Jawahir Thamina
الجواهر الثمينة في محاسن المدينة
Genres
* ترجمة المصنف
* بسم الله الرحمن الرحيم
هو محمد بن عبد الله بن محمد مولده ووفاته بالمدينة.
هو من أحفاد شرف الدين بن يحيى الحمزي الحسيني المولوي المشهور بمحمد كبريت.
أديب قام برحلة إلى الروم [تركيا] سنة 1039 ه ، ألف فيها : رحلة الشتاء والصيف (ط) وزار دمشق والقاهرة ومن كتبه :
الجواهر الثمينة في محاسن المدينة. وهو كتابنا هذا.
[حاطب ليل] كبير جدا.
نصر من الله وفتح قريب ط. فيه تراجم بعض فضلاء المدينة.
والزنبيل اختصر به الكشكول للعاملي.
والعقود الفاخرة في أخبار الدنيا والآخرة.
بسط المقال في القيل والقال.
توفي رحمه الله سنة 1070 ه.
انظر / ترجمته في :
خلاصة الأثر (4 / 28)
إيضاح المكنون (1 / 182)
الأعلام للزركلي (16 / 240)
كتبه السيد / محمد علي بيضون صاحب دار الكتب العلمية.
Page 3
* وصف المخطوط
* للمحقق
بفضل الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد عثرنا لهذا الكتاب الجليل على مخطوطتين إحداهما في دار الكتب المصرية والثانية في معهد المخطوطات وثم ضبط نص الكتاب منهما :
وصف النسخة المرموز لها ب «أ» :
وهي نسخة المعهد المصورة من رضا رمبور ورقمها (3619) ورقم الفيلم 3033 عدد أوراقها [113] خطها واضح.
وصف النسخة المرموز لها ب «ب» :
وهي نسخة خطها واضح ومقروء رقمها 7370
ولا يسعني في النهاية إلا أن أقدم الشكر لمشايخي :
الشيخ : جاد الرب رمضان. رحمه الله ، الشيخ الحسين الشيخ والشيخ محمد أنيس عبادة رحمه الله ، والدكتور كمال عبد العظيم العناني. والشكر للسيد محمد علي بيضون صاحب دار الكتب العلمية بيروت حفظه الله.
طالب العلم / محمد حسن محمد حسن أ، محمد فارس
Page 4
* بسم الله الرحمن الرحيم (1)
( ورحمت ربك خير مما يجمعون ) [آل عمران : 157] الحمد لله (2) الذي حبب إلينا المدينة ، وجعلها من أفضل البقاع الأمينة فنحن من جوار هذا النبي الأمين. من حصن جمع بين شرقي المكان والمكين. أحمده على أن خصنا بملازمة بابه ، والوقوف على أعتابه حمد من عرف أن الكل من عنده. ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [الإسراء : 44] وإني إذا لم أجتمع [بجناية] (3) أمر على أبوابه فأسلم وأشكره على نعمة الجوار. وجار الدار أحق بدار الجار. والجار محسوب على جيرانه جار الكريم مسامح من ذنبه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وسندنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه [وخليله] المبعوث بأشرف الأديان وأكمل الملل النبي المرسل. الكريم [المفضل] (4) المنادى من الأزل يا محمد. قد [اصطفيناك] (5) من الكتاب الأول فما
انظر نهاية المحتاج للشمس الرملي (1 / 24).
Page 11
أعظم قدرك عندنا وأفضل. آدم من دونه تحت لوائك يوم الأرض تبدل ، لك الشفاعة واللوى (1) والحوض وكل من الأنبياء [يستغيث] (2) لنفسه ويسأل فما أسعد من توسل به ونادى الشفاعة أيا من من الشفاعة المعول والشفاعة يا من يستغيث به [المكروب إذا ضاقت به الحيل] (3) الشفاعة يا من قال له جبريل عليه السلام [ها أنت وربك] (4) فدنا وتدلى والصلاة والسلام على من أبرز من [خدر الغيب شموس] (5) معاني عباراته الزاخرة ، واطلع من أفق المثاني أقمار [لطائف إشاراته] (6) الفاخرة. اللهم انا نستوهبك [طيب] (7) صلواتك وطيب تسليماتك بهذا السيد الذي زينت سماء معجزاته بكواكب خطابك الناقب ونشرت مناشير بنيانه من آفاق المشارق والمغارب ولمؤازريه الذين [نثروا] (8) شمل أعدائه ، ونظموا قواعده ، صلاة تكون لنا صلة وبأجمل العوائد عائدة. اللهم صلي وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وآله [وأصحابه] (9) والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين [آمين] (10).
