جمهورية فرحات
الطابور
رمضان
قصة حب
جمهورية فرحات
الطابور
رمضان
قصة حب
جمهورية فرحات
جمهورية فرحات
Unknown page
تأليف
يوسف إدريس
المقدمة
بقلم طه حسين
هذا الكتاب ممتع، أقدمه للقراء سعيدا بتقديمه أعظم السعادة وأقواها؛ لأن كاتبه من هؤلاء الشباب الذين تعقد بهم الآمال وتناط بهم الأماني ليضيفوا إلى رقي مصر رقيا، وإلى ازدهار الحياة العقلية فيها ازدهارا.
وكان كل شيء في حياة هذا الشاب الأديب جديرا أن يشغله عن هذا الجهد الأدبي وأمثاله بأشياء أخرى، ليست أقل من الأدب نفعا للناس وإمتاعا للقلب والعقل.
فهو قد تهيأ في أول شبابه لدراسة الطب، ثم جد في درسه وتحصيله حتى تخرج وأصبح طبيبا، ولكن للأدب استئثارا ببعض النفوس وسلطانا على بعض القلوب لا يستطيع مقاومته والامتناع عليه إلا الأقلون.
وقد كلف هذا الشاب بالقراءة، ثم أحس الرغبة في الكتابة، فجرب نفسه فيها ألوانا من التجربة، ثم لم يملك أن يمضي في تجاربه تلك، وإذا هو أمام كتاب يريد أن يخرج للناس فيخرجه على استحياء، ويقرأ الناس كتابه الأول «أرخص الليالي» فيرضون عنه ويستمتعون به، ويقرؤه الناقدون للآثار الأدبية فيعجبون له ويعجبون به ويشجعون صاحبه على المضي في الإنتاج، فيمضي فيه ويظهر هذا الكتاب.
وأقرؤه فأجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول، على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صادق صارم لما يحدث فيها من جلائل الأحداث وعظائمها لا يظهر في ذلك تردد ولا تكلف، وإنما هو إرسال الطبع على سجيته كأن الكاتب قد خلق ليكون قاصا، أو كأنه قد جرب القصص حتى استقصى خصائصه ونفذ إلى أسراره وعرف كيف يحاوله فيبرع فيه. وكنا نعجب فيما مضى بطائفة من الكتاب المجودين في الغرب لم يتهيئوا للأدب عن عمد ولم يجعلوه لحياتهم غاية، وإنما أنفقوا جهدهم كله في درس الطب والتخصص فيه، وفرض الأدب نفسه عليهم فرضا، فبرزوا فيه أي تبريز، ثم رأينا هذه الظاهرة نفسها تمس بعض أطبائنا فينشأ منهم شاعر بارع كالدكتور إبراهيم ناجي رحمه الله، وينشأ منهم الكاتب المتفوق الذي يتاح له من صفاء الذوق ونفاذ البصيرة وسعة العلم والفقه بأسرار الحياة، فيخرج في اللغة العربية كتبا أقل ما توصف به أنها تجمع بين الروعة والمتعة، وتغني حاجتنا إلى القراءة التي تلذ القلب والذوق والعقل جميعا كالدكتور محمد كامل حسين.
وكاتبنا هذا يمضي في هذه الطريق ثابت الخطو، وما أشك في أنه سيبلغ من الأصالة والرصانة والتفوق ما بلغ الذين سبقوه.
Unknown page
وهذه ظاهرة جديدة في أدبنا العربي الحديث، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن سلطان الأدب العربي ما زال قويا، وقدرته على الاستئثار بالقلوب والنفوس ما زالت نافذة، وعلى أن جذوة الأدب يذكيها ويقويها أن تجاور العلم في بعض القلوب والعقول فتستمد منه قوة وأيدا ومضاء قلما يظفر بها الذين يفرغون لتنميق الكلام ويصرفون عن حقائق العلم صرفا. وأي فنون العلم أجدر أن يفقه الناس بالحياة ومشكلاتها وما تكلف الأحياء من ألوان العناء من الطب؛ فالطبيب يخالط الإنسان مخالطة لا تتاح لغيره من أصحاب العلم، يخالطه صحيحا ويخالطه عليلا، ويبلو ألم جسمه وآلام نفسه أصدق البلاء وأعمقه، ويفتح له ذلك أبوابا من التفكير تنتهي به أحيانا إلى الفلسفة العليا، وتنتهي به أحيانا أخرى إلى الأدب الرفيع الذي يحسن فيه الانسجام بين الحس الدقيق والشعور الرقيق والذوق المرهف والعقل المفكر، وتتيح له ذلك كله قدرة على التصوير الفني لحياة الناس وما يزدحم فيها من الألم والأمل، ومن السخط والرضى، ومن الحزن والسرور، قلما يتاح لغيره من الناس.
وربما منحه قدرة أخرى على فهم الملكات الإنسانية، ورد أعماله وما يختلف عليه من الأحداث وما يكون لهذه الأحداث من تأثير فيه إلى أصولها ومصادرها التي أنشأتها وصورتها تصويرا لا يحسن فهمه إلا من يعرف دقائق النفس والجسم جميعا، وما يكون بينهما من توافق أحيانا ومن تخالف أحيانا أخرى، وإذا أتيح الفن الأدبي للطبيب امتاز أدبه بالدقة والصدق وتجنب الألفاظ العامة المبهمة، والعبارات التي تبهر الأسماع ولكنها لا تصل إلى القلوب ولا تحصل في العقول شيئا.
وقد أتيح لكاتبنا من هذا كله الشيء الكثير؛ فهو لا يحب التزيد في القول ولا يألف تبهرج الكلام، ولن تجد عنده كلمة قلقة عن موضعها أو عبارة إلا وهي تؤدي بالضبط ما أرادها على تأديته من المعاني.
هو طبيب حين يكتب يضع يده على معناه كما يضع يده على ما يشخص من العلل حين يفحص مرضاه، وينقل إلينا خواطره كما يصور أوصاف العلل وكما يصف لها ما ينبغي من الدواء.
وله بعد ذلك خصلة تميزه من غيره من كتاب الشباب؛ فالميل إلى تصوير الحياة الاجتماعية ظاهر عند أدبائنا من الشباب تختلف حظوظهم منه ويختلف توفيقهم فيه. ولكن كاتبنا لا يميل إلى تصوير الحياة الاجتماعية وما فيها من الآمال والآلام فحسب، ولكنه يحسن تصوير الجماعات ويعرض عليك صورها كأنك تراها.
فلم أر تصويرا لشارع أو ميدان تختلط فيه جماعات الناس على تباين أشكالهم وأعمالهم وألوان نشاطهم كما أرى عند هذا الكاتب الشاب.
ثم لا يمنعه ذلك من أن يفرغ للفرد فيحسن فهمه وتصويره في دقة نادرة، كل هذه الخصال تبشر بأن كاتبنا جدير أن يبلغ من فنه ما يريد، ولكني أتمنى عليه شيئين؛ أحدهما: ألا ينقاد للأدب ولا يمكنه من أن يشغله عن الطب أو يستأثر بحياته كلها؛ فالأدب يجود ويرقى ويمتاز بقدر ما يجد عند الأديب من مقاومة له وامتناع على مغرياته وانصراف عنه بين حين وحين.
وما أشك في أن عنايته بالطب حين تتصل وتقوى ستمنح أدبه غزارة إلى غزارته وثروة إلى ثروته، وستزيد جذوته ذكاء وقوة ومضاء.
والثاني: أن يرفق باللغة العربية الفصحى ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه؛ فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر حين يلتقون ويديرون بينهم ألوان الحوار.
وما أكثر ما يخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن ينطقوا الناس في الكتب بما تجري به ألسنتهم في أحاديث الشوارع والأندية، فأخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع من الحياة درجات دون أن يقصر في أدائه وتصويره.
Unknown page
والأديب الحق ليس مسجلا لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونغراف، كما أن المصور الحق ليس مسجلا لواقع الأشياء على علاتها كما يصورها الفوتغراف، وإنما الفرق بين الأديب والمصور وبين هاتين الأداتين من أدوات التسجيل أنهما يصوران الحقائق ويضيفان إليها شيئا من ذات نفسيهما هو الذي يبلغ بها أعماق الضمائر والقلوب، ويتيح لها أن تبلغ الأديب والمصور من نفوس الناس ما يريدان، وإلا فما يمنع الكاتب من أن يصطنع أداة من هذه الأدوات التي تسجل ألفاظ الناس، ثم يضيف إلى أصواتهم صوته بلغتهم التي يتكلم بها هو حين يتحدث إليهم، ثم يعرض عليهم ذلك كما يعرض تسجيل الأصوات لا يتهيأ له ولا يتألق فيه.
ليصدقني الشباب من أدبائنا أن من الحق عليهم لمواهبهم وأدبهم أن يتمعنوا فهم المذاهب الأدبية أكثر مما يفعلون، وألا يخدعوا أنفسهم بظواهر الأشياء فيفسدوا مواهبهم ويفسدوا أدبهم أيضا.
أما بعد، فإني أهنئ كاتبنا الأديب بجهده هذا الخصب، وأتمنى أن أقرأ له بعد قليل كتبا أخرى ممتعة إمتاع هذين الكتابين وتمتاز عنهما مع ذلك بصفاء اللغة وإشراقها وجمالها الذي لم تبلغه العامية، وما أرى أنها ستبلغه في وقت قريب أو بعيد.
