في موقف العناق، والغصن في موقف الهمس والسجود، وما يكمن وراء كل حركة من أمثال هذه الحركات الموقفية من معنى رامز أو دلالة موحية. أما وسيلته التجسيمية الثانية، فقد ارتكزت على ذلك الجو القصصي، الذي غلفت به أجزاء المشهد المعروض، فأكسبتها عنصرا جديدا من ثراء التلوين ودينامية الترابط. ولقد ختم الشاعر مجموعة لمساته الحسية، بلمسة نفسية أخيرة في أسفل اللوحة، مضمونها أن غيرة المرأة الجميلة من المرأة الجميلة، شعور أصيل من شأنه أن يلغي أمام المنافسة، منطق الاعتراف للطرف المنافس بقيمه الجمالية؛ لأن المقارنة في أساسها غير عادلة. وحين نقف وقفة أخرى أمام اللوحة الثانية، يواجهنا في بدايتها نفس الطابع الفني، الذي عرفناه في اللوحة السابقة، وهذه هي بداية «سلمى الكورانية»:
تعجب الليل منها عندما برزت
تسلسل النور في عينيه عيناها
فظنها وهي عند الماء قائمة
منارة ضمها الشاطي وفداها
وتمتمت نجمة في أذن جارتها
لما رأتها وجنت عند مرآها:
انظرن يا إخوتا هذي شقيقتنا
فمن تراه على الغبراء أنقاها؟
أتلك من حدثت عنها عجائزنا
وقلن إن مليك الجن يهواها
فأطلق المارد الجبار عاصفة
تغزو النجوم فكانت من سباياها؟
قصت نجيمتنا الحسناء بدعتها
عن نجمة الشط والآذان ترعاها
وكان بالقرب منها كوكب غزل
يصغي فلما رآها سبح الله
وراح يقسم إلا بات ليلته
إلا على شفتيها لاثما فاها •••
يا ملعب الشط من «أنفا» أتعلم من
داست على صدرك البازي رجلاها؟
ويا نواتئ من موج ومن زبد
أثنى عليك وحسب الفخر نهداها
والشط في الصيف جنات مفوفة
كم فاخر الجبل العالي وكم باهى
إذا أرتك الجبال الغيد كاسية
فالشط أذوق منها حين عراها
لو قدمت إلينا هذه اللوحة لسلمى الكورانية، وهي غير موقعة أو غير «ممضاة»، أفلا نستطيع أن نضع عليها - دون خوف من الوقوع في الخطأ - توقيع الشاعر، أو إمضاء الأخطل الصغير؟ إن لهذا العمل الفني قيمته التي لا تنكر من الناحية الشكلية، ناحية الإطار القصصي وما يحتوي عليه من صور إبداعية في التعبير، واستخدام الطاقتين كوسيلة موفقة من وسائل التجسيم؛ ولكن كان من المفروض أن يضعنا الشاعر أمام تجربة عاطفية، عاشتها البطلة كموقف متطور، ومارستها كانفعال حي. وتبعا لأن المعايشة الخارجية قد اقتصرت على دور التفاعل الحسي مع الحدث، فقد أثر ذلك على حركة النمو الداخلي لتلك اللحظة الزمنية الطويلة، الحافلة بالصراع والتوتر، لتحيل التجربة في النهاية إلى لوحة مجردة. وبدلا من أن نخرج من موضوعية اللوحة بجوهر المضمون الصراعي لقصة حب مخفق، خرجنا بلمسات سردية سريعة تمثل التخطيط الحدثي لهذا المضمون. ومن خلال رؤية شعرية غائمة، لم نستطع أن نتبين دوافع الانفصال بين سلمى وحبيبها فؤاد؛ لأن الأبيات التالية تضع المفتاح في ثقب الباب ولا تفتح:
وراح يقرع باب الرزق مشتملا
بعزمة سنها علم وأمضاها
حتى انثنى وعلى أجفانه بلل
ود الإباء لها لو كان أعماها
بكى فؤاد لسلمى والبلاد معا
وأنفس رضيت في الذل مثواها
فحمل الموج من أشجانه حمما
وشد يضرب أولاها بأخراها
وقال واليأس يمشي في جوارحه:
ديار سلمى على رغم هجرناها
إننا ندرك لماذا بكى فؤاد من أجل سلمى، وندرك ذلك بطريقة إيحائية. معنى أن ينفصل محب عن إنسانة تحبه، معناه بالنسبة إلى هذه الإنسانة شعور بالضياع، في مثل هذه المواقف يحتاج الشعر إلى التركيز، ولا يحتاج إلى التفصيل؛ ولكن الذي يجب أن يفصل هو لماذا بكى من أجل البلاد، ماذا حدث لهذه البلاد حتى يرغم على هجرها وهجر حبه؟ خضوع وذل؟ ما هي حقيقة هذا الذل وهذا الخضوع؛ والصراع الذي دار في داخل البطل كمرحلة رئيسية من مراحل التجربة، كتوتر انفعالي متبادل بينه وبين من يحب؟ كل ما عرفناه بعد ذلك أن «خمسا من السنوات السود قد صبت بلاياها على رأس لبنان»، وأن حب سلمى ما يزال حيا يقتات على الذكريات؛ وهكذا نجد أنفسنا أمام لوحة قصصية يغلب فيها جانب التسجيل على جانب التحليل؛ لأن عملية المراقبة تتم من الخارج. وتستمر جولتنا في معرض الصور حتى نقف مرة ثالثة أمام هذه اللوحة لعمر بن أبي ربيعة، اللوحة الأولى جمعت بين هند وأمها، واللوحة الثانية جمعت بين سلمى وفؤاد، واللوحة الثالثة جمعت بين عمر ونعم؛ هذه الازدواجية الصانعة لنوع من المقابلة بين طرفين، قيمتها في الشعر الوصفي أنها تنقذ اللوحة المرسومة من التسطح، وتجعلها لوحة ذات أبعاد؛ منها بعد الحركة، وبعد التجسيم، وبعد الخلفية المجالية. ولا بد من الإشارة إلى أن الحركة في لوحة «عمر ونعم»؛ تختلف في نوعيتها عنها في اللوحتين السابقتين؛ الحركة هناك ناتجة عن تدرج الأحداث وانبثاق المواقف، سواء أكان ذلك في منطقة الرؤية التحليلية أو منطقة الواقع المحس، ولكن الحركة هنا ناتجة عن تحويل المجرى التعبيري نفسه من منعطف موضوعي إلى آخر، أشبه بحركة الكاميرا المنتقلة من زاوية إلى زاوية.
أخاك يا شعر فهذا عمر
وهذه «نعم» وتلك الذكر
لوحان من فجر الصبا وورده
غذاهما قلب وروى محجر
فرخان في وكر تلاقى جانح
وجانح ومنقر ومنقر
يختلس القبلة من مبسمها
هل تعرف العصفور كيف ينقر؟
وهو إذا أمعن في ارتشافها
علمنا كيف يذوب السكر
رسالة من فمه لفمها
كذا رسالات الهوى تختصر!
الموضوع الشعري في هذه الأبيات، يمثل نقطة البدء الانطلاقية لمجرى التعبير؛ ونشعر أن الحركة تنساب فوق أرضية مبطنة بأحلام التصور، إنها لوحة جزئية ممهدة، يلعب فيها الحلم الشعري دور التحضير لواقع حسي مغيب، الشاعر هنا يحلم بالرؤية؛ الرؤية المجسدة التي يمكن أن يتصور من خلالها حسية العلاقة بين نعم وعمر، على مدار هذه التوزيعات المشهدية.
وفي المقطوعة التالية، يتحول المجرى التعبيري إلى منعطف جديد؛ ينتقل من غيب التهويم إلى حضور المواجهة، وبعد أن كانت حركة التعبير مصبوبة في قالب الحديث عن عمر، غير الشاعر من اتجاهها لتصب في قالب الحديث إلى عمر:
قل لي بنعم وبأتراب لها
يلعبن ما شاء الصبا والأشر
ليلة ذي دوران هل كانت كما
حدثت أم أخيلة وصور؟
ونعم هل كانت كما صورت
أم بالغ في تلوينها المصور؟
يا للمنى أعن يمين كاعب
وعن شمال كاعب ومعصر؟!
فمن هنا حيث تندى الزهر
ومن هنا حيث تدلى الثمر
وأنت لا تألو دعابا في الهوى
شم وتقبيل وأشياء أخر
ويتغير الاتجاه مرة أخرى - في حركة صاعدة - من البعد المكاني للذكريات، إلى تلك الشرفة البعيدة التي تتحول إلى ساحة عرض صغيرة، لبعض جوانب الشخصية النسائية المسهمة في ازدواجية الصورة؛ ويلاحظ أن اتجاه الشاعر الأساسي إلى عملية التصوير من الخارج، هو الذي يدفعه غالبا إلى أن ينظر إلى المرأة من زاوية التكوين الجمالي للوجه والجسد، حيث لا يظفر التكوين النفسي بما يحتاج إليه من سياحة داخلية:
قالوا الحجاز مجدب لما عموا
ونعم فيه روضة ونهر
إن زفت العود أناشيد الهوى
حن لها العود وجن الوتر
أو صفقت للهو في أترابها
ماج لها الوادي وغنى الشجر
الحب مذبوح على أقدامها
والحسن في ألحاظها يكبر
تعرت الشمس على وجنتها
وانشق - لو تعلم أين - القمر
العنب الأحمر مسفوح على
شفتها، ما الأقحوان الأصفر؟
والوردة البيضاء أو قل نهدها
كأنه من خيلاء يسكر
هذه النظرة إلى المرأة كتكوين جمالي مقبولة في الشعر، إذا ما كانت انبثاقا تجريديا لتجربة حسية بحتة، ومقبولة نسبيا في «عمر ونعم»، وغير مقبولة على الإطلاق في «ندى ووداد»؛ ذلك لأن التجربة هنا عاطفية تحتل مكان القمة من مرتفع الإنسانية، إنها تجربة الشعور المتبادل بين عاطفة الأبوة وعاطفة البنوة، تجربة الوجود الإنساني الذي يلغى فيه معنى الإحساس بالعدم، حين يتحقق له امتداده الحياتي المتصل الحلقات بحركة الزمن الدائبة؛ إننا لا نكاد نرى «وداد» ابنة الشاعر وهي في العشرين، إلا من خلال رؤيته البصرية:
يا قطعة من كبدي
فداك يومي وغدي
وداد يا أنشودتي البك
ر ويا شعري الندي
يا قامة من قصب السك
ر رخص العقد
حلاوة مهما يزد
يوم عليها تزد
توقدي في خاطري
وصفقي وغردي
تستيقظ الأحلام في
نفسي وتسقيها يدي •••
عشرون قل للشمس لا
تبرح وللدهر اجمد
عشرون؛ يا ريحانة
في أنملي مبدد
عشرون؛ هلل يا
ربيع الصبا وعيد
وبشر الزهر بأخ
ت الزهر واطرب وانشد
وانقل إلى الفرقد ما
نمنمته عن فرقدي
الرؤية البصرية - في هذه الأبيات - هي الغالبة والمسيطرة؛ وعبر هذه الرؤية تلوح لنا «وداد»، وهي مجموعة من صور التكوين الجمالي: أنشودة وشعر، قامة من قصب السكر، حلاوة زائدة، ريحانة عبقة، زهرة يانعة؛ وهلل يا ربيع واجمد يا دهر، ولا تبرحي يا شمس. الشاعر الأب يسجل أكثر مما يحلل، ولو حدث العكس لاستحالت اللوحة على امتداد الرؤية النفسية إلى تجربة ... تجربة تتفتت فيها تلك اللحظة الزمنية المفجرة لطاقة الانفعال، إلى جزئيات متغيرة ونامية، هذه اللحظة التي تعتبر مركز التفجير الانفعالي، هي تلك التي دار حولها الشاعر بمجموعة من اللفتات الذهنية؛ لحظة الإحساس بالوصول الزمني للابنة إلى سن العشرين. وإذا ما أردنا أن نفتت تلك اللحظة إلى جزئيات، أعني إلى لحظات فرعية ومتولدة، فمن الحتم علينا - ونحن نأخذ مكان الشعر - أن نعيش في قلب اللحظة، لنراقب نموها من الداخل؛ عندئذ تبدو لنا هذه اللحظات الجزئية الوليدة، وهي أشبه بانعكاسات الأشعة المنطلقة من مركز الضوء إلى كل اتجاه، لقد كانت اللحظة الزمنية - لحظة سن العشرين - هي مركز الانطلاق لأشعة الفكر الشعري بالنسبة إلى تجربة الشاعر، انطلاقة إلى الماضي وأخرى إلى الحاضر وثالثة إلى المستقبل، وتلك هي الاتجاهات النفسية التي يمكن أن تلتقي بعد ذلك في نقطة تجمع فكرية، أساسها ارتباط الأزمنة الثلاثة في الوجود الداخلي للطرفين المتقابلين، لنحقق فكرة الشعور بذلك الامتداد الحياتي، المتصل الحلقات بحركة الزمن.
وما نقوله هنا نقوله عن لوحة «ندى» وهي في الخامسة؛ إنها - في منظار الشاعر - بسمة الورد، وهمسة الطهر، وشعلة الحب، ووشاح الجمال، وأخت الفراشات. ولكن الأخطل الصغير يهزنا بعنف في ختام المقطوعة الأخيرة، يهزنا لأنه قد أعطانا على الأقل «خلاصة» التجربة؛ أعطانا مرحلة التبلور النهائي لوقع اللحظة الزمنية - لحظة سن الخامسة - على وجوده الداخلي كإنسان، هذا الواقع مجسم بانفعال صادق ومركز، في الأبيات الثلاثة النهائية من هذه المقطوعة:
نداي! من سلسل الخم
ر في الثنايا العذاب؟
من صفف الشعر فوق ال
جبين سطر كتاب؟
رددت لي بعد يأسي
حلم الهوى والشباب
من أنت؟
الله الله لما
عضت على العناب
وصفقت بيديها
وغمغمت بالجواب
سل الرياحين عني
وسل حنين الرباب
بقدر ما كانت «ندى» - في بداية العمل الشعري - انعكاسا لتكوين جمالي، عبر رؤية البصر والتخيل، أصبحت - في نهاية هذا العمل - وهي انعكاس لتكوين وجودي عبر رؤية الشعور والفكر ... اللحظة التي تعض فيها الطفلة على الشفتين، وتصفق باليدين، وتغمغم بالكلمات، معناها بالنسبة إلى الأب، أن وجوده الإنساني قد بدأ بصورة منطقية، من نقطة البدء الحقيقي لهذا الكيان الطفولي الذي ينتسب إليه؛ إنها عملية إثبات للوجود، وظاهرة امتداد ونفي للعدم، وكل هذا نستطيع أن نستشفه من خلاصة التجربة أو من مرحلتها النهائية، وهو في الوقت نفسه يؤكد لنا مدى الخسارة التي يمكن أن تلحق بالشعر، إذا لم تكتمل لتجاربه كل المراحل الزمنية لارتباط الفكر بالحياة.
وليس معنى هذا أن شعر بشارة الخوري يخلو من التجربة؛ تجربته الذاتية أو تجارب الآخرين، ولكن المشكلة هي طغيان اللوحة واحتلالها أكبر حيز من الموضوع الشعري، مما ينتج عنه أن ينكمش مضمون التجربة، فيصبح وهو تعريجة نفسية في مرحلة العبور الفكري للحظة زمنية، يقتضي الوصول إليها أن نسلك الكثير من المنحنيات، وإذا عثرنا عنده على تجربة لا تطغى عليها اللوحة، واجهتنا مشكلة الأداء التكنيكي الذي يعرضها من خلال تصميم بنائي مترابط، تبدو فيه مراحل التجربة وهي وحدة عضوية متناسقة. ومن نماذج التطبيق التي يمكن أن تجسم لنا هذه المشكلة، تجربته المعاشة عن طريق «الذات» في قصيدته «إلى امرأة»، وتجربته المعاشة عن طريق «الآخر» في قصيدته «رب قل للجوع». النموذج الثاني مثلا يقدم لنا تجربة فتاة شريفة، مات أبواها ولم يتركا لها غير ثروة ضخمة من الجمال، تعادلها في الضخامة ثروة من الفقر؛ وموطن التجربة لبنان وأرضيتها الزمنية أيام الحرب، وتنتهي مراحل الصراع بين الجمال الشريف وبين ذل الحاجة، إلى أن تغامر الفتاة بذهابها إلى قصر الحاكم - مخدوعة بكلمات قوادة عجوز؛ لتلتمس لنفسها ولأخيها الصغير، ما يعينها على الصمود في معركة الجوع، وهناك داخل حجرة مغلقة، أعطت الفتاة قبل أن تأخذ؛ أعطت شرفها وهي مرغمة.
لو اكتسب الأداء التكنيكي شيئا من النضج في هذه القصيدة، لأتاح لمراحل التجربة أن تكون خيوطا حية لنسيج عضوي موحد، فبدلا من أن يهيئ الشاعر لهذه المراحل أن تتتابع - في خط سير نموها الاطرادي - دون حركة انفصال معوقة، رأيناه يقطع خط السير في بعض المواضيع ليفسر موقفا أو يعلق على حدث؛ ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا التدخل المتكرر أن تظهر الفجوات في البناء العضوي للتجربة، لتحول بين خيوطها الناسجة وبين وحدة التماسك. وإذا عدنا إلى نموذجه الشعري الأول بما فيه من تجربة ذاتية، لمسنا اختلافا جوهريا فيما يتصل بالأداء التكنيكي المناسب، فبقدر ما نشاهد هناك من انفصال بين اللحظات الزمنية، الرامزة إلى مراحل التجربة، نشاهد هنا - في قصيدة «إلى امرأة» - من الإسراف في الترابط مظهرا من مظاهر الضغط الذي يصيب الأبعاد التحليلية لكل مرحلة بشيء من التقلص والضمور، وتتراءى لنا - تبعا لذلك - كل المراحل وهي مجموعة من المفاتيح، أكثر مما تتراءى لنا وهي مجموعة من الغرف المفتوحة.
ماذا؟ أحقا كنت بي تهزئين
وكنت في حبك لي تكذبين
لم تخدعيني مطلقا إنما
نفسك يا هذي التي تخدعين
منعت حبي عنك لكنما
منحت عفوي شيمة الأكرمين
مهلا فمصباحك لم يتألق
إلا بما من شعلتي تقبسين
مهلا فإني مثل ذاك الذي
في عرس قانا أدهش العالمين
صيرت خمرا آسن الماء في
نفسك: خمرا ينعش الشاربين
وليمة كانت لنا في الهوى
أكثرت فيها عدد المعجبين •••
هل كنت في أبهى ليالي الهوى
أيام كنت فتنة الناظرين
هل كنت إذ ذاك سوى آلة
ألحانها مني ومنها الرنين؟
أنشدت أحلامي على فارغ
من خشب القلب الذي تحملين
كالنغم الرنان في آلة
فارغة تحت يد الضاربين
الأبعاد التحليلية في هذه المراحل الثلاث من مراحل التجربة، مضغوطة إلى درجة الاختزال ... وما دام الشاعر قد وضعنا أمام تجربة «بجماليونية»، تتحول فيها المرأة «التمثال» إلى امرأة «حية»، يتدفق في كيانها الرخامي - بفضل لمسات الفنان - كل معاني النبض والحركة، فقد كنا ننتظر من بجماليون الشاعر أن يحدثنا - بشيء من التفصيل - عن دوره الإحيائي للرخام البارد، وكيف تنكر له الرخام الحي، حتى قد قرر في النهاية، أن يقف من تمثاله هذا الموقف الذي يشبه التحطيم:
والآن سيري في الطريق الذي
شئت فلي أيضا طريق أمين
سيري ولا تنسي بأن تستري
إن كنت تستحين، ذاك الجبين
مأدبة أفرغت كأسي بها
وقمت عنها لا كما تزعمين
ففضلة الكأس التي عفتها
تركتها للخدم الساقطين
ما الذي نريد أن ننتهي إليه من وراء هذه الجولة النقدية الدارسة؟ هو ما قررناه في البداية من أن بشارة الخوري - من خلال هذه النماذج وكواحد من شعراء المدرسة الثانية - وجه فني أصيل ومتميز؛ لا يمكن أن تخطئه العين الفاحصة؛ هو على هذه الصورة بالرغم من كونه شاعر اللوحة، وليس شاعر التجربة. ويتضح من هذه الدراسة أنه يعيش تجاربه، ولكنه يعيشها بطريقته الخاصة التي تكسب لوحاته أولوية التفوق من الناحية الفنية، تبعا لاكتمال الموهبة عند الشاعر الرسام، أكثر من اكتمالها عند الشاعر المفكر؛ وإذا كان هناك جانب النقص فهناك جانب التعويض؛ وفي ميدان الإضافة إلى هذا الجانب الأخير، إنه واحد من الأساتذة القلائل في شعرنا المعاصر، بالنسبة إلى ارتفاع المستوى التركيبي للجملة الشعرية.
أما حين نسلط عليه الضوء كواحد من شعراء المدرسة الأولى - وعلى مدار شعر الترديد والتقليد - فإننا لا نستطيع أن نحدد قسمات وجهه الشعري في غمرة الزحام؛ إن وجهه يختلط أحيانا بوجه شوقي، ويختلط بوجه مطران، ويختلط أحيانا بوجوه أخرى في شعرنا العربي القديم. ونفس الظاهرة تنسحب على كل شعراء تلك المدرسة، ولا تقتصر على الأخطل الصغير:
عش أنت إني مت بعدك
وأطل إلى ما شئت صدك
ما كان ضرك لو عدلت أما
رأت عيناك قدك؟!
وجعلت من جفني متكأ
ومن عيني مهدك
أي شيء هنا يميز بشارة الخوري من ناحية الشكل والمضمون؟ إننا نواجه شعر «الأكلشيهات» اللفظية، التي تحمل طابع النسخة المكررة، ومن وراء هذا المطلع التقليدي للقصيدة، نستطيع أن نلمح وجه البهاء زهير؛ الشاعر المصري القديم وهو يقول:
تعيش أنت وتبقى
أنا الذي مت حقا
هذا الموت «الرومانتيكي» كان بعدا رئيسيا، من الأبعاد الموضوعية لشعر الغزل عند شعراء المدرسية الأولى، وهو مظهر من مظاهر التبعية لقافلة الغناء العربي المتوارث، حيث تتفرع من نقطة البداية في إيقاع رتيب كل أنغام الحداة المتشابهة. وبشارة الخوري - كواحد من هؤلاء الحداة - يتغنى مرة أخرى برومانتيكية الموت، ليذكرنا بقصيدة «أزواد بيت الله» للعباس بن الأحنف:
بلغوها إذا أتيتم حماها
أنني مت في الغرام فداها
واذكروني لها بكل جميل
فعساها تبكي علي عساها
واصحبوها لتربتي فعظامي
تشتهي أن تدوسها قدماها
ويبقى بعد هذا كله من الناحية الاتجاهية؛ من ناحية الحكم عليه كشاعر صاحب موقف من قضايا مجتمعه الذي يعيش فيه. إن الشاعر كفنان - في مجال العرض والتقييم - لا يمكن أن نفصله عن الشاعر كملتزم، كمرتبط بمشكلات الجموع بصورة أخلاقية؛ في هذا المجال نجد تجاوبا واضحا وتعاطفا أصيلا، بين الكيان النفسي للشاعر وبين الكيان القومي للبنان، كوطن محلي لوجوده الذاتي، وكوطن عربي لوجوده الإنساني الكبير، ولك أن تلقاه في «وكر النسور»، وفي ختام «سلمى الكورانية» وفي «نحن والموت صاحبان»، وفي «غنيت للشرق الجريح» وفي «لبنان عيد ما أرى»، وفي «غصة الشراب» وفي «ليالي الجهاد»، وفي «ثورة من دمنا» وفي «يا أمة غدت الذئاب»؛ وأخيرا في «بني وطني» و«صدى القبلات»:
بني وطني والحادثات ملمة
فما لي أرى هذي العيون غوافيا؟!
ألا فانهضوا نبني الحصون موانعا
ونعلي على مر العصور المبانيا
ونرسي على أس العلوم مدارسا
توجه أميال البنين الجوافيا
ونرفع في هذي البلاد مصانعا
تضم إليها العاملات الأياديا
ونكشف عن هذي السماء غيومها
فتبصر وجه الأفق أزهر صافيا
فيا لك أحلاما إذا ما تحققت
رضيت حياتي أن تكون ثوانيا
هنا شاعر اليوم والغد، شاعر الحاضر المشهود وشاعر التطلع إلى المستقبل، والخطاب موجه إلى وطنه العربي الكبير، وآماله المستقبلية تحلق في أفق التسليح والتثقيف والتصنيع، كوليد شرعي لوعي الرؤية العقلية البعيدة؛ إنها تجربة أحلام أمسية معاشة، وهي تعاش اليوم كتجربة واقع يومي محقق. ولا حاجة بالشاعر - في سبيل أمنية الأمس - إلى أن يكون الثمن المقابل هو التضحية بالحياة، وعلى امتداد التجاوب والتعاطف مع كل بقعة من بقاع العروبة، تلوح له الأرض العربية المقدسة للوطن السليب.
يا جهادا صفق المجد له
لبس الغار عليه الأرجوانا
شرف باهت فلسطين به
وبناء للمعالي لا يدانى
إن جرحا سال من جبهتها
لثمته بخشوع شفتانا
وأنينا باحت النجوى به
عربيا رشفته مقلتانا
نحن يا أخت على العهد الذي
قد رضعناه من المهد كلانا
يثرب والقدس منذ احتلما
كعبتانا وهوى العرب هوانا
قم إلى الأبطال نلمس جرحهم
لمسة تسبح بالطيب يدانا
قم نجع يوما من العمر لهم
هبه صوم الفصح، هبه رمضانا
إنما الحق الذي ماتوا له
حقنا، نمشي إليه حيث كانا
في هذين النموذجين يعيش الأخطل الصغير، تجربة الجموع العربية في وطن بلا حدود؛ والشعور بالقومية في النموذج الأخير هو مركز التجربة وقلبها النابض، حين يلتقي معنى الجوع الديني المشترك من أجل فلسطين في وجدان الشاعر، بمفهوم وحدة الأرض واللغة والتاريخ والتقاليد. أما تجربة الجموع العربية في الوطن الذي وضع نقطة البداية لوجوده الإنساني، لبنان، فهي هنا مجسمة في هذه الزفرة التي أطلقها بشارة الخوري في يوم له تاريخ؛ وما أكثر أيام وطنه التي أذاقته طعم الغناء والبكاء.
لبنان عيد ما أرى أم مأتم؟
لله أنت وجرحك المتبسم!
عصروا دموعك وهي جمر لاذع
يتنورون بها وصبحك مظلم
قل للرئيس إذا أتيت نعيمه
إن يشق رهطك فالنعيم جهنم
أيطوف الساقي هنا بكئوسه
ويزمجر الجابي هناك ويرزم
تعرى الصدور هنا على قبل الهوى
وهناك عارية تنوح وتلطم
والكهرباء هنا تشع شموسها
وسراج أكثر من هناك الأنجم؟
وهو بعد ذلك شاعر الدعوة إلى العمل؛ وشاعر الدعوة إلى الحياة، والحياة من وراء منظاره سلوك جاد وأيد خشنة، وسعي متصل وميدان للتضحية:
نشء لبنان هذه راية الأرز فإما الفداء بالنفس أو لا
قم نخشن منا اليدين فلا نحصد حقلا إلا ونزرع حقلا
الأكف اللدان من شغف الغيد فحدد منهن للحق نصلا
شقيت أمة إذا الجد ناداها تلوت على الأسرة كسلى!
هذا هو الأخطل الصغير بناحيته الفنية والالتزامية؛ كصاحب طابع شعري متميز، وكصاحب موقف اتجاهي واضح المعالم، وحسبنا هذه النماذج من شعره لتتحدث عنه وتشير إليه.
