هذا المساء، صعدت إلى المرتفعات البعيدة لأتفقد بؤساء الأكواخ، وكان الظلام يغلف السهول الخرساء بغلاف حالك، والقمر المتأخر يبرز كجمرة من النار في وسط قمين عظيم فيذوب أشعته على الروابي والمنحدرات، ولما بلغت منتصف الطريق جلست لأستريح فترة من الوقت، وكان السكون شاملا في مذاهب الطبيعة فخلتني أسمع خفقان الكواكب في أبراجها، وبعد دقائق قليلة خيل إلي أني أسمع لهاثا فاستفقت من تأملاتي وأصغيت، فإذا هو لهاث شاق صاعد من صدر إنسان تخلله نحيب وشهيق، فانحنيت إلى جهة الصوت وناديت مرارا فلم يجبني أحد، فنزلت إلى الجسر من عقيق السيل وكان القمر يتموج على الحصى فينير تلك العقبات، ولما دخلت إلى خميلة غضة تحت ذلك الجسر أبصرت ويا للعجب رجلا لا يزال في ميعة العمر مستلقى على التراب ورعشة الموت منتشرة على قسمات وجهه، وأبصرت ذراعه ملقاة على شيء أبيض مستطيل ويده تضغط على قلبه كأنما هي تخفي كنزا عزيزا لديه، فتراجعت قدما إلى الوراء غير أن الشفقة دفعتني إلى الاقتراب منه، فأخذت قليلا من الماء وألقيته على جبينه المغمى عليه، فاستفاق وفتح عينا مائتة ونظر إلى ثوبي، ثم رأى إذا كان حمله لا يزال في موضعه، فسقيته بعض نقط من نبيذ كنت قد أعددته في قربة علقتها في وسطي للطريق، وعندما استعاد قوته أخذ يبحث في نفسه عن عبارة شكر يسديها إلي ثم جلس جلسته، فسألته قائلا: «ماذا تفعل هنا يا صديقي، تحت هذا الجسر وفي مثل هذه الساعة من الليل؟ أأنت مجرم يطاردك إثمك، أم بائس لم يعد لديه مأوى يلجأ إليه في ليالي الشتاء فجاء يختبئ تحت هذا الجسر؟ لا تخف مني يا بني، فأنا عين الله وأذنه، وواجبي المؤاساة وغفران الذنوب! أنا كاهن هذه الجهات فقل ولا تخف»، عند هذا رأيت شعاعا من الأمل يمر على جملة وجهه فجمع كلتا يديه، وقال: «كاهن القرية؟ أحقيقة ما تقول؟ آه! إن الله هو الذي أرسلك إلي لأرتمي على قدميك، أيها السامري الصالح دعني أموت بين يديك»، فقلت له: «وماذا تنتظر مني؟» فأجابني: «انظر أي شيء أضعه على قدميك وتحت رحمتك!» عند هذا نهض من مكانه فأبصرت على التراب صندوقا من الخشب كبيرا تغطي جوانبه قماشة من الكتان الأبيض علقت في أطرافها باقات من الزنبق، ورأيت غصنا من البقس اليابس يعلوه إكليل من الأزهار الاصطناعية كتلك التي يرفعها المهنئون إلى الخطيبين ساعة زفافهما، فعرفت أنه نعش امرأة، فصرخت فجأة في وجهه قائلا: «أيها المسكين! ماذا كنت تصنع؟ تكلم! أكنت تدنس الأموات فسرقت من القبر سره؟» عندما سمع كلامي علا جبينه مسحة من الألم فجمع يديه على التابوت، وقال: «آه! يا سيدي أأنا أدنس الأموات وأنزع من القبور أكفانها؟ لقد مضى علي يومان وأنا رازح تحت ثقل هذا النعش، ذلك لأني لم أستطع أن أنال من الأحياء مساعدة يد تباركها أمام هيكل الرب، أو صلاة لنفسها المسكينة! فهذا النعش ملكي وهذه الميتة امرأتي!»
فأجبته: «أوضح ما تقول، فسوف لا تصلي وحدك على هذه الجثة»، ثم جلست قريبا من النعش وأصغيت إلى كلامه! «كنت يا سيدي حائكا مسكينا، أعيش مع امرأة تزوجت منها صغيرا فرزقت منها طفلا تعهدته حتى بلغ الثالثة من عمره، كانت امرأتي تطرز الحرير، وابني يجهز المغزل أو يحل الخيوط، وفي المساء كنا نجلس إلى بعضنا أمام النافذة ناظرين إلى الشمس هاوية حتى تغيب فنأنس برائحة الأزهار المنتشرة من أواني الخزف ونأخذ طعامنا المؤلف من الثمار والخبز وبعض الحبوب، بينما أحدنا يهز سرير الصغير الباسم تحت ضباب أحلامه العذبة، آه! يا أبت يخيل لي أني لا أزال أراهما كما كانا، فهذا المشهد يؤلمني ألما لا ألم بعده! واحسرتاه! إن أيامنا السعيدة لم تطل، فالله ما لبث أن أخذ الصغير من بين ذراعينا على أثر حمى شديدة أودت بحياته فجأة فبعت صليبه الذهبي وابتعت به نعشا وأريته فيه، وألبسته أمه ثوبه الأبيض بيديها كما كانت تزينه به في أيام الأعياد ثم نثرت الأزهار على رأسه وزودته دموعها وقبلاتها، أما أنا فقد نزعت من إصبعي خاتمي الذهبي لأشتري بثمنه حفرة لا تزيد عن أربعة أقدام!» «وكأن هذا الألم الفجائي كان شديدا على قلب زوجتي فماتت في الليلة نفسها التي مات فيها الطفل! أجل ماتت