جمهورية فرحات
ما كدت أدلف إلى القسم ومعي الحرس حتى أحسست بانقباض مفاجئ. لم تكن تلك أول مرة أدخله ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى القسم فيها في الليل؛ ولهذا شعرت حين تخطيت الباب أني أدلف إلى خندق سفلي لا يمت إلى الحاضر ولا حتى إلى الماضي القريب: جدران يكسوها حتى منتصفها سواد على هيئة طلاء وكآبة تكسو نصفها الثاني، وبقع بيضاء مبعثرة هنا وهناك لا تخفف السواد بقدر ما تظهر بشاعته، وأرض لزجة لا تدري إن كانت من الأسفلت أم من الطين، ورائحة، رائحة لا تستطيع أن تحدد كنهها وإنما لا بد أن تحس معها بغثيان، وضوء باهت يأتي من مصابيح بالغة القدم عشش عليها الذباب وباض، مصابيح معظم ضوئها محكوم عليه بالسجن المؤبد داخلها، والقليل الذي يتسلل منها هاربا لا يبدد الظلام بقدر ما يحتمي به ويتستر، وإن وقع على الأشياء والناس فإنما ليظهر كل ما بها من حزن وقبح وبشاعة.
وأحسست حين احتواني هذا كله وأصبحت جزءا لا يتجزأ منه، والناس من حولي على سيماهم جد خطير يمشون كالمنومين، وصناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي المقاهي التي صادرها بوليس البلدية وهي مكومة في ركن، وأصحابها متناثرون حول الجدران والأركان متهالكين على الأرض ورءوسهم ماثلة على حجورهم، والعساكر يبدون في أرديتهم السوداء كعفاريت منتصف الليل.
أحسست حين احتواني هذا كله أنني لا بد أنا الآخر قد ارتكبت جريمة ونسيت، وتمنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع، ولم أكن أستطيع مغادرة المكان؛ فقد كان علي أن أحجز في القسم ليلة لأرسل إلى النيابة في صباح الغد، واحتاروا أين يضعونني؛ فالحجز كان ممتلئا، والحجرة الأخرى التي يوضع السياسيون فيها عادة تعج بالمراقبات وصاحبات الحرفة، ولم يجدوا لي في النهاية خيرا من حجرة الضابط النوبتجي، وهناك تركت ومعي حارس.
كانت الحجرة على سعتها تضيق بمن فيها، وكان أبرز الموجودين جميعا الضابط النوبتجي، وحين رأيته جالسا إلى مكتبه كالحكمدار وعلى يمينه فوهات أكثر من خمسين بندقية مغمدة في فضاء الحجرة، وخلفه اللوحة الخشبية المثبتة في الجدار والمثقلة بألوان وأشكال من السلاسل والقيود والدروع والبلط والخوذات، وعلى يساره الخزانة الحديدية القديمة، حين رأيته هكذا تخيلت ألا حدود لرهبته وقوته، وأنه يستطيع ببساطة أن يقضم ذراعي أو يضع أصبعه في عيني، مع أني كنت متأكدا ألا شأن لي به ولا شأن له بي.
ووجدتني أترك كل ما في نفسي وكل ما يشغلني وأنضم إلى جيش العيون المنصبة عليه من الناس المزدحمين أمامه، والذين لا يفصله عنهم إلا سور خشبي منخفض.
وبدا لي أول الأمر وكأنه ليس بكائن حي، وإنما جسده قد صنع من طلاء الجدران الأسود، ورأسه خوذة من الخوذات المعلقة وراءه، وعيناه فتحات بنادق، ولسانه لا بد كرباج.
Unknown page
ولكني حين هدأت قليلا واعتدت على المكان، وتأملت كيف وضع «الكاب» فوق رأسه في وقار مخيف، وزرر معطفه الضباطي - على غير العادة - إلى آخر زرار فيه، وشد جلد وجهه في تزمت صارم، فاختفى كل ما فيه من تجاعيد وأصبح أملس كجلد الطبلة المشدود، وأضفى على نظرات عينيه بريقا تحس معه أنه لا ينظر بهما إلى الناس بقدر ما ينقر ويلسع، وحمل صوته ما لا يطيق وهو يشخط ويهدر بكلمات غير مفهومة كأصوات الرصاص.
حين تأملت كل هذا بدا لي حينئذ كأحد الجنرالات الطليان الأسرى الذين كنا نراهم أثناء الحرب، وحدث أن جاء شاويش أو بيتشاويش لا أذكر، ووقف أمامه ونادى عليه: يا فرحات.
عجبت كيف ينادي بلا تكليف هكذا، ولكن عجبي زال حين قال مرة أخرى: يا فرحات، يا سي فرحات.
ولم يرد الضابط النوبتجي إلا بعد أن قال له الرجل: يا حضرة الصول.
وكنت قد اقتربت حتى استندت مع غيري من المستندين على السور الخشبي وسمعت لهجته التي فيها آثار باهتة من ريف الصعيد، ونم صوته العالي عن الفضاء الواسع الذي ترعرع فيه، وعن مستلزمات الوظيفة من شخط ونطر وقد عملت عملها طوال تلك السنين، فأتلفت صوته وأضافت عليه حشرجة كالتي تلحق براديو القهوة البلدي من كثرة رفع صوته، وذهب الجنرال من خاطري تماما، ووضحت أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة، ورأيتها صعيدية خالصة بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس؛ إذ إنه لا بد قضى أجيالا حتى يصل إلى رتبة الصول، وقد دخل الخدمة «نفرا» ككل الأنفار، ورأيت جسده العجوز على حقيقته مستقيما في أجزاء منبعجا في بعضها الآخر، وقد فرضت عليه البدلة العسكرية والحذاء الثقيل و«القايش»، فرضت على جسده شكلها فرضا كما يفرض قالب المكوى على الطربوش شكله وأبعاده، وكان من الواضح أنه يحب هذا المركز حين تسند إليه مهمة الضابط النوبتجي، ويحب أن يعامله الناس كضابط بحق وحقيق، وهو الذي - بلا شك - قد قضى ثلاثة أرباع عمره يحلم بهذا وينتظر اليوم الذي يحمل فيه كتفه «النجمة»، وكان باديا أن كتفه لن تحمل شيئا من هذا القبيل؛ فهو وإن كان يقوم أحيانا بدور الضابط النوبتجي إلا أن الإحالة إلى المعاش كانت تبدو وشيكة، ونجمة الفجر أقرب إليه من نجمة الملازم الثاني، وحين تركته وأدرت بصري في الحجرة ورأيت المكاتب الخاوية التي تركها أصحابها، ودولاب الدوسيهات، والمروحة القديمة الموضوعة فوق الخزانة والتي كان يبدو أنها لم تستعمل منذ عشر سنين على الأقل وقد صنع التراب من نفسه عناكب فوقها، والمصباح الكهربائي الذي له «برنيطة» من الصاج، والذي يتدلى من السقف حتى يوازي رأس فرحات المائل على ما أمامه من أوراق، والناس المزدحمين حول الحاجز الخشبي والذين يكونون خليطا إن تنافر في أشياء فإنه يتفق في نظرات القلق والحزن الغاضب والوجوه المتقبضة الجامدة، كان معظمهم متهمين عائدين من تحقيق النيابة، وتضمهم سلسلة حديدية طويلة، تبينت بعد حين أنهم لا يقيمون وزنا للسلاحليك أو السلسلة أو الصول فرحات نفسه؛ فشخطته تقابل بزمجرة وأحيانا برد لا يقل عنها قسوة، حتى انفجر أحدهم مرة لأن فيشه وتشبيهه لم يكن بعد قد جاء من تحقيق الشخصية، وكان عليه لهذا أن يمكث في الحجز بلا إفراج حتى يجيء، انفجر ولعن الدنيا والحظ والفقر والذين كانوا السبب، ولولا الملامة للعن الضابط النوبتجي هو الآخر، ولمحت الضابط الذي في فرحات يعاني الحرج الشديد وهو يسمعهم يهدرون، ولكثرتهم وشراستهم وضربهم الدنيا صرمة لا يستطيع - كالضباط الحقيقين في نظره - إخماد ضجتهم، ولما انتهى منهم ومضوا وعسكري في أول صفهم وعسكري في آخره، والسلسلة ترن وتصلصل وهم لا يزالون يسبون ويلعنون، تنهد فرحات تنهد الذي وضع أصبعه في الشق.
حين تركته وأدرت بصري لكل هذا وعدت إليه وجدته حينئذ يبدو عجوزا جدا، عجوزا إلى الدرجة التي تحس معها أنه عهدة من عهد الحكومة عثرت عليه ذات يوم أثناء «كبسة» على بلدته فصادرته، وختمته بالطربوش الأحمر والبدلة الميري، وظل في مخازنها حرزا من الأحراز يبلى ويصبح كهنة ولا تبلى ما عليه من أختام.
وقال وهو يجوس بعينيه خلال الموجودين: أف! أقسم بالله الأشغال الشاقة أرحم من دي شغلة.
وتوقفت عيناه علي وفيها دعوة واضحة، وكنت أنا الآخر لي ساعات وأنا صامت فوجدت نفسي أقول: إيه، الشغل كتير واللا إيه؟
وكمن كان ينتظر الفرج من زمن رأيته ينفجر: يو هوه يا أستاذ، هو ده شغل؟! دا سرك، دا موريستان، الناس اجننت، يعملوا إيه؟ حيخس عليهم حاجة؟! كله على دماغنا! والنبي أنا اشتغل في الحديد ميت سنة ولا اقعد هنا ساعة، والأكادة إن كله كلام فارغ، كله كدب، تبالي وحياتك.
اللي معور نفسه، واللي ضاع منه شاكوش، واللي كان نايم قال وراحت طاقيته، ونروح بعيد ليه؟ مش دي واقفة من الصبح؟ مالك يا بت؟ أبقى مش الصول فرحات إن ما قالت إنهم ضربوها وأخدوا سيغتها! ما لك يا بت؟ فيه إيه؟
Unknown page
وكانت «البت» امرأة واقفة ضمن الواقفين ترتدي ثوبا كان أسود ثم أحاله ساحر الحاجة إلى رمادي، وتتعصب بمنديل كالح لا يخفي إلا القليل من شعرها البني الأكرت القصير وقد تلوت نهاياته وتنافرت، وكان وجهها غامقا أسمر، وفي عينيها كحل أفسدته الدموع.