في الأدب المصري المعاصر
حياتنا الأدبية في حاجة ملحة - ومنذ حين - إلى محاولات مخلصة في ميدان النقد؛ وعندما نقول مخلصة فإنما نعني الإخلاص في المراقبة وفي المعرفة، وفي التقسيم المستند إلى أساس من هذه وتلك، وإلى أساس آخر من مراجعة الضمير. أما الإخلاص في المراقبة فيفرض على الناقد، أن يكون متتبعا لخط سير الحياة الأدبية، ذلك التتبع اليقظ الذي يربط بين طبيعة الواقع الاجتماعي، في كل مرحلة من مراحل التطور الإنساني، وبين طبيعة الواقع الإنتاجي في كل مرحلة من مراحل التطور الفني. وبهذه الجزئية من المحاولة المخلصة ككل، يمكننا أن نضمن سلامة التقييم لكل أثر من آثار الفن، بالنسبة إلى ارتباط هذا الأثر بمفاهيم عصره وإمكانيات بيئته، تلك التي حددت ملامحه الفنية ورسمت خطوطه الاتجاهية، عندئذ يتلافى النقد ذلك الخطأ الناتج عن تطبيق مقاييس هي نتاج عصر أدبي بعينه، على عصور أخرى سابقة رغم اختلاف الظروف والمقومات. ولا يخطئ بالتبعية حين يزن إنتاج شاعر أو كاتب في جملته، بميزان مرحلة معينة تمثل تعريجة واحدة من خط سير فني يزدحم بالمنعطفات والتعاريج.
وإذا ما تخطينا الإخلاص في المراقبة إلى الإخلاص في المعرفة، فقد بلغنا المنطقة التي تتركز وراء حدودها المبدئية قيمة من القيم هي «حرمة الثقافة». وحرمة الثقافة تفرض على الناقد، ألا يحبس فهمه داخل سرداب ضيق من سراديب المذهبية الباحثة، وألا يحصر نظرته داخل منظار متعصب من مناظير الذاتية المتذوقة، إذا ما حاول أن يصدر حكما نهائيا على أعمال الآخرين؛ ذلك لأن المنظار المتعصب يدعو بطبيعته إلى تقييد الرؤية الفنية، بحيث لا ينظر إلى العمل الأدبي إلا من خلال عقيدة معينة؛ ولأن المذهبية الضيقة من شأنها أن تجمد الملكة الناقدة، بحيث لا يقيم الأثر الفني إلا على أساس فهم خاص. وهنا يكمن الخطأ الآخر الذي يدفع النقد المصري - عند بعض النقاد - إلى إغفال قيمة التكنيك تعصبا للاتجاه، أو إلى التضحية بالشكل في سبيل المضمون.
ويبقى بعد هذا خطأ ثالث يرتكبه هذا اللون من النقد المصري المعاصر، وهو «مجاملة» الاتجاه السياسي الذي يدين به الأديب؛ لأن الناقد مثلا يدين بنفس الاتجاه. والمجاملة هنا مصدرها تعمد المناصرة للعقيدة الفكرية، حتى لا تتعرض هذه العقيدة لهزات الشك، إذا ما تعرض الأثر الفني للنقد العادل. ومن هذه النقطة تنبع قضية الضمير الأدبي، الذي نعده الدعامة الرئيسية لكل تقييم صحيح؛ فقد يكون الناقد بصيرا بمجموعة الأخطاء والمآخذ في العمل الفني، ولكنه يغض الطرف عن تلك الأخطاء والمآخذ؛ اتقاء لخذلان الأديب المنتج، تبعا لأن إنتاجه يعد بمنزلة اللسان المعبر عن الوجود العقائدي لكل من الأديب والناقد. وهذا بالطبع على حساب القيم الفنية حين تكون بعيدة عن مراجعة الضمير.
هكذا يسير النقد المصري في الطريق الذي رسمه له بعض النقاد. والنتيجة هي أن أسواق الأدب قد استقبلت في هذه الأيام، مجموعة جديدة من الثمار الأدبية غير الناضجة؛ لأن تربة الإنتاج في حقل الشعر والقصة على الخصوص، قد سمدت بسماد نقدي غير مناسب، أو لأن المشرفين على التربة يهمهم أن تمتلئ السوق بهذا النوع من الثمار، بصرف النظر عن خطورة كل عملية قطف قبل الأوان. ونحن الذين نؤمن بقيمة أدب الكفاح في سبيل خلق حياة أفضل، حياة تسودها القيم الهادفة إلى تمجيد كرامة الفرد، كعنصر تكويني هام في بناء المجتمع، نشعر أن قضية هذا الأدب هي قضية التركيب الفني السليم، الذي لا يتاح بغيره أن يشق المضمون الاتجاهي مجراه إلى نفوس الجماهير؛ ولهذا قلنا إن حياتنا الأدبية في حاجة ملحة، إلى محاولات مخلصة في ميدان النقد، حتى يكون للتوجيه النقدي المدرك أثره الفعال في قيادة الإنتاج.
ونحن اليوم أمام محاولة نقدية جديدة، محاولة سلمت من الأخطاء السابقة، فاستحقت أن نصفها بالإخلاص؛ ذلك لأن الدكتور عبد القادر القط في كتابه الذي أصدره منذ قريب، تحت عنوان «في الأدب المصري المعاصر»، قد راعى في كثير من الإنصاف أن يطبق مقاييس النقد المتطورة، على إنتاج أدبي ينتسب إلى مرحلة اجتماعية متطورة؛ ولهذا تجنب أن يطلق أحكاما عامة على منقوديه من الأدباء في جملتهم، حين ركز أحكامه عليهم في حدود الأعمال الأدبية التي تناولها بالنقد والدراسة؛ وهو في تقييمه لتلك الأعمال ينظر من خلال منظار، يرى ويقف فوق أرض محايدة، هناك حيث لا مجال للتعصب المذهبي ولا تودد للعقيدة الفكرية، مما يقتضي عند غيره أن يصدر الرأي أو نقيضه، وكلاهما رمز صادق للتجني أو المجاملة. فالمؤلف - على ضوء معرفتنا به - لا تربطه بمنقوديه صلات شخصية أو عقائدية من صداقة أو خصومة، وإنما تقوم الصلة بينه وبينهم على أساس من الإنكار لظاهرة فنية أو اتجاهية، لا ترضي الميزان النقدي العادل، أو أساس من الإعجاب بظاهرة أخرى تبدو وهي راجحة في حساب الوزن والتقييم. والمؤلف معرض في بعض المواضيع من كتابه لأن نختلف معه تبعا لأننا سننكر عليه بعض آرائه، ولكنه الإنكار الذي يرجع إلى اختلاف وجهات النظر، وليس إلى أنه قد أبصر الحقائق ثم أغمض عينيه؛ كما يفعل الآخرون.
القسم الأول من الكتاب خصصه الدكتور القط لدراسة «السلبية في القصة المصرية». أما النماذج التي اختارها من الإنتاج الأدبي المعاصر، ليسجل من خلالها مظاهر تلك السلبية، فهي أربع مسرحيات ذهنية لتوفيق الحكيم تتمثل في «أهل الكهف» و«بجماليون» و«الملك أوديب» و«شهرزاد» ... ثم ثلاث قصص طويلة هي: «أزهار الشوك» لمحمد فريد أبو حديد، و«إني راحلة» ليوسف السباعي، و«بعد الغروب» لمحمد عبد الحليم عبد الله. وطريقة المؤلف في عرض العمل الفني ودراسته ونقده تعد في جملتها سليمة، ما دامت محصورة في نطاق الزاوية التي اختارها لتلك الدراسة، ونعني بها زاوية السلبية؛ ولهذا فقد كان منصفا لبعض منقوديه - كتوفيق الحكيم مثلا - حين قال في مقدمة كتابه: ... ولم أقصد من دراسة ما درست من كتب، أن أتناول جميع جوانبها، وأحلل كل عناصرها الفكرية والفنية، ولكنني اتخذت كل مجموعة منها مثالا لاختلاط بعض مفاهيم الأدب عند منشئيه في تلك الفترة الحرجة من حياتنا الأدبية. وقد يكون في بعض القصص التي اخترتها موضوعا لبحث السلبية في القصة المصرية مثلا، وصف فني جميل أو تحليل نفسي عميق، أو أسلوب قصصي جيد في بعض المواضيع، ولكنني لم أشر إليه ولم ألتفت إلا إلى تلك العناصر، التي توضح الفكرة التي من أجلها اتخذت تلك الأعمال موضوعا لهذه الدراسة.
وعلى هذا الأساس سار المؤلف في طريقه متجها نحو الهدف الذي حدده في تلك الكلمات. ولكنه قبل أن يصل إلى هدفه يعرج على بعض القيم والمفاهيم المتصلة بجوهر السلبية والإيجابية، كوجهة نظر فنية ترتكز عليها مقاييسه وأحكامه في مرحلة الدراسة والتطبيق؛ وفي هذا المجال الجوهري نقف مع الدكتور القط حين يقول:
والقصاص حين يصور الحياة يستطيع أن يختار نماذجه من بين الإيجابيين أو السلبيين أو منهما معا، ولكنه بعد ذلك مطالب بأن يضع هذه النماذج تحت ضوء خاص، يخلق لها دلالات جديدة ويبث فيها معاني طريفة، تجعل من قصته حافزا إلى الحياة ومنبها إلى ما فيها من خير وشر، بحيث يخلق في نفوس قارئيه وعيا قويا بمجتمعهم ومشكلاته، ونفوسهم وحقيقة ما يعتمل فيها من أحاسيس. وهكذا يكون الفن - إلى جانب المتعة الجمالية - دافعا إلى التطور باعثا على اليقظة العقلية والنفسية، لا مجرد تسلية محضة فحسب. ومن اليسير على القصاص أن يصور النماذج الإيجابية لتجتمع فيها كل هذه الصفات والمعاني، إذ إنها بطبيعتها قادرة على ذلك مستجيبة لما يبثه الفنان فيها من حياة وإيحاء؛ وقد يستطيع القصاص أن يصور الشخصيات السلبية على وجه يتحقق معه ما ينبغي للفن من وظيفة إنسانية اجتماعية وعناصر جمالية؛ وذلك بأن يثير حول تلك الشخصيات من الأفكار والأحاسيس ما يثيره حول الشخصيات الإيجابية القوية، إذا أثارنا على ضعفها أو خلق تعاطفا مع هذا الضعف. وهو يستطيع أن يثيرنا على ضعفها، إذا لم يرسمها مجرد شخصيات وانية فاترة تمضي حياتها رتيبة مملة، بل يخلق لها من المواقف والأحداث ما ينفرنا من عجزها وسلبيتها، ويثير فينا احتقارا لها وازدراء لشأنها. ويستطيع أن يثير فينا تعاطفا مع ضعفها، إذا رد هذا الضعف مثلا إلى عوامل نفسية قاهرة، لا تستطيع الشخصية منها فكاكا، فهي كالمغلولة تريد الانطلاق ولا تجد إليه سبيلا.
هذه الصورة النقدية التي رسمها المؤلف، لما يجب أن يكون عليه المضمون الفني والاجتماعي في القصة، لا تختلف عن الصورة التي نرتضيها ونريدها لمثل هذا المضمون؛ فهو مثلا لم يغفل عن وجوب العناية بالناحية التكنيكية - وهي التي عبر عنها بالمتعة الجمالية - إلى جانب العناية بالناحية الاتجاهية؛ ذلك لأنه يؤمن معنا بأن التضحية بالأصول الفنية لكتابة القصة في سبيل إبراز مضمون قصصي ملتزم، هي في الواقع تضحية بهذا المضمون نفسه، حين يقف «وحده» عاجزا عن إتمام عملية حفر عميقة في كيان مجتمع قابل للتطور. وهو من جهة أخرى لم يقصر نجاح الالتزام القصصي على تصوير الشخصيات الإيجابية، الثائرة بطبيعتها على أوضاع اجتماعية معينة، بل جعل المرجع في ذلك إلى قدرة القصاص نفسه على الإيحاء والتوجيه والإثارة، بمعنى أن هذا القصاص يستطيع أن يشيع في أعماق القارئ كل هذه القيم الإيجابية، ولو كان أبطاله من السلبيين، وحسبه في ذلك أن يقدمهم من خلال أحداث ومواقف تجسم فيها المشكلة، بحيث نثور نحن من أجلهم ولو كانوا هم في حالة ضعف وعجز عن الثورة؛ وعلى هذا الأساس الأخير مضى المؤلف ليناقش في غير تجن ولا مجاملة، ما وقع عليه اختياره من أعمال توفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد، ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله.
والمؤلف بعد العرض الأمين لمضمون هذه القصص الثلاث: «إني راحلة» و«أزهار الشوك» و«بعد الغروب»، وهو العرض القائم على التلخيص بما يتخلله من وقفات نقدية متأنية أمام الأخطاء والمآخذ في محيط الاتجاه والتكنيك، ينتهي إلى أن هذه القصص:
قد اتفقت اتفاقا طريفا في رسم الشخصيات وبناء الأحداث، فالشخصيات جميعها سالبة، والصراع لا وجود له، والمصادفة هي التي تحرك الأحداث وتتحكم فيها، وثقافة المؤلف تظهر بوضوح تام وتطغى على تفكير الشخصيات الروائية، وسلوكها الذي يتسم بقدر كبير من المثالية الزائفة. وهذا الاتفاق لا يمكن أن يكون نتيجة اتباع لمذهب معين، أو تفضيلا لأسلوب خاص في القصص، بل هو تعبير عن السلبية الغالبة في المجتمع بمثلها وقيمها الخلقية، وهو تعبير عن تلك السلبية الكامنة في شخصيات المؤلفين أنفسهم، إذ كانوا جزءا من مجتمعهم يدينون بما يدين به.
إزاء هذا الرأي - وعلى ضوء دراستنا الشخصية لهذه القصص الثلاث - لا نملك إلا أن نوافق المؤلف على ما ذهب إليه؛ والواقع أننا إذا ما أردنا أن نبحث عن مناطق الفراغ في الوجود الفني لأصحاب هذه القصص، لأدركنا بعد جولة فكرية دارسة أن هذه المناطق متشابهة من حيث الشكل، تبعا لوحدة المسالك المؤدية إلى حقيقتها الموضوعية. فالمؤلفون الثلاثة مثلا يتفقون في أن كلا منهم، لا يلم إلماما كافيا بالمنهج التصميمي لكتابة القصة، وذلك لضآلة الثقافة الفنية في هذا المجال من جهة، ولانعدام الممارسة العملية لأي تجربة إبداعية من جهة أخرى، وينتج عن هذه الظاهرة أنهم يكتبون القصة بأسلوب اجتهادي، لا تستطيع الموهبة - حتى ولو توفرت لهم - أن تملأ بقية الجوانب في منطقة الفراغ. بل ويترتب على نفس الظاهرة أيضا، تكرارية هذا الأسلوب الذاتي بصورة ملحوظة، بحيث تصبح أعمالهم القصصية - رغم تنوعها الموضوعي - نسخا مكررة من ناحية التصميم الفني العام؛ وفي رأينا أن عنصر السلبية الاتجاهية كما حدده المؤلف في نقده لهذه القصص الثلاث، يرجع إلى ضعف القابلية التطورية لدى المؤلفين من ناحية التجاوب الاجتماعي الصاعد، كنتيجة مباشرة لضعف القابلية نفسها، من ناحية التفاعل الفني مع المفاهيم الأدبية الجديدة. ولا بد من نقلة أخرى تدفعنا إلى أن نقف مع المؤلف - متفقين حينا ومختلفين حينا آخر - أمام المسرح الذهني لتوفيق الحكيم.
إن السلبية في مسرحية «أوديب»، ومن دور التجاربخلال العدسة المقربة في منظار المؤلف، تتلخص في أن القالب الفكري الذي صب فيه توفيق الحكيم تركيبة أوديب الإنسانية، لا يصلح كرمز لذلك الترقب الإنساني - بقيمه الهادفة - لانبلاج صبح الحقيقة؛ ذلك لأن أوديب في هذه المسرحية قد شارك «ترسياس» في مؤامرة، أخفيت فيها الحقيقة عن الشعب، وخدعت عنها حتى زوجته وأولاده، وعاش هذا الباحث عن الحقيقة سبعة عشر عاما في ظلال زيف متصل الحلقات. هذا بالإضافة إلى أن الكاتب لم يعالج الاتجاه المسرحي، بمحاولة تخليصه من الجبرية الصارمة والقدرية المهزومة. أما السلبية في «أهل الكهف» فتتركز في ذلك الصراع الرئيسي، الذي أقامه توفيق الحكيم بين القلب والزمن ... بين الثلاثمائة عام التي قضاها «ميشيلينا» في ظلام الكهف، وغيرت طعم القيم الحياتية في فم وجوده بعد البعث، وبين قلب «بريسكا» الذي طوى القرون الثلاثة، ليصل الماضي بالحاضر في قصة حب مثيرة. لقد أراد الكاتب لهذا القلب أن ينتصر على الزمن، فأنهى الصراع بانتحار «بريسكا»، بأن دفنت نفسها حية مع «ميشيلينا»، ليتم الاتحاد العاطفي في عالم الموت، بعد أن عجزت يد الحياة عن صنع هذه المعجزة؛ إنه ليس انتصارا في رأي الناقد، ولكنه صورة مجسمة للهزيمة، هذا إلى جانب بعض مظاهر السلبية الأخرى في الحوار، مثل إشارة الكاتب إلى إخفاق مصر في مقاومة الزمن وانتقام التاريخ. وإذا ما سعينا وراء السلبية في «بجماليون» فهي هناك، في ذلك الصراع الذي أدار الحكيم أحداث المسرحية ومواقفها حول محوره، وهو الصراع بين المثل الأعلى والواقع المادي بالنسبة إلى الفنان، حيث ينتهي هذا الصراع أيضا بأن يحطم المثال تمثاله الرائع، ثم يفارق الحياة وهو يسير في قافلة من اليأس، كان حداؤها الشك والفرار من مواجهة القوى الدافعة. والحق أن المؤلف في دراسته لعناصر السلبية في هذه المسرحيات الثلاث، قد بذل جهدا ملحوظا في رصد هذه العناصر، وتحليلها على ضوء المفاهيم الإيجابية التي حددها كمقاييس في مقدمة كتابه، ومع ذلك فلا مناص من أن نختلف معه في بعض الجوانب الموقفية، التي سلط عليها أضواءه الكاشفة «من بعيد»، وأن نختلف معه مرة أخرى في تفسيره للفكرة الرمزية في «شهرزاد»، وما ترتب على هذا التفسير من حكم ظلمت معه في رأينا الحقيقة الفنية.
لقد وقف الدكتور القط عند المعنى القريب في المضمون الفكري لمسرحية «شهرزاد»، ولم ينفذ إلى ما وراء المعنى القريب من رمز بعيد؛ فهو مثلا قد ظن أن شخصية شهرزاد ما هي إلا شخصية امرأة مغلفة بالأسرار، يسعى كل من «شهريار» و«قمر» إلى الكشف عن حقيقتها، بحيث ينظر إليها الأول على أنها عقل كبير، وحيث ينظر إليها الثاني على أنها قلب كبير، بينما هي من وجهة نظر «العبد» لم تكن إلا جسدا جميلا. واعتمد المؤلف في هذا التفسير الذي لم يحالفه الصواب على هذه العبارة التي قالتها شهرزاد لكل منهم وهي ساخرة: «أنت تراني في مرآة نفسك.» وينتهي إلى أن هذا المفتاح التعبيري هو جوهر المضمون الفكري للمسرحية، وخلاصته «أن الحقيقة لا حقيقة لها إن صح هذا التعبير»، واعتمادا على هذه النظرة أصدر المؤلف حكما، ظلمت معه الحقيقة الفنية كما سبق القول، ومدار هذا الحكم هو أن شخصية شهريار شخصية سالبة؛ لأنه فشل على يد الكاتب في الوصول إلى حقيقة شهرزاد، وعاد من نقطة النهاية إلى نقطة البداية وهو مهزوم.
ولا ندري كيف لم يفطن الدكتور القط - على وفرة لقطاته الواعية - إلى حقيقة الفكرة الرمزية في «شهرزاد»، مع أن هناك أكثر من مفتاح تعبيري لفتح الأبواب المؤدية إلى هذه الفكرة؛ يقول شهريار في أحد المواضع من المسرحية موجها حديثه إلى شهرزاد: «أنت لست امرأة ككل النساء.» فإذا ما أجابته قائلة: «أتمدحني أم تذمني؟» كان تعقيبه هو هذا المفتاح الأول: «لست أدري، بل قد لا تكونين امرأة!» ومفتاح آخر عندما يقول شهريار أيضا كاشفا عن قلقه وحيرته: «إن شهرزاد مثل الطبيعة، تبدي لنا محاسنها وتخفي عنا أسرارها.» ومفتاح ثالث في موضع ثالث، حين يقول معبرا عن شكه ويأسه: «لست أحب الجلوس إلى هذه الأرض؛ دائما هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض، إنما نحن ندور، كل شيء يدور، تلك هي الأبدية، يا لها من خدعة؛ نسأل الطبيعة عن سرها فتجيبنا «باللف» والدوران!»
هذه المفاتيح الثلاثة وغيرها مضافة إلى اتجاه المضمون الفكري في جملته، تطلعنا على جوهر الفكرة الرمزية؛ وهي أن شهرزاد قد رمز بها توفيق الحكيم إلى سر الطبيعة، أو سر الأبدية، أو سر الوجود على أي تسمية من هذه التسميات؛ ومن هذا المنبع الرمزي تدفقت كل الرموز الأخرى في المسرحية، حيث يصبح شهرزاد رمزا أصيلا لهذه المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «العقل»، فتتعرض تبعا لذلك لهزات عنيفة من أعاصير الشك والقلق والحيرة، وحيث يصبح قمر رمزا آخر لتلك المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «القلب»، فهي عنوان صادق لذلك الإيمان الأعمى، الذي يسلم بكل ما يراه، وحيث يصبح العبد رمزا ثالثا لمجموعة بشرية ثالثة، لا تنظر إلى الطبيعة إلا من نافذة «الحواس»، فهي أسيرة المظهر المادي الذي يعود عليها بكل متعة حسية ، ومن هنا آمن العبد بجسد شهرزاد فاستمتع، وآمن قمر بقداسة شهرزاد فاطمأن، وشك شهريار في هذه القداسة فشك في حقيقة شهرزاد كلها، ومضى يجوب الأرض باحثا عن سرها فلم يظفر بغير الإخفاق، وهذه النهاية تعد في رأينا طبيعية بالنسبة إلى كل النماذج البشرية التي يمثلها شهريار، وبالنسبة إلى المضمون الاتجاهي الذي تمثله مسرحية توفيق الحكيم؛ لأنه مضمون «وجودي» بحت، يرمز إلى الموقف الكوني للإنسان، بصورة لا يمكن أن تتسع لأي خط اجتماعي هادف؛ مما يتعذر معها أن يوصف الكاتب بأنه كان سلبيا أو قريبا إلى السلبية.
ومن الجوانب الموقفية التي يدور حولها الخلاف بيننا وبين المؤلف، هذا الحوار مثلا كما أطلقه توفيق الحكيم على لسان كل من «بجماليون» و«جالاتيا»، حيث يقول بجماليون: «معاني التقدير لمحتها في عينيك هذا الصباح، وأنت تنظرين إلى أولئك الحطابين في الغابة، والعرق يتصبب من جباههم.» وتقول جالاتيا معقبة على هذا الاعتراض: «كل كد جدير بالتقدير.» فيقول بجماليون مرة أخرى محددا موقفه: «كل زوجة لا تستريح حتى ترى جبين زوجها يتعفر بتراب العمل والشقاء، إنك تعرفين أني لست في حاجة إلى أن أعمل وأشقى.» وهنا يصدر الدكتور القط حكما نهائيا على اتجاه الكاتب في نطاق هذا الجانب الموقفي، فيقرر أن توفيق الحكيم: «قد جعل اضطرار الناس إلى العمل رمزا لما في الحياة من تبذل وامتهان، وهو رأي يمثل فكرة الفنان الذي يعيش في برجه العاجي، دون أن يحس بما للعمل من فضل على الحياة وعليه هو نفسه، حين يهيئ له ذلك البرج العاجي الأنيق، الذي يعيش فيه بمعزل عن الكادحين.»
الحق أننا نشفق من «نهائية» الأحكام النقدية في مثل هذا الموقف، الذي نخرج فيه من الحوار برأيين متعارضين، يحمل كل منهما في أحشائه وجهة نظر فنية تعبر عن اتجاه فكري محدد؛ فإذا قال المؤلف - وبطريقة حاسمة - إن وجهة نظر بجماليون بالنسبة للعمل والكادحين، هي وجهة نظر الفنان المنعزل الذي يمثله توفيق الحكيم، جاز لنا أن نقول أيضا إن توفيق الحكيم قد يكون معترضا - وبطريقة إيحائية - على موقف بجماليون، من خلال وجهة النظر الأخرى التي تعبر عن موقف جالاتيا، وهي تهتف في انفعال صادق: «كل كد جدير بالتقدير»، ومعنى هذا أنه ما دام هناك احتمال ممكن لوجود تفسيرين لجزئية مضمون اتجاهي، فينبغي للناقد أن يتجنب الأحكام النهائية.
وجانب موقفي آخر حين استجابت الآلهة لدعاء بجماليون، فأحالت التمثال الرخامي البارد إلى «جالاتيا» البشرية المتدفقة بالحياة، لقد طلبت جالاتيا الجديدة إلى بجماليون أن يفترق كل منهما عن الآخر؛ لأنها تشفق من ذلك اليوم الذي سيعرض شعرها للشيب ووجهها للتجاعيد، في تلك المرحلة من العمر التي تبهت فيها الصورة الجميلة تحت لفح الشيخوخة، وعندئذ يتعرض وجودها الإنساني - ومن خلال نظرته المتذوقة - إلى الإذلال والهوان. وحين يجيبها بجماليون في فزع، بأنه لا يستطيع أن يتخيل هذا الذي سيحدث، تجابهه هي بهذه القضية الفكرية الناصعة: «لقد لفظت الحقيقة الساعة يا بجماليون. إنني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك، ينبغي أن تفكر أيضا بشيء آخر هو احتمال موتي، وبه يمحي كل أثر لعبقريتك.» لقد عقب الدكتور القط على مضمون هذا الحوار بأنه: «فلسفة مخطئة عن الفن والحياة، مردها تصور المؤلف الحياة كما تتمثل في كائن حي واحد يشيخ ويموت، وإغفاله لحقيقة الحياة الممتدة الباقية من جيل إلى جيل. إن الحياة باقية وكذلك الفن؛ لأنه يستمد منها وجوده، أما الذي يفنى فهو الكائن الحي في نطاق عمره المحدود، وكذلك يفنى الأثر الفني، فما يمنع أن يتحطم التمثال ويعود قطعا لا معنى لها، من العاج أو الرخام؟»
وهذا في رأينا تفسير بعيد عما قصد إليه توفيق الحكيم، إن نقطة الارتكاز في هذه القضية الفكرية، هي هذه العبارة في المضمون الحواري، حين تقول جالاتيا لبجماليون: «إني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك»، والمعنى البعيد الكامن وراء العبارة، هو أن العمل الفني إذا لم يكن من صنع الفنان ومن خلق يديه، فهو عمل معرض للفناء «المعنوي»، بحيث لا يستطيع أن يجد لصاحبه مكانا في سجل الخلود؛ ذلك لأنه منسوب بغير حق إلى صاحبه، وهو من صنع الآخرين، وكل التعبيرات الواردة في الحوار عن الشيب والتجاعيد، وتغير الصورة الجميلة بفعل الشيخوخة وفنائها بفعل الموت، هي في حقيقتها رموز معنوية أراد توفيق الحكيم، أن يصل إليها فوق معبر فني من «مادية» الكلمات.
ونحن مع الدكتور القط بعد ذلك في القسم الثاني من كتابه، حيث خصص هذا القسم للإيجابية بمفهومها الفني والاجتماعي، كما حدده في القسم الأول؛ وهو هنا يسجل أدوار المرحلة الانتقالية، التي مر بها الأدب المصري المعاصر ليواجه الدور الأخير، وهو دور التجاوب مع حركة المد الجديدة، المندفعة إلى ربط الأدب بمشكلات عصره. ويتخطى المؤلف هذا الدور ليصل إلى الساحة النقدية، التي يمكن أن يمارس فيها عملية التطبيق، على أربعة أعمال فنية حاول أصحابها - جهد طاقتهم - أن يربطوها بعجلة الأدب الملتزم. وهذه الأعمال التي اختارها المؤلف كنماذج للمحاولة هي: رواية «أنا الشعب» لمحمد فريد أبو حديد، ومسرحية «غروب الأندلس» الشعرية لعزيز أباظة، ومجموعة من القصص القصيرة بعنوان «السماء السوداء» لمحمود السعدني، وديوان من الشعر هو «أغاني أفريقيا» لمحمد الفيتوري.