بدون أن أتمكن من معونة طبيب يتعهد مرضها أو كاهن يحضر ساعة نزعها الأخير، فلجأت إلى القديسين أطلب عونهم وكانت قد زودتني بهذه العبارة الأليمة: «عدني أنك لا تلقي بجسدي عاريا في حفرة الأموات، وأنك تصلي على جثتي في الكنيسة حتى يحملني ملائك الرب إلى ذراعي خالقي طاهرة نقية كزنابق نافذتنا»، فوعدتها يا أبت ولدى هذا الوعد فاضت روحها سعيدة مغبوطة، واحسرتاه! كنت أخالني سأنجز وعدي، غير أن العالم عديم الرفق بالبائس، فأخذت أبحث بلا جدوى عن أخشاب أؤلف منها نعشا للفقيدة وعن كاهن يصلي على نفسها بلا أجرة!» «عدت إلى الغرفة وحيدا وجلست أمام الشموع ناظرا إليها تذوب شيئا فشيئا وتحترق بيأس، وعندما انطفأت كفنتها بثياب عرسها ونزعت أخشاب سريرها وسمرتها على بعضها، ثم وضعت جثتها في تابوت الحب وانتظرت حتى انبثق الفجر وحان وقت جنازة الأموات فحملت على ظهري ذلك الحمل المقدس وخرجت إلى الكنيسة، غير أن الساحة كانت مزدحمة بعربات الموتى والأغنياء يمرون أمام الجميع، فبقيت أدفع إلى الوراء رازحا تحت ثقل الحمل حتى غصت الكنيسة وأصبح الدخول أمرا صعبا علي، فجاء من يطردني من عتبة بيت الله!» «قضيت يومين يا أبت أطوف من كنيسة إلى كنيسة راجيا الحصول على الصلاة، غير أن المعابد كانت صماء عن توسلات الفقير فرجعت إلى غرفتي، حيث لا طعام ولا فراش ولا نار وألقيت التابوت عن ظهري، تابوت الآلام والبؤس! في تلك الساعة، خطر لي خاطر أسقطه الله على قلبي، فقلت في نفسي: «فلأذهب إلى أعالي الجبال، فهناك كاهن ربما يتعهد نفسها رحمة وشفقة ويباركها بدون أن يطلب أجرة لعمله.» «أعدت الحمل على ظهري وخرجت في الليل من المدينة الراقدة كلص متستر يضطرب لدى أية ضجة يسمعها، وتوغلت في مضايق الأحراج مهتديا بدوي الأجراس إلى وجهتي المقصودة، رازحا تحت ثقل نفسي والأيام الثلاثة التي قضيتها في أشد حالة من حالات اليأس، وكنت أسقط أحيانا على الطريق ثم أنهض متثاقلا، مهشم اليد والقدم من نواتئ الحجارة، حتى بلغت هذا الجسر فشعرت بقلبي يهن ويضعف فلجأت إلى هذه الخيمة مخافة أن تعثر بي قدم مارة وأغمي علي حتى ما عدت أشعر بوجودي.» •••
فقلت له: «آه يا أخي، يا قدوة الرجال! ... أية رحمة لا تخجل أمامك وتنطرح بين ذراعيك؟ مهما أعطاك العالم من الأسماء المظلمة فأنا أفتخر بك تحت ثقل بؤسك وأرى نفسي كبيرا متى دعوتك بيا أخي! تعال معي وتشجع! انهض، فملاك حبك يتقدمنا في الطريق! تعال معي، فسأحمل بنفسي جثة امرأتك إلى معبد الله، وأحفر قبرها بيدي في ظلال الرب، ولكن يجب عليك أن تعتصم بالصبر يا بني، فنفس هذه المسكينة لا تحتاج إلى صوتي لكي يتوسل لها في السماء، أية صلاة توازي ما صنعته في سبيلها لدى الخالق العظيم، فالزفرات يا أخي أسمى صلاة يرفعها البائس إلى خالق البائسين، أية جنازة أقدس من تجوالك في هذه الليلة الرهيبة، ومما ذرفته من الدموع والدم والعرق البارد في سبيلها! تعال معي، فلم يبق علينا إلا أن نعيدها إلى الأرض!» قلت ذلك وأخذت طرف التابوت تحت ذراعي فأخذ الشاب طرفه الآخر، وسرنا في تلك العقبات بأقدام بطيئة متثاقلة، فكان العرق يتصبب من جبهتينا ويتقطر على النعش إلى أن بلغنا المعبد وكان الفجر قد بدأ يرمي أشعته الأولى فوضعنا الميتة على العتبة ودخلت فأشعلت الشموع وزينت الهيكل بدون أن أوقظ «مرتا» من رقادها، ثم صليت على الجثة، وكان الزوج ساجدا بخشوع يردد بعدي صلاة الموت، فتخرج العبارات زفرات من فمه، ثم حفرت بيدي قبرا بين القبور وأنزلت التابوت في ترابه، وعندما انتهى كل شيء جلس الشاب على الضريح كمسافر نهكه التعب بعد تجوال طويل فجلس يستريح على حمله!
فلنيج في 27 كانون الأول سنة 1802
مات الشاب في هذا الصباح، فسلام على نفسه! لقد أرقدته في ضريح زوجته!
في 28 كانون الأول سنة 1802
هنيئا للأعين الراقدة في أسرة الموت! إيه أمي! إيه لورانس! متى تغلق جفني يد الحمام الرطبة؟ •••
أشعر بحاجة إلى الراحة السرية، ويخيل لي أن غشاء رهيبا يحجب بصري، وأن أخيلة تتيه في مخدعي، وأجنحة بيضاء ترفرف في قلبي! هو ذا كلبي الأمين يلجذ يدي، أتراه شعر بموتي؟
خاتمة
رؤيا!
Unknown page