وردت تقول في ذلة: أم سكينة والبت عيوشة وبنت اختها نبوية والواد ... - مالهم؟ مالهم؟ - اتلموا علي وضربوني في بطني، آه يانا!
وفي ومضة خاطفة كانت في حالة بكاء تام، وأضافت والدموع والشهقات تختلط في حلقها: وام سكينة عضتني هنا، في كتفي وزغدتني في بطني، والبت عيوشة قلعتني الحلق.
وقهقه الصول وخشخش صوته وقال: شايف يا أستاذ؟ شايف؟ مش قلتلك؟ كله وحياتك كدب، نصب واحتيال، بقى بذمتك دي حيلتها البلى الأزرق؟ حلق ايه يا بت اللي خدوه؟ حلق حوش؟ - حلق دهب يا بيه وغويشتين.
والتفت الصول إلي وقال بلهجة ذكرتني بنجيب الريحاني: تفتكر والنبي مين المجني عليه في الحكاية دي؟ - مين؟ - أنا! أنا يافندم، ما هو الكدب العلني ده يبقى سرقة بالإكراه، ومحضرها المصيبة من صورتين، والمصيبة الكبرى إن انا اللي حاكتب الصورتين!
واستدار إلى المرأة ولسعها بنظرة كاوية فيها آثار من لمعة الضحك، وأمسك القلم وفتح دفتر المحاضر الكبير وكأنه يفتح بوابة المتولي، وقال: هاه، إلهي وانت جاهي ربنا ياخدكم وياخدني معاكم خليني استريح.
ولما انتهى من كتابة مقدمة المحضر سألها: إسمك ايه يا بت؟
ولم ينتظر أن تجيب أو يحفل بإجابتها، وواجهني مستأنفا كلامه وأنا أحس أنه يحدث نفسه أكثر مما يحدثني: أنا والنبي المجني عليه، ومش في الواقعة دي بس، في ألف واقعة، في دشليون، يمكن ما تصدقش، اتفضل، آدي دفتر الأحوال: اصطبحنا بهتك عرض في الطريق العام و592 اللي بعدها نشل حافظة نقود قال فيها قال 147 جنيه و83 صاغ وورقتين بوسطة! أقسم بالله ما كان فيها إلا الورقتين، ويمكن لجل الحلفان خمسة تعريفة كمان، واللي بعدها قال سرقة نحاس، قايلين في البلاغ إن النحاس وزنه 50 رطل ومتهمين الخدامة، حتة بت قد كده، متطلعشي كلها على بعضها عشر ترطال، وغيره وغيره، من الصبح وأنا إيدي وقفت من الكتابة، وكله ملاليم وكلام فارغ وكدب، يا شيخ فضك.
والتفت إلى المرأة يسألها: ما تنطقي يا بت، اسمك إيه؟
وقبل أن تجيب ضحك وقال كمن تذكر نكتة: واللا الجثة اللي لقيوها في الخرابة مالهاش صاحب، قصدي صاحبها مجهول، لقيوا السر الإلهي طلع منه كده لوحده ومن غير ما حد يكلمه، قوللي؟ اشمعنى نقى الخرابة دي يموت فيها؟ يعني ضاقت الدنيا في وشه؟ ماكنشي يتمشى لحد شبرا مثلا، الله يرحمه مات واتعذب أنا ليه؟
Unknown page
نهايته، كتب عليكم الهم والغم كما كتب على الذين من قبلكم.
وأدار رأسه إلى المرأة: يا ولية اسمك إيه؟ - خديجة. - خديجة إيه؟ انطقي. - خديجة محمد. - يا ولية اتحركي، محمد إيه؟
وقبل أن تجيب أرقد قلمه، وأسند كوعيه إلى الصفحة ووضع رأسه بين يديه وقال من تحت حافة «الكاب»، والمصباح الذي أمامه يهتز كالبندول فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه، يتحرك رائحا غاديا كقرد كبير: أنا المجني عليه والنبي، هي حكاية محضر؟ هو انا عجزت من شوية؟ تلاتين سنة خدمة وحياتك ويوميا بهذا الشكل ، جبتها من المنزلة لعنيبة ومن العريش لمرسى مطروح، وشفت اللي ادبح عشان عود قصب، واللي حرق جرن عشان كوز درة، الناس اجننت، هو الواحد شاب من شوية؟
وأنهى كلامه فجأة وانقض على يد كانت تمتد إلى المكتب وخبط عليها بعنف وعصبية قائلا: قلتلك ميت مرة شوفلك نشافة تانية، هو مافيش في القسم كله الا دي؟ أعوذ بالله، احنا في سوق النور!
قال هذا وانتظر حتى اختفى صاحب اليد مهيض الجناح، والتفت إلي بوجهه الجاد المشدود الملامح: والواحد يبقى حارق دمه، وأولاد ال... ولا هاممهم وعمالين يهزروا.
وكان يشير بعينيه وهو يتكلم إلى حجرة التليفون حيث اجتمع بعض العساكر حول زميل لهم بدين مترهل وله كرش كبير، وكان بعضهم يكتفه والآخرون يحاولون جذب بنطلونه وإنزاله، والرجل يلهث ويناضل بكل ما يسمح به شحمه من قوة.
وبركن عيني لمحت الصول فرحات يبتسم ويضحك ويقهقه، ثم ينسى كل شيء ويمد رقبته يتابع المعركة، وظهر عليه أسف حقيقي حين انتهت المعركة بانتصار صاحب الكرش وتخلصه ممن حوله، ورفع حينئذ صوته قائلا بلهجة صعيدية خالصة: آه يا نسوان! ماقادرنشي على أبو كرش كليته «شغت»؟!
وما كاد يتم كلامه حتى فتح باب جانبي وظهر المعاون في الفناء، وأصبح القسم فجأة أصم أبكم، وهبطت الصرامة تجمد كل شيء، وقال الصول للمرأة في حزم: بتقولي اسمك خديجة محمد إيه؟
وتركته يحقق وشغلتني عنه داورية الليل، وقد بدأت تتجمع في الفناء، وحين تجمعت بدا منظرها عجيبا: صفان من الظلام التام ليس فيه إلا بريق الزراير النحاسية الصفراء، وفوق الظلام نار من الطرابيش الحمراء الفاقعة، وأمام كل صف صف آخر من الأيدي الممدودة تسند البنادق بلا حماس، وتسمع في الظلام همهمات وضحكات تموت سريعا كالشهب، وقد يشذ عن الأيدي الممدودة كوع ويلكز جاره.
وفتش عليه المعاون وأنفه - كالديك الرومي - في السماء، وعينه على زرار لا يبرق أو حذاء نفض عنه بعض سواده، وراح وجاء ثم دخل حجرته، والظاهر أنه تعشى؛ فقد خرج وهو لا زال يمضغ وعلى شفتيه لمعة، وفتش مرة أخرى وهو يجفف يديه بعد أن اغتسل.
Unknown page
واندكت الأرض بالأحذية وكعوب البنادق مرات، وعوقب بعض وكدر آخرون.
ثم ...
جنبان سلاح و... كتفان سلاح، و... داورية، معتادان مارش.
وخرجت داورية الليل تئز وتتمايل وفي آخرها العسكري البدين يحاول عبثا أن يوفق بين جسده غير المنتظم وخطواته المنتظمة.
وأصبح فناء القسم بعد خروجها خاويا كعربة قطار الليل حين يقترب من آخر محطة، وعدت إلى الصول فرحات فوجدته لا يزال يحقق مع المرأة ويسألها: اتلموا عليكي فين؟ - جوه السيما. - وإيه اللي دخلك السيما يا بت؟ - محمود. - محمود مين؟ - محمود!
وهنا بدت على الصول فرحات صعيديته، وسألها وجبهته معقودة دون أن يكتب في المحضر: محمود دا إيه يا بت؟ - ابن خالتي.
ووضع القلم من يده وهو يقول: آه يا بلد كابوريا يا ولاد ال...
وأخرج من جيبه علبة صفيح قديمة من التي تباع فيها السجائر الغالية، ولمحت فيها سيجارتين سادة وواحدة بفلة وعلبة كبريت، وأشعل السادة وغمغم بأشياء مبهمة تمس الآباء والأجداد وانجاب الإبهام حين قال لنفسه: سيما، هه، قال سيما قال! وتدخلوا السيما تنيلوا إيه؟! هو انتو بتوع سيما؟!
وانفلت من حديثه لنفسه يسأل المرأة وقد ثنى ظهره إلى الوراء ووضع ساقا فوق ساق: وتدخلي سيما يا بت مع واد زي ده ليه؟
وبحث بعينه ناحيتي ولعله كان يود أن يشهدني على إجابتها فقلت له: إيه، هو المحضر لسه؟ - آه، لسه، هو هيخلص؟ حاضر، أنا عارف إني عطلتك، دقيقة واحدة وافضالك.
Unknown page
والظاهر أنه حسبني شاكيا أو مبلغا، ربما هذا، وربما وجدني أصلح مستمعا يفضفض لي بما عنده في ليلة من لياليه الطويلة، فآثر أن يؤجل انصرافي، وكتب شيئا وهو يبتسم ويقول لي: وادي انت بتتسلى، مش بذمتك احسن م السيما؟
وتنهد وسأل المرأة: هيه، وطليقك سلط عليكي ليه؟ تروحو السيما تنيلو إيه؟ ما تتكلمي يا بت طليقك سلط عليكي ليه؟ - أصلي واخدة عليه حكم نفقة.
