John Locke Muqaddima Qasira
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Genres
إن هذا التحول في الاهتمام، الذي أعقبته - حسبما حدث بالفعل - إعادة الصياغة الدقيقة للغاية لرسائل القديس بولس (التي خصها لوك بجهد بالغ حتى مماته)، يكشف الكثير من الأمور. وهو يؤكد على اعتماد لوك الوثيق على مفهومه عن الحياة الصالحة للإنسان، على افتراض وجود إله يرى الإنسان في الخفاء، ويراقب سلوكه، ويعاقبه بعد الموت على مخالفة ناموسه. وثمة إضافتان من أهم الإضافات وأروعها إلى «مقال في الفهم البشري» - وهما: المعالجة المعدلة لمفهوم الإرادة الحرة، والفصل الجديد تماما عن موضوع الهوية - تتمركزان حول مسألة كيف يمكن للعقاب الإلهي أن يكون منطقيا وعادلا. لم يكن لوك مستعدا في أي مرحلة من حياته لأن يتأمل تفضيلا إيمانيا واعيا على استنتاجات العقل، وحتى بعد كتابة «معقولية المسيحية»، ظل واثقا من إمكانية إثبات وجود إله من النوع المطلوب، وأنه يمكن - بل ينبغي أيضا - اعتبار ذلك استنتاجا عقلانيا (مراسلات جون لوك). ومن السهل أن نرى السبب الذي جعل هذا الحكم غاية في الأهمية، إذا تأملنا تداعيات بعض الأفكار الرئيسية الأخرى للمقال في غياب هذا الحكم.
إن الإنسان بطبيعته يفتقر إلى الهدوء والثبات عند الشدائد.
قلما نشعر بالارتياح، وقلما نكون متحررين بالدرجة الكافية من إغواء رغباتنا الفطرية أو المكتسبة، لكن التعاقب المستمر لحالات عدم الارتياح بسبب هذا المخزون المتراكم بفعل الاحتياجات الفطرية أو العادات المكتسبة، يجعل الإرادة تنجرف وراءه، وبمجرد أن يصدر فعل ما - نشرع فيه بعزيمة تلك الإرادة - تظهر حالة جديدة من عدم الارتياح كفيلة بأن تجعلنا ننساق وراء رغباتنا واحتياجاتنا من جديد (مقال في الفهم البشري).
الإنسان في العالم «محاط بعوامل شتى لعدم الارتياح» و«مشتت برغبات مختلفة»، ويحرك رغباته الألم واللذة، الخير والشر، وذلك من خلال تداخلها مع مفهومه عن السعادة؛ فكل البشر يسعون دوما وراء السعادة ويرغبون في كل ما يرون أنه جزء منها، وليس هذا بالأمر الاختياري. لا يستطيع الإنسان أن يختار عدم السعي وراء السعادة، لكن هذا لا يقلل بأية حال من مسئوليته عن اختيار أفعاله. الله نفسه «في احتياج إلى السعادة»، ومضمون حرية الإنسان أنه ينبغي أن تكون لديه السلطة والمسئولية ليحكم بنفسه على ما هو جيد حقا (مقال في الفهم البشري). وكما يختلف مذاق الطعام من شخص لآخر - فبعضهم يحب الإستاكوزا، والبعض الآخر يكرهها - كذلك تختلف أذواقهم في هذه المفاهيم الأوسع نطاقا والأكثر تنوعا بشأن اللذة التي تعتمد على العقل؛ فالبعض يقدر الثروة، والبعض الآخر يقدر المتع الجسدية؛ والبعض يقدر الفضيلة، والبعض الآخر يقدر التأمل، ولما كانت اللذة مسألة ذوق، فمن العبث إنكار أن سعادة الإنسان في هذا العالم ستتخذ أشكالا مختلفة للغاية.
لو أن الإنسان فقط يكون لديه أمل في هذه الحياة؛ لو أنه فقط يستطيع أن يستمتع بحياته! فليس من الغريب أو غير المعقول أن يسعى الإنسان وراء سعادته من خلال تحاشي كل الأمور التي تسوءه، والسعي وراء كل ما يبهجه ... لأنه إذا كانت لا توجد فرصة للحصول على هذه اللذة بعد الموت، فقطعا سيصح الاستنتاج التالي: «دعونا نأكل ونشرب، دعونا نستمتع بما نجد فيه لذتنا؛ لأننا غدا سنكون في عداد الأموات» ... ربما تختلف اختيارات الأشخاص، لكنهم جميعا يتفقون على اختيار الصواب، على افتراض أنهم يشبهون بالأحرى شرذمة من الحشرات الهزيلة، التي بعضها نحل يجد لذته في الأزهار ورحيقها، والبعض الآخر خنافس تجد لذتها في أنواع أخرى من الطعام، والتي بعد أن استمتعت طوال فترة حياتها، ينبغي الآن أن تنتهي حياتها وتموت، ولن يكون لها وجود مرة أخرى للأبد (مقال في الفهم البشري).
