وتتبع الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى طرق القوافل القديمة بصورة كبيرة، مما يدل على نفوذ الطبيعة في تحديد الطريق، برغم تغير وسائل النقل، فطريق السيارات الذي يعبر الصحراء الكبرى الغربية يمر من توغرت أو غراديا إلى واحات توات؛ حيث يلتقي أيضا بالطريق البري الحديث القادم من كولمبشار عبر وادي ساؤرا، ومن توات يتفرع الطريق إلى اتجاهين: أولهما يتجه إلى تمانراست في هضبة الحجار، ثم أجادس وزندر وكانو في شمال نيجيريا، والاتجاه الثاني يعبر صحراء تانزروفت مباشرة إلى جاو على النيجر.
وفي تركستان السوفييتية أيضا يتحدد مسار السكة الحديدية الرئيسية عبر النطاق الجاف بالتزام وادي سرداريا إلى نهري الأورال والفولجا. وفي إيران والجزيرة العربية تلتزم الطرق الحديثة أيضا بطرق القوافل القديمة بين الواحات المختلفة.
وفي النطاق القطبي - ومع تغير وسائل النقل - لا تزال الطرق النهرية القديمة هي طرق الاختراق الرئيسية لهذه الأصقاع القارسة البرد والمتطرفة مناخيا، ولكن السوفييت قد افتتحوا طريقا ملاحيا جديدا يمر بالسواحل الشمالية لسيبيريا من مورمانسك إلى فلاديفوستوك (قرابة ستة آلاف ميل بحري)، وبرغم أهمية هذا الطريق الجديد بالنسبة إلى الاستغلال الحديث للثروات المعدنية الكبيرة في النطاق القطبي السوفييتي، وبرغم ما يستخدمه السوفييت من وسائل شديدة الحداثة في فتح هذا الطريق للملاحة (استخدام محطمات الجليد التي تسير بالطاقة الذرية لفتح طريق مائي وسط الجليد البحري المتراكم)، إلا أن كل هذه الأسباب والوسائل المتقدمة تكنولوجيا لا تستطيع أن تفتح هذا الطريق إلا في خلال أشهر الصيف الثلاثة فقط! ففي خلال هذه الفترة القصيرة تهيئ الظروف المناخية المتغيرة لفتح طريق الملاحة الشمالي، وبذلك تساعد وسائل النقل الحديثة على القيام برحلاتها الموسمية.
وفي المناطق الاستوائية يقف النمو النباتي الهائل عقبة حقيقية أمام النقل الحديث؛ ومن ثم فإن الأنهار والأودية النهرية ما تزال خير طرق اختراق هذه المناطق؛ ولذلك فإن درجة الاعتماد على النقل النهري عالية بالنسبة لحوض الأمازون أو الكنغو. وعلى النحو نفسه تقف الهضاب والجبال الشديدة الارتفاع عائقا أمام النقل الحديث؛ إذ إنه لا يمكن ارتقاؤها إلا من نقاط ضعفها المتمثلة في وجود الانحدارات المعتدلة والممرات الجبلية؛ ومن ثم كان الطريق الطبيعي لارتقاء التبت يأتيها من الشرق، بينما تترك الطرق الجنوبية والشمالية للقوافل التقليدية.
وبرغم هذه العقبات فإن وسيلة واحدة من وسائل النقل الحديث تستطيع أن تتغلب عليها، تلك هي وسيلة النقل الجوي، وفعلا يلعب هذا النوع من النقل الدور الرئيسي في المناطق المذكورة، وخاصة في النطاق القطبي والاستوائي. وللنقل الجوي دوره أيضا في النطاق الجاف، لكن هذا النطاق مخدوم أيضا بوسائط نقل تتفق مع احتياجات الإقليم الاقتصادية، وتصل إلى حد الشبكة الكثيفة من وسائل النقل في بعض أماكن هذا العالم الجاف (مثل مصر وساحل الليفانت وتركستان السوفييتية)، كذلك فإن العالم الجاف تخدمه موانئ جيدة على الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وموانئ داخلية على بحر قزوين وبحر آرال. (1-2) الظروف البشرية
إذا كان للظروف الطبيعية مثل هذا التأثير الشديد على اتجاهات ومواصفات طرق النقل ووسائله، فإن للظروف البشرية أيضا دورها الهام في هذا المجال وأكثر العناصر البشرية تأثيرا هو مدى كثافة السكان في الأقاليم المختلفة، فحيث تظهر كثافة سكانية عالية ترتفع أيضا كثافة شبكة النقل كاستجابة طبيعية.
ولهذا نجد كثافة عالية لمختلف وسائل النقل البري والحديدي والنهري والبحيري والبحري والجوي في الولايات الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة (المثلث الذي تحدده مونتريال الكندية في الشمال وشيكاجو في الغرب وواشنطن في الجنوب). وفي هذا الإقليم أكبر مدن أمريكا الشمالية: كويبك ومنتريال وترنتو في الجانب الكندي، وبوسطن ونيويورك وفيلادلفيا وبلتيمور وواشنطن على الجانب الأطلنطي، وملواكي وشيكاجو ودترويت وكليفلاند وبافلو وبتسبرج وسنسناتي في الداخل. وبينما تزدحم هذه المنطقة بخطوط الحركة، تصبح وسائل النقل محدودة بطرق قليلة في غرب الولايات المتحدة لقلة التزاحم السكاني (راجع الخريطة رقم 3-1).
ومثل هذه الحالة نجدها في الاتحاد السوفييتي؛ حيث تؤدي الكتلة السكانية الكبيرة في القسم الأوروبي إلى وجود شبكة نقل كثيفة، بينما كانت المنطقة الآسيوية ذات خطوط مواصلات محدودة. ولكن التطور الاقتصادي الذي طرأ على نطاق الإستبس فيما بين الصحاري وغابات سيبيريا الغربية قد أدى إلى نمو زراعي وصناعي وتعديني ومدني كبير. وقد انعكس ذلك بدوره على خطوط الحركة، فتطورت شبكة النقل في هذا الإقليم السوفييتي إلى كثافة ملحوظة، لكنها لا زالت أقل من احتياجات المنطقة.
وحتى في داخل الدول الصغيرة المساحة نجد أيضا الكتلة السكانية الكبيرة، بالإضافة إلى نشاطها الاقتصادي الكبير، تشكل عامل جذب لكثافة المواصلات، فلنلاحظ الفارق بين كثافة النقل في سهل الفلاندرز وقلة هذه الكثافة نسبيا في هضبة الأردين، وبين شبكة النقل في الرور والراين بالمقارنة بتلك في بافاريا.
هذا التجاوب بين الكثافة السكانية العالية وشبكة المواصلات لا يتم انطباقه دون أن يكون لهذه الكتلة السكانية الكبيرة نشاط اقتصادي يعتمد في جوهره على التبادل التجاري؛ ومن ثم يقوم النقل بوظيفته الأساسية: النقل التجاري، وليس نقل الأشخاص فقط، ولا أدل على ذلك من مقارنة كثافة النقل في مناطق الصناعة الحديثة في غرب أوروبا، بخطوط النقل في مناطق الإنتاج الزراعي البسيط في الهند أو الصين.
Unknown page