وكتب كلمة أو اثنتين والتفت إلي بنظرة فيها استنكار: روايات؟ سيما؟ روايات إيه اللي بيعملوها دي؟ يبلوها ويشربوا ميتها أحسن! - ليه مبتعجبكش؟ - تعجبني؟ تعجبني ازاي؟ الفيلم لازم يملا مخ الواحد، إنما إيه المسخرة والرقص اللي لا تجيب ولا تودي.
وأمسك القلم ووضع سنه على الدفتر وبدلا من أن يكتب قال لي بفتور: أنا مثلا لما قرفت من الروايات عملت مرة فيلم.
ولم تجعلني قلة حماسته أصغي إليه تماما، ولكن كلامه وقع في أذني موقعا غريبا، فقلت: عملت إيه؟ - عملت فيلم، رواية. - عملته ازاي؟ مثلت فيه واللا إيه؟! - لأ، فيلم ألفته مخصوص عشان السينمات.
وكدت أستخف بالأمر كله وأضحك؛ فقد اعتقدت أنه لا بد شاهد حادثة أو جناية من الجنايات التي تحفل بها حياته ويريد بسلامة نيته أن يجعلها فيلما، فقلت وأنا أكتم ضحكي: فيلم إيه بقى؟
فقال ببساطة ودون أن يتنحنح أو يعتدل أو يضع القلم، أو حتى يلقي بالا إلى المرأة والناس الذين عند الحاجز: كان واحد هندي جه يزور مصر، راجل غني قوي، من الجماعة اللي عندهم فلوس قد الفقر اللي عندنا، الراجل جه، وقعد في لوكاندة فخمة قوي، زي ما تقول لوكاندة مينا هاوس واللا شبت، وكان فيه جدع غلبان زي حالاتنا كده.
وانتبهت حواسي كلها فجأة.
وملت على السور كثيرا حتى لا تفوتني كلمة من كلماته.
وأقبلت امرأة تستغيث في شبه صراخ، وكانت بيضاء حلوة وحواجبها مخططة بعناية فائقة، وزمجر فيها الصول فرحات: مالك يا ولية؟ مالك؟ القيامة قامت؟ - الحق ياخويا، الحق، الواد موت امه م الضرب! - واد مين يا ولية؟ - الواد ابن جارتنا. - واحنا مالنا؟ - يوه، مش انت ياخويا النبي حارسك البوليس؟ - وهو يصح إن البوليس يدخل بين الواد وأمه؟ - يه، ولما يموتها الدلعدي ياخويا؟! - تبقى تفرج، نبقى في الحالة دي نروح نمسكه. - ويئست منه المرأة فانتحت ركنا قصيا بالعسكري الذي كان يحرسني، وراحت تهمس له بالقصة وتهمس له أكثر بحواجبها، ثم غادرت القسم والعسكري ساهم وكأنما أعجبته همسات الحواجب.
Unknown page
وعاد إلى الصول فرحات وقال: أما مصايب صحيح! واد قال؟! بس الجدع الغلبان ده كان خالي شغل، يعني زي ما بيقولوا موظف في كوبانية الشمس، يعبي الشمس طول النهار في قزايز ويسرح بيها في الليل، هئ هئ، أمال! آه، فتك في الكلام، الراجل الهندي ده مرة طالع م اللوكاندة فوقع منه فص ألماظ يسوى النهاردة بالميت سبعين تمانين ألف جنيه، شافه الجدع المصري قام واخده ومديه للغني الهندي. - فص إيه يا راجل يا بكاش؟
والتفتنا سويا، وكان الذي قال هذا شاويش طويل معه دوسيه ما لبث أن سأل فرحات: عملت إيه في المتوفى المجهول الاسم؟
وهب فيه فرحات: حاعمل ايه يعني؟ أمشي في الشارع اقول ياللي ضايع له ميت؟ - أنا رحت المستشفى وشفته. - تشرفنا. - شوف يا سيدي، عينه عسلية وشعره شايب وعلى صدغه الأيمن ... - وبتقول لي الكلام ده ليه؟ هو انا باعتك تخطبه؟ روح شوف شغلك احسن، عسلية ايه يابو طويلة يا هايف؟!
ثم التفت إلي قائلا: الراجل الهندي جه يدي للمصري فلوس إلا راسه وألف سيف ما ياخد ولا مليم، يهديك يرضيك مافيش فايدة، فكبر قوي في عين الهندي واكيف منه تمام، راحت الايام وجت الايام وروح الغني بلده وهو محتار يجازي المصري ده ازاي، فلقى إن أحسن طريقة انه يشتري باسمه ورقة لوترية، تعرف البريمو كانت تكسب كام؟ واللا استنى أما نشرب شاي.
وصفق كثيرا حتى جاء صبي البوفيه، وطلب الشاي واختلف معه طويلا على الطلبات التي تناولها في يومه: الصبي يقول ثلاثة وهو يقول اثنين، ولم ينته الخلاف حتى بإحضار الشاي.
وسمعنا باب المعاون وهو يفتح والمعاون يخرج ويقف في الفناء ويتمطى، وعاد فرحات يسأل المرأة: هيه، إيه الحكاية؟ - لما خدت عليه الحكم، لف علي عايزني اتنازل، مارضيتش، فبعتلي أمه وأخته وبنت خا... - هوس، كفاية لحد هنا، واتلموا عليكي في السيما؟ - أيوة، وفضلو يضربو فيه لما كانوا حيسقطوني. - إيه؟ - أصل أنا حامل في ست اشهر.
وترك الصول فرحات المحضر وقد استولى عليه حب الاستطلاع وأعجبته القصة وسألها: يخرب بيتك، حامل من مين يا بت؟ - منه يا بيه، من طليقي. - إمتى؟ - قبل ما يطلقني. - وجوزك ده طلقك ليه وانتي حامل ؟ - عشان وقع علي اليمين. - يمين إيه؟ وطلقك إمتى؟ - ليلة أول رمضان اللي فات، كسرت قلة أمه وأنا قايمة أتسحر، فحلف طلاق بالتلاتة ليكسر قصادها دراعي! - وكسر دراعك؟ - لأ، طلقني. - أنا قلبي كان حاسس والنبي، بقى قلة أمه هي السبب؟
بقى عشان قلة أمه اكسرت في رمضان اللي فات، يتحرق دمي النهاردة طول اليوم، قلة تمنها ساغ يا عالم أروح أنا ضحيتها؟
اسمعي يا بت؟ هل لديك أقوال أخرى؟ عايزة تقولي حاجة تانية؟ - أيوه يا بيه، عيوشة هي اللي مقلعاني الحلق، وأمها هي ... - أف، يا بت أقوال أخرى غير اللي قلتيها؟ - هو انا لسه قلت حاجة.
ولم أتمالك نفسي فضحكت، وتحول غضب الصول هو الآخر إلى قهقهة عالية وانتهى من المحضر، وتنهد وتثاءب وهز رأسه.
Unknown page
وخرجت المرأة ومعها خطاب للكشف عليها، ولدهشتي خرج معها كل الناس الواقفين. - هيه، كانت البريمو تكسب كام؟ - إنت لسه فاكر؟ تكسب مليون جنيه؛ ما هي كانت غالية كمان!
واشترى ميت ورقة عشان يضمن المكسب، وجه السحب واحدة فيهم كسبت البريمو، مليون من غير الضريبة، وفكرشي الراجل إنه يطمع عليها ولا حد شاف ولا حد دري؟ أبدا، عمل ايه؟ راح شاري غليون بضاعة كبير قوي، ووسقه حرير هندي من اللي على أصله، وإشي عاج، وإشي ريش نعام، وإشي جوخ وكشمير ومابوليا محترمة، وراح باعت المركب بالطقم بتاعها باللي عليها على إسكندرية، وراح باعت عقد البيع والبوليصة خالصة كل حاجة لصاحبنا على مصر، يعني ما عليه إلا يستلم.
وهب، وصلت المركب إسكندرية، حاجة باسم الله ما شاء الله، وبتاعة مين يا جماعة؟ بتاعت فلان، بالاختصار الراجل باع البضاعة اللي عليها واشترى بيها مركب تانية، وخلى مركب رايحة بلاد برة شاحنة ومركب جاية شاحنة، وإذا كان حتة الطرد اللي قد كده الواحد بيخلص عليه في السكة الحديد بكذا، شوف بقى مركب زي دي تكسب قد إيه في السفرية.
واندفع في هذه اللحظة إلى الداخل رجل قصير نحيل يرتدي جلبابا كله زيت وبقع ورأسه عار، ويرتدي قبقابا له صوت مزعج ، اندفع كالسهم داخلا وهو يقول وعلى وجهه ألم عظيم: يافندي، يافندي.
وضايق دخوله الصول فرحات، وكأن أحدهم قد صوب إلى أرنبة أنفه لكمة فاستدار إلى الرجل وأرعد فيه: مالك؟ - ماليش يافندي، واد ابن حرام حدف طوبة كسرت لوح القزاز بتاع بترينة الدكان، لوح القزاز اللي معرفشي أجيبه النهاردة، بنور بلجيكي من الأصلي اللي قبل الحرب، تلاتة متر في تلاتة، روح الله يخرب بيتك يا بعيد زي ما خربت بيتي. - دكان إيه؟ - بقالة المودة والإخاء في الشارع العمومي. - عارفها، اللي عالناصية قدام الجاراج؟ - أيوة، إلهي يعمر بيتك، ربنا ما يوريك. - البترينة نهين اللي اكسرت، اللي عالشارع ولا التانية اللي ع الحارة؟ - الكبيرة يافندي اللي ع الحارة.