أما رواية فريد أبو حديد فقد انعكست على صفحة المرآة النقدية للمؤلف، في تلك الصورة التي رسمنا خطوطها التعبيرية من قبل، حين قلنا إن عدم الإلمام بالأصول الفنية لكتابة القصة، هو في الواقع تضحية بالمضمون الاتجاهي نفسه، حين يقف وحده عاجزا عن عملية حفر عميقة في نفوس الجماهير. وتتكرر الصورة مرة أخرى بالنسبة إلى المضمون الاتجاهي أيضا في مسرحية عزيز أباظة، تبعا لانعدام الوعي بالتكنيك المسرحي أولا، وللحذلقة اللغوية التي يلجأ إليها الشاعر ثانيا، ويشعر معها النظارة بحاجتهم إلى القواميس، ويرغم معها القراء على الرجوع إلى الهوامش الشارحة. ونحن معجبون مع المؤلف بكثير من جوانب الملكة القاصة عند محمود السعدني، وإن كان هذا القصاص الشاب في رأينا، ينقصه التنويع في عرض المستويات النفسية لنماذجه الكادحة، حتى تكون هذه النماذج في جملتها تجميعا صادقا في بؤرة العدسة اللاقطة لنظائرها الحية في المجتمع المصري. وإذا ما اهتم هذا القصاص بعملية التطوير الموقفي للأحداث، لتخرج بعض قصصه من نطاق «الصورة» إلى نطاق «المشكلة» المكتملة العناصر، فليس من شك في أن إنتاجه يصبح كسبا كبيرا للقصة المصرية القصيرة. ولقد أنصف المؤلف شعر الفيتوري وهو في رأينا جدير بالإنصاف.
أزمة الجنس في القصة العربية
أن ندرس العمل الفني من الداخل فتلك هي مهمة الناقد، أما أن ندرس العمل الفني من الخارج فهذه هي مهمة الباحث. وكل من الباحث والناقد - من ناحية التكامل الازدواجي للكاتب - مطلوبان كصفتين بارزتين، في مجال التقييم الحقيقي لمختلف الأعمال الفنية.
إننا ندرس العمل الفني من الداخل، لنحكم على عملية بنائه كتركيب عضوي، ينمو ويمتد من خلال حركة دينامية متطورة؛ وعلى هذا الأساس من توفر عنصر الإيجاب والسلب، نهيئ أول جانب من أركان المعادلة التقييمية للعمل الفني عبر لمسات النقد؛ نهيئه في حدود قطاع واحد هو القطاع الداخلي، ونعني به قطاع الملكة الناقدة، أما ذلك الجانب الآخر من أركان المعادلة، فإننا نهيئه في حدود القطاع الخارجي أو قطاع الملكة الباحثة، إذا ما نظرنا إلى العمل الفني على أنه وليد شرعي، لما يحيط به من عوامل التكوين، تلك التي تتمثل في الدوافع المؤثرة والتيارات الموجهة.
من هنا يتحتم علينا ونحن ندرس في أعمال الآخرين مشكلة من المشكلات أو نبحث ظاهرة من الظواهر، ألا ننظر إلى المشكلة أو الظاهرة، وهي معزولة عن واقعها الاجتماعي وجذورها التاريخية؛ إن هذا العزل لو حدث، لترتب عليه أن يقتصر الكاتب - بطريقة مرغمة - على الرصد التسجيلي الذي ينقصه التفسير والتبرير. إن المشكلة أو الظاهرة نتاج مباشر لعديد من الأوضاع، التي تشكل في مجموعها هيكل مرحلة حضارية متطورة الملامح، ولكنها على التحقيق تستمد الجوهر الأصيل لملامحها - على مدار تجمد الترسيب أو تكيفه - من مراحل أخرى سابقة، هي نقط الانطلاق الأولى لهذه المرحلة الحضارية الممتدة.
من هذه الزاوية يتاح لنا أن نرصد المشكلة، وأن نحدد أبعادها الموضوعية من جهة، وأن نضع أيدينا - من جهة أخرى - على مصادر هذه الأبعاد؛ على المنابع التي تفسر لنا جريان النهر الحياتي للمشكلة، واندفاعه في اتجاه معين، عبر مسالك العمل الفني الرامز إلى مرحلة حضارية. وقد يكون العمل الفني تجسيما لواقع تاريخي يتشابه مع واقع تاريخي آخر، ينشئ بينهما نوعا من التجاوب الفكري والعاطفي في الفن، بحيث ينشئ بدوره نوعا من التكرار لظاهرة اتجاهية محددة؛ يحدث هذا على اختلاف البعد الزمني والمكاني، بين نوعي الأرضية التاريخية التي تدور فوقها الأحداث.
غالي شكري في كتابه الجديد «أزمة الجنس في القصة العربية»، يحقق الكثير من هذا التكامل الازدواجي للكاتب، حين يجمع بين الباحث والناقد على صعيد الرؤية الإدراكية للعمل الفني من الداخل والخارج؛ يحقق هذا الكثير في المقدمة الطويلة، التي مهد بها لبحثه النقدي تحت عنوان: «محور الفن منذ فجر التاريخ» و«تطور مفهوم الجنس عبر العصور»، ثم وهو يطبق اتجاهه المنهجي على مشكلة الجنس في القصة العربية المعاصرة، عند كتابها من أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس، ومحمود البدوي وسهيل إدريس وإحسان عبد القدوس، وعند كاتباتها من أمثال كوليت خوري وليلى بعلبكي وصوفي عبد الله.
أوجه التقصير القليلة في هذا الكتاب القيم، تتركز في بعض المواقف التي ينفصل فيها «الناقد» عن نفسه «كباحث»، ناسيا وهو يجوب العمل الفني من داخل، أثر الهزات الخارجية التي طبعت المضمون الاتجاهي بطابعها الخاص؛ عندئذ نواجه الملكة الناقدة، وهي ترصد الظاهرة أو تضع يدها على المشكلة، دون أن تنفذ إلى ما وراءهما من عوامل خارجية، وجهت خط سير العمل الفني إلى مصير موضوعي محدد.
ونترك المقدمة الطويلة التي مهد غالي شكري لبحثه، لنلتقي بعدها أول ما نلتقي بالبداية الحقيقية لجوهر هذا البحث، وهي: «أزمة الجنس في القصة العربية» إن غالي شكري كباحث يقرر: «إن أي مجتمع حديث يعتبر وليدا لما سبقه من مجتمعات، فالحضارة القائمة في عصرنا هي ابنة العصور الذاهبة، مضافا إليها ما استجد من ظروف التقدم؛ لذلك يتحتم أن نبحث أولا عن جذور تراثنا، قبل أن نبحث أزمة الجنس في القصة العربية الحديثة، فليس من شك أننا ورثنا الكثير من مقومات الحياة المادية والقيم الفكرية القديمة، حتى إنه يلزم لنا أن نغوص في أعماق التكوين الاجتماعي لحضارتنا، منذ اللحظة التي قامت فيها دولة للرقيق، ولعبت الجواري والقيان دورا كبيرا في حياة المجتمع العربي، حينذاك راح الشعراء يصورون العلاقات الإنسانية الناشئة في مثل تلك الدولة، العلاقات الشاذة والطبيعية على حد سواء، وبرزت دلالات جديدة للعلاقة الجنسية، استمدت مضمونها ومحتواها من جوف البنيان الحضاري الجديد.»
بمثل هذا التصور المدرك لقوى الدفع الموجهة لكل واقع حضاري يعيشه مجتمع من المجتمعات، وضع غالي شكري نقطة البدء، ليتخطاها بعد ذلك إلى مرحلة الشواهد والتطبيق؛ لقد استشهد أولا ببغداد أيام الحكم العباسي، ثم بالقاهرة أيام الحكم الفاطمي، في كلتا العاصمتين كان هناك بيوت للإثم ودور للدعارة، تديرها النساء الساقطات بطريقة رسمية تحت حماية الدولة، حيث كانت تجبي عليها الرسوم؛ وفي تلك الفترة - وعلى الأخص في مصر الفاطمية - كانت سهولة الطلاق تغري الكثير من الرجال على أن يتزوج الواحد منهم في عشر سنوات نحو عشرين أو ثلاثين زوجة، وتغري الكثير من النساء على أن تكون الواحدة منهن زوجة لاثني عشر زوجا، حيث تترك هذا لتقترن بذاك. هي إذن تركة ورثها مجتمعنا على مر الأجيال، فما يزال الطلاق منتشرا؛ وما يزال منتشرا كل ما يترتب عليه من نتائج وخيمة عمادها الزنا والبغاء!
وينتهي غالي شكري من هذا التمهيد إلى تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الخيوط الناسجة لثوب الواقع العربي في مختلف أقطاره، وإن تشابهت تقريبا في نوع النسيج، إلا أنها تختلف أحيانا من حيث اللون، حتى لتختلف تبعا لذلك - في نطاق معنى الجنس - السمات الغالبة على الأدب في لبنان، عن السمات الغالبة على الأدب في مصر. وهنا يستشهد الباحث الناقد بقصة امرأة قروية، كانت تمارس البغاء في المدينة للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد، وهي قصة قصيرة عنوانها «المقبرة الدنسة»، ويخرج منها بأنها إذا كانت تعبيرا صادقا للمشاعر، التي تنتاب أهل القرية اللبنانية تجاه امرأة ضلت الطريق، فهي تختلف من حيث الجو، وتصوير تلك المشاعر الإنسانية عن القرية في مصر. ويستشهد مرة أخرى بقصة ثانية لتوفيق عواد عنوانها «الشاعر»، وقصة ثالثة لخليل تقي الدين عنوانها «الإعدام»، على أن المرأة الأجنبية - كخط اتجاه موضوعي من خطوط العمل القصصي - كان لها دور ملحوظ في الأدب اللبناني.
بعد ذلك ينتقل غالي شكري إلى القصة العربية في مصر، ليلتقي «بالفنان الذي أرخ لفجر الرواية المصرية بقصة زينب. نجح الدكتور هيكل في هذه الرواية نجاحا باهرا - إذا لم نغفل العامل الزمني - في أن يرسم ببراعة، الصورة الرومانسية للجنس، وقد صدرت القصة عام 1914؛ أي ذلك التاريخ الذي كانت تعاني فيه مصر أزمتها التاريخية بداية الحرب العالمية الأولى، وكان النظام الإقطاعي المهيمن على أشكال الحياة المصرية، يخيم في الوقت نفسه على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد؛ لهذا كان حامد - بطل قصة هيكل - رمزا لشباب ذلك الجيل المعذب، بين مثله العليا المستمدة من ثقافة الغرب، وبين الأوضاع السيئة السائدة آنذاك في المجتمع المصري». ومن خلال عرض سريع لأحداث قصة زينب، يشير الناقد - وأقول الناقد فقط - إلى أن القارئ لا يعثر على موقف جنس صريح في القصة؛ لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع لم تكن نفسها صريحة، وما نلاحظه في الرواية من أحاديث «عن» الجنس، تكتسي بثوب فضفاض من الحياء والتخفي؛ لأن نظرة العصر والمجتمع إلى هذا الموضوع، كانت هي بعينها نظرته إلى سائر الأشياء: نظرة ضبابية غائمة تحيل كافة المرئيات والعلاقات، إلى ألوان باهتة غير واضحة.
من وراء هذه اللمسات النفاذة نلمح - كما سبق أن قلت - الناقد فقط، الناقد وهو يقف وحده في ميدان يستوجب وجود الباحث، ليفسر الظواهر والمشكلات؛ لقد ظهرت قصة زينب عام 1914، وهي قصة رومانسية، ونحن لا نعثر فيها بوضوح على موقف جنس بعينه، ولقد كانت نظرة العصر والمجتمع إلى هذا الموضوع، نظرة مغلفة بالغيم موشحة بالضباب؛ نحن في حاجة إلى أن نفسر هذا كله، وأن نرده إلى أسبابه ودوافعه، نحن في حاجة إلى الباحث الذي يحدثنا عن طبيعة الوعاء الاجتماعي، الذي استقرت بداخله الظاهرة أو المشكلة، واستمدت تبعا لذلك من استقرارها لون هذا الوعاء.
أدبنا المعاصر في الربع الأول من القرن العشرين، يبدو من خلال النظرة الدارسة والمتأملة، وهو متشح بأثواب الرومانسية تأليفا وترجمة؛ لماذا اندفع أدبنا بالأمس القريب إلى هذا الاتجاه، أو لماذا سار أدباؤنا - والشباب خاصة ومنهم هيكل - في هذا الطريق؟ طريق أدب الحلم والوهم والعاطفية المرهفة، والميل إلى الحزن والتفكير في الموت، والهيام بالطبيعة والإيمان بالغيبيات، والولع بالفروسية والإعجاب بالبطولة؛ كان الاتجاه الرومانسي هو الغالب والمسيطر على اختيار أدبائنا المترجمين، وعلى أذواق الجماهير القارئة التي كانت تقبل إقبالا كبيرا على هذا اللون من الأدب. لقد كان أدباؤنا يترجمون عن الفرنسية في ميدان الأدب الروائي، وكانت أمامهم كل الأعمال الفنية للكتاب الفرنسيين وغيرهم، وهي تمثل مختلف المذاهب والاتجاهات، ومع ذلك نراهم ينبذون الكلاسيكية والواقعية والطبيعية، ويقصرون مختاراتهم المترجمة على الأدب الرومانسي وحده؛ نرى المنفلوطي وهو ينقل لنا «بول وفرجيني» لبرناردين دي سان بيير، و«ماجدولين» لألفونس كار، ثم قصة «في سبيل التاج» التي تمثل البطولة الرومانسية ليهديها إلى «البطل» المصري سعد زغلول. ونرى أحمد حسن الزيات وهو ينقل لنا «رفاييل» و«آلام فرتر» لجيته. ونرى حافظ إبراهيم وهو ينقل لنا «البؤساء» لفكتور هيجو. وفي الاتجاه نفسه يسير الدكتور أحمد زكي، فيقدم «غادة الكاميليا» لألكسندر ديماس، ثم حسن صادق فيقدم «أدولف» لبنجامان كونستان، وعلي أدهم عندما ترجم «رينيه» لشاتوبريان، وكل هذه الأعمال الروائية تمثل الأدب الرومانسي خير تمثيل.
هكذا كان أدبنا في ميدان الترجمة، أما في ميدان التأليف فقد سار في الطريق نفسه واصطبغ بنفس اللون وحمل نفس الشعارات؛ المنفلوطي حين يؤلف محاولا أن يكتب فصولا، يسلك فيها مسلك كتاب القصة يبدو وهو رومانسي مسرف في كتابه «العبرات»، ولعل هذا العنوان الذي اختاره لذلك الكتاب، كان نتاجا تأثريا للنزعة الرومانسية. ومحمد حسين هيكل في قصته «زينب»، يطالعنا ببعض الخصائص الفنية التي نعرفها عن الأدب الرومانتيكي الفرنسي، ومن هذه الخصائص ذلك الهيام بالطبيعة، وهو يتغنى بجمال الريف، وتلك العاطفية المرهفة وليدة الحرمان في قصة حب بريء، وتلك الشاعرية الأسلوبية الناتجة عن الإغراق في الخيال. ولا ننسى إيمان بطل القصة بالغيبيات حين يلجأ - ليطهر روحه من أدران الإثم - إلى أحد مشايخ الطرق، وأن البطلة قد مرضت بالسل وماتت على طريقة غادة الكاميليا لألكسندر ديماس.
وشباب الشعر في ذلك الحين - علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمد عبد المعطي الهمشري - لا نكاد نسمع منهم إلا نغمات حزينة وملتاعة؛ نظرتهم إلى الوجود كانت من خلال منظار قاتم، تذوقهم للحياة كان مغلفا بالضيق والكآبة والشكوى والشعور المرير، وهم في النهاية ككل الرومانسيين الصادقين يهربون من قسوة الواقع إلى رحمة الخيال، ولا يجدون ملجأ إلا في رحاب الطبيعة، الأم الحانية التي تمثل الواحة الظليلة لكل المكتوين بلفح الهجير. وما أكثر الكلمات التي تطوف في شعرهم حول الموت؛ الموت الرومانتيكي المتركز في الشعور بالهزيمة أمام عدو قاهر هو الحياة.
مجتمعنا المصري في الربع الأول من القرن العشرين، مسئول عن صهر الكاتب والشاعر في بوتقة المشاعر الحزينة والنظرة القاتمة، لقد كانت المحنة على التحقيق محنة المثقفين، أولئك الذين كانوا يعرفون عن طريق الثقافة والاطلاع والوعي أن مجتمعهم تسيطر عليه قوى قاهرة، لا ميل لهم بمقاومتها والوقوف في وجهها. كانت هناك قوى الرجعية والاستعمار والإقطاع، وطغيان الملكية وسيطرة التقاليد العتيقة. ومعنى هذه القوى الباطشة بالنسبة إلى المثقفين - وما كان في تلك الفترة - معناها الحرمان من حرية الرأي والسلوك والعقيدة والمقاومة، والشعور الطليق بالحياة. من هنا امتلأت نفوس المثقفين بالحزن، وتذوق وجودهم طعم الموت، فمضوا يمضغون أشجانهم في الشعر، ويجترون آلامهم في القصة، ويعبرون عن هزيمتهم في حدود المشاعر الفردية. ومن هنا - كما سبق أن قلت - هربوا من قسوة الواقع إلى رحمة الخيال؛ إلى هذا الأدب الرومانسي الذي كان انعكاسا مباشرا لشعورهم بوطأة الجو الخانق الذي يعيشون فيه، والذي كان تقليدا اتجاهيا للأدب الرومانتيكي الفرنسي، الذي قرءوه وترجموه وتأثروا به. وكما تأثر هيكل في قصة «زينب» بقصة «غادة الكاميليا» لديماس، فقد تأثر علي محمود طه في بعض أشعاره الأولى بنتاج الشعراء الرومانسيين الفرنسيين. ومن الطبيعي - تبعا لهذا التأثر أو ذلك التقليد - أن يجيء الحب في قصة هيكل حبا بريئا مطهرا من الإثم، كما شاءت له الرومانسية أن يكون، وقد كان كذلك في شعر علي محمود طه الأول. هذا جانب من تفسير الظاهرة، ويبقى جانب آخر، هو سيطرة التقاليد العتيقة داخل الأسرة والمجتمع في ذلك الحين. لقد وضعت تلك التقاليد على وجه المرأة حجابا حتى لا يراها الرجل، والواقع أنها لم تحجب بذلك رؤية الرجل البصرية للمرأة، وإنما حجبت في الوقت نفسه رؤيته العقلية والوجدانية، تبعا لتلك القيود الصارمة التي وقفت كجدار فاصل بين الشباب من الجنسين. من هنا - وحفاظا على حرمة آداب المجتمع وتقاليده - خفت صوت الجنس في القصة المصرية الأولى والشعر المصري الأول، واكتسى كما يقول غالي شكري - دون تفسير - بثوب فضفاض من الحياء، واكتسب تلك النظرة الضبابية!
ونمضي مع غالي شكري بعد ذلك، وهو يتابع الخط التطوري للقصة المصرية، عند روادها من أمثال محمود طاهر لاشين وعيسى عبيد؛ لنقفز إذن خمسة عشرة عاما بعد ظهور «زينب»، لنلتقي بمحمود طاهر لاشين، سنفاجأ بأن النظرة الرومانسية في الحياة والأدب على السواء بدأت تنقشع، لكن المفاجأة تصبح غير ذات موضوع، لو تتبعنا الخطوات التاريخية الرائعة التي نقلت المجتمع المصري - بعد ثورة 1919 - إلى مرحلة حضارية جديدة. إن السنوات التي بدأت بفشل الثورة الوطنية أخذت تشحن النفوس بقوى إيجابية جديدة، وفدت مع ثبات أقدام الطبقة المتوسطة، وبزوغ سلطانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صاحبت هذه الطبقة نظرة جديدة للحياة والإنسان والمجتمع، انعكست على آداب تلك الفترة وفنونها، ولنستعرض - على سبيل المثال - أقاصيص المجموعة الثانية لطاهر لاشين؛ المسماة ب «يحكى أن»، فنرصد الموضوعات التي طرقتها وأشكالها التعبيرية، لنحصل في النهاية على «اهتمامات العصر» ونظرة المجتمع إليها:
قواد يتظاهر بأنه من الأعيان وأنه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.
الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل، تتزوج من نصاب يبدد أموالها.
ونمضي مع المؤلف مرة أخرى، مع لمساته التفسيرية الباحثة، وهو يتعرض لقصة «حديث القرية» لطاهر لاشين، وقصة «مأساة قروية» لعيسى عبيد. لقد كانت القرية هي الأرضية الفنية التي اتخذت كمسرح للأحداث في قصص هيكل وعبيد ولاشين، ولعب فيها المعنى المتطور للجنس دوره الملحوظ. ما سر تلك العناية المفرطة بالريف آنذاك، ولماذا اختفى شبح المدينة فلا يكاد يلقي ظلاله على أحداث القصة المصرية عند هؤلاء الرواد؟ يرد غالي شكري على هذا التساؤل بأن «المدينة بشكلها الحضاري الجديد في ذلك الحين، لم تكن حفرت في وجدان الأدباء إحساسا عميقا بمشكلاتها وقضاياها؛ ذلك لأن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبلما يصبح تكوينا متكاملا يدعي المدنية؛ ولعل توفيق الحكيم هو أول من أدرك هذا المعنى الجديد، فروايته «الرباط المقدس» - التي صدرت عام 1944 - قد أوضحت شعوره الحاد بالتمزقات الملتاعة، التي رافقت ذلك التكوين الحضاري الوافد.»
ونمضي مرة ثالثة مع غالي شكري، وهو يخرج بنا من أزقة القرية إلى شوارع المدينة، هناك حيث نواجه أول ما نواجه، كاتبنا الروائي الأول نجيب محفوظ؛ نواجهه في «السراب» وفي «خان الخليلي» و«القاهرة الجديدة»، و«بداية ونهاية» وثلاثية «بين القصرين»؛ وسنوافق المؤلف على بعض آرائه وسنختلف معه في بعضها الآخر، وعلى الرغم من ذلك تبقى حقيقة يسجلها له النقد، وهي أنه قد بذل جهدا ملموسا في قراءة نجيب محفوظ وفهمه وتمثله، ومحاولة النفاذ إلى أغوار شخصياته الفنية، على ما فيها من كثرة التعقيد وتشابك العلاقات.
في «الثلاثية» مثلا ينحصر مفهوم الجنس - تبعا لاختلاف الفهم والنظرة وتطور المجتمع - بين شخصية أحمد عبد الجواد الأب وياسين الابن الأكبر وكمال الابن الأصغر وأحمد شوكت الحفيد. الأب يضعه غالي شكري تحت المجهر ليكشف لنا عن الجزئيات الدقيقة المكونة لوجهة نظره العقلية والذوقية، بالنسبة إلى وضع المرأة الاجتماعي في عصره. لقد كانت وجهة نظره لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر المجتمع العبودي الأول، يوم أن كانت المرأة «شيئا» مسلوب الإرادة، «سلعة» تشترى حيث توجد القدرة على الشراء. لقد كان أحمد عبد الجواد في رأينا يتعامل عقليا مع الزوجة بنفس المستوى الذي يتعامل به مع العشيقة، كلتاهما «جسد» مشبع وشهوة عابرة، ولا يمنع من هذا أن يختلف الجسدان من حيث الوسيلة الغائية، حين تكون هذه الوسيلة هنا إشباع الرغبة وتكون هناك إنجاب النسل! وياسين الابن صورة مجسمة عن أبيه، وإن اختلفت الصورتان في بعض الخطوط. ولا بد من وقفة مع المؤلف؛ لأنه ينكر - من خلال وجهة نظر إصرارية - أن ياسين «شخصية موروثة»؛ الواقع أنه شخصية موروثة إذا ما قيمناه على ضوء السلوك الحركي الرامز إلى تكوينه النفسي، ذلك التكوين الذي يعد وليدا لاتجاه مذهبي يهدف إليه في فنه نجيب محفوظ، إنه اتجاه المذهب «الطبيعي» الذي يخطط الشخصية الإنسانية سيكولوجيا، على مدار عاملين رئيسيين هما البيئة والوراثة.
لقد كان ياسين ابن بيئته كما كان ابن أبيه مرة وابن أمه مرات؛ ابن بيئة الطبقة الوسطى المحدودة الثقافة، التي يتفق مستواها التقييمي للمرأة مع مستواها العقلي - أقصد مستوى هذه الطبقة - المتجمد حيال مفهوم الحياة؛ وابن بيئة الطبقة الوسطى من التجار، حيث تتركز النظرة إلى أكثر الأشياء - ومن بينها المرأة - على أنها سلع عامة لا تصلح لغير الاستهلاك. هو ابن بيئته عبر هذا التفسير المستمد من حركات السلوك الإرادي والسلوك الفاقد للإرادة، وهو ابن أبيه حين يرث عن هذا الأب أكثر مقومات التذوق الجسدي للمرأة، بكل ما فيه من ضراوة الشهوة واندفاع الغريزة وتصارع النزوات. وهو في النهاية ابن أمه في علاقاته الجنسية المنحطة التي يهبط فيها الذوق ذلك الهبوط البشع في مجالات الاختيار؛ لقد عرفت أمه هذا اللون من العلاقات وطلقت بسببه من أبيه، واستمرأت ذلك التمرغ في الوحل بعد الطلاق. وياسين ثمرة أنضجتها الوراثة من تلك الشجرة، كان يترك الزوجة الجميلة ليرتمي - مرة بعد مرة - في أحضان الخادمات الدميمات، وتبعا لهذا الدرك الأسفل من الارتباطات الجنسية الهابطة، لم يستطع ياسين أن ينعم يوما بحياة زوجية مستقرة!
ونعود بعد ذلك إلى كمال لنراه من وراء المنظار، الذي اختاره غالي شكري للرؤية النقدية ... إن كمال - على النقيض من ياسين - لا يضع العلاقة الجنسية في مكانها الطبيعي، بل يتجاهلها تماما، فيبدو «مشوها» في تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي؛ يبدو هذا في عزوفه المطلق عن الزواج، وفي خطواته الوجلة المتعثرة نحو بائعات اللذة، وفي الحركة الميكانيكية الصماء، التي يمارس بها هذه العلاقة. ويفقد «الجنس» قيمته الحقيقية بعدما أكسبه كمال قيمة رومانسية، كما أكسبه ياسين وأحمد عبد الجواد من قبل، قيمة إقطاعية!
أما أن كمال قد أكسب الجنس قيمة رومانسية فهذا صحيح، ولكن كلمة «مشوه» بالنسبة إلى تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي، تبدو لنا وهي تعبير غير دقيق، فليس كل عازف عن الزواج يعتبر تركيبة نفسية مشوهة، وعلى الأخص إذا كان واحدا من هذا النمط الذي ينتسب إليه كمال، ويرتبط بقيم ثقافية معينة؛ قد يكون العزوف بالنسبة إلى المثقفين موقفا من المواقف إزاء الحياة الزوجية، أو خطا من خطوط الاتجاه العقلي في لقاء الوجود. إن سيمون دي بوفوار مثلا في كتابها «قمة أيام العمر»، تفسر لنا لماذا اتجهت عقليا إلى أن تكون - بالنسبة إلى سارتر - رفيقة فكر وليست رفيقة حياة، أو لماذا قررت ألا تكون زوجة يترتب على ارتباطها به أن تنجب عددا من الأبناء. إن الوجود في رأيها مزيج من العبث، وهي لا تريد - كما تقول - أن تشارك عن طريق الزواج والنسل، في مشكلة التكثيف الكمي لهذا العبث!
