John Locke Muqaddima Qasira
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Genres
على الرغم من ذلك، استطاع لوك - على هذا الأساس - أن يقدم تحليلا رائعا للفلسفة الطبيعية: «معرفة الأشياء كما هي في كينوناتها السليمة، وقوانينها، وخواصها، وعملياتها» (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). أقر لوك في هذا الرأي بمظاهر التضليل والخداع المحتملة للحواس والذاكرة، دون الاستسلام للشك الشمولي؛ فقد ميز جيدا - إن لم يكن بوضوح شديد دائما - بين تلك الخواص «الأولية» للطبيعة (مثل الشكل) التي توجد في أجسام بمعزل تام عن مشاهديها من البشر أو غيرهم، وبين الخواص «الثانوية» (مثل اللون) التي تعتمد جزئيا على القدرات الإدراكية لدى القائم بالمشاهدة؛ فالإنسان يدرك المكعب المصمت على هذا النحو لأن تلك هي الحالة التي هو عليها ببساطة، سواء تفقده الإنسان أم لم يتفقده، لكنه يدرك اللون الأحمر للوردة؛ لأنه عندما يراها في ضوء النهار تؤدي خواصها الفيزيائية إلى أن يدركها بهذا اللون؛ ومن ثم فجميع الأفكار البسيطة تتسبب فيها «خواص» العناصر بوسائل لا نفهمها، وغالبا لا نستطيع أن نفهمها، لكن على عكس الخواص الثانوية، لا تعتمد الخواص الأولية على العلاقة بين البشر والعناصر الخارجية. ومن الطبيعي أن يفكر الإنسان في كلا نوعي الخواص على أنهما موجودان ببساطة في العناصر الخارجية، لكن لا يكون هذا الاعتقاد الطبيعي صحيحا تماما إلا في حالة الخواص الأولية.
تقتصر معرفة الطبيعة على الأفكار الحسية البسيطة، التي يدركها الإنسان في الحاضر أو يستدعيها إلى ذهنه من خلال الذاكرة. لكن لا ريب أن اعتقاد الإنسان عن الطبيعة يمتد لما هو أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يعتمد في الأساس على أحكام الاحتمالية، بناء على مقارنات مفصلة بين الأفكار البسيطة وتوليفات منها؛ ومن ثم، فهو ليس شكلا من أشكال معرفة الطبيعة، وإنما شكل من التخمين المدروس جيدا عن الطبيعة. وعلى مدى معظم القضايا الأكثر أهمية في حياة الإنسان، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقا ما يفعله حيال تلك القضايا أو ماهيتها، كل ما بوسع الإنسان فعله هو إبداء رأيه في هذه القضايا على نحو متعقل قدر المستطاع، وهو أمر لا بد له قطعا من فعله. وإصرار الإنسان على طلب المعرفة في المسائل التطبيقية التي تستحيل معرفتها يكون له أثر هدام في النفس؛ فهذا من شأنه أن يعوق الإنسان عن اتخاذ أي إجراء على الإطلاق ويعطل حياته. لا يمكن معرفة حقائق عامة عن الطبيعة؛ ومن ثم لا يوجد ما يسمى بعلم الطبيعة بالمعنى الصارم للكلمة؛ فالإنسان محق تماما في أن يرى أنه يعرف أن أفكاره الحسية والتأملية البسيطة تتطابق مع الواقع والحالة التي عليها العالم والحالة التي عليها الإنسان نفسه، لكن عندما يحاول أن يفهم نفسه والطبيعة من حوله، فإن الأفكار المعقدة التي يصوغها في عقله من هذه الأفكار المادية البسيطة لا يمكن التيقن من تطابقها مع الواقع؛ وما يضطر الإنسان إلى فعله، بدلا من ذلك، هو أن يحكم على ما إذا كان الواقع يتطابق مع أفكاره المعقدة أم لا. وإذا أصدر الإنسان حكمه هذا بإنعام وتعقل، فسوف يخدم ذلك كل الأغراض التطبيقية كما ينبغي؛ فما يطلبه الله من الإنسان يستحيل ألا يكون الإنسان على معرفة به، لكن التعامل بفاعلية مع الطبيعة لا يتطلب معرفة، وإنما يتطلب فقط تخمينا بارعا.