فقال الصول وهو ينفض يده من الأمر ويستعد لمتابعة الرواية: تبقى مش تبعنا، تبع بولاق. - إزاي يا بيه والبيت تبعكو؟! - الناحية اللي ع الحارة تبع بولاق. - يافندي اعمل معروف. - قلتلك مش تبعنا، روح قسم بولاق. - ياف... - روح، جك ريح خماسي.
واندفع الرجل يقبقب خارجا كالسهم، وانتظر فرحات حتى اختفت دقات القبقاب، ثم رجع محاولا أن يستعيد الجو الذي عكره البقال، وثنى ظهره إلى الوراء كثيرا ومال الكرسي لانثنائه، وخلع الكاب وأمسك به في يده يديره أحيانا وأحيانا يهف به وقال: الراجل كان طهقان قوي من مراكب الخواجات، ففي ظرف سنة ربنا اداله واتسع قوي، وحبه بحبه راح شاريلك مراكب إسكندرية كلها، وما أصبحشي فيه مركب إنجليزي، طلياني، تلتاني، كله رفع العلم الأخضر.
ولاحظت أن ملامح الصول فرحات قد تراخت وانزاح عنها كل ما فيها من صرامة واشمئزاز، واتخذت طابعا عجوزا راضيا، وعيناه هامتا في سماء الحجرة كفراشتين حالمتين، وصوته خلا من كل تشويش وحفل بنشوة طارئة حلوة كانت تخرج الكلمات من فمه لذيذة وكأنها محلاة بعسل النحل، فلا تملك إلا أن تحبها وتحب رعشتها الممتلئة بالرنين وهي تنساب في تؤدة من خلال السكون الحزين الذي خيم حتى أصبح القسم كسرادق المأتم في آخر الليل، حين لا تسمع فيه إلا فحيح الكلوبات وهمسات المعزين . - وأصبح للراجل مراكب لا تحصى ولا تعد، أصغر ما فيهم تيجي قد القسم دهه عشرة خمستاشر مرة، يسكتشي على كده؟ أبدا، الفلوس مالحستشي عقله فراح شاري بالإيراد بتاع المراكب مصنع نسيج كبير قوي، وشغل فيه ييجي نص مليون عامل، بعد شهر واحد مصنع النسيج عمل مصنع قزاز، والقزاز عمل مطاحن ومضارب رز، وبعد كده إشي محالج، وإشي سكر، وإشي جاز، وإشي ورق، وإشي مكن، وإشي صلب، المهم إنه جه يوم عليه امتلك فيه مصانع مصر كلها.
وماعجبوش الحال الملخبط ده فراح لامم المصانع وبناها على حتة تطلع ألف فدان، لأ، ألف إيه؟ هي الألف تنفع، ييجي عشرة آلاف فدان، خمستلاف منهم مصانع والخمستلاف التانية سكن فيها العمال، مش سكن كلشنكان، لأ، سكن، بيت، بجنينة ببلكونة وحاوي مما جميعه حتى فيه عشش الفراخ والأرانب، ومش بس كده كان مايخدش من عرق العامل حاجة، اشتغل بخمسة ياخد خمسة، بعشرة بعشرة، ما هو لا مؤاخذة في دي الكلمة العامل لما ياخد اللي يقضيه يشتغل ويتفرعن في الشغل، واحنا شعب وارث الفرعنة أبا عن جد، فبدل ما يطلع متر يطلع مترين، وبدل جزمة جوز جزم، مهو كده هات وخد، اديني حقي وخد حقك، إنت راخر العامل أصبح حاجة تانية، هدوم نضيفة أربعة وعشرين قراط، عفريتة مكوية يروح بيها الشغل، وييجي بعد الضهر يلبس بدلة الأيافة والطربوش النسر والجزمة الأجلسيه، وقهاوي إيه وجناين إيه وكازينات ايه وأبهة إيه، والناس بقوا حلوين وفرحانين ومبسوطين، ولا قرف ولا بلاوي، طول النهار ضحك وفرفشة والليل يروحوا السيمات، والسيمات دي مهمة قوي، في كل شارع سيما، وبالأمر لازم كل كبير وصغير يخش، والأفلام، أفلام تمام، وبوليس، مافيش بوليس، العسكري بدل ما يتلطع 8 ساعات في الداورية له كشك قزاز في قزاز في وسط الشارع، ومكتب صغير واللي عايز حاجة يجيله.
استنى بقى لحسن الواغش بعيد عنك جه، أما نشوف إيراد النهاردة حيبقى كام!
Unknown page
وحقيقة كنت أسمع الضجة القليلة التي أخذت تترى من ناحية الباب، ولكني كنت أنا المنساق هذه المرة وراء ما يقوله فرحات وما ذهلت له تماما.
والتفت ناحية الباب فوجدته قد ازدحم بأربعة مخبرين أو خمسة طوال عراض أيضا ويرتدون اللبد، وقد أمسك كل منهم في كل يد من يديه قبضة أطفال مشردين، ومتسولين عجائز وكل منهم يجر ما في يديه جرا، وقد ربط جلباب الطفل في جلباب الآخر، وكان المخبرون يبدون كالعمالقة الطوال، والأطفال يبدون بجوارهم قصارا صغارا كالكتاكيت المذعورة، وعبروا الفناء ووصل ركبهم إلى السور الخشبي، وكذلك وصلت ضجتهم، فأنهى الصول فرحات كل الأصوات بقوله: بس، اخرس انت وهوه، وقفهم طابور يابو طه قدامي، بطل كلام عمى في عينك.
وذهب باقي المخبرين، واصطف الطابور في سكون.
ورجع الصول فرحات إلى الوراء كثيرا وهو لا يزال في نشوته فقلت: وبعدين. - ولا قبلين، حالا مكن من ألمانيا جه، والمهندسين والعمال اشتغلت، وراحوا زارعينلك الصحرا كلها، شوف بقى الرملة دي كلها لما تزرع؟ الإكس يمشي فيها سبع تيام ما يحصلش آخرها، وأهم من ده وده إن مافيش قولة حاجة اسمها توابيت محاريت سواقي، كلام فارغ من ده كله مكن: الري بمكن والدراس بمكن والسباخ بمكن، وحتى كان فيه مكن يجمع القطن ويحش البرسيم، والفلاح اللي عليه العمل، مافيش قولة جلابية، طاقية، بشت، أبصر إيه معرف إيه، أبدا، كله بدل، بنطلونات كاكي لحد الركبة، وبرانيط بيضة نضيفة، وجزم بنعل دوبل مايدوبش ابدا. والفلاحين يسرحوا طابور، يشتغلوا لغاية الضهر بس وبعدين يرجعوا طابور، والنسوان كذلك، بس دول في غيط ودول في غيط، والبيوت كلها حجر، ولمض جاز تبطل خالص، كله كهربا، والسحب على صاحب الأرض، وكل صف بيوت له ميز ياكلوا فيه ويرجعوا لبيوتهم يقيلوا، وبعدين العصر طابور على المدرسة يقروا ويكتبوا ويعرفوا اللي لهم من اللي عليهم. بس يا سيدي مطولشي عليك، الراجل من كتر الفلوس عنده زهد فيها، كانت أرخص من التراب، وحاكم الفلوس لما تبقى بالشكل ده الواحد لازم يقرف منها، اللي ياكل تفاح كل يوم بيقرف منه؛ ففي يوم من الأيام أعلن في الراديو، أيوه - مهو نسيت أقولك إنه عمل محطة إذاعة وعمل ليها في كل بيت من البيوت وصلة - أعلن في المكرفون إنه متنازل عن جميع ...
وكان الصول فرحات ينظر إلي ويقول كلماته الأخيرة وكأنه يفكر في مشكلة أخرى.
وقال للعسكري فجأة: أنت واقف بتعمل ايه يا جدع؟! أنت ما وراكشي شغل؟
وقال العسكري في صوت متقطع: أصل، الا... الافندي، أنا مستلمه. - مستلمه؟ ليه؟ - حرس عليه.
واستدار إلي الصول فرحات وألقى علي نظرة ما رأيتها منه قبل الآن واستمر يحدجني طويلا، ولا ريب أنه لم يجدني أصلح كي أكون قاتلا أو سارقا أو خاطف طفل، ولست أدري ما كان يعنيه حين قال في بطء وشك كثير: آه، الافندي ده، هو انت منهم؟
فقلت وأنا أبتسم: من مين؟ المهم، الراجل أعلن إيه في الإذاعة؟
واستمر ينظر إلي ثم قال بصوت تائه: آه، والله مانا فاكر، يا شيخ فضك، أهو كلام، انت بتصدق؟
Unknown page
ثم شد جلد وجهه حتى عاد كالطبلة الصارمة، وجذب «الكاب» حتى بلغ موضعه التقليدي من جبهته تماما، وهوى على «المتسول» العجوز الواقف في أول الصف بنظرة صاعقة من عينيه، وانطلقت جعجعته المعهودة: ما تنطق يا بجم، اسمك إيه؟!
الطابور
تتشابه الأسواق في الأرياف ولا تكاد تختلف، فكل منها فضاء واسع يحده سور، وله باب، وعلى أرضه دكاكين بضاعة ذات رفوف فارغة، قد لوحت أخشابها حرارة الشمس وليالي الشتاء، ثم مصاطب مبعثرة مصنوعة من تبن يؤلف بينه طين.
ويوم السوق هو - بلا شك - أروع الأيام وأشهرها، وهو الزحمة التي تحدث كل حين مرة معلنة وكأنها ساعة بشرية هائلة انقضاء أيام سبعة، وفراغ جيوب وامتلاء جيوب، وقبض أجور واختلاس أجور، وشبع ناس وجوع ناس، وتقيس العمر.
وبعد أن ينفض السوق يبقى الفضاء لا تؤمه إلا الغربان وأسراب الخرفان والماعز الطوافة، وفرق الرياضة من التلاميذ، والمباريات وكرة القدم.