هي وجهة نظر عقلية وليست تشويها في التكوين النفسي. وبالنسبة إلى كمال - كواحد من المثقفين في جيله، ومن خلال التخطيط النفسي لشخصيته - ينصب عزوفه عن الحياة الزوجية في قالب من التعبير الموقفي عن وجهة نظر خاصة، قوامها أن الزواج بأعبائه ومسئولياته يحيل حياة الفرد إلى «عملية حسابية»؛ وعندما تتحول الحياة إلى عملية حسابية تصبح وهي شيء لا يطاق! وعندما نذكر في مجال معنى الجنس إشارة المؤلف إلى خطوات كمال المتعثرة نحو بائعات اللذة، والحركة الميكانيكية التي كان يمارس بها العلاقة الجنسية، يتمثل لنا كمال وهو تركيبة نفسية «مأزومة» وليس تركيبة نفسية «مشوهة»؛ لقد كان وجوده الداخلي ميدانا رحبا لعديد من التيارات الانعكاسية المتصارعة، تلك التيارات التي كانت تصنع أزمة المثقفين في جيله؛ لدينا صراعه الطبقي مع «عايدة»، ضياعه الاجتماعي كمثقف، انحلال المجتمع من حوله، سخطه - كمرتبط بحزب الأغلبية الشعبية في بلده - على حكم الأقليات الذي كان يسانده الاستعمار والقصر؛ كل تلك الجذور الرهيبة التي استقرت في تربة نفسه، وتفرعت منها امتدادات وجوده، هي المسئولة عن كل جوانب وضعه الإنساني المتأزم. من هنا كان التعثر في إقباله على المتعة الجنسية، ومن هنا كان الشعور الأصم في لقاء المرأة؛ لأنه إقبال الملول وشعور المهزوم، ذلك الذي يريد أن يفرغ طاقة السخط الحسية في كأس من الخمر أو نزوة من الجسد، وهو في كلتا الحالتين هارب من نفسه هنا وهناك!
مواقف قليلة كما سبق أن قلت، تلك التي يقف فيها غالي شكري «ناقدا»، يرقب العمل الفني من داخله، ناسيا نفسه كباحث يجب أن يتخذ من الواقع الخارجي للظاهرة أو المشكلة، مادته الفنية اللازمة للتفسير والتبرير، ومع ذلك فما أكثر المواقف التي تواجهنا وفيها الباحث والناقد، ومن ورائهما مستوى لا ينكر من الفهم الناضج؛ ولنأخذ مثلا ثالثا في أحمد شوكت، نراه حاسما عندما انسحبت فتاة «المعادي» من حياته، لم يذب عمره في لحن جنائزي طويل، بل راح يبحث عن وجوده مع شريكة كفاحه في المبدأ والعمل؛ وكان الزواج إكليلا رائعا فوق هامتيهما، كان طريقا طبيعيا لبقية العلاقات الطبيعية الأخرى، حيث يصبح الجنس - لأول مرة - قيمة حقيقية في مستواها ونوعيتها، القيمة التي تطلب من نجيب محفوظ أكثر من ألف صفحة، ليرسم مقوماتها الضرورية ومعالمها الرئيسية، فتستمد دلالتها الإنسانية من طبيعة التكوين الاجتماعي لكل من أحمد و«سوسن»، القائم على أساس وطيد من المساواة الاجتماعية، التي تتولد عنها بالضرورة المساواة النفسية.
ولننتقل من «الثلاثية» إلى «بداية ونهاية» لنلتقي بغالي شكري، وهو يطوف بنا حول شخصية نفيسة مستخرجا لنا - من رسم نجيب محفوظ - أدق ملامحها النفسية: «وتنعكس مأساة الأسرة على هذه الفتاة، التي نكبت بوجه دميم وجسد يغلي، فلم يكن أمامها طريق أفضل من أن تدفن دمامتها في صدر كل رجل يستطيع أن يدفع غائلة الفراغ عن أمعائها وبطون إخوتها، ولا تعنيه الدمامة في غمرة ذهوله الحسي بين ثنايا جسدها. لم تكن دمامتها هي «العامل الحاسم» في سقوطها، فالسقطة الأولى في حياتها كانت احتجاجا لا واعيا على دمامتها، أرادت أن تؤكد ذاتها وتحقق وجودها، قبل أن تعي تلك الذات وهذا الوجود؛ لقد تطورت بها الحال من «تحقيق الذات» إلى مرحلة خطرة، إلى تلك الساعات التي تذهل فيها عما يدفعها إلى تسلية نفسها من دواعي اليأس والفقر؛ هنالك تنسى كل شيء إلا الرغبة المحرومة الجائعة، فتمثل بنفسها أفظع تمثيل. ولعلني لم أصادف أبشع - وأروع - من هذا التصوير لامرأة تجمدت خلايا ذهنها وقلبها ونفسها في بقعة دموية ذاهلة تدعى الجنس. لقد وصلت نفيسة إلى قمة تعاستها، فمن حيث أرادت تحقيق ذاتها، تلاشت هذه الذات وفنيت، وفقدت إحساسها بالوجود والحياة، حتى الشعور باللذة مات معها، وتحولت بقسوة إلى قطعة من لحم الأميبا؛ لأنها بعيدة الشبة عن ذكر النحل، الذي يستشهد فور أدائه للوظيفة الجنسية. إنه أفضل منها لأنه يحيا سعادته إلى أقصى حد ممكن، ثم يستشهد رغم أنفه، أما هي فقد أصبحت «رغبتها المحرومة الجائعة» عجلة قيادة تسرع بلا سائق!»
لماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس، ويهدف عامدا إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ، كما يفعل غيره من الكتاب بغية الرواج، أم أن له اتجاها معينا يتسم بالمنهجية التي يلتزمها كلون من ألوان التعبير عن وجوده العقلي؟ غالي شكري يرد على هذا التساؤل رد الباحث المقنع: «إن منهج نجيب محفوظ في التفكير يرى العلاقات الاجتماعية جميعها مترابطة بخيط واحد، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، ولا يمكن رؤيتها الواحدة بمعزل عن الكل؛ لأن العلاقة في مفهومها تتحدد بالضرورة والحتمية مع بقية العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كإفراز طبيعي للمجتمع، يتلون بلونه ويتشكل في قالبه ويتسم برائحته؛ لذلك يمضي الجنس في أعماله في مؤازرة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية. ونجيب محفوظ في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» بذل جهدا رائعا في أن يتجه بلوحاته الإنسانية إلى ذلك المنهج العميق. فلقد رأيناه يطرح للمناقشة الجادة، قضية هذه الفئات السفلى من الطبقة المتوسطة في مصر، ثم يتتبع تشابك علاقات أفرادها وتعقد الحياة من حولها، فإذا انحدرت بأحدهم علاقة ما - كالجنس - إلى الحضيض، فلأن كافة العلاقات الأخرى لا ترتفع عن مستوى التراب، وهنا يتألق منهجه في التعبير إذ هو يتخير بإحساس مرهف وشفافية، الزاوية النموذجية للكشف عن جوهر الحدث أو الشخصية أو الموقف الدرامي.»
بعد نجيب محفوظ أحب أن ألتقي - عند غالي شكري - بكاتب القصة القصيرة يوسف إدريس. في نطاق معنى الجنس يجد القارئ نفسه - أول ما يجد - أمام «أرخص ليالي»، أحد الأعمال الفنية المحلقة سواء في الشكل الفني أو المضمون الاجتماعي. في هذه القصة يضع يوسف إدريس يده على المأساة الحقيقية للقرية المصرية أو الريف المصري، يشير إلى المشكلة ويحرث الأرض من حول جذور المشكلة، حتى يعرض مكمن الداء لمختلف أنواع الرؤية؛ كل هذا في بضع صفحات يمكن أن تكون نقطة ارتكاز جوهرية لباحث اجتماعي، إذا ما حاول أن يرى القرية المصرية من خلال دائها الأصيل وعلتها المزمنة. القصة في كلمات، تعرض لنا مشهد إنسان قروي، يقع في حيرة متصلة، مصدرها البحث عن وسيلة من وسائل الترفيه يقضي بها ليلته، انتهى من صلاة العشاء في المسجد وبدأ يفكر، استعرض أكثر من طريقة وخطرت له أكثر من فكرة، ولكن كانت هناك عقبة تسد منافذ الطريق أمام وسائل التنفيذ؛ إن قتل الفراغ والعثور على مصدر من مصادر التسلية يحتاج إلى بضعة قروش، لا يملك هذه القروش القليلة. المهم عنده كيف يقضي ليلته؟ كيف يقضي على هذا الملل الذي يتسرب إلى داخله وينفذ إلى أغوار نفسه؟ وأخيرا، وعندما عجزت منه كل حيلة، لم ير عبد الكريم بدا من أن يعود إلى بيته؛ وهناك لم يلق غير زوجته، وكانت نائمة، حتى في بيته لم يجد رفيقا يؤنسه، وينقذه من وحش الملل الهائل الذي يريد أن يفترسه؛ إنه يريد أن يهرب من الوحش بأية وسيلة، أن يجد ملاذا يأوي إليه؛ كان مرغما على البحث عن هذا الملاذ، ولقد وجده - تحت ضغط الإرغام - في لقائه مع زوجته، هناك بين ثنايا الجسد. وبعد شهور، وكما تنتهي القصة، كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر!
لا شك في أن يوسف إدريس - من وراء المضمون العام لقصته - يريد أن يقول لنا شيئا، يريد أن يوصل إلينا فكرة، أن يكون له هدف يسعى إليه؛ فمن أي الزوايا نظر غالي شكري إلى مغزى الفكرة التي يريد أن يوصلها إلينا يوسف إدريس؟ إن الزوايا التي اختارها للرؤية تتلخص في أننا: «لن نستقبل الولد الجديد بفزع كما يتوهم الكاتب، بل إننا نستقبل تجربة الأب بفيض من التساؤلات، حول الأزمة الضاربة المحكمة حول عنق الإنسان الكادح في بلادنا، وكيف أن شبحها يظلل كافة المنافذ أمامه بالسواد، فلا تعود عيناه تريان ومضة نور؛ وإنما تصبح حياته نسيجا داكنا من الذل والفاقة والعلاقات غير الإنسانية، حتى إن العلاقة بين الرجل والمرأة، تصبح تعويضا عن الملل، وتعبيرا قاسيا عن أنه لا يوجد شيء آخر؛ إنه الضياع الجنسي ربيب الضياع النفسي، وكلاهما نتاج الضياع الاجتماعي. والجانب الفكري والاجتماعي لمعادلة يوسف إدريس، هو الاهتمام بالطبقات الشعبية اهتماما إنسانيا، يتعاطف مع قضاياها في الحياة، وإن ما نراه من شرور وآثام في سلوك أبناء هذه الطبقات، ليس إلا نتاجا للأنظمة الاجتماعية السيئة!»
هذا فهم جيد لجوانب الفكرة التي يرمي إليها يوسف إدريس، ولكنه - على هذا المستوى الذي أشرنا إليه - فهم للجوانب ويبقى بعد ذلك الجانب البعيد؛ إننا يجب أن نخالف غالي شكري ونستقبل الولد الجديد بفزع، الولد السابع في حياة فلاح فقير، لا يجد بضعة قروش يقضي بها ليلته؛ إننا هنا أمام ظاهرة الكم العبثي على حد تعبير سيمون دي بوفوار، وإن كانت العبثية بالنسبة إلينا تنحصر في معنى المجتمع ولا تنحصر في معنى الوجود. الريف المصري مشكلته الأساسية هي الفقر والجهل والمرض، مرتبطة بعضها ببعض، ارتباط ثالوث محكم متداخل الحلقات ... إن الأبناء في الريف نسخ مكررة من الآباء، يعيدون دورة المشكلة من جديد حين يكبرون فلا يجدون غير الفراغ، ولا يجدون غير العلاقة الجنسية كوعاء يصبون فيه هذا الفراغ، ومرة أخرى يكثر الإنجاب ويتعدد النسل وتتضخم المشكلة؛ مشكلة الفقر والجهل والمرض. هنا مفتاح القضية التي يعالجها يوسف إدريس في ثنايا المضمون العام لقصته، إنه - كما سبق أن قلت - يحرث الأرض حول جذور المشكلة، ليقع مكمن الداء تحت أضواء الرؤية، رؤية الإصلاح الاجتماعي إذا أريد له أن يكون.
من «أرخص الليالي» وهي بداية الإنتاج الفني ليوسف إدريس، ينقلنا غالي شكري إلى قصة «العيب»، وهي أحدث مراحل هذا الإنتاج؛ وفي رأيه أن كل ما هناك من فروق بين القصتين، يتركز في أن القصة الأولى - حين ظهرت - كانت دفعا ثوريا للقصة القصيرة، وأن القصة الأخيرة لم تضف شيئا جديدا في مجال النظرة التعبيرية والفكرية إلى التجربة المبكرة. ويمضي غالي شكري فيقدم إلينا تلخيصا موجزا لقصة «العيب»، التي تتناول الخطيئة كثمرة أنضجتها أوضاع المجتمع الخاصة في «المدينة»؛ فتاة تعمل في إحدى المصالح الحكومية، تفاجأ بجو موبوء عماده الرشوة وفساد الذمم بين زملائها من الموظفين، ويثور ضميرها وتحاول أن تبقى نظيفة، ولا تتيح لهذا الجو الملوث أن يمتد إلى وجودها النفسي، مهما تعددت وسائل الإغراء. وتصمد الفتاة فترة من الزمن أمام العروض المغرية من أحد زملائها الموظفين، بأن تتنازل عن ضميرها - ولو مرة - وتنضم إلى الزمرة الفاسدة. تصمد على الرغم من الوضع المؤلم الذي تعرض له شقيقها في المدرسة، حين لم يستطع أن يواصل الدراسة عجزا عن سداد المصروفات. ومع ذلك فإن صمودها لم يستطع أن يصمد حتى النهاية: موقف أخيها من ناحية، وإغراء المال من ناحية أخرى، وعين الذئب التي كانت تخدرها من ناحية ثالثة، وتشتهيها كأنثى ناضجة. وأخيرا تسقط «سناء» أمام ضغط الحاجة وبريق الذهب. وفي لقطات واعية يناقش غالي شكري مضمون القصة عبر ما فيها من معنى الجنس: «التجربة عند يوسف إدريس - تجربة الفتاة التي تدخل مصلحة «رجالي» لأول مرة في تاريخ هذه المصلحة - هي تجربة أصيلة وبنت مجتمعنا، بالإضافة إلى أنها تسجل إحدى المراحل الهامة في تاريخنا الاجتماعي. ولقد اكتفى يوسف إدريس في تعبيره الوجداني عن هذه المرحلة، بأن القديم ما يزال قويا وأنه يستطيع أن يغتال الجديد. وهذا صحيح، ولكن الأزمة الحقيقية ليست كامنة في عملية الاغتيال هذه؛ وبالتالي ليست كامنة في مئات الظروف الشاقة المريرة المحيطة بالموظفين عامة، وسناء خاصة؛ إن سقوط إحدى القلاع في ذات الإنسان كقبول سناء للرشوة مثلا، لا يعني مطلقا سقوط بقية القلاع، فتفرط في شرفها مرة واحدة. إن مجموعة القيم عند الفرد والجماعة موغلة في التشابك حقا، ولكنه تشابك معقد، بحيث لا نستطيع أن نجمع هذه القيم على قماشة بيضاء، إذا رفعها الإنسان في لحظة ضعف، رفعت بأكملها، وإذا أبقى على واحدة منها، أبقى على الكل. وهذا هو ما يجعل قصة يوسف إدريس، تبدو كما لو أنها كتبت بخطة عقلانية مسبقة!»
ويمضي غالي شكري في استعراض عدد آخر من قصص يوسف إدريس، نترك مراجعته للقارئ أو لغيرنا من النقاد.
وينتهي بنا المطاف إلى رائد من رواد القصة القصيرة في مصر، هو يحيى حقي؛ كيف ينظر هذا القصاص إلى معنى الجنس في أدبه؟ غالي شكري يرد بأن الجنس في مرآة يحيى حقي الفنية، يتجلى لنا وهو قوة ذاتية دافعة، ولكنها ليست القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني، وبذلك يختلف مع فرويد وأنصاره من الأدباء والفنانين، حين يجعلون من الجنس محورا اتجاهيا لهذا السلوك؛ بعد ذلك يتناول قصة «احتجاج» من مجموعة «أم العواجز»، كواجهة عرض تطبيقية لوجهة نظره الناقدة؛ بطلة القصة «بمبة» عانس في الأربعين، تعمل خادمة عند أسرة يرثها أفرادها جيلا بعد جيل، فهي من هذه الناحية - ناحية لقمة العيش - مطمئنة إلى أن في حياتها لونا من الضمان، بالنسبة إلى الحاضر والمستقبل، هي إذن لا تفكر إلا في ذلك الشاب، الذي استأجر دكانا أسفل البيت، وبدأ يداعبها وتداعبه، تلمس جسده أحيانا في شغف، وتثور ثورة عارمة حينما يتعرض أفراد الأسرة لشخصية الأسطى حسن، ويشير كل منهم إلى حاجته لبنت الحلال التي تصلح زوجة له. وحين لم يرد اسمها على لسان أحد منهم، تصيح في غضب هائج: «يعني إيه ... تأخذوا الجدع من إيدي؟!»
ما هو جوهر السلوك الحركي لتلك العانس حيال ذلك الشاب؟ إنها عند غالي شكري «لا تعبر عن ضراوة الجنس تعبيرا ضاريا أو وحشيا؛ لأنه لا يتوسد في خفاياها نتيجة أزمة طارئة أو عابرة؛ لقد أمسى مع السنوات الأربعين رمزا للحياة نفسها، ليس رمزا خياليا؛ إنه يموج بالرغبة الدافعة لخلاياها، أن تستصرخ الضمير الاجتماعي حقها في الحياة. ولم يعد هذا الحق هو ارتفاع مستواها المعيشي، فأعصاب وعيها الاجتماعي ماتت مع المستوى الراهن؛ ولم يبق لها سوى أعصاب الجنس التي تختلج لمرأى حسن، كما كانت تختلج في ليالي الزفاف مع بنات الأسرة!»
هذا التفسير لا يتفق - من ناحية التطبيق - مع ما نادى به غالي شكري، من أن الجنس في فن يحيى حقي، ليس هو القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني؛ لأننا هنا بالنسبة إلى سلوك العانس - ومن خلال تشريح المؤلف لمنابع ثورتها العصبية - لا نكاد نجد دافعا واحدا لتلك الثورة غير دافع الجنس؛ نحن أمام «أنثى» تثور طلبا «للرجل»، ولسنا أمام امرأة تهدف إلى العثور على زوج يكفل لها ضمان العيش؛ لأنها - في ظل تلك الأسرة - مطمئنة كما قلنا إلى الحاضر والمستقبل؛ ولأنها - من جهة أخرى، وكما أقر بذلك غالي شكري - لا تفكر في ارتفاع مستواها المعيشي؛ لأن أعصاب وعيها الاجتماعي قد ماتت؛ لم يبق لها باعتراف المؤلف سوى أعصاب الجنس، وعندما لا يبقى للإنسان - في مثل هذا الموقف - غير نوع واحد من الأعصاب، يصبح هذا الدافع الوحيد هو المحور الحاسم في توجيه انطلاقات السلوك؛ هنا شقة خلاف بين الوجهة النظرية وبين التطبيق!
بعد هذا يعود غالي شكري فيعرض عددا آخر من قصص يحيى حقي في مجموعته «دماء وطين»، ويمضي في طريقه إلى محمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار، وسائر من طاف حولهم من كتاب القصة، هو هو بمنهجه الفكري والتعبيري، الذي قدمناه إليك في ثنايا هذا المقال، ولك أن تتبع هذا المنهج فيما بقي من فصول الكتاب، فحسب الناقد أن يقدم لك إنتاج الآخرين من خلال العرض الكيفي لا الكمي لهذا الإنتاج.
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
«اللص والكلاب» - آخر عمل فني لنجيب محفوظ - هل نضعه في خانة القصة القصيرة الطويلة
Long Short Story ، أم نضعه في خانة الرواية القصيرة
Short Novel ؟ أكثر الذين تناولوا هذا العمل بالتحليل والنقد، أجمعوا على وضعه في الخانة الأولى، خانة اللون المطول من القصة القصيرة. من هنا - ومن وجهة نظري الخاصة - أراني مضطرا إلى مخالفة هذا الإجماع، والخلاف بعد ذلك يستند إلى المقاييس النقدية، إذا ما وضعنا هذه المقاييس بالنسبة إلى العمل الفني موضع التطبيق.
حجة الذين قالوا عن «اللص والكلاب» إنها قصة قصيرة طويلة، أن مجرى الأحداث فيها يسير في خط واحد، يشمل حياة البطل من البداية إلى النهاية. صحيح أن خط السير الواحد الذي تنبثق منه الأحداث والمواقف بالنسبة إلى الشخصية المرسومة، هو السمة الرئيسية للقصة القصيرة؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى القصة القصيرة، على أنها قطاع حي من قطاعات الحياة، فهو بلا شك ذلك القطاع الطولي الممتد الذي يقدم إلينا التجربة المعاشة، من خلال مجموعة متلاحقة من اللحظات الزمنية والنفسية، تتركز حدثيا وموقفيا في اتجاه واحد.
وعبر الرؤية النقدية ونحن في مجال التحديد والمقارنة، نستطيع أن نشبه القطاع الطولي الممتد - وهو عماد القصة القصيرة - بالمجرى الرئيسي للنهر، حين يندفع إلى الأمام وحده بغير روافد، بغير تلك القطاعات العرضية التي تصب في المجرى وتكتنفه، وتضاعف من قدرته على التدفق. الفارق الفني بين القصة القصيرة والرواية القصيرة يتمثل في تلك الروافد، في تلك القطاعات العرضية التي تقوم بدور التكثيف والتعميق وتوليد طاقة الاندفاع. هناك - أعني في القصة القصيرة - مسار واحد للأحداث والمواقف، وهنا - أعني في الرواية القصيرة - مجموعة مسارات تبدو عبر رؤية النقد، وهي موزعة من الناحية الاتجاهية بين الطول والعرض. هذا المسارات لا يمكن أن تجدها مثلا في قصة «لعبة الشطرنج» أو «رسالة من امرأة مجهولة» للكاتب النمساوي ستيفان زفايج؛ لأن كلتيهما تدخل في خانة القصة القصيرة الطويلة، وتمثل خط السير الواحد لنمو التجربة التي تعيشها الشخصية.
إذا رجعنا إلى «اللص والكلاب» بعد هذا التحديد فماذا نجد؟ نجد شخصية رئيسية مأزومة هي شخصية سعيد مهران؛ الأحداث والمواقف كلها تعبر عن أزمته، تعبر بحركة الوجود الداخلي وحركة الوجود الخارجي، على مدار التفاعل المشترك بين تأثرية الشعور ومادية السلوك. وعلى امتداد القطاع الطولي الذي يعرض لنا الملامح الوجهية لأزمة البطل، أو المجرى الشعوري والسلوكي لنهر حياته المندفع في صخب الضياع والتمرد، يلوح لنا على جوانب النمو عدد من القطاعات المستعرضة؛ عدد من الروافد المكثفة لأزمة سعيد مهران.
لقد كانت أزمة البطل منذ البداية، نابعة من تنكر الابنة وخيانة الزوجة وغدر الصديق؛ سناء ونبوية وعليش، هم صناع هذه التركيبة النفسية المأزومة لبطل القصة، ومن الممكن لو أردنا لرواية «اللص والكلاب» أن تكون قصة قصيرة، أن نمضي بالأحداث والمواقف في حدود خط طولي واحد، يسير في اتجاه تلك الشخصيات، ولكن العمل الفني خرج عن هذه الحدود إلى حدود أخرى جانبية، ليصل بنا إلى مرحلة معينة من التكثيف النفسي لأزمة البطل؛ ومن هنا تكتسب «اللص والكلاب» أبعادا موضوعية جديدة عمادها تلك التعريجات المتنوعة على طول الطريق؛ وبذلك ننتقل معها من المستوى التحديدي للقصة القصيرة، إلى المستوى التحديدي الآخر لفن الرواية.
التعريجات المتنوعة أو القطاعات أو الروافد الجانبية، هي على التوالي: رجل الدين الشيخ علي الجندي، ورجل الصحافة رءوف علوان، وامرأة الليل أو البغي الفاضلة نور. أولئك الذين يلعبون أدوارا رئيسية على مسرح الأحداث. لقد التمس سعيد مهران حلا لأزمته عند رجل الدين - صديق والده - فلم يظفر إلا بمجموعة من التهويمات الصوفية والعبارات المبهمة، والتمس نفس الحل عند رجل الصحافة - رفيق صباه - فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه. وعندما خذله الشرفاء أنصفه غير الشرفاء، أنصفته نور عندما اتخذ من بيتها وقلبها مأوى له ... ومع ذلك، فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء، تذوق مرارة الأزمة: خانته الزوجة ووفت له البغي؛ أي مفارقة يعدها له القدر؟! وعندما اهتز قلبه لأول مرة بعاطفة حقيقية نحو إنسانة، وكانت هذه الإنسانة هي نور، أدرك أن وجوده قد وصل - في مرحلة صعود لا تتوقف - إلى قمة العبث. إن الكلاب تطارده ، وتتربص به، وتسد عليه المسالك؛ لا فائدة إذن من أن يبوح لها بحبه وعرفانه للجميل. إن حياته كلها قد غدت وهي تحمل معنى اللاجدوى، وكل الطرق أمام أحلامه قد أصبحت مغلقة! «أبي كان يفهمك. كم أعرضت عني حتى خلتك تطردني طردا، ورجعت بقدمي إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له! وقال سعيد مهران للشيخ علي الجندي: مولاي، قصدتك في ساعة أنكرتني فيها ابنتي!
فقال الشيخ متأوها: يضع سره في أصغر خلقه!
فقال جادا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مد له في العمر فسأجد الباب مفتوحا.
فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدته؟ - لكني لا أجد مكانا في الأرض، وابنتي أنكرتني ... - ما أشبهها بك! - كيف يا مولاي؟ - أنت طالب بيت لا جواب. - ليس بيتا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارض عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض! - مولاي، ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجي، ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟
فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب!» ••• «هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب؛ تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل؛ ترى أتقر بخيانتك ولو بينك وبين نفسك، أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا؛ بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة. سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض. كذلك أنت يا رءوف، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟ أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!» ••• «لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقا ؛ ودهمه حزن شديد الضراوة، لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن؛ ولكن لأنه سيفقد قلبا وعطفا وأنسا؛ وتمثلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وحبها وتعاستها فانعصر قلبه؛ ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا في نفسه مما تصور، وأنها كانت جزءا من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها!»
الحياة ظلام ووحدة وضياع وعبث؛ ما أكثر هذه الشعارات «الوجودية» التي تصنع الإطار النفسي لأزمة سعيد مهران، وتنتشر كلافتات موجهة في ثنايا الكثير من صفحات «اللص والكلاب»! إننا نستنشق من خلال المضمون - وفي مجال الانعكاس التأثيري لأزمة الوجود - شيئا من عطر ألبير كامي، ونستنشق من خلال التكنيك السردي - وفي مجال التعبير عن واقعة مجرى الشعور - شيئا آخر من عطر سارتر؛ ولنستعرض هذين النموذجين من «سن الرشد» ومن «اللص والكلاب»:
ولم يعد ماتيو يصغي، كان خجلا أمام هذه الصورة للألم، كان يدرك جيدا أنها لم تكن إلا صورة، ولكن مع ذلك؛ «لست أعرف أن أتألم. إنني لا أتألم أبدا بما فيه الكفاية.» كان أشق ما في العذاب أنه كان شبحا، وأن المرء يقضي وقته في الجري خلفه، ويحسب دائما أنه سيدركه ويرتمي في داخله، ولكنه ما إن يسقط فيه حتى يفر؛ «إنني أكذب.» كان انهياره وانتحابه أكاذيب وفراغا، كان قد قذف بنفسه في الفراغ، على سطح نفسه، ليفلت من ضغط عالمه الحقيقي، عالم أسود شديد الحرارة ينتن الأثير. وكانت مارسيل هي التي ستكون هالكة، إذا لم يجد خمسة آلاف فرنك قبل اليوم التالي، ستكون هالكة حقا وبلا جدوى؛ في ذلك العالم لم يكن العذاب حالة نفسية، ولم تكن ثمة حاجة إلى الكلمات للتعبير عنه، وإنما كان مظهرا للأشياء؛ تزوجها أيها البوهيمي المزيف، تزوجها يا عزيزي، لماذا لا تتزوجها؟ أراهن أنها ستموت من ذلك.