لكي يكون لدى الإنسان علم حقيقي عن الطبيعة الخارجية، يجب أن تكون لديه معرفة حسية بالحقائق العامة المتعلقة بآليات تلك الطبيعة، وسيتعين عليه أن يكون قادرا بالمعنى الحرفي للكلمة على أن يرى الأسباب التي تتمخض عنها كل النتائج الطبيعية وكيفية تمخضها عنها. يتصف الله نفسه بكل تأكيد بهذه القدرة على الرؤية المباشرة، بل من الممكن أن تكون الملائكة أيضا - ولو بدرجة أقل - قادرة على إدراك بعض آليات الطبيعة مباشرة. لكن البشر - نظرا لمحدودية حواسهم - لا بد أن يعتمدوا إلى حد كبير في فهمهم للطبيعة على التحكم في مفاهيمهم وتصنيفاتهم على أساس من الوعي الذاتي؛ فإذا كانوا لا يستطيعون أن يتوصلوا إلى معرفة حقائق عامة عن الطبيعة، فلديهم كل الدوافع العملية لأن يحاولوا تكوين معتقدات عامة سليمة عن آلياتها. ولكي يزيدوا من احتمالات النجاح في هذه المجازفة، لا بد أن يولوا اهتماما خاصا بالوسائل التي يصوغون بها أفكارهم المعقدة، ويوظفون بها الكلمات التي يستخدمونها في تسمية هذه الأفكار؛ فالأفكار البسيطة هي علامات طبيعية على خواص العناصر الطبيعية، والكلمات هي علامات بشرية على الأفكار الموجودة في العقل. الأفكار البسيطة لا إرادية، في حين أن الكلمات إرادية تماما، ونظرا لأن الأفكار المعقدة كانت تقع في مكان وسط بينهما، فمن الممكن إخضاعها للتنظيم المدروس والمتعمد من جانب العقل، لكنها تعتمد اعتمادا كليا على شهادة الحواس فيما يتعلق بعناصرها المادية. ولكي يضمن الإنسان أقصى قدر من التحكم في توجيه مفاهيمه وآليات فهمه، يلزمه قدر فائق من الوعي الذاتي على المستويين العقلي واللفظي. ويعتبر البحث العلمي المنهجي والخطاب الفلسفي هما الوسيلة العامة والعملية للتعبير عن أحد أشكال الرعاية والمسئولية العقلية التي يتوجب على جميع البشر أن يتحملوها في حدود فرصهم الاجتماعية.
إن البحث العلمي - حسبما يرى لوك - لا يؤدي إلى المعرفة؛ ومن ثم يرى لوك أنه لا يستحق أن ينعت بكونه علما، لكنه قطعا يتيح للإنسان تحسين فهمه للطبيعة؛ فقد أحرز البحث العلمي مؤخرا تقدما هائلا في أعمال معاصريه الموقرين أمثال بويل ونيوتن وغيرهما من أعضاء الجمعية الملكية، الذين كانوا بمنزلة علامات مضيئة ورائدة في مجالاتهم. ومن غير الواضح إلى أي مدى كان لوك نفسه يتوقع أن يسهم هذا البحث المتخصص والمنهجي والنظري بدرجة كبيرة في العالم الطبيعي، في حد ذاته، في زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة أو تعزيز استمتاعه بالحياة في هذا العالم. (في مجال الطب، كان لوك يتمنى بالطبع أن يعود البحث العلمي على الأفراد ببعض المنافع الدنيوية المباشرة، لكن من الواضح أنه لم يكن يتوقع تحولا في قدرة الإنسان على السيطرة على الأمراض أو تخفيف الآلام.) ومع ذلك، أيا كانت الإسهامات المميزة للبحث العلمي ، كان لوك يرى بوضوح أن البحث العلمي امتدادا طبيعيا للجهود الفعالة والعملية لفهم الطبيعة والتحكم فيها، التي ميزت الأمم «الراقية» عن الأمم «الوضيعة»، وجعلت الحياة في الأمم «الراقية» أكثر إمتاعا بكثير منها في الأمم «الوضيعة» بحسب رأيه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة).