وتتشابه الأسواق في الأرياف إلا سوق السبت في تلك الناحية؛ فقد كان يتميز بظاهرة غريبة، فسوره كله كان مصنوعا من حدائد لها أطراف مدببة ما عدا جزء صغير منه لا يتجاوز المترين قد بني من الدبش والأسمنت وأحكم بناؤه.
ومن قديم والناس يختلفون في أمر ذلك الحائط الصغير.
كانوا يقولون أول الأمر: إن تحت الحائط كنزا يفتح على ديك يؤذن ذات فجر ويكون للموعود، ولكن ما لبث هذا القول أن بهت وأصبح التسليم به كالإيمان بطلوع ليلة القدر، حكاية تذكر من قبيل التمني.
ثم قالوا: إن الحائط أقيم فوق فوهة بئر كانت تتسرب منها الجن من باطن الأرض إلى ظاهرها، فأقيم الحائط ووضع فيه مصحف وبخاري وأحجبة وقطع زجاج مكسور ليمنع تسرب الجن، ولكن هذا القول كسابقه لم يعمر طويلا.
ثم شب جيل كان أقل خيالا من سابقيه رأى في الحائط الصغير تجربة كان القصد منها بناء السور كله من الدبش والأسمنت، وفشلت التجربة.
Unknown page
ولا يكف الناس أبدا عن إيجاد تعليل.
ومع هذا بقي السبب الحقيقي لا يكاد يصدقه أحد.
فالسوق أول الأمر لم تكن سوقا، وإنما كانت قطعة أرض بور لا ينبت فيها زرع، رأى أهل القرى المجاورة أنها أقرب مكان يفدون إليه مثقلين بالغلة والبلح والجبن، ويعودون وقد خفت أحمالهم بالدمور والمرايا والسكاكين الخارجة لتوها من تحت يد الحداد، وكانت تلك الأرض جزءا من الأملاك الواسعة التي آلت لأحد أعيان الجهة الذي ينحدر من سلالة من ترك أو مماليك، الله وحده يعلم.
ورأى المالك في قدوم الناس ومواشيهم إلى أرضه البور كسبا له وطريقة لإخصاب الأرض حتى يزرعها بعد حين، ولهذا سمح لهم بالقدوم، بل كان يشجعهم على القدوم حين يمر وسط زحمتهم راكبا فرسه وموزعا ابتساماته الراضيات.
ولما رأى أن الأرض قد استوت للزرع بما خلفته فيها المواشي من بقايا، أراد حرثها وحرثها، ومع هذا قدم إليها الناس مثقلين وغادروها خفيفين، وبططوا الحرث وأقاموا السوق.
وطرد الناس وحرثها مرة أخرى.
وفي الأسبوع التالي أقيم السوق أيضا وبطط الحرث.
وأشار عليه أيامها ناظره العجوز أن يستغل الأرض بطريقة أخرى، فيترك الناس يجيئون على أن يأخذ ضريبة على المتسوقين، وأخذ المالك بنصحه، وفي الأسبوع التالي انطلق محصلوه يترصدون القادمين ويجمعون الإتاوة ، ولكي يزيد الإيراد ويقلل المصاريف أقام حول الفضاء سورا من الخشب جعل له بابا على الطريق الزراعي، وجعل على الباب محصلا واحدا.
وهكذا وجدت سوق السبت، وما لبثت أن عمرت وازدهرت وأضيفت إلى بلادها بلاد، وأضيفت إليها هي سويقات للحمير والجمال، واكتملت أصنافها حتى من «البوظة السادة» والعرقسوس.
وكنت تعرف أن السبت يومها حين تجد الناس في الصباح الباكر يزحفون صوب السوق من كل اتجاه، وتجد الطرق المؤدية إليه قد حفلت بلابسي العمائم والجلاليب والذين بلا عمائم أو جلاليب، وراكبي الحمير وساحبي الأبقار، وحاملي المقاطف وطالقي الجواميس والمتوكلين على الله.
Unknown page
ولم يكن من أهل القرى الغربية أكثر من أن يعبروا الطريق الزراعي ويدخلوا من الباب ليصبحوا في قلب السوق، أما أهل القرى الشرقية فالمسألة إليهم كانت أصعب؛ فالمشايات التي تنحدر من قراهم كانت تلتقي عند الساقية القديمة في مشاية واحدة ضيقة تنتهي عند نقطة في السور الشرقي تقابل الباب في السور الغربي، وكان عليهم لكي يدخلوا من الباب أن يلفوا حول السور كله، وفي هذا تعب ومشقة ودوشة لا لزوم لها، فاختصروا الطريق إذن وكسروا خشبة من أخشاب السور وأصبح الأمر لا يكلفهم أكثر من المروق بين خشبتين ليصبحوا في قلب السوق.
وبمضي الوقت أصبحت المشاية الضيقة طريقا معترفا به من السوق وإليه، وأصبحت الفجوة التي في السوق بابا كأحسن ما يكون الباب.
وكان لصاحب الأرض «سراية» تطل على السوق، كلها مشربيات وشرفات وسلامليكات وأشياء من هذا القبيل، والظاهر أنه كان واقفا في شرفته ذات يوم فرأى طابورا لم يكن يعرف كيف يبدأ ولكنه رآه ينتهي في السوق من خلال السور، فجن جنونه وركب رأسه، وركب كذلك حصانه، وانطلق يرى الأمر، وهناك رأى الفتحة، فشلضم وبرطم، وأمر بإصلاح الخشبة المكسورة في الحال.
ويوم السوق التالي وقف في الشرفة يشمت في الطابور الذي لا ريب سيتكسر عند السور، ولكن آلاف العفاريت ركبته حين رأى الطابور يواصل سيره المعتاد.
ولما أسرع يعاين وجد الخشبة الجديدة مكسورة، ويقولون: إنه جلد النجار الذي أصلحها وجلده مرة أخرى ليصلحها، بل وقف على رأسه حتى أتمها وامتحن متانتها بنفسه، وفي السبت التالي روع الرجل بالخشبة مكسورة.
واحمر وجهه بالحمق حتى كاد يدمي، وقطع شجرتين من أشجار السنط وكومهما حتى سدت الفجوة.
وما مر الأسبوع حتى كانت الشجرتان كل في أقصى ناحية والطابور لا يزال لا بداية له، ولكنه ينتهي داخل السوق من خلال الفجوة.
وكاد شريان من شرايين الرجل ينفجر، وهذه المرة كلفه استعمال عقله ليلة بأكملها، وفي الصباح أحضر فرقة من الصعايدة بكريكاتهم وفئوسهم، وما انتهى الأسبوع حتى كانوا قد حفروا ترعة حول السور كالخندق وأطلق فيها الماء.
ولم يتعب نفسه ويقف يوم السوق في الشرفة ولا ما بعده من أسواق؛ فقد كان متأكدا تماما من انقطاع الرجل.
والذي حدث أن شجرتي السنط جيء بهما ووضعتا في الخندق وبقي ظاهرا منهما ما يكفي ليخطي الإنسان عليه في أول سوق بعد الترعة، ثم قلقلت كتل من الطين الجاف، نفس الطين الناتج من حفر الترعة وأسقطت فوق فروع السنط، وبعد أسابيع ردم جزء من الترعة أصبح يصل بين المشاية والفجوة.
Unknown page
ويبدو أن الرجل كان راكبا فرسه يتنزه ذات يوم، فوجد المشاية واصلة إلى السور، وظل يسب ويرطن أياما، وظل كذلك يكظم غيظه، وقد أصبحت المسألة مسألة كرامة وعند وتحد من الفلاحين العبط، فانتقى من بين خفرائه ثلاثة طوالا عراضا وقال لهم: خراب بيوتكم إن نفذ أحد.
ويوم السوق تلكأ الطابور لأول مرة وما لبث أن توقف؛ فقد نشبت عند السور خناقة كبيرة، وفي الضحى حمل الطوال العراض إلى السراية ودمهم يسيل.
واستعاد الطابور بقية اليوم سيره وسرعته، وطاب الخفراء وعادوا يحرسون الثغرة، ونشبت معارك أقل حدة، وتلكأ الطابور مرارا، ثم كف عن تلكئه واستأنف سيره تحت وابل من حفن الجميز أو خيارتين أو طورة بلح أو نفس دخان أو حتى عواف عليكو يا رجالة.
وذات مرة رأى صاحب الأرض خفراءه جالسين يستظلون بشجرة الجميز وتأتيهم المنح من الذاهب إلى السوق والعائد منه، فطرد الخفراء وأحضر بنائين وأحجارا وبنى ذلك الحائط العالي الذي أغلق الفجوة تماما وجار على ما حولها، وأغلق كذلك كل فجوة في نفسه ممكن أن يتسرب منها الشك في احتمال فشل الحائط.
ولم يكد سبت واحد يمضي حتى اكتشف الرجل مخبولا أن الخشبة التي بجوار الحائط تماما قد كسرت، وأن فجوة جديدة قد صنعت.
وأقسم يومها أن يبيع السوق.
ولم يتح له أن يبر بقسمه؛ إذ استولت عليه شركة الأسواق بناء على مرسوم وامتياز وبأقساط طويلة الأجل.
ومع أن الشركة قد أقامت بدلا من الخشب سورا من حديد كلما بلي جددته، ومع أنها لم تركب رأسها كالصاحب القديم فتستأجر فتوات أو تقيم حيطانا، بل استعانت بالمركز فجعل لها كل سبت كوكبة صغيرة من الخيالة تجوب السور رائحة غادية.
مع هذا إلا أنك إذا وقفت في الصباح الباكر من أي سبت، فسوف تجد المشاية تحفل بالطابور الذي لا تعرف كيف يبدأ، ولكنك تراه ينتهي في السوق من خلال السور.