في هذا النموذج من التكنيك السردي لواقعية مجرى الشعور، استخدمت الضمائر الثلاثة في عملية العرض الداخلية لأزمة «ماتيو» بطل سارتر، وسنرى نفس الظاهرة التكنيكية بالنسبة إلى أزمة «سعيد مهران» بطل نجيب محفوظ :
ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة والعابرون والجالسون والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة، وهو واحد، خسر الكثير حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا. آن الغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية؛ عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص.
استخدمت الضمائر الثلاثة هنا وهناك: ضمير الغائب وضمير المتكلم وضمير المخاطب، في شريحة تحليلية واحدة هدفها تعرية الوعي الباطن تعرية كاملة، حتى نستطيع أن ندرك حقيقته من خلال النظرة المصوبة إلى مختلف زواياه. من ضمير الغائب نستطيع أن نستخلص من الكاتب معالم الجو النفسي الذي تعيش فيه الشخصية، ومن ضمير المتكلم نستطيع أن نحصل من الشخصية على نوع من الاعتراف الذاتي المفسر لطبيعة وجودها الداخلي، ومن ضمير المخاطب نستطيع أن نترقب خطوات سلوكها الحركي منتظرا لما يدور بداخلها من طاقة انفعالية.
يتفق النموذجان من ناحية الهدف الفني لاستخدام الضمائر الثلاثة، ثم يختلفان بعد ذلك من ناحية المستوى التلويني في التعبير عن مجرى الشعور عند البطلين، تبعا لاختلاف المستوى العقلي عند هذا وذاك. لقد كان سارتر يقوم بعملية سياحة داخلية، في نفس مدرس للفلسفة واسع الثقافة هو «ماتيو»، بينما كان نجيب محفوظ يقوم بنفس الدور، بالنسبة إلى لص لم ينل إلا قسطا ضئيلا من التعليم وهو سعيد مهران!
ومضمون «اللص والكلاب» مضمون واقعي، وليس مضمونا رومانسيا كما قرر ذلك أحد النقاد،
1
واقعي في أحداثه ومواقفه، وإن كانت المواقف لم تخل من مذاق «وجودي » في بعض الأحيان. إن سعيد مهران بكل ميوله النفسية الناقمة، لم يكن إلا نمطا إنسانيا صنعته ظروف ضاغطة، ظروف اجتماعية حددت خط سيره في طريق الحياة. وكل واحد منا لو نشأ نفس النشأة وتعرض لنفس الظروف؛ أعني لو نشأ محروما من كل الفرص التي تهيئ للفرد كرامة الشعور بأنه إنسان، ثم عرف خيانة الزوجة وتنكر الابنة وغدر الصديق وضياع كل وسائل الإنقاذ، لو قدر لكل منا أن يرتطم بكل هذه القوى المحطمة، فسيتحول قطعا إلى النمط «الواقعي» الذي يمثله سعيد مهران، وأقول «قطعا» إذا كان هذا النمط شجاعا لا يعرف الجبن. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نتمثل حقيقة الوجود الداخلي لبطل «اللص والكلاب» من وراء هذه الكلمات: «إن من يقتلني إنما يقتل الملايين؛ أنا الحلم والأمل فدية الجبناء؛ أنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه.»
نجيب محفوظ واقعي في روايته القصيرة كما كان واقعيا في روايته الطويلة، وأعني بها ثلاثية «بين القصرين»؛ كل ما في الأمر أنهما نمطان من الواقعية: واقعية كلاسيكية تعنى بالتفصيلات الكثيرة، وتحاول أن ترصد كل شيء وأن تفسر كل شيء، وتهتم بالترتيب الزمني للأحداث، وواقعية تساير روح العصر فتحل التركيز محل التفصيل، وتستغني بالرمز عن الشرح وبذكاء القارئ عن مهمة التفسير، وهي في النهاية تستبدل بالترتيب الزمني للأحداث لونا من الترتيب الشعوري، الخاص بنظرة البطل إلى خريطة التضاريس النفسية لحياته.
واقعية الأمس وواقعية اليوم عند نجيب محفوظ، أشبه بمن يصحبك إلى بيت كبير ليطوف معك بكل حجرة من حجراته؛ وفي كل حجرة يقف بك وقفة طويلة ليصف لك كل ما بها من محتويات. جهد عظيم بلا شك؛ جهد الخبرة والمعرفة والصبر الطويل، ونقل هذه الخبرة إليك بصورة أمينة وكاملة. ولكن عيب هذه الطريقة أن الكاتب لا يشركنا معه، لا يترك لنا فرصة التأمل الذاتي في أن نكتشف بأنفسنا ما وراء كلماته أو ما بداخل حجراته، إنه يقول لنا كل شيء، ومن الأفضل ألا يقدم لنا الكاتب كل ما عنده، وأنا أقصد الكاتب الروائي بالذات؛ ذلك لأن الرؤية الموحية في رأيي أكثر تجسيدا للمشكلة المعروضة من الرؤية المباشرة، ومن هنا كانت الواقعية الرمزية أعمق إثارة للوجود الذهني عند القارئ من الواقعية التصويرية. إن الإيحاء - وبخاصة عن طريق الرمز - أشبه بباب نصف مفتوح، باب يغرينا بأن نحاول فتحه على مصراعيه، لنكتشف ما وراءه من ممرات تقودنا إلى الحقيقة، ثم هو بعد ذلك يدفعنا بحماسة إلى أن نلتمس للرمز أكثر من تفسير، وقد نصل إلى تفسير معين لم يخطر للكاتب الروائي في بال، وقد يتفوق تفسيرنا على المعنى الذي استقر عليه هو من وراء رمزيته، وبذلك يكتسب العمل الفني الناضج مزيدا من الأبعاد.
وهكذا فعل نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»؛ فقدم إلينا اللون الواقعي الملائم لروح العصر، ترك لنا حرية التفسير والتبرير لسلوك شخصياته، وحرية الحكم عليها كأنماط بشرية تعيش في مجتمعنا، أو كرموز إيحائية لمشكلات يعرفها نفس المجتمع. إن شخصيات الشيخ علي الجندي ورءوف علوان ونور ونبوية وعليش، يصلح بعضها أن يكون نمطا، ويصلح بعضها الآخر أن يدخل في نطاق الرمز؛ الرمز إلى كيان موضوعي لمشكلة معينة. نبوية مثلا نمط، نمط من النساء تندرج تحته كل امرأة فارغة العين، لا تستقر نظرتها إلا على كل رجل يملأ عينيها ببريق الغواية. وعليش هو الآخر نمط، نمط من الناس يندرج تحته كل رجل فارغ المروءة، لا يستعذب العدوان إلا على من أحسن إليه. ونور في رأيي رمز؛ لا للوفاء كما هو ظاهر من دلالة السلوك، ولكنها رمز لمفارقات الحياة الضخمة، حين تتحول المفارقة في حياتنا إلى مشكلة؛ وجوهر المفارقة أننا نلجأ أحيانا إلى الشرفاء والمثاليين، نلتمس عندهم الإنقاذ والخلاص، فلا ينقذنا - أو يتعاطف معنا على الأقل - غير الضائعين أو الذين هم في رأينا لا شرف لهم. ورءوف علوان مثلا هو الرمز الكبير لكل هؤلاء الذين يتظاهرون بالمثالية والتمسك بالقيم، حتى إذا ما حققوا مآربهم من وراء هذا التظاهر، بدت وجوههم على حقيقتها وهي خالية من زيف المساحيق. ويبقى الشيخ علي الجندي كرمز أخير لمشكلة؛ مشكلة التدين. يتحول مفهوم الدين عند بعض الناس إلى نوع من الغيبوبة العقلية، التي تواجه واقع الحياة ومشكلات الأحياء بالمنطق المترنح والفكر النائم. إن الدين في تعامله مع الحياة - وبخاصة حياتنا المتطورة المعقدة - يجب أن يكون صحوة عقل ... صحوة مرنة واعية تفتح الباب أمام اجتهاد المسارية لروح العصر، بغير إحراج للدين وبغير إحراج للحياة، وهذا - في اعتقادي - هو ما يريد أن يقوله لنا نجيب محفوظ.
ولا أعتقد أن نور، من حيث التسمية وكما قال بعض النقاد
2
كانت رمزا لجانب النور في حياة سعيد مهران؛ لأن نجيب محفوظ لو كان قد عني برمزية الأسماء، ما اكتفى بشخصية واحدة دون بقية الشخصيات؛ أعني أنه كان يختار أيضا الاسم الرمزي المناسب لبطل القصة، وللشيخ علي الجندي ونبوية وعليش ورءوف علوان، تبعا لدلالة التسمية على المضمون الوجودي للشخصية. وما أعتقده عن رمزية الأسماء ينطبق على رمزية الأماكن؛ إن القرافة التي يطل عليها بيت نور، ليست رمزا للدنيا يلتقي فيها الموت بالحياة،
3
وليست رمزا للتيه والضياع،
4
وما أظن أنها كانت عند نجيب محفوظ رمزا لأي شيء؛ ولم لا نقول - كتفسير للموقف - إن طبيعة الحياة التي كانت تحياها نور كامرأة رقيقة الحال محدودة الدخل، هي التي فرضت عليها أن تسكن في ذلك المكان المتواضع الذي يتناسب ودخلها المحدود؟ لقد عادت يوما إلى سعيد مهران وهي باكية وبغير طعام لها وله؛ كانت عند بعض الطلبة الذين ضربوها وهي تطالبهم بالحساب. وإذا كان سعيد مهران قد عاش لحظات، وهو يفكر في الحياة والموت، كلما نظر من النافذة المطلة على القرافة، فهي خواطر طبيعية جدا تراودنا جميعا، كلما وقعت أبصارنا على مشهد القبور؛ إن الرمزية في «اللص والكلاب» رمزية شخصيات ومواقف، وليست رمزية أسماء وأماكن.
وننتقل بعد ذلك إلى لغة الحوار؛ من المعروف عن نجيب محفوظ، أنه يحرص على وضع حواره في قالب الفصحى المبسطة، بل ويحرص في الوقت نفسه على التقريب بين هذه الفصحى وبين لغة الحياة اليومية؛ ليحافظ - بقدر الإمكان - على واقعية اللغة المنطوقة من جهة، وليطمئن - من جهة أخرى - على أنه قد تخطى العقبات التي تحول بينه وبين القراء العرب في مختلف الأقطار، وهي العقبات الناتجة من اختلاف اللهجات المحلية هنا وهناك. موقف له مطلق الحرية في أن يتمسك به كوجهة نظر خاصة، تمثل علاقته العاطفية باللغة، وتمثل في الوقت نفسه علاقته الجماهيرية بالقارئ؛ وأعني به القارئ العربي في كل مكان.
حين تبصر نور سعيد مهران مثلا واقفا ينتظر فتقول له: «أنت؛ يا كسوفي؛ انتظرت قليلا؟» نواجه الجملة الحوارية التي قلنا عنها أنها تحافظ على واقعية اللغة المنطوقة، على الرغم من أنها مكتوبة بالفصحى المبسطة. وكثير جدا من جمل نجيب محفوظ يتميز فيها بالقدرة الفائقة على صبها في مثل هذا القالب، ولكنه - في أحيان قليلة - تخونه هذه القدرة؛ تخونه مثلا عندما يقول الشيخ علي الجندي، وقد صمت مليا ثم مسح على لحيته: أنت تعس جدا يا بني.
فيتساءل سعيد مهران في قلق: لمه؟
ترى أيمكن أن تكون هذه هي واقعية اللغة المنطوقة، بالنسبة إلى رجل من طراز سعيد مهران؟
إن اللغة الأصيلة للشخصية في الحوار القصصي، تحمل في ثناياها أكثر من دلالة؛ تحمل دلالة المستوى النفسي ودلالة المستوى العقلي ودلالة المستوى الاجتماعي لهذه الشخصيات، بالإضافة إلى وجوب التزامنا للواقع التعبيري بالنسبة إلى لغة الحديث؛ ذلك لأن التركيبة النفسية لأي نموذج إنساني، من شأنها أن تطبع سلوكه الحركي والكلامي بالطابع الملائم لاتجاهها الداخلي. وكذلك الأمر فيما يختص بالتكوين العقلي لهذا النموذج، حين نلاحظ التلوين بين المنابع الذهبية وخطوط الاتجاه اللفظي كانعكاس مباشر، وما نقوله هنا نقوله مرة أخرى عندما نتحدث عن ظاهرة التفاعل، بين الوسط الاجتماعي للشخصية وبين منطق التعبير.
لقد قدم نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» تجربة مفيدة، وأهم ما فيها من جديد هو التكنيك ... ومعنى هذا أن نجيب محفوظ يتطور، ويساير روح العصر، ويثبت أنه موفور الرصيد من تجارب الفن وتجارب الحياة.
في القصة المصرية القصيرة
ذكاء الملاحظة - عند الكاتب القصصي - يضعه الناقد أول ما يضع، في قائمة التقييم الفني لإنتاج هذا الكاتب؛ ذلك لأن الملاحظة الذكية - من ناحية الحكم النقدي على الأصالة - تمثل نقطة الارتكاز الجوهرية لكل ما يملكه القصاص من ملكات؛ لا بد من توفر هذه الموهبة أولا: موهبة التأمل والملاحظة ورصد الحركة الدقيقة الموحية، في نطاق الوجود الخارجي والداخلي للإنسان، وعلى الناقد بعد ذلك أن يضع في القائمة - على صعيد الترتيب الفني لإمكانيات الكاتب - كمية الرصيد الثقافي من تجربة الفهم للأصول التكنيكية، وتجربة التمثل للواقع المعاش. لقد كانت الملاحظة الذكية هي أكثر الأرصدة ثراء في فن أنطون تشيكوف، وكانت من وجهة النظر النقدية عند كثير من النقاد، هي نقطة الانطلاق الباهر لتفوق المدرسة التشيكوفية - في محيط أدب الغرب - على كل مدارس القصة القصيرة، إنه يبهرنا بصفاء الرؤية القصصية في فنه، رؤية الجزئيات الدقيقة التي يتكون منها موقف داخلي معقد، يتجسم بعد ذلك في انعكاسات حركة سلوكية معبرة؛ ومن هنا سمي تشيكوف بحق، كاتب التفصيلات الصغيرة.
هذه التفصيلات الصغيرة، نستطيع أن نتتبعها في كل ما يكتب؛ ولكنها تجذبنا بصفة خاصة، عندما يعرض تشيكوف إحدى شخصياته من خلال لحظة حرجة، بحيث تتدرج هذه اللحظة تدرجا هرميا يصل بالشخصية إلى قمة أزمة نفسية معينة. هنا نرى ذكاء الملاحظة في رصد هذا التدرج الهرمي وتسجيل تطوراته، وكأنه تجربة كيميائية في المعمل؛ تتركب من محاليل مختلفة، وتمر بمراحل متتابعة، تمتزج فيها هذه المحاليل وتتفاعل، حتى نحصل في النهاية على خلاصة التجربة أو نتيجتها النهائية. ولقد كانت مفارقات الحياة غالبا هي المحاليل المختارة لتجارب أنطون تشيكوف؛ ذلك لأن الحياة في حركتها الدينامية لا تقدم إلينا أعمق لحظاتها إلا من خلال المفارقة، من خلال ذلك التناقض المثير الذي لا نتوقعه، حين يخرج منطق الحياة أحيانا عن خط سيره المرسوم؛ عندئذ يصطدم منطق الحياة مع منطق الأحياء، ومن هنا تحدث المفارقة، وقد تكون المفارقة مضحكة أو مبكية، تبعا لجوهر التناقض بين منطقين أو اتجاهين، يحدث بينهما تصادم غير متوقع ولا منتظر.
محمد أبو المعاطي أبو النجا تلميذ
1
مجتهد في مدرسة أنطون تشيكوف؛ فيه من خصائص هذه المدرسة - في عدد من قصصه ولا أقول كلها - ذكاء الملاحظة وصفاء الرؤية الفنية، ولكن من خلال عدسة مصرية صميمة. الكاتب الذي وقف في «الطابور» ساعات طويلة ومرهقة، لم يقف لمجرد تجديد بطاقته أو لمجرد التسلية بمنظر طابور آدمي عجيب، لقد وقف يرقب الشعب ويتأمله ويلاحظ، ويفسر لنا - عن طريق عملية السرد الموحية وعلى ضوء السلوك الخارجي - أكثر من حقيقة نفسية داخلية تصنع وتوجه هذا السلوك. لقد كان الطابور قطاعا حيا من قطاعات هذا الشعب، كان كما تخيله الكاتب قد تكون بهذه الطريقة: «جاء رجل ضخم جدا وراح يمد يده في كل مكان، في الشوارع والحواري، في العمارات والأكواخ، في المصانع والمؤسسات والحقول، ويجذب من كل مكان رجلا ويأتي به إلى هذا الطابور. إن هذا الطابور قطعة من الشعب؛ شريحة منه، فيها كل خصائصه العظيمة والوضيعة على السواء.»
إن العمل الفني في قصة الطابور - من ناحية المقاييس التحديدية لأركان القصة القصيرة - يخرج من خانة «القصة» ليوضع في خانة «الصورة». إنه لا يمثل ذلك القطاع الطولي الذي تلتقي على امتداده - كما هو الحال في القصة - تلك الخيوط الصانعة لنسيج موضوعي موحد. ونحن تبعا لذلك لا نرى شخصية بعينها تنمو على مدار التجربة من خلال الحدث، بحيث تنتهي بنا إلى موقف معين ينتهي إلى اتجاه إيجابي أو سلبي، استنادا إلى جوهر التكوين النفسي لهذه الشخصية أو تأثرها بشتى الدوافع الموجهة؛ في محيط هذه المقاييس التحديدية نجد القصة القصيرة. أما «في الطابور» فهي «صورة» من حيث الإطار التكنيكي الذي يحيط بأبعادها الموضوعية؛ هي مجموعة من القطاعات المستعرضة لحياة مجموعة من النماذج البشرية، معروضة من خلال لحظة معينة تربط بين هذه النماذج من ناحية الموقف، ولكنها لا تربط بينها من ناحية الاختلافات في اتجاهات السلوك.
هذه القطاعات المستعرضة في نطاق مثل هذا التصميم البنائي، نجد لها مثيلا - مع الفارق بين طبيعة العمل الروائي وطبيعة الصورة القصصية القصيرة - في رواية «الأب جوريو» للكاتب الفرنسي بلزاك، وفي رواية «زقاق المدق» للكاتب المصري نجيب محفوظ؛ الشخصيات عند بلزاك خليط متنافر من الأحياء، يجمع بينهم بنسيون مدام «فوكيه»، ونفس هذا الخليط المتنافر تجده عند نجيب محفوظ في «زقاق المدق»، وتجده عند محمد أبو المعاطي أبو النجا في «الطابور». ومما يلفت النظر هنا وهناك أن النماذج الإنسانية المريضة، هي التي تحتل مكانها في المقدمة من مسرح الأحداث، وإن كلا من «البنسيون» و«الزقاق» و«الطابور» قد بلغ مرحلة من التجسيم المادي، جعلته يبدو وكأنه شخصية حية من شخصيات العمل الفني.
وإذا ما استعرضنا الملاحظات الذكية التي يمكن أن نلتقطها من وراء المفارقة، يواجهنا موقف الكاتب وهو يرحب عقليا وشعوريا بأن يقف في الطابور، ويخضع لنظامه الصارم؛ ذلك لأنه يريد «أن يمارس تجربة الديمقراطية على مستوى آخر غير مستوى الكلمات»، ولكنه وهو يعيش في قلب التجربة، يكتشف أخيرا أن في هذه الديمقراطية - ديمقراطية الطابور الذي تتجمد فيه الحركة - شيئا من الديكتاتورية؛ «إنه منطق الطابور اللعين يجعل كل فرد هنا أسير مصيره، أسير حظه الذي وضعه في مكان لا حرية له في اختياره!»
ونحن في الطابور - ذلك القطاع الحي من قطاعات الحياة - قد نجد أنفسنا رغم كل الجهود في المؤخرة، أو على الأقل خلف أناس لا يملكون مثل رصيدنا من القيم والإمكانيات، سبقونا لأن لهم وسائلهم الخاصة في الوصول قبل غيرهم. إن الوصوليين في كل طابور تبطئ فيه الحركة أو تتجمد، حريصون دائما على أن يحتلوا مكانهم في مقدمة الصفوف.
وفي الحياة أكثر من طابور، ولكل طابور وضعه ونظامه وخط سيره الحياتي، الذي لجأ إليه عن إرادة أو غير إرادة؛ وحين تلتقي هذه الطوابير كما التقت في أول عمل فني من أعمال هذه المجموعة، يبدو كل طابور وهو غريب في منطق الطابور الآخر، وتتحول هذه الغرابة إلى حركة تعبير خاصة، تجسم وجهات النظر المتبادلة بين الطوابير: طابور صامت وكأنه يتخذ من الصمت شعار احتجاج صارخ على وضعه ومصيره، وهو طابور الأولاد المشردين. وطابور يعبر بوجهة نظر أخرى عنصرها اللامبالاة، ووسيلتها للأداء إخراج اللسان وهز الأرداف، وهو طابور البنات الساقطات. وطابور يواجه لغة التشرد ولغة السقوط، بما يناسب اختلاف المستويات العقلية لجموع الواقفين فيه، وهو طابور الراغبين في إثبات وجودهم بطريقة رسمية!
وكل شيء في الحياة إنما يستمد قيمته من مقدار حاجتنا إليه: بقدر ما نحتاج يصبح الشيء في تقديرنا وهو شيء، وبقدر ما نستغني يصبح الشيء في تقديرنا وهو لا شيء؛ إن قيم الأشياء نسبية بحتة، يحدث هذا عندما لا نحس شيئا من الفراغ والوحدة في طابور الحياة؛ في مثل هذه اللحظة يبدو لنا الإنسان العادي، وهو كم مهمل لا حاجة بنا إليه، أما عندما نمارس تجربة الوحدة والفراغ ومرارة السأم، فإننا نتلهف على أن يؤنس وحدتنا ويقضي على سآمتنا أي مخلوق ولو كان أبله؛ «الشيخ الذي أمامي لا يزال يقرأ، لا يزال يتمتم بصلوات وأدعية، يبدو أنه ليس لديه أي استعداد لأن يتحدث مع أحد، كأنما جاء إلى هنا ليتفرغ للعبادة؛ آه أين أنت يا صديقي الأبله؟ إن الإنسان لا يدرك أحيانا قيمة أن يتحدث إليه أي شخص، أي حديث ولو كان هذيانا، لا شك أن الحيوانات كائنات تعسة للغاية؛ لأنها لا تستطيع أن تثرثر.»
أما الواقعية بالنسبة للشخصيات فهي واقعية نمط؛ الرجل الذي يشتغل في كل مهنة ولا يستقر في مكان، ويتزوج خمس مرات وله أولاد لا تربطهم به صلة، مثل هذا الرجل الأبله نمط؛ والعامل الذي يشكو من الضغط المادي لحياة المدينة الكبيرة، والذي كان الأبله ينصحه بأن يشتغل «مرسال صنف» ليحيا حياة مريحة، مثل هذا العامل نمط؛ والموظف الصغير المثقل بأعباء العمل، والذي يحيله الإرهاق المتواصل إلى آلة، تتعامل مع الناس على أنهم مجرد أسماء وعناوين وأعمار ومهن، مثل هذا الموظف نمط؛ والشيخ الذي يذكر الله بطريقة ميكانيكية تشغله عن كل ما حوله، حتى ليخيل إليك أنها تشغله عن الله نفسه، مثل هذا الشيخ نمط؛ وكل دمية بشرية كانت تقف في طابور البنات أو طابور الأولاد، وينبئ مظهرها الخارجي عن حقيقتها الداخلية، مثل هذه الدمية نمط ... وكل نمط من هذه الأنماط البشرية يمثل مجموعة متشابهة من الأحياء.
وحين نترك «في الطابور» لنلتقي بالعمل الفني الذي يليه وهو «حارس المقبرة»، نجد أن هذا العمل الفني قد اكتملت له كل الأركان اللازمة للقصة القصيرة: نجد فيه ذلك القطاع الطولي الذي أشرنا إليه من قبل، ونحن نفرق بين القصة والصورة، وقلنا عنه إنه تتلاقى على امتداده تلك الخيوط الصانعة لنسيج موضوعي واحد، ونجد فيه الشخصية التي تنمو من خلال الحدث على مدار التجربة، حتى تصل مع النمو النفسي المطرد إلى عملية تطوير موقفية معينة. إن المشكلة التي يقدمها إلينا الكاتب كنقطة ارتكاز للحدث، تتحول بعد ذلك إلى نقطة انطلاق للموقف المتطور، هي مشكلة كل إنسان فقير ومحروم، حين يضطر أمام قهر الظروف وتحت ضغط الحرمان والحاجة، إلى أن يسلك سلوكا قد يبدو في رؤية الناس وهو غير مشروع. عبد العال هو الشخصية التي ترمز إلى المشكلة، وتشير إلى جذورها الطويلة الضاربة في تربة الوضع الاجتماعي لأمثاله من أبناء القرية المصرية، الإنسان الضائع الذي يعيش الحياة يوما بيوم، بلا أمل في الحاضر ولا ضمان، لجأ إلى الموتى بعد أن فقد الضمان والأمل في صحبة الأحياء؛ لجأ إلى الموتى ليأخذ منهم، لجأ إلى الناس الطيبين الذين كانوا يرعونه ويرعون أمثاله، يوم أن كانوا على قيد الحياة؛ لقد خلت الحياة بعدهم من الرحمة والخير، وحين أتاحت له الظروف أن ينزل ضيفا عليهم، قرر بعد تفكير مرهق ومعذب، أن يمد إليهم يده!
محمد أبو المعاطي أبو النجا يقودنا إلى هذه المسالك النفسية، وهو يرسم لنا شخصية عبد العال من الداخل، وهو في أثناء الرسم، كثيرا ما يستخدم اللقطات الجانبية التي توضح بعض الأوضاع الخاصة للشخصية المرسومة: عبد العال وهو يقرر أن يسرق أكفان الشيخ عوض، ليشتري بها كسوة لأولاده، لا يقرر ذلك لأنه لص؛ بل لأنه فقير ومحتاج! والملاحظة الذكية التي تواجهنا من وراء المفارقة، أن عبد العال قد كلف بأن يكون حارسا للمقبرة، يحمي أكفانها من سطو اللصوص! إنها المفارقة التي تجسم المشكلة من خلال ذلك الصدام غير المتوقع، بين منطق الحياة ومنطق الأحياء؛ المنطق الأخير يفرض عليه أن يقف موقف الحارس، والمنطق الأول يرغمه على أن يقف موقف اللص، ومن هنا يحدث الصدام المضحك أو المبكي بين موقفين!
وعبد العال بعد ذلك - وتلك هي المفارقة الثانية - ما زال محتفظا بقيمه كرجل عاش طول عمره، وهو عف النفس رغم أنه فقير؛ ولهذا لم يحاول أن يجرد الجثة من «كل» أكفانها كما يفعل اللصوص، ولكنه يكتفي بأخذ كفنين اثنين من أكفان الشيخ عوض الثلاثة، إنه منطق الشرف حين ترغمه الحاجة، وهو في رأيه منطق عادل؛ إن بعض الأحياء من أمثاله لا يجدون إلا ثوبا واحدا، في الوقت الذي يتدثر فيه الموتى بثلاثة أثواب! لو كان الحاج أحمد الذي يرقد في قبر مجاور - والذي كان يمثل خلاصة الناس الطيبين - على قيد الحياة، لوقف وقال بأعلى صوته: «يا بلد لازم نكفن الميت في كفن واحد، وبقية قماش الكفن نفرقه على الناس الغلابة!»