لعل أروع ملمح من ملامح هذا الفهم عن العلوم الطبيعية هو تفسيرها لحدود المعرفة الطبيعية لدى الإنسان، ومن الواضح أن لوك أساء حقا تقدير هذه الحدود في بعض النواحي، عندما رأى بين التصنيف البشري وآليات الطبيعة فجوة أكثر اتساعا من تلك التي بررها التاريخ اللاحق للكيمياء أو حتى لعلم الأحياء. لكن يظل تقدير لوك جيدا فيما يبدو للتوازن بين الثقة في القوة التفسيرية للنموذج الميكانيكي، والقناعة بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف آليات الطبيعة معرفة مباشرة. لدى فلاسفة العلوم الطبيعية المحدثين علوم مختلفة تماما ليفكروا فيها، وبعضها له نتائج عملية مذهلة، وهم يشاركون لوك عددا من الافتراضات، أو حتى الاهتمامات، وعلى خلاف لوك لا يعتقدون أيضا أن المعرفة نوع من الرؤية، ولا يقارنون حدود معرفة الإنسان عن الطبيعة برؤية الله العليم التي يفترض أنها رؤية كاملة؛ لكنهم على الرغم من كل اختلافاتهم، يضعون في الأغلب هذه الثقة - بقدر ما يستطيعون حشده في المقام الأول - في التصرفات المباشرة للحواس، وفي القوة التفسيرية للنماذج، كما أنهم ينكرون قدرة البشر على أن يعرفوا بالضبط السبب وراء آلية الطبيعة وعملها على هذا النحو؛ وعليه، فإن العلوم الطبيعية ليست شكلا من أشكال المعرفة (كما أشار لوك)، إنما هي بالأحرى شكل من أشكال المعتقدات المعقدة والمضللة على نحو غريب؛ فهي مسألة تقدير (أو تخمين) وليست رؤية مباشرة.
لم يساور لوك الشك في أن شيئا ما يدفع الطبيعة إلى أن تعمل على ذلك النحو الذي تعمل عليه بكل تفاصيله؛ فالعناصر لها خواص، والإنسان يعرف بوجود هذه العناصر لأن خواصها تؤثر في حواسه بطرق معينة، لكن - على خلاف أرسطو - كان لوك يشك فيما إذا كانت الطبيعة نفسها مقسمة إلى أنواع متباينة من العناصر التي توجد حدود واضحة بينها، وكان واثقا من أن البشر لا يستطيعون معرفة كيفية تقسيمها بالضبط، كما كان على يقين تام بأن البشر لا يمكنهم معرفتها من خلال المعرفة الدقيقة لآلية تقسيمها. لكن، أيا كانت آلية تقسيم الطبيعة نفسها - سواء أكانت تشكل تسلسلا غير واضح، أم تتألف من العديد من أنواع العناصر المتباينة تماما - فإنها تجعل الإنسان يراها بالكيفية التي يراها عليها، ويمكن أن يرى الله بوضوح كيفية فعلها لهذا وسببه. لكن كل ما بوسع الإنسان أن يفعله هو جمع أفكاره البسيطة بعناية ودقة، واستخدام العلامات اللفظية التي تشير إلى هذه الأفكار المجمعة بالقدر نفسه من العناية والدقة. وما يمكن أن يعرفه الإنسان عن الطبيعة (بعيدا عن الأفكار الحسية والتأملية البسيطة) هو الكيفية التي يدرك بها الإنسان نفسه هذه الطبيعة ويفهمها، فهو لا يستطيع أن يعرف بصفة عامة ما يفكر فيه أو يتحدث عنه، ولا يمكنه - فيما خلا لحظة بعينها - أن يعرف كنهها بحق.
لكن الأمر يختلف كثيرا في حال الأفكار التي تشكل الفعل، ولا سيما الأفكار الأخلاقية؛ ففي هذه الحالة، لا توجد فجوة بين ما يفكر فيه الإنسان وما عليه الحال بالفعل. من السهل أن يحتار المرء بشأن القضايا الأخلاقية، بما أنه لا يوجد ببساطة معيار خارجي ملموس، توفره الحواس، يتعين على الإنسان مطابقته ومقارنة أفكاره وفقا له؛ بيد أن الأفكار الأخلاقية التي يفكر فيها الإنسان بسهولة هي الحقائق التي يحاول التفكير فيها. ونظرا لأنه لا توجد فجوة - وفقا لهذا المفهوم - بين ما يطلق عليه لوك «الجوهر الاسمي» و«الجوهر الفعلي» للأفكار، يمكن فهم الأفكار المرتبطة بالأخلاق بوضوح تفتقر إليه بالضرورة الأفكار المتعلقة بالطبيعة؛ ولهذا السبب افترض لوك أن الأخلاق يمكن الاستدلال عليها، وظل يفترض ذلك حتى بعد مرور وقت طويل على توقفه عن محاولة الاستدلال عليها بنفسه.