ودائما ستجد هناك حديدة مكسورة.
Unknown page
رمضان
كان فتحي - وهو صبي في العاشرة من عمره - ثائرا جدا على الرجال الكبار وعلى أبيه بنوع خاص، فمن حوالي ثلاثة أعوام على ما يذكر، طلب من أبيه أن يصوم رمضان، فقال له أبوه: لا يصح قبل أن تبلغ الثامنة، وكظم فتحي صبره وانتظر عاما طويلا على مضض، وحين حلت مقدمات رمضان من العام التالي وبدأ يرى «الفطرة» و«النقل» و«عين الجمل» تملأ الأجولة أمام الدكاكين، لم ينتظر حتى يفاجأ بالأمر الواقع، وإنما قبلها بكثير انتهز لحظة انسجام من لحظات أبيه، وفتحي يعرف أن لحظات الانسجام تلك تأتي في أول الشهر، انتهز الفرصة وذكره بما قاله في العام الماضي، وأردف هذا بقوله إنه خلاص قرر أن يصوم، وادعى أبوه النسيان التام في أول الأمر، ثم لما أخذ يذكره ويضيق عليه الخناق قال له: لا صيام لمن لا يصلي.
وكانت إجابة فتحي حاسمة صريحة إنه حتما سيصلي.
وحسب أن الأمر لن يكلفه أكثر من الوضوء والصلاة، ثم يتاح له بعد ذلك أن يصوم.
وكان في هذا متفائلا جدا إذ لم يتح له أبدا أن يصلي كما أراد.
فقد توضأ كما تعلم في المدرسة، وفرد «سجادة» أبيه ليصلي عليها، فإذا بأبيه يسبقه ويطويها، ولما سأله فتحي عن السبب أجابه بأنه يشك في وضوئه وطهوره، ويخاف على السجادة أن تلحقها النجاسة، فترك السجادة وصنع لنفسه مصلى من جلبابه القديم النظيف، ولم يعترف أبوه أبدا بطهارة الجلباب، وبالتالي لم يعترف بصلاته، وقرر فتحي حينئذ أن يجبر أباه على الاعتراف فيذهب ويصلي في الجامع.
وملأه الجامع روعة وأحاسيس رنانة فيها دمدمات موسيقية ضخمة، يكح المصلي من هؤلاء فيكح فراغ الجامع الهائل كله، وإذا قيلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فسرعان ما تتضخم وتتضخم، وترن وترن، وتكبر وتكبر، وتموج وتلد بسملات أخريات تتصادم وتتكسر عند الجدران العالية الملساء.
ويكون الجو في الخارج نارا وقيظا والجامع وحده هو الذي يحفل بطراوة ممدودة حاوة ترد الروح، ويكون الضوء في الخارج فظيعا في كثرته وقوته ولكنه يتهادى في النهار إلى الجامع من البرج الذي في أعلاه المصنوع من زجاج ملون ويسقط منه على المصلين فيلونهم تلوينا جميلا، وجه يبدو أحمر والرقبة التي بجواره زرقاء، وعمامة صفراء، وعين بنفسجية، وفي الليل تضيء الثريات، يا سلام على نورها الكثير وبلورها الذي يشع وينور ويزغلل.
أما المصلون أنفسهم فكان فتحي لا يحبهم إلا إذا صلوا جماعة واصطفوا صفوفا وراءها صفوف في نظام وخطوط مستقيمة، ويقول الإمام: الله أكبر، فيردد المصلون جميعا وراءه: الله أكبر، وكلهم في نفس واحد، وكأنهم رجل واحد، كبير جدا أكبر من سيدنا الحسين، وصوته ليس مرتفعا يخيف، إنما صوته يرن رنينا حلوا يحس معه فتحي أنه لا يصدر عنه وإنما يصدر عن ملائكة كثيرين يملئون صدر ذلك الرجل الكبير.
ثم الأروع من هذا حين يسجد المصلون ويراهم فتحي باركين على الأرض، باركين، مئات الظهور المنحنية كلها متشابهة وإن اختلفت في ألوان ملابسها، صانعة بهذا سجادة عالية محببة مزخرفة بكل الألوان تفرش المسجد من الحائط للحائط.
Unknown page
وفي الجامع أيضا لاقى الأمرين ؛ فإذا ذهب يتوضأ من الحنفيات ترك الرجال الكبار وضوءهم ومضوا يترقبونه ويتمنون له الخطأ، ويتدخل أحدهم قائلا: اغسل اليدين حتى المرفقين يا ولد. فإذا غسلهما للمرفقين تصدى له آخر: يا ولد، ذراعك التي غسلتها لامست ذراعك التي لم تغسلها، أعد الوضوء. ويعيد الوضوء مع أنه يكون متأكدا أن ذراعه لم تلامس ذراعه الأخرى ولا قاربتها، أو قد يبتسم له شيخ له لحية طويلة ابتسامة صفراء ويقول: انت استنجيت يا شاطر؟! ويخجل فتحي جدا ويهز رأسه، ولكنه يترك الوضوء كله وينفض يده منه ويذهب ليتوضأ في بيتهم حيث لا رجال ولا شيوخ.
وإذا ما وقف ليصلي جماعة لاقى الصعاب، فإذا الذي بجواره يدفعه من كتفه قائلا: روح للصف الثاني، والصف الثاني يدفعه إلى الثالث، وهكذا إلى أن يجد نفسه في النهاية واقفا في الآخر بلا صف، ويجد نفسه هو والصغار الآخرين الذين ذهبوا يصلون منبوذين مطرودين، فيصنعون وأمرهم إلى الله صفا أخيرا، وما أسرع ما أدرك فتحي أن الوقوف في الصف الأخير له ميزة؛ إذ يتاح له من مكانه هناك أن يشاهد المصلين جميعا وهم راكعون أو ساجدون، ومن فرط ما أحب فتحي مشهدهم ذاك كان إذا صلى جماعة وركعوا هم كلهم أو سجدوا يبقى هو وحده بلا ركوع أو سجود؛ ليستطيع أن يستمتع بمشهدهم، حتى إذا ما قاربت الحركة على الانتهاء سارع هو بالركوع أو السجود لئلا يلحظه أحد.
وهم في صفهم الأخير ذاك كان لا يعدم الأمر أن يأتي مصل مسن متأخرا ليلحق بصلاة الجماعة، فما إن يرى صفهم حتى يهب فيهم: صلاة ايه دي اللي كلها عيال، امشي قليل الأدب منك له. ويتفرقون ويتبعثرون ويطيرون تاركين المسجد كله للكبار.
وإذا كان سعيد الحظ ورضي ابن حلال أن يوقفه بجواره في الصف، فلا بد أن أحدهم سيخرج من صلاته ليقول له: يا وله، إنت بتصلي من غير طاقية، امشي شوف لك طاقية، عمى في عينك!
ولهذا لم يتح لفتحي أبدا أن يصلي بانتظام، وكذلك لم يتح له أن يوفي الشرط الواجب للصوم، وكان يهمه جدا أن يصوم، ولم يتحمل كل هذا العناء سدى، كان يهمه أن يصوم ليستطيع أن يتناول السحور فلا يتناوله إلا الصائمون.
وكان السحور عند فتحي تعادل لذائذه كل القصص التي قرأها والأفلام التي شاهدها ومرأى الأسود والقرود في حديقة الحيوان، وكل لذائذ أخرى موجودة في العالم، ولم يكن قد أتيح له أن يحضر السحور أو يتناوله، كان يسمعه.
فحين يعود بعد أن يكون قد شبع نطا وجريا وصراخا ولعبا مع غيره من أطفال الحارة، والظاهر أن رمضان يغير من عادات الكبار؛ فالكبار يودون للأطفال دائما أن يحيوا حياة مثل حياتهم، حياة كلها جد وخطورة، فهم لا يلعبون ولا يودون لهم اللعب، وهم لا يستسيغون الصراخ والقفز ولا يودون للأطفال أن يقفزوا أو يصرخوا، بل يريدونهم دائما أن يظلوا جالسين مؤدبين متزمتين مثلهم، وكان رمضان إذا جاء وأكل فيه الكبار وشربوا - ورمضان الذي هو شهر الصوم يأكل فيه الناس أكثر مما يأكلون في أي شهر آخر - إذا أكلوا وشربوا تحدثوا وسهروا وتناقشوا، وأصبحوا أكثر إنسانية، فليس غريبا إذن أن يسمحوا للأطفال أيضا باللعب وبالبقاء خارج البيوت وقتا أطول.
كان فتحي يعود وقد استهلك كل طاقته الصغيرة من النشاط، ومع هذا، ومع ما يكون فيه من تعب لا يأتيه النوم؛ فبعد وقت قد يطول وقد لا يطول يبدأ السحور، وحينئذ يرقد في فراشه وكأن قد انتابته نوبة ملاريا خبيثة تؤرق جسده فينقلب إلى اليمين وسرعان ما يمل اليمين فيفتعل الحركة إلى اليسار، ويطوح بيده ويشد الغطاء ويرخيه، وأذناه وعقله وانتباهه كله، هناك، في الحجرة المجاورة حيث أبوه وأمه يتناولان السحور.
كانا يبدآنه بصمت لا يسمع فيه إلا تثاؤب أبيه وأمه وهي تغمغم بآهات وتشكو من تعبها ومفاصلها ومن الجيران ومن قطط الجيران وكلابهم والعيش الذي جف، ثم كان أبوه يتطوع ويقول كم الساعة وقتها دون أن تسأله أمه، ولا ريب أنه يفعل ذلك ليفتتح حديث السحور، وما ألذ حديث السحور.