يحاول لوك بين الحين والآخر أن يشير إلى أنه حتى في هذه الحياة ثواب الفضيلة يفوق ثواب الرذيلة (مقال في الفهم البشري)، غير أن الأهمية الرئيسية لحكمه تتعارض بوضوح مع هذا الرأي (أعمال جون لوك، المجلد الثالث). إذا كانت السعادة تعتمد على ذوق الفرد وحده، والذوق نفسه فوق الانتقاد، فلا يمكن كبح شهوات الإنسان إلا بوسائل الوعيد المعلومة لديه؛ النفسية والأخلاقية والبدنية. وحتى في هذا العالم، سيكون كبح شهوات الإنسان أمرا لا غنى عنه إذا أردنا للمجتمع أن يظل قائما. «تكمن مبادئ الأفعال حقا في شهوات الأفراد، لكنها أبعد ما تكون عن المبادئ الأخلاقية المتأصلة في الإنسان بالفطرة، التي إذا تركت دون كبح جماحها، فسوف تؤدي بالإنسان إلى ما هو عكس كل الأخلاق» (مقال في الفهم البشري). ولو أن طبيعة الإنسان أجبرته على أن يرى أزماته الأخلاقية كما رآها لوك - «لذة تغوي، وإله قادر ترى يده مرفوعة، وعلى أهبة الاستعداد للبطش» - لكان معظم البشر قطعا سيغيرون اختياراتهم المعتادة، لكن إذا بدأ عقل الإنسان يتشكك ويرفض حقيقة هذا الوعيد، فسوف يتضح أن اختياراته المعتادة قد جرى التفكير فيها مليا، حتى إنه يمكن مضاهاتها على نحو إيجابي باختيارات لوك نفسه. والحكم الرئيسي للوك أن الإنسان يستحق العقاب على ارتكابه فعلا شريرا؛ لأن هذا الفعل يبرهن أن الإنسان «أفسد ذوقه وقدرته على التمييز» (271)، ويعتمد هذا الحكم في ترابطه، وكذلك في قوة حجته، على كونه مقياسا سليما لسلوك الإنسان لا صلة له بما يروق للإنسان وما ينجذب إليه.
طبيعة المعرفة
لا يولي الجزء الأكبر من «مقال في الفهم البشري» اهتماما مباشرا بالمسائل الأخلاقية، لكن حتى في أجزاء الكتاب التي يستعرض لوك فيها نظريته حول الكيفية التي يمكن للإنسان بها معرفة الطبيعة، كثيرا ما يلعب مفهوم لوك عن العلاقات بين الله والبشر دورا مهما، وهو لا يلعب هذا الدور من خلال عرض استنتاجات نظرية لوك الطموحة والشديدة المنهجية، وليس أيضا من خلال التشكك في أية نظرية من هذا النوع، لكن بالأحرى من خلال وضعها في إطار تصوري متجانس؛ ففي بعض النواحي، يرى لوك أن نطاق المعرفة البشرية شديد التقيد والمحدودية، لكنه في حدود هذا النطاق، لا يساوره أدنى شك على الإطلاق في حقيقة كونها معرفة. ومع أنه ينكر صراحة أن المعرفة تدخل التاريخ مع الجنس البشري، فإنه ينظر إلى المعرفة على أنها شيء ربما نكون على يقين تام من أن الإنسان مؤهل له بالفطرة، ولعل الله - بل الملائكة والمخلوقات الأخرى أيضا - لديه معرفة مباشرة وأوسع نطاقا بكثير مما لدى الإنسان (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). ربما جانب الصواب كل البشر في كثير من معتقداتهم (مع أنه كان في الواقع يرتاب فيما إذا كانت المعتقدات التي يعتنقونها بالفعل، كثيرا ما تكون على القدر نفسه من اللامنطقية الذي عليه الكثير من معتقداتهم المزعومة (مقال في الفهم البشري).) لكن أي إنسان لديه من سرعة التفكير والبديهة ما يؤهله لإنعام النظر في هذه المسألة، ربما يكون على ثقة ودراية تامة بأنه مؤهل للمعرفة.
