Judhur Falsafiyya Li Binaiyya
الجذور الفلسفية للبنائية
Genres
في الفلسفة الفرنسية بأسرها، منذ عهد ديكارت، اتجاه إلى الإقلال من شأن النزعة التجريبية، وتأكيد دور العقل الذي يسبق التجربة - سواء أكانت هذه الأسبقية منطقية أم زمنية - ويضفي عليها اتجاها وهدفا ومعنى. ومنذ أن أكد ديكارت أهمية النموذج الرياضي في المعرفة البشرية، وأكد فرانسيس بيكن، في نفس العصر تقريبا، أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع، تحددت معالم اتجاهين متضادين، أحدهما يؤكد دور العقل في المعرفة، والثاني يركز على أهمية التجربة. وصحيح أن العلم قد استطاع منذ وقت مبكر، بل منذ عهد هذين الفيلسوفين ذاتهما، أن يتجاوز التضاد بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية، وذلك حين قدم جاليليو نماذج رائعة لكشوف علمية تعتمد على ملاحظات وتجارب دقيقة من جهة، وعلى فروض عقلية وصياغات رياضية من جهة أخرى. ولكن هذا التضاد ظل يقوم بدور أساسي في الفكر الفلسفي، وما زال له تأثيره عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية حتى اليوم.
ومن أهم السمات التي نستطيع أن نلمحها عند البنائيين، مواصلتهم السير في هذا الاتجاه العقلي المعادي للنزعة التجريبية، وسعيهم إلى تفسير التجربة من خلال مبادئ عقلية، بدلا من إرجاع مبادئ العقل إلى مكتسبات تجريبية. ومما يدل على تأصل هذا العداء للتجريبية في تفكيرهم، أننا نجده عند مفكرين بنائيين تفصل بين اتجاهاتهما العقلية مسافات هائلة، وأعني بهما الأنثروبولوجي ليفي ستروس، والباحث لوي ألتوسير
Louis Althusser
فمن الأسس المنهجية التي ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر
Frazer
مثلا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي. فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد على السطح الخارجي للظواهر أبدا، وإنما يكتشف عقليا. وهكذا يستهدف التحليل البنائي، في ميدان الأنثروبولوجيا، الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري، ومن ثم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية». «وطوال كتابات ستروس يتكرر مرارا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية».
2
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفا مثاليا. فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (
L’esprit humain ) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي فرد أو جماعة إنسانية بعينها. وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا ندعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم.» فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليا، ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري، لا تتأثر بتغير الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية، كالأساطير. فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها العقل البشري أينما كان.
فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية، وأعني به الفيلسوف الماركسي ألتوسير، وجدناه بدوره يشترك مع ستروس - برغم كل ما بينهما من اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور - في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها معيار لذاتها، دون حاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي. ففي نظر التجريبية تكون المعرفة تجريدا من الواقع؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى متداخلة تحجبها عنا. وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبا لنجلو وجه الحقيقة الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح» نستبعد فيها الزوائد؛ لكي نكشف ماهية الحقيقة. ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة. وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون مكتفية بذاتها، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة بأكملها خارجه.
Unknown page