كان أبوه هو الذي يتحدث في الغالب ، وإذا تكلمت أمه تقول كلمات مقتضبة أو تعيد الشكاية من مفاصلها، وكان فتحي يحب أباه لحديثه ذاك حين يتكلم بصوت فيه تلك الرنة التي تصاحب صوت المستيقظ لتوه من النوم، ويخرج كلامه إلى الظلام والسكون فيبللان ذلك الرنين ويحيلانه إلى نغمة حبيبة تنفذ إلى قلبه وتنغزه، فيتمنى لو قام في التو وعانقه وقبله.
Unknown page
وحين يتحدث أبوه وفي فمه بقية من طعام، ويمضغ قليلا ثم يتابع الحديث الذي تحيطه هالة موسيقية من أصوات الملاعق وهي ترن في دقات معدنية هامسة، كان حينئذ يتصور أن أباه ينطق شهدا، ويستعذب الطعام الذي يمضغه دون أن يعرف ما هو حتى لو كان طعمية، ويطوح بيده ويشد الغطاء ويرخيه ويتمنى أن يقفز من الفراش ليكون قريبا من حديثه ونبراته.
وحين كان الحديث يعرج على الأولاد - أي على فتحي وإخوته - كان يتمنى أن يتعثر بائع الزبادي الذي ينادي بصوته المزعج في الخارج ويسقط في حفرة فيسكت، وأن يضرب جارهم امرأته التي تصرخ بصوتها الملسوع ولا تتوقف ويأمرها بالسكوت، وتصمت الدنيا كلها ليستطيع أن يسمع أباه وأمه وهما يتحدثان عنه، فأمامه في النهار لم يكونا يتحدثان إلا ليلوماه أو يأمراه بإحضار شيء أو يشتماه، أما حديثهما من ورائه - وهما معتقدان أنه نائم - فقد كان يود بحياته كلها أن يسمعه، ويسمع المشاريع التي يدبرانها له، يقول أبوه: نشتري له بدلة كاملة للسنة الجاية. ويدق قلب فتحي وكأن البدلة جاءت وارتداها، وتقول أمه: أحسن نوديه الزراعة المتوسطة يخلص بسرعة. ويغتاظ فتحي ويكاد في مرقده يقول لا بأعلى صوته، ولكن أباه يتولى الإجابة ويصر على دخوله الثانوي، فيقول فتحي في سره: يحميك يا أبي.
ويصبح حينئذ طرفا ثالثا في الحديث، طرفا بعيدا يسمع ويرضى ويفرح ويسخط ويثور، وهو آمن أنه يستمع إلى الحقيقة المجردة، وأن ما يقوله أبواه هو الذي سيقرر مصيره وليس الكلام المنمق الذي يسمعه في النهار.
ثم الكارثة، حين يحس فتحي - وقد تربى له من أجل ذلك إحساس مخصوص - أن الطعام قد انتهى؛ فيبدأ بطنه يمغص ولعابه يسيل، حين تنساب إلى أذنيه أصوات أبويه وهما يغمغمان في إيهام، وتبدأ أصوات مضغهما تأخذ طابعا معينا يعرفه فتحي جيدا؛ إذ في هذه الأثناء يكون دور «الكنافة» أو «قمر الدين» أو باقي القائمة قد أتى، ومع أن فتحي يكون عالما تماما أن سيناله من كل صنف نوب في الصباح، إنما فرق كبير بين أن يأكل الكنافة في السحور هكذا والسكون شامل والدنيا ظلام والنور جميل، وبين أن يأكلها في وضوح الصبح وشمسه الكثيرة وذبابه وضجيج إخوته ومنازعاتهم، فرق كبير.
حين يبدأ السحور كانت تبدأ سعادات فتحي، وكذلك تبدأ متاعبه، فإذا لم يعجبه الطعام ظل راقدا مستيقظا أسعد ما يكون برقدته واستيقاظه وسماعه حديث السحور، أما إذا لم يعجبه الحديث وسخط على مشاريع المستقبل أو هفت نفسه إلى صنف من أصناف الطعام، كان حينئذ لا يتحمل الرقاد فيقوم مدعيا الذهاب إلى دورة المياه مارا بالصالة، وحريصا على أن يري نفسه لوالديه في ذهابه وإيابه، وأن يريهم بالذات وجهه المتجهم الذي يكاد يبكي، بل أحيانا كان يبكي، وأحيانا كان يسأله أبوه عن سبب بكائه فيبكي أكثر، فإذا ألحف أبوه ادعى بعد لأي أن عنده مغصا مثلا أو أن برغاثا قرصه، فإذا ضحك أبوه ازداد بكاؤه، وكل همه أن يشعرهم أنه غاضب، وأحيانا كان يدعي أنه يحلم ويصرخ، فيجري عليه الوالدان ويمثل دور المستيقظ لتوه من كابوس تمثيلا - والحق يقال - رائعا، حتى إن واحدا من والديه لم يشك أبدا فيه، وكان ما يضايقه جدا أنهما لم يفهما أبدا ولم يدعواه أبدا إلى مشاركتهما السحور أو حتى الجلوس والاستماع إلى الحديث، كل ما يقولانه: نام ياخويا، نام يا حبيبي، اسم الله عليك، وكلام مثل هذا من كلام الشبعانين المتحدثين المستمتعين.
كان من الضروري جدا أن يصوم فتحي.
وظل ساخطا على الكبار وعلى أبيه بصفة خاصة، حتى أجابه إلى مطلبه أخيرا.
جاءت ليلة النصف من شعبان وأنذرهم فتحي بأنه لا محالة صائم، فطبطب أبوه على كتفه وقال: إن شاء الله.
وافرح يا فتحي وأخبر كل الأولاد والقرايب والعمات والخالات، خلاص انتهى كل شيء وابتسمت الدنيا: أجل سيصوم! قال له أبوه هذا وانتزع التصريح من أمه.
وجاء رمضان، وليلة أول سحور لم ينم، بل حتى لم يخرج من البيت ليلعب مخافة أن يغافله أبواه وهو في الخارج ويتسحرا، فإذا أصبح الصباح قالوا: معلشي لقد فاتك السحور فلا ينبغي أن تصوم.
Unknown page
وحين جلس الثلاثة في النهاية هو وأبوه وأمه، كان فتحي حريصا جدا ألا يحدث صوتا أو يسقط شيئا؛ فقد كان خائفا خوف الموت أن يصحو أحد إخوته الصغار ويصر على السحور، قائلا وهو يبكي بكاء سخيفا: إشمعنى فتحي؟ ومن يدري فقد يرق قلب الوالدين ويوافقان؟ فتفسد الوحدانية التي يتمتع بها معهما ويفسد تعب السنين.
وحدث لأمر ما أن قام أخ من إخوته وعبر الصالة إلى دورة المياه، فقال لأبيه: على فكرة، دا قايم يتمحك بس، اوعوا تسألوا عنه.
ومهما كان ما حدث في ذلك السحور، وكان أول سحور في رمضان ويزخر كالعادة بأطيب الأطعمة، مهما كان ما حدث، فإن فتحي لم يجد له ذلك البريق الذي أحرق خياله أياما وليالي بل ناله ما يناله دائما إذا وجد في حضرة الكبار: هات دي، ودي دي، ناولني ده، شوف إيه اللي بياكلني في ضهري.
ونام فتحي.
وصحا متأخرا، بل استيقظ مبكرا، ولكنه آثر أن يبقى متناوما حتى يغادر الفراش في الضحى كما يفعل الكبار تماما، صحا وفي عقله حقيقة واحدة: ألا يسهو ويشرب؛ فقد حذره أبوه مرارا من هذا.
وراح ينظر إلى إخوته وهم يحدثون بكلامهم وعبثهم ضجة الصباح الوجلة، التي تكفيها شخطة واحدة لتنتهي، راح ينظر إليهم ويستصغرهم ويستصغر ما يقومون به قائلا في سره: لهم حق؛ فهم فاطرون. ولكنهم بدءوا يحلون لغزا كان واردا بإحدى المجلات.
ووضح من كلامهم أنهم يلفون بعيدا عن الحل، وكان لا بد أن يقنعهم بأنهم صغار وأنه ذكي ولا بد أن يحله هو قبل أن يصل واحد منهم إلى حله، فتخلى عن الفراش وقام ببطء، وهو يحس أن شيئا كبيرا ثقيلا يملؤه، وأن في فمه طعما غريبا قابضا.
وحين جلس معهم وحاول حل اللغز ففشل أدرك أنه لغز تافه لا يستحق اهتمامه، بل بدا له أن كل ما يحدث في العالم إن هي إلا أشياء تافهة لا تستحق عناء الجلوس، وعاد إلى النوم مرة أخرى، عاد وهو مطمئن؛ فهو في إجازة، ورمضان كان طيبا فجاء في الصيف هذه المرة.
واستيقظ فتحي، لا لأنه كان يريد أن يستيقظ، ولكن لأن شيئا أقوى منه أجبره على أن يتململ ثم ينتبه ويصحو، كان الطعم الذي في فمه قد تغير وأصبح فمه جافا يكاد يكون لا طعم له، وأحس لحظة أن فتح عينيه أنه عطشان، وفي الحال قام ووجهته الماء، ولكنه توقف حين طردت الخطوات القليلة التي خطاها البقية الباقية من النوم في رأسه، وأدرك أنه صائم، وفرح وكأنه كان سيسقط في حفرة ثم تبينها، ولكن عجيب هذا: إنه ما إن أدرك أنه صائم حتى ازداد عطشه!
وجلس على الكنبة التي في الصالة، كانت أمه في المطبخ غارقة لأذنيها في إعداد الطعام، وأبوه في الشغل، وإخوته لا يبدو لهم أثر، والساعة حوالي الثانية عشرة، وكان عليه أن يتخلص من ذلك الإحساس السخيف الذي يملأ فمه.
Unknown page