ثم حل صمت طويل، ولم يكن ما هما فيه من سكون في حاجة إلى الصمت لتبدو النفوس خلاله كماء البحيرة التي لا يعكر صفاءها موج، فيكاد يرى الإنسان أعماق نفسه ويكاد يرى حادثات صغيرة عاشت معه لحظة من عمره وأسعدته ثم تهاوت إلى قاعه.
وكانت النار قد خمدت تماما وأصبح لا يضيء الحجرة إلا نور الشمعتين الضئيل، ونشوة الشاي والدفء قد ذهبت وخلفت وراءها وجوما. وكان لا بد إذن أن تنبعث تلك الدندنة من سيد خافتة أول الأمر، وكأنما يوشوش نفسه، ثم ترتفع ويرتفع معها رأسه، ويبدو عنقه طويلا تكاد تبرز منه حنجرته، ثم يقول: يا ليل!
وما أروع الليل حين يقال في الليل وفي مثل ذلك المكان، ويعلو صوته رنانا له أنين الناي ورنينه، يغني يا ليل ويشيع الفجر في الليل، ويا عين ويستل النوم من العين، ويا ليل فيذوب البرد ويهاجر الظلام، ويا عين فترى العين النور ويملؤها دفء ومرح.
ولم يعد حمزة من الآفاق التي حملته إليها كلمات سيد ومواله، وأحس مرة أخرى بنفسه وحيدا مع العوطف الدقيقة الواهنة التي تتسرب إلى ذاته وتنهشها وتشبعها نبضا ولينا وألفة، وبدأت الأوتار الخفية تعزف ويخرج لحنها يغريه بأن يفضفض، وشعر برغبة أقوى منه تدفعه لأن يحكي عن فوزية وقصته معها.
ونظر إلى سيد الذي كان قد سكت وعاد رأسه بين ركبتيه، وقرر أن يحكي وبدأ بأن سأله: إلا انت ماحبتش أبدا يا سيد؟
ولم يكن قد انتهى حين قال الفجر: الله أكبر!
17
استيقظ حمزة على شيء يضايقه ويكاد يسد فتحات أنفه.
وحين استعاد حواسه وجد للشيء رائحة جميلة.
وفتح عينيه ورأى شبه الظلام الذي كانت فيه الحجرة، ثم السقف المزدان بنقوش الفراعنة المقلدة، ثم وردة حمراء كبيرة فوق أنفه، وبزاوية عينه اليسرى لمح حذاء أنثويا أنيقا مخلوعا وملقى بإهمال تحت الفراش المقابل، وفوق الحذاء بمسافة قليلة رأى قدما صغيرة تتلاعب أصابعها داخل الجورب.
Unknown page