Judhur Falsafiyya Li Binaiyya
الجذور الفلسفية للبنائية
Genres
على أنه، إذا كان للبنائية، بوصفها منهجا، مثل هذا التاريخ الطويل؛ فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات؛ إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية، كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي، بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح «أسلوبا» خاصا للحياة يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشاتهم، هم «الوجوديون» الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين. ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدى آراء سارتر في الحرية «المحكوم بها» على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي. ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعا «داخل» الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين؛ لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للأيديولوجية البورجوازية.
في هذا الجو ظهرت البنائية لكي تدخل طرفا ثالثا في الصراع الفكري الذي سيطر على الثقافة الفرنسية في الستينيات، فأضافت وقودا جديدا إلى لهيب المعارك الدائرة بين المثقفين، وكان لظهورها دوي كبير، لا لأنها أتت باتجاه جديد فحسب؛ بل أيضا لأن التقابل بين الوجودية والماركسية، كما قلنا من قبل، كانت قد خفت حدته، وكان لا بد من ظهور خصم جديد يثير المعركة الفكرية مرة أخرى.
على أن البنائية كانت لها جذور فلسفية أقدم كثيرا من العصر الذي ظهرت فيه. وأهم هذه الجذور، في اعتقادي، هو فلسفة كانت؛ فالبنائية - مثل فلسفة كانت - تبحث عن الأساس الشامل، اللازماني، الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة، وتؤكد وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ، وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية، بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيا ومكانيا، أي إن هذا النسق «قبلي
a priori » بمعنى مشابه لما نجده عند كانت. ولقد ظهر لدى البنائيين - على اختلاف اتجاه تخصصاتهم - ميل واضح إلى فكرة النسق الشامل، ووضع أطر أو قوالب أساسية تندرج ضمنها الكثرة الموجودة في الواقع، بل إن هذه الأطر والقوالب لها عندهم طبيعة عقلية، حتى لو اتخذت مظاهرها أشد الصور حسية. كذلك تدعو البنائية بدورها إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لذلك الذي دعا إليه كانت؛ إذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكامن في كل معرفة علمية، وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من أجل النفاذ إلى تركيبها الباطن. وهي بدورها تترفع على النظرة التجريبية، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية يضاف بعضها إلى البعض، وإنما يتم عن طريق إعادة النظر في قوالب أو صور أو عمليات موجودة بالفعل، ولكنها تتخذ مظهرا جديدا في كل عصر. وأخيرا فإن البنائية تتشابه مع فلسفة كانت في نقطة أساسية، هي أنها بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الإنسان موضوعا لعلم دقيق، وتحاول أن تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الأخرى تسير في طريق العلم الراسخ؛ لكي تطبقه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصب على العلوم الرياضية والطبيعية، على حين أنه كان في حالة البنائيين ينصب على علوم أخرى، أهمها علم اللغة.
والواقع أن علم اللغة كان مصدرا من أهم مصادر البنائية، وهو مصدر كان معترفا به صراحة في كتابات البنائيين، على حين أن تأثير فلسفة «كانت» في تفكيرهم كان ضمنيا في أغلب الأحيان. ولهذا الارتباط بين البنائية وبين اللغويات مبررات قوية؛ إذ لا يوجد «بناء» بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، وجميع المجالات المعروفة لا يصبح لها بناء إلا حين تتخذ طابعا لغويا.
3
وفضلا عن ذلك فإن للغة بالذات ميزات خاصة جعلت النموذج اللغوي يحتل مكانة خاصة في تفكير البنائيين؛ ذلك لأن اللغويين، منذ أيام العالم السويسري المشهور «دي سوسير»
Ferdinand de Saussure
في أوائل القرن العشرين، درسوا عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها انساقا لا عقة لها بالعالم الذي تعبر عنه أو تدل عليه. فكانوا بذلك يطرحون مشكلات بنائية خالصة، ويضربون مثلا يحتذى للعلوم الإنسانية الأخرى التي لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة الاستقلال عن مضموناتها، واكتشاف تركيباتها الخالصة،
4
Unknown page