وربما ما جعل المفاهيم الأخلاقية غاية في الوضوح (وجعل سوء الفهم الأخلاقي أمرا واردا للغاية من الناحية العملية)، هو غياب عالم معين لتلك المفاهيم لمضاهاتها به والاحتكام إليه؛ بيد أنه من غير المستغرب أن هذا الغياب نفسه قد جعلها موضع شك بطريقة أخرى؛ فكل البشر - كما رأينا - لديهم مبادئ داخلية قوية للسلوك تحثهم على التصرف بطريقة مخالفة تماما للمعتقدات الأخلاقية التي كان يعتنقها لوك. إن ما أتاح إقامة المجتمعات البشرية هو أن الأفراد يكبحون هذه الدوافع، بفعل الضغط الذي يمارسه عليهم المجتمع في المقابل الذي يتمثل في الاستحسان والاستنكار من جانب، والتهديدات النافذة للعقوبة القانونية من جانب آخر. ويمثل كلا العاملين عائقا عمليا أمام سعي الإنسان وراء اللذة، ولا يمكن لهذين العاملين في حد ذاتهما أن يكونا سببا يستحث الإنسان على التصرف على نحو أخلاقي، أو على اختيار التصرف على نحو أخلاقي حينما يكون واثقا من تفادي تلك التهديدات؛ ومن هنا تأتي الأهمية الحتمية لمفهوم لوك عن الأخلاق، المتمثل في ضرورة وجود تهديد لا يمكن لأحد أن يأمل على نحو عقلاني أن يتحاشاه؛ ألا وهو عقاب الله «الذي يرى الإنسان في الخفاء». عرض لوك هذا الارتباط بوضوح شديد في مسودة غير مكتملة بعنوان «حول الأخلاق بوجه عام»، التي ربما كان المقصود بها أن تكون الفصل الأخير من «مقال في الفهم البشري» (مقالات حول قانون الطبيعة). وفي مواجهة هذا الارتباط، يتضح في «مقال في الفهم البشري» ككل عيب صارخ؛ فالحجج التي أقامها لوك على وجود الله لا تسهم مطلقا في ترسيخ حقيقة وجود «إله» معني بمعاقبة البشر أو خلاصهم، ولا يمكن تبرير المفهوم المسيحي الواضح لوجود الله، الذي قامت عليه قناعات لوك الأخلاقية، إلا باللجوء إلى فكرة الوحي الإلهي. (من حسن الحظ أن قانون الطبيعة الإلهي ومشيئة الله المعلنة كانا متطابقين لا محالة، وقدما «المحك الحقيقي والمعيار الوحيد للنزاهة الأخلاقية» (مقال في الفهم البشري).)
الإيمان
بناء على ذلك، اتجه لوك بحزم في عمله الرئيسي الأخير نحو الوحي الإلهي، وحسبما يتضح من عنوان العمل، فإن السبب في ذلك يرجع جزئيا إلى رغبته في نشر «معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس». (إن العقل هو الذي يجب أن يحكم ما إذا كانت رسالة بعينها هي وحيا من الله أم لا، وهو الذي يجب أن يفسر بدقة ما تعنيه تلك الرسالة.) لكن ثمة شيء أكثر إلحاحا دفعه إلى ذلك؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي تجعله يحتفظ بثقته في أن الواجبات الأخلاقية للإنسان سوف «تعلن للبشر كافة» على نحو فعال، هي الوحي المسيحي. ولم يبرهن أحد قط على صحة قانون الطبيعة بمداه الكامل (معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس)، وبحلول عام 1694 كان لوك قد فقد الأمل في إثبات صحته بنفسه (مراسلات جون لوك)؛ لكن الله أظهر للبشر كافة الطريقة التي تمنى لهم أن يعيشوا وفقا لها، وذلك عن طريق قانون الإيمان الذي نشره إليهم من خلال المسيح المنتظر. لقد ساهمت العلاقة الوثيقة بين نبوءات العهد القديم عن المسيح المنتظر وبين أحداث حياة المسيح، بالإضافة إلى المعجزات التي صنعها، في إعطاء الحواريين معرفة موحى بها بأنه كان «المسيح المنتظر». ونشر المسيح نفسه قانون الإيمان؛ حيث دعا البشر إلى الإذعان له ووعدهم بالخلاص في المقابل («معقولية المسيحية كما قدمت في الكتاب المقدس»، «أعمال جون لوك»).
Unknown page