وكان يثق بصديقه حبيب كل الوثوق ولكن خشي مفاتحته بالأمر من تلقاء نفسه.
ولكن حبيبا كان من الرقة وحسن الذوق على جانب عظيم، فبقي رغم وقوفه على سر حب صديقه، لا يخاطبه بشيء في شأنه، ولا يسأله عنه؛ خوفا من أن يعد ذلك منه تطفلا أو فضولا.
وكان سليم مقيما بغرفة مفروشة في نزل بأحد شوارع القاهرة؛ لأنه كان وحيدا بها، ولم يأتها إلا منذ بضع سنين ليمارس مهنة المحاماة، ولما كان غير واثق بنجاحه فيها، آثر ألا يأتي بوالدته معه، وتركها مقيمة بمنزل أخيه المتزوج في مدينة الإسكندرية، على أن يأتي بها لتقيم معه متى استقر به المقام بالقاهرة.
واتفق له بعد مجيئه إلى القاهرة ببضعة أشهر، أن تعرف إلى سلمى خلال تردده إلى بيت أبيها، وهو من أبناء بلدته، فتعلق قلبه بها، واعتزم خطبتها لنفسه لما آنس فيها من الأدب والتهذيب والكمال. لكنه لم يخبر والدته بذلك أول الآمر، فلما أطلعها عليه بعد حين، فوجئ بعدم موافقتها على هذه الخطبة، وراجعها مرارا فلم تزدد إلا إباء. وأخيرا بعثت إليه بذلك الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد، مذكرة إياه بحقوقها عليه، مؤكدة أنها إن لم يعدل عن خطبة الفتاة فلن تعده ولدها، بل لن تبقى على قيد الحياة لأنها إن لم تمت حسرة وكمدا فستقتل نفسها لتستريح من شقائها بعقوقه ومخالفته إرادتها!
وكان رغم شدة تعلقه بسلمى، وإعجابه بخصالها، لا يريد أن يخالف والدته، فوقع في حيرة كادت تدفع به إلى وهدة اليأس والانتحار.
فلما عاد إلى غرفته أضاء الشمعة وبدل ثيابه، ثم جلس إلى مائدة بجانب سريره وأخرج كتاب والدته ليعيد قراءته، فلما نظر إليه عاد فطواه وأرجعه إلى جيبه خوفا من إثارة عواطفه، وأشعل سيجارة أخذ يدخنها وفكره مشغول بما هو فيه من الارتباك، وباضطراره إلى كتمان أمره عن خطيبته حتى لا تتكدر، وربما أدى بها الحزن إلى ما لا تحمد عقباه.
وما زال في هواجسه هذه حتى الصباح، فنهض إلى عمله كالعادة، وعند العصر ركب عربة مضى بها إلى دار سلمى ليمتع طرفه وسمعه برؤيتها وحديثها، وكان يرتاح لمجالستها وينسى وهو معها كل متاعبه ومشاغله.
وما كادت المركبة تقف به أمام البيت حتى سارعت سلمى إلى استقباله وقلبها يطفح سرورا ووجهها يشرق ابتساما، فلما دخل سلم على أهل البيت وقد أبرقت أسرته، ثم مد يده إلى سلمى مسلما وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث وكل منهما لا يرفع نظره عن وجه الآخر، وأهل المنزل فرحون بائتلاف قلبي الخطيبين وبما جمعه الله فيهما من صفات الكمال.
وقالت سلمى له بعد قليل: «أرجو أن تكون قد سررت أمس بمشاهدة الزينة في حديقة الأزبكية!»
فقال: «الواقع أني سررت بها كثيرا، ولكن سروري لم يتم لأني كنت أود لو أنك كنت معي لنشاهد تلك المناظر البديعة معا.»
Unknown page