وعبد العال وهو يرتجف تحت برد الليل وقسوة المطر، تتلون أفكاره بألوان اللحظة النفسية التي تمر به وتعكس ألوانها في حلم اليقظة: «كان يتصور أن شريطا عريضا من قماش الأكفان، ينبعث من هذه المقابر يشده رجلان، وأن هذا الشريط يمكن أن يغطي القرية كلها، ويصنع فوقها خيمة كبيرة لا يخترقها المطر!»
والكاتب يبرز لنا - من أعماق إحدى الزوايا في عمله الفني - جانبا من الجو العقائدي الذي يعيش فيه كل الفقراء والمحرومين؛ إنهم يحلمون بالعالم الآخر، بالجنة، بتلك المائدة الحافلة التي يمكن أن تعوضهم عن كل ما وجدوا في عالمهم من حرمان. فتحية بنت عبد العال - وهي تتحدث إلى أبيها بجوار القبر - تمثل هذه الأحلام العقائدية التي يلقنها الكبار للصغار، والتي تمثل بدورها واحدا من الشعارات النفسية لطبقة معينة من طبقات المجتمع.
إلى هنا ومحمد أبو المعاطي أبو النجا يجسم المشكلة من خلال الملاحظة الذكية وهي في قالب المفارقة، ولكن المشكلة حين تتحول إلى مأساة، تبلغ ذروة التجسيم من داخل عملية السرد نفسها في الموقف الأخير من مواقف القصة؛ موقف عبد العال وهو مهدر الآدمية تحت أقدام القطيع البشري في حواري القرية.
إن أعنف ما يهزنا من موقف الإنسانية في لحظات الضعف، هو أن يتحول ضعفها النبيل إلى ذل رخيص وتافه؛ إذا كان الذين يحيلون ضعف الإنسان إلى ذل، رخصاء وتافهين!
على ضوء هذه الذروة التجسيمية يمكننا أن ننظر إلى مأساة عبد العال؛ إن الكاتب يرسب المأساة في نفوسنا ترسيبا عميقا عن طريق عملية التصوير المادية لحركة الموكب الثائر الشامت، موكب القرويين وهم يزفون بطل القصة، من داخل هذه «الحركة» لم نكن نرى وجه البطل، ولكننا كنا نستخلص الصورة الحقيقية لهذا الوجه من خلال الواقع الإيحائي، بكل ما يرتسم على قسماته من ذل صامت أو معبر. لقد استخدم الكاتب حركة الموكب كمجال خلفي كبير للصورة المرسومة، وفي نهاية الحيز الامتدادي لهذا المجال الخلفي الكبير، نرى اللمسات الأخيرة التي تكمل ما في الصورة من زوايا وأبعاد؛ عبد العال معروض أمامنا بواسطة موكب آخر يفترق عن الموكب الأول في كونه يعلق ولا يتحرك، موكب من النساء يكتفي بأن يزف بطل القصة مجموعة من الكلمات تمثل في جملتها وجهتين من وجهات النظر: «يعني كان حد قال له يروح يسرق الكفن؟ دول ناس آمنوه لأنه راجل طيب يقوم يعمل كده؟ والله ما تخافي إلا من الطيبين دول»؛ «هوه لو ما كانش طيب كان اتمسك؛ أولاد الحرام اللي بيسرقوا كتير، إنما ده كونه راجل طيب مسكوه» ... وجهتا نظر تقدمان إلينا الجوهر الحقيقي للطبيعة البشرية ممثلة في موقفين: موقف الذين يسيئون الظن بالإنسان، وموقف الذين يحسنون الظن بالإنسان!
ومرة أخرى نجد الأركان الفنية اللازمة للقصة القصيرة تكتمل بصورة ملحوظة في «الآخرون»، وهي العمل الثالث من أعمال هذه المجموعة. بطل القصة - وهو مراسل حربي لإحدى الصحف المصرية في معركة القنال - نموذج بشري يمثل نمطا من الأحياء في المجتمع المصري وكل مجتمع آخر ... نمطا يحدد اتجاهه السلوكي دافع واحد، هو حب الذات، الحب الذي ينكمش فيه «الأنا» بحرص بالغ داخل قوقعة الفردية، ثم تتضخم جدران الواقع ذلك التضخم الذي يحول دون رؤية العالم الخارجي، هناك حيث يقف الآخرون.
وبطل القصة - من خلال زاوية أخرى من زوايا صورته العامة - شخص يتحدث إلى الناس بلغة أخرى غير اللغة التي يتحدث بها إلى نفسه؛ إنه مع نفسه - حين ينفرد بها - شجاع لا يخشى الصراحة، ولكنه مع الناس؛ جبان تعيش مشاعره الحقيقية في الظلام، ومن هنا كان الدافع الرئيسي الذي حبب إليه دوره الصحفي في معركة القنال، هو أن يلقى هؤلاء الفدائيين عن طريق التسلل إلى حقيقتهم النفسية، ليعرف أي سر يكمن وراء المقامرة بحياتهم في سبيل هدف - هو بالنسبة إليه - غير منطقي وغير واضح. «إنه يفهم أن يكافح الإنسان من أجل سعادته؛ أن يناضل، أن يتألم، أن يشقى من أجل حياة سعيدة، أما أن يفقد الإنسان حياته فيها، فهذا ما لا يمكن تصوره بحال، هل هناك شيء أغلى من الحياة نفسها حتى يمكن أن نبذلها من أجله؟ يقولون الحرية! ولكن، ما هي الحرية؟ إنها إحدى حاجات الحياة، وحين نفقد الحياة، نفقد معها حاجتنا إلى الحرية، يقولون الحرية من أجل الآخرين، ولكن من هم الآخرون هؤلاء؟ إنه لا يكاد يحس بهم، وهم أيضا هل تراهم يحسون به؟ هل يحسون به إلا حين يحتاجون إليه؟ وهل يحس بهم إلا حين يحتاج إليهم؟ وحين يموت الإنسان؛ ماذا يبقى منه ليحتاجه الآخرون؟»
هذا التحليل الموفق الذي يرسم به الكاتب خط الاتجاه النفسي، لنمط إنساني معين يمثله بطل القصة، هو بمثابة عنصر التبرير الموضوعي لموقف البطل إزاء الحياة وإزاء الآخرين. إن الواقع الداخلي لمشكلة هذا النمط من الأحياء، هو واقع السلبية المطلقة التي تحول دون التعاطف الشعوري بينهم وبين الغير، وتحصرهم داخل وجود انعزالي، تفصله عن وجود الآخرين زحمة الدوافع الفردية، والكاتب أمام هذه الزحمة قد وقف واعيا ليختار، ليقتطع من جسم الواقع أهم منطقة نفسية، يمكن أن يجسم من خلالها المضمون الكلي للمشكلة؛ مشكلة السلبية المطلقة؛ وذلك حين وضع بطل القصة - وهو رمز النمط البشري المنعزل - تجاه حركة دفع إيجابية هدفها أفدح تضحية في سبيل المجموع!
إننا نرى البطل - في المرحلة التخطيطية للحدث - وهو يناقش أحد الفدائيين محاولا من وراء النقاش أن يتسلل إلى حقيقته النفسية؛ وفي تلك الأثناء تقبل عليهما عربة جيب إنجليزية ثم تقترب، ويطلق جنودها النار في هجمة مفاجئة؛ ويرد الفدائي بالمثل فيصيب العجلات وتتعطل العربة عن السير في منطقة مكشوفة؛ وتبدأ معركة ظالمة غير متكافئة؛ بندقية واحدة تناضل ضد مجموعة من البنادق، تحصن أصحابها وراء عربة الجيب، وأخيرا تتوقف البندقية الواحدة بعد أن عجزت عن الصمود في وجه سيل جارف من الرصاص، ويصمت الفم الذي تحدث حتى الثرثرة، عن عذوبة التضحية في سبيل الآخرين، ويتحول الحدث إلى موقف بالنسبة إلى المراسل الصحفي، ويتكشف الموقف عن سوء عملية تطوير إيجابية. «وفي هذه اللحظة كانت مشاعر محمود - المراسل الحربي - تعاني انقلابا هائلا؛ لقد بدأ يحس كأن حسن - الفدائي المصري - ليس شخصا آخر منفصلا عنه، وإنما يحس كأنه قد صار قطعة منه؛ ووجد نفسه يزحف إلى جواره، ويأخذ منه البندقية، ويغير مكانه قليلا، ويعاود إطلاق الرصاص، ولا يدري كيف حدث ذلك أيضا، لقد أحس كأن حمى هائلة تجتاح كيانه، وتكتسح أمامها كل خوف وتردد؛ وفجأة توقفت البندقية وأدرك أنه قد أصيب؛ إنه هو الآخر سيموت، ولكنه لم يمت بعد، إنه لا يزال حيا، إن حسن هو الذي منحه هذا القدر من الحياة، هذه اللحظات التي يعيشها الآن، وبدأ يدرك أنه هو الآخر يمنح الحياة أناسا آخرين، يحس بهم كأنهم أيضا قطعة منه ... ولأول مرة بدأ يدرك الصلة التي تربطه بهم، إنه يمنحهم الحياة التي يفقدها هو، إنه يتيح لحياتهم أن تستمر، أن تبقى، أن تمتد؛ وذاب في أعماقه شعور بالأسف، إنه يفقد الحياة بعد أن عرفها لأول مرة، وأدرك في قسوة أنه لم يعش قبل هذه اللحظات، لا بل كان يعيش؛ كان يعيش داخل قوقعة مظلمة، داخل ذاته، وحين انطلقت بعض الرصاصات وحطمت تلك القوقعة؛ بدأ يحس بالآخرين!»
إن القصة - كعمل فني - تصوير للواقع وتجسيم للمشكلة، ووراء التصوير والتجسيم شيء يريد أن يقوله لنا الكاتب؛ محمد أبو المعاطي أبو النجا يقول لنا هذا الشيء في كثير من أعماله الفنية، قاله لنا في «الطابور» وفي «حارس المقبرة»، كما قاله لنا في «الآخرون»؛ إنه هنا كما كان هناك صاحب رأي أو صاحب فكرة، وكل منهما - أعني الرأي والفكرة - يمكن أن يستخلصه الناقد والقارئ من أعماق المضمون الاتجاهي للمشكلة المعروضة. إنها خصيصة أخرى من خصائص المدرسة التشيكوفية، وكاتبنا - كتلميذ مجتهد في هذه المدرسة - يريد أن يقدم لنا هذا الرأي. إن مشكلة السلبية التي تمارسها بعض الأنماط البشرية في حياتنا لا يمكن أن تعالج بالنظريات، وإنما تعالج بكل وسيلة عملية. الانعزاليون لا يمكن أن نعلمهم معنى الارتباط بالحياة، إلا إذا دفعناهم دفعا إلى قلب الحياة، إلا إذا صهرناهم في بوتقة التجربة. الأنانيون لا يمكن أن نلقنهم دروس البذل والعطاء إلا على يد فئة معينة، فئة بلغت درجة الأستاذية في مدرسة التضحيات. فلنضع هؤلاء السلبيين أمام الإيجابيين وجها لوجه، ومن التقاء القطب السالب بالقطب الموجب، يمكن أن تندلع شرارة الإحساس بشرف الفناء؛ في سبيل المجموع!
والكاتب في عمله الفني الرابع: «خروج عن الموضوع»، يريد أن يقول لنا كعادته، هذا الشيء الذي يمكن أن نستخلصه عن طريق الإيحاء؛ إننا في هذا العمل الفني أمام «صورة» من حياة مدرس في مدرسة بنات، مدرس يضيف بخروج تلميذاته عن المعنى المحدود لموضوعات الإنشاء، هذا الخروج الذي كأن هناك يدا خفية ترغمهن عليه، ويجد نفسه - حيال الظاهرة المتكررة - أعجز من أن يصل إلى تفسير معقول. والعدسة اللاقطة تصور لنا تلال الكراريس، وعناء المهنة المرهقة، والملامح النفسية للتلميذات من خلال الموضوعات الإنشائية، وشخصية الأستاذ حسين المدرس كواجهة عرض تجسيمية لمجموعة المدرسين، وذكاء الملاحظة وهي مصبوبة في قالب المفارقة، حين يلتقط الكاتب مركز الصدام المضحك بين منطق الحياة ومنطق الأحياء. المنطق الأخير يفرض على الأستاذ حسين أن يطالب تلميذاته بعدم الخروج عن الموضوع، وحين يكتب الأستاذ خطابا لصديقه، يرغمه المنطق الأول - منطق الحياة - على أن يخرج هو نفسه وبلا إرادة، عن الموضوع. إن اتجاه المضمون يوحي إلينا بهذا الشيء الذي يريد أن يقوله لنا الكاتب: إن الحياة تعاملنا في كثير من الأحيان بمثل هذا المنطق؛ قد تكون لنا قيم معينة نحرص عليها، أو خط سير مستقيم نطالب الغير بأن يسلكه ونفرض على أنفسنا أن نسير فيه؛ ومع ذلك، فما أكثر ما ترغمنا يد خفية أو ظروف ضاغطة، على أن نخرج بلا إرادة عن موضوع حياتنا الذي اخترناه!
وإذا ما انتقلنا إلى العمل الفني الخامس في هذه المجموعة، واجهتنا «تجربة مع الموت». إن المضمون الاتجاهي في هذه القصة، كما هو في «الآخرون» التزامي هادف، قطاع من حياتنا في لحظة صراع بطولي من خلال معركة، عاشها كل منا بوسيلته الخاصة: الفدائي بروحه ودمه، والكاتب بوجدانه وقلمه؛ بطل القصة وهو خارج التجربة، كان قد رسم للموت صورة محددة الملامح مكتملة الخطوط، ولكنها - على الرغم من ذلك - لم تكن صورة حقيقية؛ ملامحها لم تكن مستمدة من الواقع المعاش، وخطوطها كانت تنطلق من جوانب الوجود الخارجي للموت. أما حين أصبح داخل التجربة في أعماقها، بين جدرانها المطبقة، فقد عجز عن تحديد موقفه العقلي والشعور إزاء الموت، وعجز تبعا لذلك أن يقدم إلينا صورته. إن صورة الموت ونحن خارج التجربة تعد نوعا من التصور ... أما ونحن داخل التجربة فإن الرؤية تتعذر، وتتعطل الحواس المهيأة لعملية التصوير.
هذه هي الدلالة الإيحائية التي نستخرجها من المنعطفات الاتجاهية للمضمون، كلون من الإضافة التفسيرية إلى المشهد الواقعي المكون من أحداث ومواقف. ولكن محمد أبو المعاطي أبو النجا يخطئ هذه المرة فنيا واتجاهيا، وهو يقدم هذه الدلالة الإيحائية إلى القارئ في بداية القصة. إن الإيحاء بالفكرة يفقد كل ما فيه من عوامل الإثارة، إذا لم يستخلصه القارئ أو الناقد من السلوك الموقفي للشخصيات؛ هذا السلوك الموقفي أشبه بمجموعة من الغرف المغلقة، على الكاتب أن يعطينا مفاتيحها وينصرف، وعلينا نحن بعد ذلك - ما دامت المفاتيح موجودة - أن نقوم بتلك المحاولة المثيرة؛ محاولة اكتشاف ما في الغرف المغلقة من محتويات نفسية. أما أن يسبقنا الكاتب إلى مثل هذا العمل، فماذا يبقى لنا ليثير فينا متعة البحث والتنقيب؟!
ونخطو بعد ذلك خطوات أخرى إلى هاتين القصتين وهما: «مملكة نبيل» و«فتاة في المدينة». إن التخطيط الإطاري والموضوعي لهاتين القصتين - في حدود أحداثهما ومواقفهما والتكوين النفسي الخاص للشخصيات - تخطيط ناضج، ولكن المشكلات فيهما كما يعالجها الكاتب مشكلات فردية؛ ومن هنا لم تكن واقعية النماذج البشرية المعروضة واقعية نمط. ترى هل نجد الكثير من أمثال نبيل، في مثل هذه البيئة التي نشأ فيها، والتكوين النفسي الذي صنع منه هذا السلوك؟ هل نجد نماذج متعددة من طراز هذا الفتى الصغير، الذي يحس سعادته الحقيقية في حرية الانطلاق وحب الناس والتجاوب معهم، ولو ضحى في سبيل ذلك بجزء من دخله اليومي، وهو في أشد الحاجة إليه؟ صحيح أن الكاتب قد قدم إلينا عنصر التبرير الموضوعي لهذا السلوك، وهو أن الفتى الصغير - حين قرر أن يترك عمله الممل في دكان البقالة - كان قد مارس من قبل نفس التجربة الشعورية، التي تصنع في اندماجه مع الناس مملكته الكبيرة، يوم أن كان بائعا للصحف يجوب القرى العديدة جريا وراء الرزق؛ ولكننا مع ذلك لا نجد في بيئة نبيل كثيرا من أمثاله.
إننا في واقعية النموذج الفردي لا نحس إحساسا كاملا بأن الشخصية تنبض بدم الحياة والحركة، بل إن الإحساس الذي نتعرض له هو أن الشخصية، لم تكن إلا «مجرد» رمز لفكرة في ذهن الكاتب؛ هذه الفكرة هي أننا نستطيع أن نخلق من حب الناس مملكتنا الخاصة! إن هناك فارقا ملموسا بين واقعية النموذج الفردي وواقعية النمط الجماعي؛ الشخصيات في الواقعية الأخيرة لا تتحول إلى رموز لأفكار، ولكنها تتحول إلى رموز لمشكلات اجتماعية ضخمة، تستمد ضخامتها من ضخامة الكم العددي الذي يمثلها من النماذج الإنسانية، كما رأينا ذلك بصورة مجسمة في «الآخرون» و«حارس المقبرة». وإذا وجدنا في واقعية النمط شيئا من الرمز لفكرة، فهو كما قلنا من الإضافة التفسيرية التي يستخلصها القارئ من المضمون الإيجابي لمشكلة يعيشها المجموع.
وما نقوله عن شخصية نبيل نقوله عن شخصية الفتاة المأزومة، التي عقدتها طبيعة العلاقات السطحية المنهارة في حياة المدينة. إن الكاتب يثير عطفنا على البطلة ، وهو يكثف الأزمة تكثيفا نفسيا مطردا، يتناول الجذور والامتدادات، ولكننا نشعر أن التركيبة النفسية للبطلة كإنسانة مرهفة الحس، لا تمثل ظاهرة عامة. صحيح أننا حين نتعرض في قلب المدينة الكبيرة لأزمة من أزمات فقد الثقة في قيمة من القيم، صحيح أننا تبعا لذلك قد نفقد ثقتنا بكثير من أمثال هذه القيم، ولكن هذا لا يحدث كثيرا بالنسبة إلى القيم العاطفية التي تعيش في أعماق الصخب والضجيج. إن الأغلبية المطلقة من فتيات المدينة قد ألفن هذه العلاقات السطحية المنهارة، لدرجة أن الفتاة التي ترمز إلى هذه الأكثرية إذا فقدت ثقتها فيمن تحب، فإن ذلك قد لا يترتب عليه أن تفقد ثقتها في الآخرين. البطلة التي اختارها الكاتب إذن تمثل واقعية النموذج الفردي، ولا تمثل النمط في محيط المشكلة الجماعية!
لغة الأداء في القصة والمسرحية
شيوخ الأدب في مصر، ومعهم قلة من الأدباء تقتفي خطاهم، يقفون موقف المعارضة من اتجاه نقدي ننادي به، وندعو إلى تطبيقه في ميدان القصة القصيرة والطويلة وبعض ألوان المسرح؛ وهم يتشبثون برأيهم بأن لهم فهمهم الخاص لرسالة الأدب، وهو - أعني هذا الفهم - يعد نتاجا تأثريا لجيل معين نشئوا فيه، وطبعهم بطابع قيمه واتجاهاته. أما نحن كمجموعة من النقاد تحمل لواء الدعوة إلى هذا الاتجاه النقدي الذي أشرت إليه، فمرجع إيماننا الاتجاهي أن لنا فهمنا الخاص لرسالة الأدب وكذلك نظرتنا الذاتية، وهما - بلا شك أيضا - يعدان نتاجا تأثريا لجيلنا الذي يساير ركب التطور، وينشد التجديد إذا ما تحققت من ورائه بعض أهداف النقد، ومن أهمها مثلا أن نشق للأدب مجرى عميقا وطويلا خلال أكبر عدد من الصفوف الجماهيرية القارئة.
الخلاف بيننا كما قلت، لا يتعدى مجال القصة القصيرة والطويلة وبعض ألوان المسرح، وهو خلاف من شأنه أن يتحول إلى معركة، إذا ما كانت المعركة بطبيعتها حربا بين رأي ورأي، أو نضالا بين فكرة وفكرة، أو صراعا بين مجموعة من القيم الفنية؛ ومن حق النقد أن يخوض هذه المعركة ما دام هدفه البعيد أن تنتصر دعوة نبيلة، مضمونها أن يتخلص الأدب من بعض القيود التي تربطه بالمثقفين «وحدهم»، حتى يستطيع أن يخاطب كل الطبقات وأن يحطم الأبراج العاجية، ويهبط من عليائه إلى الشارع؛ وحتى يستطيع آخر الأمر أن يحمل رسالة التوجيه ويلوح بعصا القيادة.
لماذا كانت القصة والمسرحية بالذات ميدانا للخلاف أو ميدانا للمعركة؟ لأنهما أكثر فنون الأدب على الإطلاق رواجا في عصرنا، وأصدقها تعبيرا عن الواقع الاجتماعي للشعوب، وأبعدها دلالة على المستويات النفسية والعقلية للجماهير، وأحقها - تبعا لذلك - بتحمل مسئولية الدور القيادي الذي يمكن أن يؤديه الأدب للفرد والمجموع.
محور الخلاف الذي تدور حوله المعركة هو اللغة، اللغة التي يعبر بها كاتب القصة وكاتب المسرحية؛ إنها خيط الاتصال بين الأديب المنتج والجمهور القارئ، وإذا ما تعرضت هذه الخيوط الاتصالية لبعض ألوان التعقيد في النسيج الفني، تعقدت معها بالتبعية عملية التجاوب الفكري والشعوري بين جهاز الإرسال والاستقبال؛ أعني بين منتج الفن ومتذوق الفن!
نحن في اتجاهنا النقدي الذي ننادي به، نرى أن تكون عملية السرد في القصة باللغة الفصحى على أن تكون مبسطة، بحيث لا يصعب فهم تعبير معين على رجل الشارع أو أنصاف المتعلمين؛ أما الحوار الذي يدور بين الشخصيات سواء أكان ذلك في القصة أو المسرحية، فيجب أن يكتب بنفس اللغة التي تنطق بها الشخصيات في الواقع المعاش، أو بتعبير آخر بلغة حياتها اليومية. ولنا من وراء ذلك هدف مزدوج؛ هو أن نضمن سلامة المفهوم الفني لعملية التصوير القصصي من جهة، وسلامة التحقيق الفعلي لظاهرة التجاوب الجمهوري مع مضمون الأدب من جهة أخرى.
إن اللغة الأصلية للشخصية في الحوار القصصي والمسرحي، تحمل في ثناياها أكثر من دلالة ... منها دلالة المستوى النفسي ودلالة المستوى العقلي ودلالة المستوى الاجتماعي لهذه الشخصية، بالإضافة إلى أننا نلتزم صدق الواقع التعبيري للغة المنطوقة؛ ذلك لأن التركيبة النفسية لأي نموذج إنساني، من شأنها أن تطبع سلوكه الحركي والكلامي بالطبع الملائم لاتجاهها الداخلي. وكذلك الأمر فيما يختص بالتكوين العقلي لهذا النموذج، حين نلاحظ وحدة التلوين بين المناهج الذهنية وخطوط الاتجاه اللفظي كانعكاس مباشر. وما نقوله هنا نقوله مرة أخرى عندما نتحدث عن أثر الرابط التفاعلي بين طبيعة الوسط الاجتماعي للشخصية وبين منطق التعبير، فإذا ما كان هدف القصة أو المسرحية هو أن تقدم لنا قطاعات حية وتجارب معاشة من حياة الناس، فمن حق هؤلاء الناس - ممثلين في مختلف النماذج المرسومة - أن يجدوا أنفسهم على حقيقتها في مرآة الكاتب القصصي المسرحي، بكل مشكلاتهم وانفعالاتهم وملامحهم النفسية والتعبيرية، وعندما يتحقق لهم ذلك - عن طريق لغة الكاتب المبسطة في عملية السرد، ولغة حياتهم اليومية في عملية الحوار - فقد تحقق للأدب أن يرسل خيوطه الإشعاعية إلى كل اتجاه، وأن يشق طريقه في كل الدروب.
إننا، عندما يقول ناقد كبير معاصر عن الروائي الفرنسي بلزاك إنه أعظم كتاب الرواية، نجد أنه قد بنى حكمه على أساس حقيقة ناصعة، هي أنه لم يستطع أن يخرج من كل كتب التاريخ التي قرأها عن المجتمع الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بصورة واقعية ومتكاملة لهذا المجتمع، كما خرج بهذه الصورة من الأعمال الروائية لبلزاك. وعندما نذكر أن هذا الكاتب العظيم كان يحرص على البساطة المتناهية في لغة الأداء، نذكر في الوقت نفسه أنه قد تعرض - بسبب هذه البساطة - لبعض صيحات الإنكار من نقاد عصره، حين لم يجدوا مأخذا في فنه غير أن أسلوبه يشبه في رأيهم أسلوب الكتاب الصحفيين. ولم يكن بلزاك عاجزا عن مجاراة أصحاب الصنعة البيانية من الكتاب الرومانسيين وبقايا الكلاسيكيين في جيله، ولكنه آثر ألا يقصر أدبه على المثقفين ورواد الصالونات الأدبية، ومضى يشق لهذا الأدب الواقعي مجرى عميقا وطويلا، خلال أكبر عدد من الصفوف الجماهيرية القارئة. ومن هنا استطاع أن يطفئ بريق الرومانسية التعبيرية في عصرها المتألق، وأن يبهر بالوهج الجديد للأدب الواقعي في شكله ومضمونه، كل العيون المتطلعة إلى ضوء التطور!
هكذا كانت الصيحات التي ارتفعت في وجه بلزاك، ولم تستطع أن تعوق خط السير الذي رسمه لأدبه، وانتهى به إلى مزيج رائع من التفوق والانتصار. إننا نسمع اليوم نفس الصيحات أو ما يشبهها إنكارا وثورة، كلما استجاب واحد من كتابنا القصصيين أو المسرحيين لصوت النقد، وقام بتبسيط لغة الأداء بالنسبة إلى عملية السرد، وإدارة الحوار القصصي والمسرحي بما يطابق الواقع للشخصيات. وتنطلق فنون الاتهام من أفواه المعترضين، بأن في هذا الاتجاه خطرا على الفصحى مبعثه تشجيع اللغة الدارجة، وإفساح الطريق إلى كل عاجز عن الأداء «البليغ»، ليكون واحدا من حملة الأقلام. ثم يمتد الاتهام بعد ذلك حتى يتخذ نقطة ارتكاز جديدة، مؤداها أن في هذا الاتجاه خطرا آخر على وحدة الفهم المشترك بين القراء العرب، وهي الوحدة التي تحققها لهم تلك اللغة الفصحى، التي يعبر بها الأدب في كل أقطار العروبة؛ ذلك لأن اختلاف اللهجات المحلية بين قطر وآخر، كفيل في رأيهم بأن يخلق مجموعة من حواجز التمثل المعنوي للتعبير بين كاتب من هنا وقارئ من هناك.
إذا احتاج هذا الاتهام إلى رد فإن الرد مهيأ وميسور؛ مهيأ بالكلمة وميسور بالتجربة، أما التجربة فقد قام بها توفيق الحكيم منذ خمسة وعشرين عاما على وجه التقريب، يوم أن خرج على القراء العرب بعمله الروائي الناضج «عودة الروح». لقد كانت «عودة الروح» بداية التطبيق العملي لما ندعو إليه اليوم في أدبنا القصصي الحديث، كانت عملية السرد بالفصحى المبسطة، وكانت عملية الحوار باللغة العامية، ولم يقل أحد إن اتجاه توفيق الحكيم قد أنقص من قدر القيمة الفنية لعمله الروائي الناضج، أو إن اللغة الفصحى قد أصابها شيء من التصدع في ذلك الحين، أو إن لغة الحوار في «عودة الروح» كانت حاجزا من حواجز الفهم المعنوي الفني، بالنسبة للجمهور القارئ في المملكة السعودية مثلا أو في لبنان أو في سوريا والعراق. ولا خوف بعد ذلك على الفصحى، وهي ما زالت تملك مثل هذا الرصيد من فنون التعبير، ونعني بها النقد والدراسة الأدبية والقصيدة والمسرحية الشعرية والتاريخية، وكل الآثار الفكرية لكتابنا المفكرين.