تغطي نظرية لوك العديد من المسائل الفلسفية الكبرى: علاقة أفكار الإنسان وخبراته بأهدافه، وكيفية اكتساب الكلمات لمعانيها والاحتفاظ بها، وآلية الإدراك الحسي لدى الإنسان، وآلية المعرفة والفهم البشري، وحسبما أوضح لوك، لم يكن مقصودا أن تصير نظريته نظرية علمية؛ والنظرية العلمية هي نظرية تدور - على سبيل المثال - حول الكيفية التي يمكن بها للأشياء المادية التي يراها الإنسان أن يكون لها دور في تعديل آرائه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة)، أو الأسباب الدقيقة التي تجعل أجزاء من الطبيعة تؤثر في أجزاء أخرى على النحو الذي نشاهده بالفعل. كان لوك شديد التشكك فيما إذا كانت القدرات الفطرية للإنسان تؤهله للفهم على نحو عميق ودقيق، وأحيانا كان ينساق وراء هذا الشك على نحو بالغ، حسبما اتضح بعد ذلك. لكن على عكس هذه القيود المؤكدة دينيا، كان لوك يعتقد بشدة أن الإنسان يمكنه أن يفهم بوضوح كيف يميز بين ما في وسعه أن يأمل معرفته، وما ليس كذلك؛ ولكن الأهم أنه كان على يقين أيضا من أن الإنسان إذا طبق هذا الفهم فعليا في استخدام عقله في الحياة الواقعية، ففي مقدوره أن يكون واثقا ليس فقط من معرفة الكثير من المعلومات المفيدة عمليا، وتوسيع نطاق فهمه العلمي للطبيعة، وإنما سيكون واثقا أيضا من السلوك الذي عليه أن يسلكه بوصفه مخلوقا يتمتع بقدرة على التمييز الأخلاقي، تجعله يفرق بين الخير والشر. وبدلا من أن يطلق الإنسان أفكاره «في محيط الوجود الشاسع»، فالأفضل هو أن ينصح الإنسان بالتفكير جديا في قدرات فهمه، وبتوجيه أفكاره وأفعاله وفقا لتلك القدرات (مقال في الفهم البشري).
يقدم «مقال في الفهم البشري» نفسه تعهدا ب «التفكير في ملكات التمييز عند الإنسان، فيما تستغل في التمييز بين الأشياء التي يتعين على الإنسان التعامل معها.» ومن خلال «هذا النهج التاريخي الواضح»، يطمح المقال إلى تقديم «تفسير للطرق التي يتوصل بها الفهم البشري إلى تلك المفاهيم التي لدينا عن الأشياء.» يهاجم لوك في الجزء الأول من هذا العمل مبدأ الأفكار الفطرية المتأصلة، وهي الأفكار التي يولد بها الإنسان؛ فقد كان لوك يرفض بالفعل الرأي القائل بأن الإنسان يولد ولديه أفكار أخلاقية ودينية متأصلة، كما رأينا في كتابه «مقالات حول قانون الطبيعة». وبالنظر إلى تنوع القيم الأخلاقية والمعتقدات الدينية في المجتمعات المختلفة التي كان على دراية بها، فإنه لم تكن لديه أدنى صعوبة في إثبات حماقة هذا الرأي. تسبب التهكم الذي تناول به لوك هذا الموضوع في إهانة شديدة بين رجال الدين الأنجليكانيين في ذلك الوقت، وكان سببا رئيسيا لذيوع صيت لوك بوصفه مروجا للآراء المخالفة للدين، وأهم من ذلك في المقال ككل أن لوك رفض الرأي القائل بأن قدرة الإنسان على فهم الطبيعة، إنما تعتمد أيضا على المعرفة المتأصلة بعدد من مسلمات العقل مثل «ما سيكون سيكون» (مقال في الفهم البشري)، وكان ديكارت من معتنقي هذا الرأي على سبيل المثال. وبما أن معظم البشر (وفي الواقع كل الأطفال الصغار) ليسوا على دراية بأي من تلك المسلمات، فمن الحمق إذن أن ننعتهم بمعرفة تلك المسلمات. إن الإنسان يتوصل إلى فهم حقيقة تلك المسلمات بتجربة أمور معينة، ولما كان الإنسان يعتمد حقا في هذا الفهم على إعمال قدراته العقلية، نفى هذا على الإطلاق فكرة أن معرفة تلك المسلمات متأصلة في الإنسان.
Unknown page