ونحن نؤمن بأن المستقبل القريب سيحطم من تلقاء نفسه كل الحواجز الفاصلة بين القراء العرب، يوم أن تصبح الوحدة المرتقبة بين الأقطار العربية عاملا جوهريا من عوامل الاتصال في مختلف ألوانه، ومنها الاتصال اللغوي الذي يحقق وحدة الفهم المتبادل بين اللهجات المحلية، وعندئذ يستطيع الكاتب القصصي أو المسرحي مهما كانت جنسيته العربية، أن يخاطب القراء العرب في كل بقعة من الوطن الكبير باللغة الفصحى، إذا أراد شيوخ الأدب، أو بتلك اللغة المزدوجة إذا ما فرضتها إرادة الفن!
ترى هل كان توفيق الحكيم يوم أن استخدم تلك اللغة المزدوجة في «عودة الروح»، عاجزا عن التعبير بتلك اللغة التي يطلق عليها شيوخ الأدب صفة الأداء البليغ؟ الواقع أن اتجاه توفيق الحكيم لم يكن له يومئذ غير دافع واحد، هو على التحقيق لون من الوعي السابق لزمانه؛ لقد كانت «عودة الروح» - بالنسبة لحياته الفنية - نقطة بدء يريد لها بعد ذلك أن تكون نقطة انطلاق، ولن يتهيأ له هذا الانطلاق إلا إذا غزا بعمله الأول أكثر من ميدان قرائي، يجمع بين المثقفين وغير المثقفين في مصر والبلاد العربية. وتم لتوفيق الحكيم ما أراد، ولقيت «عودة الروح» من الرواج ما لم يلقه كتاب عربي سواء كان قصة أو غير قصة، ولم يكن عجيبا أن يلمس الناقد يومئذ أن الأوساط الشعبية من ذوي الثقافة المحدودة، كانت ميدانا بارزا من ميادين هذا الرواج؛ ومن هنا تفاعل توفيق الحكيم - الكاتب الناشئ في ذلك الحين - مع وجدان رجل الشارع، في نفس الوقت الذي تفاعل فيه مع وجدان رجل الأدب. وعندما نجحت التجربة الأولى أعقبها الكاتب بالتجربة الثانية في «يوميات نائب في الأرياف»، ولقد توفر للتجربة الأخيرة ما توفر للتجربة السابقة من عوامل النجاح. ولعل توفيق الحكيم - بعد أن اطمأن إلى تحقيق هدفه - أراد بعد ذلك أن يثبت لحراس اللغة في زمانه، أنه قادر على الأداء «البليغ»؛ ولهذا نراه يختار لنفسه أفقا جديدا، يحلق فيه بجناح الفصحى وهو أفق المسرحية الأسطورية، حيث لقيه القراء العرب في «أهل الكهف» و«بجماليون» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم».
ولا جدال في أن اللغة الفصحى هي اللغة الملائمة للمسرحية الأسطورية والتاريخية؛ لأن هذا اللون من التأليف المسرحي يختلف من ناحية المقومات الفنية، عن المسرح ذي المضمون الاجتماعي المعبر عن مشكلات عصرنا بما فيها من تجارب معاشة؛ ولما كانت شخصيات المسرح الأسطوري ليست إلا رموزا لأفكار الكاتب واتجاهاته، أو واجهات عرض لمجموعة من وجهات النظر الفنية والفلسفية، فمن الطبيعي ألا ننطق هذه الشخصيات - التي ينقصها دم الحياة ونبض الحركة - بلغة حياتنا اليومية. وشخصيات المسرح التاريخي إما أن تكون منتزعة من تاريخنا العربي القديم، أو من تاريخ مماثل لدولة تختلف عنا في لغة التعبير، وما دام الأمر كذلك فمن الطبيعي أيضا ألا ننطق شخصية عربية قديمة أو شخصية أجنبية مماثلة من حيث القدم، بنفس اللغة التي تتحدث بها النماذج الشعبية في مسرحنا الاجتماعي المعاصر.
من هنا كان توفيق الحكيم وغيره من كتابنا المسرحيين على حق، وهم يختارون اللغة الفصحى كوسيلة أدائية لحوار المسرحية الأسطورية والتاريخية؛ ولكننا نرى توفيق الحكيم في الأيام الأخيرة، يتجه اتجاها جديدا في لغة الحوار، بالنسبة إلى مسرحه الذي يعالج بعض مشكلات مجتمعنا الحديث، إنه يحاول أن يرضي حراس الفن وحراس اللغة، يحاول أن يلبي نداء الفنان داخل نفسه، ونداء زملائه من شيوخ الأدب داخل المجمع اللغوي؛ ولهذا لجأ إلى حل وسط يرضي به الطرفين المتنازعين، وأمسك بالعصا من منتصفها حتى لا يكون موضع احتجاج واتهام. لقد كتب توفيق الحكيم حوار مسرحية «الصفقة» باللغة الفصحى، التي يمكن أن يختلف فيها النطق عن القراءة، بمعنى أن هذه اللغة تتحول على لسان الممثل فوق خشبة المسرح إلى لغة عامية، وتتحول على لسان القارئ الذي يتصفح المسرحية إلى لغة فصيحة؛ وما من شك في أن توفيق الحكيم قد بذل كثيرا من الجهد، وهو يختار الجمل الحوارية التي أتاحت لمسرحية «الصفقة»، مثل هذا التزاوج اللفظي الذي التزمه كعلاج للمشكلة، وما كان أغنانا وأغناه عن هذا العلاج.
ولقد حرص توفيق الحكيم على عامية اللغة المنطوقة على خشبة المسرح، لهدف فني يعيه حق الوعي؛ وهو الهدف الذي ندعو إليه في سبيل تكامل المقومات الواقعية، لرسم الشخصيات في العمل المسرحي. ولهذا الاتجاه هدف آخر جعله الأستاذ الحكيم نصب عينيه، وهو عملية التجاوب الجماهيري مع المسرح التمثيلي، الذي يصور شتى الجوانب من مجتمعنا الحديث، بلغة الواقع في حياتنا اليومية، إن شباك التذاكر في مسارحنا المصرية، يشهد ظاهرة تتكرر دائما كلما عرضت إحدى المسرحيات الجديدة لكاتب من كتابنا المسرحيين، وهي أن رجل الشارع المصري بقدر ما يعرض عن المسرحية المكتوبة باللغة الفصحى، يقبل على المسرحية التي يعرف أن مضمونها سينقل إليه، عن طريق تلك اللغة الأخرى التي يتم بينه وبينها كثير من الألفة والتجاوب. من هنا ندرك جانبا مهما من جوانب النجاح الذي أحرزه في السنوات الأخيرة عندنا فريق من كتاب المسرح الشبان؛ إن سر نجاحهم الفني والجماهيري يرجع أولا إلى أنهم يمثلون مشكلات عصرهم، من خلال الملاحظة الدقيقة والتجارب المعاشة، وإلى أنهم يعرضون المضمون الاجتماعي لهذه المشكلات بعد ذلك، من خلال الشكل التعبيري الملائم، ونعني به لغة الحوار في قالبها الواقعي ودلالاتها الموحية. ومثل هذا النجاح من ناحيتيه الفنية والجماهيرية، وبنفس هذ المقومات يطالعنا مرة أخرى بالنسبة إلى مجموعة أخرى من كتابنا الشبان في ميدان القصة القصيرة والطويلة.
ولا بد لهذه الجولة الاتجاهية الناقدة أن تقف عند نموذج آخر من شيوخ الأدب هو محمود تيمور؛ هذا الكاتب الشيخ - منذ انضمامه إلى طائفة المجمعيين - يسلك طريقا آخر غير الذي كان يسلكه من قبل، بالنسبة إلى لغة الأداء في القصة والمسرحية. كانت الصفة الغالبة على جوهر الشكل التعبيري عند محمود تيمور، هي البساطة التي لا تقطع خيوط الاتصال الفكري بينه وبين رجل الشارع؛ وتحقيقا لهذا الاتجاه الذي كان يلتزمه كلون من المسايرة الواقعية لروح العصر، كتب بعض مسرحياته الأخيرة باللغة العامية، والتقى كثيرا من ناحية الأداء السردي في مجال القصة، مع هذه الخطوات الموفقة التي يخطوها اليوم كتابنا الشبان. ولكنه تغير بعد أن أصبح عضوا من أعضاء المجمع اللغوي؛ مسرحياته التي كتبها بالعامية أعاد كتابتها بتلك اللغة الفصحى التي ترضي المجمعيين، وكأنه أراد أن يثبت لهم أنه جدير بزمالتهم وقدرته على الأداء «البليغ»؛ ونظرة من نظرات المراجعة النقدية لهذه المسرحيات المعدلة من حيث لغة الحوار، تؤكد مدى الفوارق الفنية بين واقع كل شخصية رسمها هنا وهناك، لقد فقدت الشخصيات في صورتها الأخيرة كثيرا من أصالة تكوينها النفسي والإنساني، حين فقدت أصالة الواقع التعبيري في اللغة المنطوقة، وهو أحد العناصر الرئيسية المبرزة لهذا التكوين!
والقصة عند الأستاذ تيمور قد انتقلت هي الأخرى من طابع الفصحى المبسطة إلى طابع الفصحى المعقدة بل المسرفة في التعقيد؛ ولقد قلت له - يوم أن كنت واحدا من النقاد الذين اختارتهم الإذاعة المصرية لمناقشة روايته الأخيرة «شمروخ» - إن هذه الرواية من حيث المضمون تعد نموذجا طيبا يباركه النقد؛ ذلك لأنها تمثل على مستوى جيد أدب الواقعية الاشتراكية، ولكنها للأسف قد كتبت ليقرأها أعضاء المجمع؛ إن الأغلبية المطلقة من القراء لا تستطيع مثلا أن تفهم في لغة الأداء، أمثال هذه النماذج من التعبير «بخ بخ يا صاحبي؛ ذو الوجه المصوح والأعصاب المستفزة؛ وعرك أذن المذياع!» لماذا لا نستبدل هذه النماذج التعبيرية مثلا، بما يؤدي المعنى نفسه في الفصحى المبسطة؟ لقد كان الأستاذ تيمور يستطيع أن يقول: «حسنا حسنا يا صاحبي؛ ذو الوجه الذابل والأعصاب المتوترة، وأدار مفتاح الراديو.» إن الأدب القصصي والمسرحي يجب أن يكون في متناول أيدي الجماهير، ولكي يكون في متناول أيديهم يجب أن يكون في متناول عقولهم، وبخاصة إذا كان هذا الأدب يتحدث عن مشكلات الجموع ويخدم قضية الإنسان!
إن الأدب صورة القارئ كما يقول الكاتب الفرنسي جان بول سارتر؛ ومن خلال هذا الوعي التحديدي الناضج لموضوعية العمل الفني عند واحد من رواد التعبير عن روح العصر، نخرج بما يؤيد وجهة النظر النقدية التي ننادي بتطبيقها على فنين من فنون الأدب، ونعني بهما القصة والمسرحية؛ ونستطيع أن نجمل خلاصة الرأي السارتري بأن القارئ هو الذي يوجه الأدب عن طريق الكاتب الأديب، بمعنى أن هذا القارئ - كرمز جامع لأكثر طبقات القراء - هو على التحقيق تلك المادة الحية التي تشكل الخيوط الناسجة لمضمون هذا الأدب؛ إنه بقلقه وانفعالاته، بحاجاته ومطالبه، بوضع ماضيه وحاضره وأحلام مستقبله، يمثل تلك المادة الحية التي تفرض نفسها على إنتاج هذا الكاتب، وتحدد لهذا الإنتاج معالم الطريق. إن القارئ على اختلاف طبقاته ومستوياته وبالنسبة إلى الأدب، هو القوة الدافعة والموجهة؛ ذلك لأنه مركز الخطط وموضوع التجربة. وعلى هذا الأساس نجد أن القارئ قد لون وجه الأدب فجعله كلاسيكيا مرة، ورومانسيا مرة أخرى، وواقعيا مرة ثالثة، ووجوديا مرة رابعة، وواقعيا اشتراكيا في النهاية، على مدار خط التطور العقلي والاجتماعي في مختلف العصور. وعلى ضوء هذا التفسير المجمل ندرك دقة الصلات الرابطة بين موضوع التجربة ومخرج التجربة، أو بين القارئ والكاتب من خلال مشكلة التعبير!
من الطبيعي إذن أن يكون الأدب صورة صادقة للجمهور القارئ؛ ومحور هذا الصدق أن نتحاشى - عند رسم الصورة - تلك «الرتوش» المفتعلة في مضامين التجربة وفي أشكال التعبير. وليس معنى الدعوة إلى البساطة التعبيرية - كما يعتقد من يخطئون الفهم - هو أن نهبط بالأدب إلى مستوى رجل الشارع، هناك فارق ملموس بين الهبوط والوصول؛ إننا نريد أن «نصل» بالأدب إلى رجل الشارع لنتفاهم معه، لنطلعه على مشكلاته، لنقدم إليه صورته؛ لأنه - في هذا العصر الواقعي الذي نعيش فيه - هو الذي يفرض علينا هذا الوصول.
وليست بساطة التعبير بعد ذلك - كما يعتقد أيضا من يخطئون الفهم - منافية للجمال، وإنما يتنافى الجمال مع التعقيد والغموض، وتلطيخ وجه الأسلوب بمساحيق الزخرفة اللفظية. إن جمال الأداء بالنسبة إلى الشكل التعبيري في البلاغة الحديثة، يختلف عنه من حيث المفهوم في البلاغة القديمة؛ فبقدر ما يفهم القارئ من الكاتب ويتأثر به ويتجاوب معه، وبقدر ما يكتسب على يديه جديدا من الخبرة الرفيعة بالنفس والحياة، في تعبير يتسم بالإيحاء والتركيز، والملاءمة بين ثوب الأسلوب وجسم الفكرة، يكون الأدب - وبخاصة في القصة المسرحية - قد قام بدوره البليغ من الناحية الجمالية في الفن والأداء.
رواية «الأرض»
بين أيديولوجية الفن وواقع الحياة
قلت عن هذا النموذج الروائي في العدد الثاني للسنة الثالثة من «الآداب»:
هذه القصة الطويلة التي سماها كاتبها «الأرض»، والتي صور فيها كفاح رقيق الأرض ضد مختلف القوى المسيطرة على وجودهم الإنساني، فقد فيها الاتجاه الملتزم رسالته التأثيرية الموجهة؛ فقدها لأن الكاتب عني بالاتجاه أكثر مما عني بالأصول التكنيكية لبناء الرواية، ومن هنا خرجت «الأرض» وهي أقرب إلى الريبورتاج الصحفي في طريقته وأسلوبه، منها إلى العمل الروائي بمقوماته الفنية.
كان هذا هو رأيي في «الأرض» لمؤلفها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، سجلته وأنا أتحدث عن فردية الاتجاه في الأدب الملتزم، ولكن الناقد المصري الأستاذ محمود العالم قد خالفني في هذا الرأي، بما يثبت العكس من الناحية التقييمية؛ إن «الأرض» من خلال منظاره النقدي: «عمل روائي تتحقق له مقومات فنية أصيلة في بناء أحداثه وشخصياته وأنماطه وتطوير عناصره»، حتى لقد طالبني في النهاية من باب المساجلة النقدية أن أحدد له أوجه النقص في هذا العمل الروائي، تحديدا تفصيليا موضوعيا يمكن أن يتضح فيه الكثير من مسائل النقد المعلقة.
من هنا أضع نقطة البداية لهذا النقد التفصيلي الموضوعي، فأقرر كما سبق أن قررت، أن «الأرض» ليست رواية بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بالنسبة إلى التقييم النقدي؛ والمؤلف نفسه يضع مثل هذه النقطة التقريرية حيث يقول في أول صفحة من صفحات الكتاب: «لست أريد بهذه الصفحات أن أكتب رواية طويلة؛ ولا أن أروي هنا تاريخ بعض الرجال أو النساء، ولا ذكرياتي، ولست أحتال على القارئ لأسرق اهتمامه ويقظته، فأؤكد له أن الأبطال الذين يضطربون عبر هذه الفصول، لم يعيشوا أبدا إلا في الخيال، لن أخدع القارئ لأسرق اهتمامه إلى هذا الحد ... فخيالاتنا في النهاية لا تستطيع أن تخلق الكائنات التي تمضي مع الحياة مثقلة بالحياة: تحلم وتتعذب، وتعرف المتاع واليأس والهوى والدموع والضحكات والأمل الغامض وتصنع المستقبل في إصرار حزين، وما أنا بزاعم أني عرفت حياة الذين أتحدث عنهم، فنحن في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؛ وقصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وتمضي فاترة رتيبة يخالجها الاحتدام والغليان لبعض الوقت، ثم تمهد وتغيض، تغيض شيئا فشيئا كمياه منسابة على الرمال، هكذا كانت حياة وصيفة وعبد الهادي وخضرة وعلواني ومحمد أبو سويلم والشيخ يوسف، والشيخ الشناوي ومحمد أفندي والشيخ حسونة، وكل النساء والرجال الذين عرفتهم في قريتي منذ عشرين عاما.»
لم يحاول المؤلف إذن أن يكتب رواية طويلة، ولا تاريخا لغيره، ولا ذكريات؛ أما أنه لم يرد أن يقدم إلى القارئ عملا روائيا، فحقيقة يؤيدها الواقع في كثير من الإنصاف، ولكن هذا المنطق التبريري الذي يمهد به كقضية متبلورة لنفي الصفة الروائية عن عمله، يثير قبل التعرض لهذا العمل بمختلف خطوط النقد هذا السؤال: هل صحيح أن قصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وأننا في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؟ وهل يمكن أن نطبق هذا المفهوم الاجتماعي على قصة الحياة في الريف المصري، بحيث تندرج تحته أسماء وصيفة ومحمد أبو سويلم وعبد الهادي وعلواني والشيخ يوسف، وبقية النماذج البشرية التي تكون في مجموعها جوهر المضمون الإنساني لعمل المؤلف؟ الذي أعرفه عن يقين أن قصة هؤلاء جميعا؛ أعني قصة وجودهم الضائع بما كان فيه من حيرة المصير، هي قصة الأرض نفسها التي ارتبط بها هذا الوجود؛ وقصة الأرض في مصر قصة كاملة، لها مقدمات ولها بداية ولها تاريخ. إن قصة الأرض التي هي قصة هذا القطيع البشري التعس، يتحدث فصلها الأول عن مفهوم شيء اسمه الإقطاع، ويتحدث فصلها الثاني عن أثر هذا الإقطاع في نظام المجتمع، حين يتحول هذا المجتمع إلى فريقين: قلة تملك كل شيء، وإلى جانبها كثرة لا تكاد تملك شيئا؛ ثم إلى طبقتين: طبقة السادة، وطبقة الرقيق، أعني سادة الأرض ورقيق الأرض. ويتحدث فصلها الثالث عن أثر هذه الطبقية في تكوين الجهاز النفسي للفريق الآخر، وهو الجهاز المعقد الذي يوجه سلوك القطيع البشري في طريق الحياة.
هذا القطيع الذي يمثل الإنسان الحقيقي في مصر، لا يمكن إذن أن تظهر قصته فجأة، وإنما كان لها تلك الجذور الضاربة في أعماق التاريخ؛ ولو نظر المؤلف إلى وضع الأرقاء من أبطاله الروائيين من خلال الرواية الحقيقية لتكوينهم النفسي، لاستطاع أن يتجه بخط التطوير في العمل الفني اتجاها آخر، لا تنطمس فيه الأبعاد النفسية على هذه الصورة، التي اهتزت فيها أيديولوجية الواقع.
توهم «الفجائية» في ظهور قصة الإنسان «الفلاح» في مصر، هو الذي جعل المؤلف يبرز مشكلة وضعه الاجتماعي، من خلال مضمون إنساني لا عمق فيه، أين هو هذا العمق في مثل هذه الملاحظة السطحية، التي تصور لصاحبها أن حياة الفلاح متوقفة على حياة الأرض، وأن حياة الأرض متوقفة على وفرة مياه الري، وأن هذه هي العلاقة النفسية بين الفلاح وأرضه في معركة معينة من معارك الكفاح؟ لقد كانت الملاحظة عند المؤلف من هذا الطراز؛ مشاهد متتابعة لتلك المعارك الكفاحية حول الماء، وهي حينا تقع بين الفلاحين بعضهم وبعض، وهي حينا آخر تقع بينهم وبين رجال الحكومة، وتنتهي كما هو المألوف في عهد حكومة «صدقي»، إلى نوع من المقاومة السلبية المتمثلة في الشكاوي المكتوبة، يكتبها أمثال محمد أفندي من المدرسين الإلزاميين، يوم أن كانوا هم النماذج البشرية المتميزة في كل قرية، أو تنتهي إلى نوع من المقاومة الإيجابية المتمثلة في اختلاس الماء، الذي تغدقه الحكومة على أرض نائبها «الباشا» بشتى الطرق، وتحدي رجال الإدارة عن طريق التمرد الخاضع في النهاية لأوامر المسئولين. والنتيجة كما كان يسجلها الواقع المشهود، هو أن تبدأ حركات القبض على الجموع المتمردة، ثم تتعرض هذه الجموع لألوان خسيسة من التأديب الذي يهدر كرامة الإنسان.
هذا هو الواقع «المجرد» الذي شاهدته في قريتي، كما شاهده المؤلف في قريته، وكما شاهد الألوف من أبناء هذه القرى المصرية في ذلك الحين؛ ولكن ما هو موقف الروائي إزاء هذا الواقع؟ هل ينقله هذا النقل الريبورتاجي الذي جردت فيه الصور من مجالاتها الخلفية؟ إن المجال الخلفي الذي يمثل أيديولوجية الواقع بالنسبة إلى صور المواقف الكفاحية للفلاح المصري، لا يلون بمثل هذا اللون الباهت، الذي أبرز عنصر التكوين النفسي وهو معطل الإحساس برواسب المشكلة، ثم أبرز عنصر التطوير تبعا لذلك، وهو منحرف عن الاتجاه الطبيعي كما يجب أن يكون. إن الإقطاع في مصر قد سلب الفلاح المصري وجوده، سلبه حاضره ومستقبله، وكل حقه المشروع في تقرير المصير، ومع ذلك فهذا الفلاح عند المؤلف ومن خلال منظاره الروائي، عندما تحتدم الثورة في نفسه على «الباشا» وعلى الحكومة التي تقف من ورائه، فهي لا تحتدم على هذا الباشا بصفته ممثلا للإقطاع، ولا على هذه الحكومة بصفتها حامية لهذا الإقطاع، وإنما تحتدم عليه بصفته «نائبا» لحزب الشعب، وتحتدم عليها بصفتها مسئولة عن تنفيذ رغبات ممثليها من النواب؛ وهكذا ظهرت قصة الفلاحين «فجأة»، وكأن لم يكن لهم تكوين نفسي سابق، وظهرت قصة الأرض «فجأة»، وكأن لم يكن لها مقدمات تاريخية سابقة. ولا عجب بعد ذلك إذا ما بدا الفلاحون ثائرين في منظار المؤلف، لا لأنهم قد سلبوا «دهرا» كل وجودهم الإنساني، ولكن لأنهم قد سلبوا «يوما» في سبيل مصلحة أرض الباشا نصف الفترة المقررة لهم في دور مياه الري، ثم قطعة من الأرض - ستدفع لهم الحكومة تعويضها المناسب - لإنشاء طريق عبر الحقول!
ولقد وقع المؤلف في خطأ تكنيكي بارز، عندما جعل مقدمته التفسيرية لماهية الوجود الإنساني في مصر، وما تلاها من عرض لبعض ذكرياته العاطفية التي استنفدت خمسين صفحة من صفحات الكتاب، بمثابة التخطيط الخارجي للمشكلة؛ إن التخطيط الخارجي يجب أن يكون داخل الحدود، أعني داخل حدود الأبعاد الموضوعية للعمل الفني، بحيث تنبع منه نقطة الانطلاق الروائي للمواقف والأحداث: المواقف التي تبرز عملية التكوين النفسي لكل شخصياته، والأحداث التي تهيئ عنصر التبرير الموضوعي لكل موقف، حين يتحول هذا الموقف إلى مجموعة من السلوك الحركي على مدار الخط الروائي الصاعد.
إن نقطة الانطلاق الروائي في «الأرض»، تبدأ على التحديد في الصفحة الحادية والخمسين، أما الصفحات السابقة كلها فتعتبر خارج الحدود؛ لقد خصصها المؤلف لذكرى علاقة شخصية كانت تربطه في الصغر بوصيفة، ووصيفة كما تبدو لنا من خلال تلك الصفحات كتلة من شباب الجسد، كانت تهز في أعماق الفتى الصغير كل مشاعر الجنس؛ وهي فورة مبهمة قبل الأوان. ويمضي هو فيشرح لنا أدوار تلك العلاقة من خلال الصور الجسدية الملونة لوصيفة، ومن خلال كل موقف جمع بينهما مع صبيان القرية، وهم يستحمون عراة في مياه الترعة فيتحسس جسدها الفائر المليء، ثم وهو يمثل معها بأحلام الطفولة وفي مصلى الشناوي، ذلك الوضع الجنسي لكل زوجين في ليلة الزفاف، ثم وهو ينفرد بها ذات مساء تحت جميزة عبد الهادي، ليقطف بأوهام الرجولة كل ثمار هذا الجسد؛ إلى آخر تلك المواقف الفردية، التي لا تندمج في المضمون الجماعي للمشكلة، ولا تتصل بالخط الاتجاهي الذي تتبلور في حدوده الأحداث، فضلا عن كون شخصية المؤلف قد أقحمت في العمل الروائي على بقية الشخصيات الصانعة للتجربة، حتى بدت وهي «نشاز» في النغم العام لمثل هذه التجربة الإنسانية المعاشة!
ولقد ترتب على هذا الإقحام أن عملية الرصد المادي للأحداث، وكذلك عملية المراقبة النفسية للمواقف، قد أصبحت كلتاهما تنقل إلى القارئ بواسطة المؤلف نفسه، بعد أن تموضعت شخصيته في مركز الضمير الأول في السرد الروائي؛ وهنا يكمن خطأ تكنيكي آخر لا يقل عن الخطأ الأول جسامة؛ ذلك لأن عملية الرصد والمراقبة - عندما تكون العدسة الروائية مسلطة على تجارب الآخرين - لا يمكن أن تتم عن طريق الضمير الأول إلا في حدود اللقطة البصرية أو السمعية، فإذا ما أراد المؤلف أن يتخطى حدود اللقطتين، ليقدم صورة تحليلية تكشف لنا عن مضمون الوجود الداخلي للشخصيات، فهو ملزم تكنيكيا بأن يقدم هذه الصورة، في إطار الحركة الخارجية الدالة على طبيعة هذا المضمون.
لقد انطلق عبد الهادي مثلا إلى الجسر يبحث مرتاعا في الظلام عن وصيفة، بعد أن أخبره المؤلف أنه رآها تتسلل خلسة إلى أحد الحقول، ولعلها كانت مع علواني على ميعاد؛ إلى هنا وكل شيء في حدود المنظور أو المسموع: انطلاق عبد الهادي يفتش في كل مكان عن الحبيبة الضالة، وعن الغريم الذي كاد أن يسلبه أعز ما يملك، واطمئنانه بعد ذلك إلى أن الرواية التي نقلت إليه كانت من صنع الخيال؛ ولكن المؤلف يتخطى بعد لحظات حدود اللقطة البصرية والسمعية، إلى اللقطة الاستبطانية التي تخرج في النقل الروائي عن اختصاص الضمير الأول، ما دامت هذه اللقطة الأخيرة لم تعرض من خلال السلوك الحركي، وما فيه من معنى الدلالة الموحية: «وارتاح عبد الهادي قليلا، وهمهم لنفسه أن علواني يشبه خضرة تماما، وأن ما جمع بينهما وفق حقا؛ فهي أيضا تعيش في القرية بلا أرض ولا أهل، وأقاربها قد تنازلوا عنها منذ تركوها للبيه الأعزب، تخدم في ضيعته الصغيرة ذات الثلاثين فدانا، وطردها محمود بيه بعد أن خدمته سنتين؛ وهاجت نفسه في الصمت والظلام والفضاء، وشعر بحاجة إلى أن يحدث أحدا، وتمنى لو أن معه وصيفة - زوجة له - تجلس إلى الساقية أمام ثور كبير يدور بالساقية، وهو يروي أرضه من بعيد: هي تغني على الساقية، وهو يغني هناك وسط الماء المنسكب؛ وشعر بحب مباغت لكل شيء لوصيفة ولعلواني وخضرة ولكل ما في القرية.»
هكذا يختم المؤلف عملية الرصد الحدثي بمثل هذا الاتجاه المنحرف عن الأصول التكنيكية؛ وهو اتجاه يتكرر في أكثر من موضع، بل إنه ليزداد انحرافا في مواضع أخرى حين يفرض على مفهوم السمعيات والمرئيات، أن يتسع حتى للتجربة الغيرية التي تنعزل تماما بمواقفها الخاصة، عن طاقة الأبعاد التصورية لواقع النقل الروائي بواسطة الضمير الأول؛ لقد كانت القرية مثلا تعلم أن خضرة الساقطة، تهب اللذة بثمن بخس لبعض الشباب الضائعين من أمثال علواني، تعلم عن طريق النقل السماعي لا عن طريق الرؤية البصرية. والمؤلف حين ينقل إلينا بدوره كل ما يدور في القرية من أحاديث، تستحق الجهر أو تدعو إلى الهمس، يخطئ تكنيكيا حين يقدم إلينا الواقع المسموع، من خلال تجربة تصور موقفا من مواقف اللقاء الجنسي بين علواني وخضرة، ثم هو يصف لنا هذا الموقف بتفاصيله وجزئياته، وكأنه قطاع عرضي من حياة القرية قد انحصر في دائرة المنظور!
والواقعية في «الأرض» سواء أكانت واقعية حدث أو واقعية موقف، كثيرا ما تتسم بالمغالاة التي تنتج حينا من ضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص، وتنتج حينا آخر عن فرض أيديولوجية مزورة على المضمون الاتجاهي لعناصر التطوير؛ لقد انفرد المؤلف ذات مساء وتحت جميزة عبد الهادي بوصيفة، وكانت هي الفائرة الواعية بنت السابعة عشرة، مهيأة الشعور والجسد للحظة جنسية مشتهاة، لم يهيأ لها بحكم عمره الفتى الصغير الحالم ابن الثانية عشرة. وهتف هو في صوت حنون هامس وقد أحاط خصرها بذراعيه: «يا غرامي؛ أحبك.» وفتحت هي عينيها المكحولتين في دهشة بالغة لتقول له: «يا اختي بلا وكسة! انت تتكلم كده ليه يا اخويا؟ والنبي ما انا فاهمة منك حاجتن تخلق، أصل أنا ما اعرفش الكلام الإنكليزي اللي انت بتقوله ده!» من يصدق أن وصيفة إن مادية الإحساس «الواعية» التي استمدت وعيها من اختلاطها الطويل بخضرة الساقطة، ومن السنوات الخمس التي قضتها في عاصمة الإقليم مع أختها المتزوجة، لا تعرف معنى كلمة «غرامي» وكلمة «أحبك»؛ حتى لتبدو لنا من خلال الرؤية القصصية عند المؤلف وكأنها تسمع - ولأول مرة - كلاما «إنجليزيا» لا معنى له؟!
ومع ذلك نمضي مع المؤلف إلى نهاية الموقف؛ لقد أغراها بزجاجة عطر لتلاقيه في الظلام، وعندما سألته عنها اعتذر بالنسيان ثم منحها «بريزة»، أو قطعة من ذات العشرة قروش؛ وهنا أوشكت وصيفة أن تطير من الفرح، وتهيأت تماما لتلك اللحظة الجنسية المشتهاة: راحت تجذبه إليها في عنف، وتوقعه معها على الأرض، وتسأله ماذا يصنع مع فتيات مصر، وكيف يصنعن مع الرجال، ثم تلف جسده بذراعيها وتضع خدها على رأسه، وهي تقول له: «مش بنات مصر بيعملوا كده؟» ومع ذلك، ومع كل هذا الإغراء الذي زلزل كيان الفتى الصغير، فإنه لم يستجب لما كانت تدعوه إليه وصيفة، لم يستجب لا لأنه تبعا لمنطق الواقع، ولحكم تكوينه الجسدي كان عاجزا عن أن يستجيب، ولكن لأن المؤلف «اليوم» بعد أن تجاوز الثلاثين، قد خلع على نفسه «بالأمس» وهو لم يتجاوز الثانية عشرة، ثوبا من الوعي الإنساني والاجتماعي تنسج خيوطه المتنافرة مثل هذه التجربة النفسية: «ولم أجب أمام المفاجأة، وأخذت أفكر فيما صنعت قروشي بوصيفة، وبدأ اللوم يزحف إلى قلبي؛ لأنني أعطيت وصيفة نقودا، وخيل إلي أنني اشتريت منها لحظات سعيدة، وكأنما أنا واحد من الذين يخدعون الفتيات الفقيرات بالمال. وغاظني هذا التصور فنحيت وصيفة بعيدا، وأوشكت أن أصرخ في وجهها بما في نفسي، بينما كانت صور النار والفاحشة وشراء فتاة فقيرة، تملأ مني القلب بالندم وترهق إحساسي بالعار!» وهكذا في سبيل نوع من الأيديولوجية المزورة، تنحرف التجربة الداخلية تحت قوة الدفع الخارجي عن المجرى الروائي الممتد، لتتم عملية تطوير معينة لا تترتب تلقائيا على فسيولوجية الحدث كبعد موضوعي خاص!
هذه الأيديولوجية؛ أيديولوجية الفن لواقع الحياة، وهي في مثل تلك الصورة المهزومة التي يعرضها المؤلف، تواجهنا في مواقف أخرى نقتطع واحدا منها لفتى الأمس الصغير، وهو يستعير وعي التجربة من إنسان آخر، يكبره اليوم بعشرين عاما على الأقل أو يزيد! لقد كان هذا الفتى الصغير - ابن الثانية عشرة - يسترجع من خلال صراع القرية ضد مختلف القوى المسيطرة، ما قرأ في الصيف من كتب الأدب، يسترجع «زينب» لهيكل، و«إبراهيم الكاتب» للمازني، و«الأيام» لطه حسين، ليخرج أخيرا بمثل هذه الملاحظة الفكرية الواعية: «وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب، كالقرية التي عاشت فيها «زينب»، الفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء، والحكومة لا تحرمهم من الري، ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض، أو ترسل إليهم رجالا بملابس صفراء يضربونهم بالكرابيج، والأطفال فيها لا يأكلون الطين ولا يحط الذباب على عيونهم الحلوة. وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى كقرية «زينب»، لا ينزل فيها من الرجال والنساء بعد البول دم وصديد، ولا يدهم أهلها المرض المفاجئ في جنوبهم فيتلوى الإنسان منهم لحظة، ويطلق صرخات يائسة فاجعة من حدة الألم، ثم يسكت؛ يسكت إلى الأبد!»
مثل هذه الملاحظة الفكرية بما فيها من انبثاقات التفتح العقلي الراصد، لا يمكن أن تتلاءم بحال مع الواقع العمري والثقافي لتلميذ، كان يعبر المرحلة الأولى من مراحل التعليم؛ ذلك لأننا هنا أمام نقدية مستكشفة لمضمون إنساني مزيف في قصة «زينب»، وأمام إفرازات نفسية منعكسة من امتصاص شعوري مرسب لتجربة القرية. وكل هذه المنعطفات الاتجاهية المصطنعة، مردها إلى سيطرة الدافع الأيديولوجي على ذهن المؤلف، ثم إلى الخطأ الرئيسي في التكنيك حين تمت عملية السرد الروائي، كما سبق أن قلت، من زاوية الضمير الأول، أو حين تركزت في بؤرة «الأنا» كأشعة مضمونية مقحمة على تجارب الآخرين!
ولا أعرف مفهوما محددا لعملية التطوير، كوضع من الأوضاع الفنية بالنسبة إلى الوعي الروائي للمؤلف؛ هل هو أن يبدأ الحدث بوصول «الهجانة» إلى القرية ليلزم الفلاحون بيوتهم من المغرب، وليلهب الشاويش عبد الله ظهورهم بكرباجه الطويل، ويشيع في نفوسهم وينشر في طريقه الإرهاب، ثم يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الشاويش عبد الله وهو يتطور نفسيا - بلا مقدمات - في اتجاه إنساني صاعد، حتى يتقوقع في التجربة الجماعية للقطيع التعس، وحتى يبلغ التطوير حد التزوير، فينهال بكرباجه على ظهر «المأمور»، وهو يحاسبه على إهماله في تأديب الفلاحين؟! إن المؤلف حقا لا يعرف قصة هؤلاء الذين يتحدث عنهم، لا يعرف قصة الأبعاد النفسية للهجانة من خلال نموذج بشري يمثل هذه الأبعاد وهو الشاويش عبد الله؛ ومن هنا كانت هذه المغالاة، التي تتحول معها أيديولوجية الواقع إلى ما يشبه خيالية الأسطورة. إن الروائي يجب أن يكون على معرفة تامة بالتركيبة النفسية لشخصياته، حتى يستطيع - بمجموعة من الخطوط الحاسمة - أن يهيئ عنصر التبرير الموضوعي للحركة الخارجية، وهي مرتبطة - كمسلك انعكاسي ممتد - بحركة الوجود الداخلي لهذه الشخصيات.
لا أعرف للمؤلف مفهوما محددا لعملية التطوير كما قلت؛ لأننا - وعلى سبيل المثال لا الحصر - أمام حدث آخر نرى من أبطاله «العمدة»، وهو يوزع شفويا أوامر الحكومة على خفراء القرية، ويطلب إليهم أن يشددوا المراقبة على الفلاحين الذين يسرقون المياه، وأن يقبضوا على كل مخالف للأوامر وهو متلبس بجريمة السرقة. ومرة أخرى يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الخفير عبد العاطي وهو يتطور أيضا بنفس الطريقة، ويتقوقع بنفس الأسلوب، وإذا هو يقف من زملائه في مركز القيادة الثورية على العمدة، لتحوله إلى أداة تنفيذ ذليلة في يد الحكومة ... ولكن عبد العاطي الثائر يختلف في نهاية التطوير عن الشاويش عبد الله الثائر: إنه هنا لم يحاول مطلقا أن يعترض على العمدة، وهو يأمره بأن يحضر له العصا من داخل البيت، ولا هو يأمره بأن ينام على الأرض كعبد ذليل، ولا هو ينهال عليه بالضرب المبرح حتى تتعب يداه ... ومعذرة لأنني نسيت أن عبد العاطي قد اعترض مرة واحدة بأن النوم على الأرض - وهي مبللة - سينتج عنه أن تتسخ بدلة الحكومة!
لا أدري إن كان المؤلف قد عني بتقديم موقف إنساني جاد على طريقة الكتاب الروائيين بحق، أم أنه كان منصرفا إلى عرض مشاهد هزلية مضحكة على طريقة كتاب «الصالات» في مصر! إننا بعد هذا أمام موقف روائي ثالث، يدور في نفس الفلك الكوميدي الهازل: لا مناص قبل تطوير الموقف من تخطيط الحدث، والحدث في هذه النقلة التخطيطية الجديدة يبدأ بموت العمدة، ثم بإقامة سرادق العزاء، ثم بإقبال وفود المعزين: الأعيان ورجال الحكومة في الإقليم وعلى رأسهم المأمور. وتبدأ علمية التطوير الموقفي داخل السرادق؛ هؤلاء المكافحون من أهل القرية ينتمون شعوريا إلى حزب الوفد، حزب القيادة الشعبية في ذلك الحين، أما المأمور ورجاله فينتمون شعوريا ورسميا إلى حزب الشعب، وهو حزب الأقلية الحاكمة بزعامة صدقي؛ والقرية تريد أن تنتهز المناسبة لتعبر عن شعورها الحاقد المكبوت، بالثورة السلبية التي تتنفس من خلال سلوك لفظي ساخر، وعندما يحس الشيخ إبراهيم مقرئ السرادق بقدوم رجال الحكومة، يبدأ في تلاوة آية جديدة ليوجه مضمونها اللفظي إلى المأمور، هي:
وانظر إلى حمارك ...
وتنطلق الضحكات هنا وهناك، وتشيع التعليقات الساخرة، وترتسم علامات التشفي على مختلف الوجوه، وتتركز النظرات على شخص واحد كان هو المقصود بالآية، كلما تعمد المقرئ أن يعيد تلاوتها من جديد ... وأخيرا ينفجر المأمور في صوت المغيظ المحنق: «صدق الله العظيم؛ طيب يا أخي ما تقرأ آية وحشرناهم يوم القيامة وفدا! طيب يا بلد، مش انتو بتوع يحيا الوفد!» ويعقب أحد الفلاحين في سخرية: «شوف شوف؛ وانظر الى حمارك؛ بس يا بتاع وانظر الى حمارك!» ليسمح لي مؤلف «الأرض» والناقد الذي دافع عن أصالة العمل الروائي في «الأرض»، أن أقول لهما دون أي تجن أو مغالاة: إنني أشتم هنا رائحة المؤلف المصري في برامجه الهزلية التي يقدمها لرواد الصالات!
إنها تجربة شمية على حد تعبير الأستاذ الناقد. ونحن ما زلنا في حدود هذه التجربة عندما نرى عبد الهادي وعلواني على الجسر، يتحدثان عن الأيام السود التي عرفتها القرية في عهد حكومة صدقي - وكأن القرية المصرية في نظر المؤلف قد عرفت الأيام المضيئة في ظل العهود الأخرى السابقة - ويستعرضان حالهما وأحوال الآخرين، حين مر عليهما مهندس من الري ومعه أحد أتباعه، ليسألهما عن سر هذا الحديث الذي خيل إليه أنه خاص بسرقة المياه؛ لقد تصدى له علواني ليطلعه على حقيقة الموقف، بمثل هذه البهلوانية اللفظية: «لا والنبي يا جناب الباشمهندس؛ وحياة مقامك ورقبتك؛ والله ما في حاجة من دي أبدا يا حضرة الهندزة؛ واحنا أصلنا قاعدين هنا كده يعني؛ أصل الحكاية يا حضرة الحكومة ...» علواني هذا الذي أضفى عليه المؤلف صفة الوعي، فعرف أن الشخص الذي يخاطبه هو «جناب الباشمهندس»، كيف تجرد فجأة من هذه الصفة فأصبح هذا الشخص مرة وهو «حضرة الهندزة»، ومرة أخرى وهو «حضرة الحكومة»؟ إننا هنا كما كنا من قبل نصطدم بواقعية لفظية مزيفة، نتيجة لضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص.
والمؤلف يقدم إلينا أحيانا مفاتيح مواقف؛ بلا مواقف! لقد كانت القرية كلها تتحدث يوما عن الإهانة، التي ألحقها العمدة بشيخ الخفراء السابق وشيخ الثائرين: محمد أبو سويلم؛ إهانة تتعلق بشرف زوجته، وتمس العرض في الصميم، ومع ذلك فلا يتحرك الثائر المثالي، والقرية كلها من خلال العمل الروائي تنتظر أن يتحرك، وتتوقع أن يكون دم العمدة هو الثمن الوحيد؛ ونسي المؤلف هنا أن يرسم موقفا من المواقف الحية الزاخرة بالتطوير، على أساس البعد المحدد من قبل لتلك الشخصية الرئيسية، وعلى أساس الوضع الاجتماعي لمشكلة الأعراض في الريف المصري؟
وشخصيات المؤلف في مجموعها شخصيات مسرحية، أعني أنها تتسم بهذا الطابع المسرحي سواء في الحركة أو الحوار؛ إنهم جميعا باستثناء الشيخ الشناوي ومحمد أفندي يصيحون دائما في لهجة خطابية رنانة، ويتحركون دائما بأسلوب دراماتيكي مصطنع ؛ وهي حلقة أخرى في سلسلة الأخطاء التكنيكية، تضاف إلى أن القارئ لا يخرج بأي رسم تخطيطي لشخصية الباشا مثلا، مع أنها الشخصية الواقفة بكيانها الموضوعي الضخم على الطرف الآخر من خط الصراع!
والعمل الروائي في «الأرض» لم يخضع لمفهوم الاختيار في الفن؛ إنه عبارة عن حشد مبعثر من المواقف والأحداث، لم «يتخير» منه المؤلف مضمونا محددا لمشكلة معينة، أهو يريد أن يعرض مشكلة الأرض من خلال هذا المضمون السطحي الذي أشرت إليه، أم يريد أن يتحدث عن مشكلة الوضع السياسي لعهد صدقي في مصر، أم يريد أن يسجل مشكلة الوضع الاقتصادي للريف المصري في ذلك العهد، أم يريد أن يروي طرفا من ذكريات الطفولة في ملاعب القرية؟ إن القارئ يجد نفسه مبعثر الشعور بين كل هذه المنحنيات والتعاريج، إن الريبورتاج الصحفي هو الذي ينقل إليك هذا الواقع «كله»، دون أن يقوم بعملية اختيار؛ لأنه عبارة عن «محضر تحقيق» في عرف التسمية الصحفية!
من واقع الأدب في مصر
كل حديث عن حياتنا الأدبية اليوم، يجب أن يتناول التركيبة العضوية المكونة لهذه الحياة: الأديب الذي ينتج، والقارئ الذي يلتقي به عبر السطور، والمنبع الثقافي الذي يرسب في ذهن الأديب والقارئ مختلف القيم والمفاهيم، سواء أكان هذا المنبع معهدا من معاهد الدراسة، أو مجالا من مجالات الجهد الذاتي، تلك التي تقوم بدور قد يفوق دور المعاهد في حقل التثقيف والتوجيه. هذه التركيبة العضوية التي تصنع واقع الأدب في مصر، تفرض على الجولة الذهنية الدارسة أن تضعها تحت المراقبة، لتقدم في النهاية تقريرها الفني عن جوهر ذلك الواقع.
إن المنابع الثقافية هي القوى المحركة للجهاز الأدبي، المكون من أداة الإرسال وهي الأديب، وأداة الاستقبال وهي القارئ. فما هي حقيقة تلك القوى المحركة، وما هي حقيقة ذلك الجهاز؟ كلية اللغة العربية في الأزهر وكلية دار العلوم، وكلية الآداب في جامعاتنا الثلاث، هذه هي المعاهد التي ينتظر منها أن تقدم إلى الحياة الأدبية منتج الأدب وقارئ الأدب؛ ذلك لأن المفروض فيها - تبعا للقسط الأوفر من وظيفتها الدراسية - أنها البيئة الفنية المتخصصة في تلقيح الذوق الناشئ بمادة الفن الأدبي، حتى لتعد مسئولة عن أول مرحلة تكوينية لأداتي الإرسال والاستقبال، في ذلك الجهاز الحي.
وعندما نربط هذه المسئولية الفنية بتلك المعاهد، تبدو لنا كلية اللغة العربية وهي تشرف على الحياة من وراء سياج قديم، إنها ما تزال حتى اليوم محصورة في حدود الثقافة العربية، الخالصة بنماذجها الموضوعية المألوفة. وكان مفهوم الأدب لديها تركة موروثة، لا يجوز التصرف فيها بتعديل أو تجديد.
ولهذا نجد خريجي الأزهر - سواء أكانوا من منتجي الأدب أو من قرائه - نمطا معينا من الفهم والتذوق، يصعب عليه أن يتجاوب مع حركة التطور الجديدة، التي نسخت كلاسيكية الشكل والمضمون. والصعوبة هنا مرجعها إلى طول الألفة لمثل هذا الانطواء الثقافي، الذي يصل بالطاقة الذهنية إلى حد الجمود، ويعطل قابلية التفاعل الذوقي مع مختلف الهزات الأدبية الوافدة.
أما كلية دار العلوم فهي نموذج للذبذبة بين القديم والحديث، بين الطريقة السلبية المتبعة في الأزهر والطريقة الإيجابية المتبعة في كلية الآداب. وهي في الناحية الأخيرة تحاول أن تطرق أبواب التطور، ولكنها في رأينا محاولة قاصرة؛ لأنها تعتمد غالبا على نوع من الاجتهاد الفردي، الذي تنقصه الروافد الثقافية الأصيلة، ومن أهمها الإلمام بعدد من اللغات الأجنبية، التي يتم عن طريقها التمثل الحقيقي لذلك التطور في صورته العامة؛ ولهذا نجد خريجي دار العلوم - سواء أكانوا من منتجي الأدب أيضا أو من قرائه، نمطا آخر من الفهم والتذوق، يختلف عن النمط السابق في كونه يملك قدرا من قابلية التفاعل. ولكن مما يحول بينه وبين التفاعل نفسه، أن النافذة التي يحاول أن يطل منها على حركة الدفع الجديدة؛ نافذة مغلقة أو شبه مغلقة. وإذا كان هناك بعض أفراد قد خرجوا من دائرة النمط «الدرعمي»، وتفاعلوا مع المفاهيم الأدبية المتطورة، فهم نتاج الجهد الذاتي الذي قلنا عنه إنه يفوق دور المعاهد في حقل التثقيف والتوجيه.
ويبقى بعد ذلك النمط الثالث الذي ينتسب إلى كلية الآداب، وهو يختلف كثيرا من الناحية الفهمية والذوقية عن النمطين السابقين . وإذا كانت كلية الآداب لا تلتزم على الوجه الأكمل، تقديم الطريقة النموذجية في دراسة الأدب ونقده، فمما لا شك فيه أنها تحمل رسالة «التوجيه» إلى تلك الطريقة وتؤديها بوعي، وهو دور يقوم به بعض الأساتذة المتخرجين في الجامعات الأوروبية. ورسالة التوجيه هذه تحقق غايتها المرجوة، إذا ما نظرنا إلى هذه الحقيقة، وهي أن النافذة المغلقة التي تحجب الضوء عن الأزهريين والدرعميين؛ أعني نافذة الإلمام باللغات الأجنبية، تعد مفتوحة بالنسبة إلى النمط الجامعي، بحيث يستطيع من خلالها أن يبصر الطريق؛ ولهذا يمكننا القول بأن الجامعيين كأدباء وقراء، هم هذا النمط الذي لحق بالمد التطوري الجديد، في حركة هاضمة ومستوعبة، وبخاصة من أضاف منهم إلى الأرصدة المعهدية رصيده الذاتي من الثقافة الغربية الحديثة.
هذا العرض الموجز لطبيعة الأسلوب الدراسي داخل هذه المعاهد، لا نقصد به النقد بقدر ما نقصد به إلى أن يكون مقدمة تفضي إلى نتيجة. والنتيجة التي نريد أن نصل إليها حول واقع الأدب في مصر، هي أن هذا الأدب ليس له مفهوم موحد؛ بل هو مبعثر المنهج موزع الاتجاه، بين عدد من المفاهيم المتناقضة عند عدد من الأنماط المنتجة والقارئة. ومن هنا تنبع الأزمة الحقيقية في حياتنا الأدبية؛ ذلك لأن الإنتاج الأدبي قد تعرض بسبب هذه الحواجز الاتجاهية لمثل هذه الظاهرة الملموسة، وهي أن هذا الإنتاج إذا كان أزهريا مثلا فقد انحصر في دائرة القراء الأزهريين، وإذا كان درعميا فقد انحصر في دائرة القراء الدرعميين، وقل مثل ذلك عن الإنتاج الجامعي بالنسبة إلى خريجي كلية الآداب. وعلى ضوء هذه الحقائق نعرف سر المجال الضيق، الذي يتم فيه مثلا فهم كتاب يحمل قيما أدبية جديدة؛ وكذلك توزيعه، إذا ما أضفنا إلى هذه الحقائق، قلة النسبة العددية لقراء الأدب الجامعيين وغيرهم من أصحاب الثقافة الذاتية؛ حين نذكر إلى جانبهم تلك الكثرة الغالبة من قراء الأزهر ودار العلوم.
إن الأزمة كما قلنا هي أزمة المفاهيم الأدبية غير الموحدة أو أزمة القيم الجديدة التي تعيش اليوم في شبه عزلة، ولن تستطيع أن تبسط نفوذها غدا إلا إذا تغيرت بعض النظم المعهدية على الوجه الذي يشمل المناهج المفروضة والعقول الموجهة. وإذا استطعنا أن نحقق يوما مثل هذه الغاية، فقد حصلنا على نوع من الضمان الفني لمستقبل الأدب، خلاصته أن تتمركز الألوف المبعثرة من القراء في نقطة التقاء، أساسها وحدة الفهم القائمة على وحدة المنابع الثقافية؛ ذلك لأن موجة الركود الأولى التي يظن البعض، أنها نتيجة مباشرة للانصراف عن القراءة، ليست في الواقع إلا نتيجة لتشتت القراء - على كثرتهم - بين طرق مختلفة ودروب متباعدة.
وظاهرة أخرى تسجلها الجولة الدارسة عن مشكلة المفاهيم غير الموحدة، وهي تلك الخصومة الفنية بين شيوخ الأدب وشبابه، وهم هذا الفريق الذي قلنا عنه إنه لحق بالمد التطوري الجديد. إنها خصومة بين نظرتين في الأدب، ترتبط إحداهما بالأمس في خطوات متقهقرة إن لم تكن جامدة، وتتعلق الأخرى باليوم والغد في خطوات متقدمة إن لم تكن زاحفة، ولا مناص بعد ذلك من ثورة الجديد على القديم؛ ذلك لأن الشيوخ - في رأي الشباب ورأي الحق - لا يريدون أن يأخذوا مكانهم في ركب التطور، حتى تندفع القافلة المنتجة في اتجاه فني واحد؛ وتندفع من ورائها القوافل. وما من شك في أن ظاهرة التنافر بين النظرتين في مشكلة الاتجاه، قد أنتجت ظاهرة تنافر أخرى في مشكلة التقييم؛ لأن المفاهيم الأدبية المتطورة عند الشباب، ما تزال تصيب الشيوخ بلون من عسر الهضم التمثيلي، سواء أكانت هذه المفاهيم منعكسة على إنتاج من النقد أو متبلورة في إنتاج من الشعر والقصة، وتبعا لهذا فقلما يظفر ذلك الإنتاج بتقدير معنوي أو مادي، من لجان التحكيم المكونة من الشيوخ في تلك المسابقات الأدبية، التي ترصد لها جوائز الدولة أو مجمع اللغة العربية.
ولا وجه للمقارنة بين خصومة اليوم حول الجديد والقديم، وبين خصومة الأمس حول الموضوع نفسه، وعندما نشبت الخصومة الأخيرة منذ ربع قرن بين الرافعي وطه حسين. إن هناك فارقا كبيرا بين تعارض أفهام وأذواق حول أشكال الأدب ومضامينه، وبين تعارض أفهام وأذواق أخرى، حول أشكال الأدب «وحدها» من ناحية النسب التقييمية. لقد كانت كلاسيكية الرافعي في مقياس طه حسين كلاسيكية شكل أو تعبير، ولم تتعد المعركة بينهما هذا الحد، ولم تخرج في الكثير الغالب عن هذا النطاق، لم يقم الخلاف بين الرجلين وأنصارهما حول المضمون الفكري في ذلك الحين، وإنما قام حول أسلوب الرافعي الذي كان يعتبره صاحبه نوعا من الرصانة التقليدية، ويعتبره الدكتور طه ضربا من الحذلقة الموروثة المجافية لروح العصر؛ لأن مفهوم التطور العصري والأدبي يومئذ كان محصورا في معنيين؛ هما: التحرر من أسر التقليد الأسلوبي، والتزام البساطة والوضوح.
إن معركة الأمس كان ينقصها التمثل الكامل لموضوعية الأدب بشطريها: الداخلي والخارجي؛ أعني الصورة الفكرية والتعبيرية؛ ومن هنا تبدو جوهرية التفاوت بينها وبين معركة اليوم حول المعايير الصحيحة التي تفرق وهي واعية بين حقيقة الجديد وحقيقة القديم.
Unknown page