أما بعد : (11)
فلما كانت المدينة الشريفة مسقط رأسي ورياضها الوريقة منبت غراسي بلاد بها ينطق على [تماه] (12). وأول أرض مس جلدي ترابها فلا برحت تزهو على الأفق بابها [ولا يهمى (13) في ... ] (14) الرياض سحابها. وكيف لا فهي مهابط الوحي ومنازل النبوة ومساقط الكرم ومغارس الفتوة ومنارة النفوس والجواهر والرياض [الحسناء] (15) بل الروضة الغناء [بادرتها] (16) المواطن :
بلدة ما رأيتها قط إلا
قلت هذي أرضي ومسقط رأسي
Page 12
ولقد جاء [في] (5) الأثر عن سيد البشر «حب الوطن من الايمان» (6):
قال الحافظ السخاوي : لم أقف عليه ومعناه صحيح. انظر / المقاصد الحسنة (ص / 195).
قال الحافظ العجلوني : ورد القاري قوله [ومعناه صحيح] بأنه مجيب قال : إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان. قال ورد أيضا بقوله تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم ) الآية ، فإنها دلت على حبهم وطنهم ، مع عدم تلبسهم بالإيمان ، أن ضمير عليهم للمنافقين ، لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان. أه.
قال الحافظ العجلوني : كذا نقله القاري ثم عقبه بقوله : ولا يخفي أن معنى الحديث حب الوطن من علامة الإيمان وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصا بالمؤمن ، فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصلح أن يكون علامة. قوله : [ومعناه صحيح] نظرا إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا )، فصحت معارضته بقوله تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا ) الآية. الأظهر في معنى الحديث إن صح مبناه أن يحمل على أن المراد بالوطن الجنة فإنها المسكن الأول لأبينا آدم على خلاف فيه أنه خلق فيها أو أدخل بعد ما تكمل وأتم ، أو المراد به مكة فإنها أم القرى وقبلة العالم ، أو الرجوع إلى الله تعالى على طريقة الصوفية فإنه المبدأ والمعاد كما يشير إليه قوله تعالى : ( وأن إلى ربك المنتهى ) أو المراد به الوطن المتعارف ولكن بشرط أن يكون سبب حيه صلة أرحامه ، أو إحسانه إلى أهل بلده من فقرائه وأيتامه ، ثم التحقيق أنه لا يلزم من
Page 13
خطر ببالي. ولاح في خيالي. أن أذكر بعض محاسنها وأتعرض [لذكر بعض أماكنها واشبب باللوى والعقيق] (3) والنقا والفريق طور ... أيمان إذا لاقيت ذا يمن. وإن لقيت معديا فعدناني وقد بدا لي أن يكون هذا المجموع البديع وصفه المنيع جمعه مبنيا على مقالتين وخاتمة ومن الله تعالى المسئول حسن الخاتمة. فإذا تجلت شموسه وانجلت عروسه سميته الجواهر الثمينة. من محاسن [أهل] (4) المدينة وبالله التوفيق محاسن تهدي المادحين لوضعها فيحسن فيها منهم النثر والنظم وإذا نفحته نوافح القبول من حضرة السيد الرسول وعوذت محاسن هذه الرسالة بالمرسلات وارتشف من زهر منثورها المطلول قطر النبات فالأولى بها حيث اشتملت على [أخبار] (5) ديار المصطفى وهو في الحقيقة حبيب القلوب على الإطلاق وانبأت عن آثار أزهارها مآثر النبوة والصفاء ولا غرو أن تتأرج بهذه الأنفاس المدينة أرجاء الأفاق :
كرر حديثك مخطئا ومصيبا
إن كان عهدك بالديار قريبا
Page 14
أن تلحظها عيون العناية الرحمانية. وتشملها سوابق الرعاية الصمدانية [فتندرج] (1) في خزائن الملك المؤبد بالسعد فلا برح قائد اهتمامه المسدد بالتوفيق إلى أقوم طريق فلا زال رفيقه من رحيله ومقامه أو كما قال :
ملك كان الشمس ضوء جبينه
متهلل [الإمساء (2) ] والإصباح
أو كما قال :
ملك إذا عاينت نور جبينه
فارقته والنور فوق جبيني
أعظم من تفخر الأساطين بتقبيل أعتابه وتتباهى السلاطين بخدمة أبوابه. أكرم من أنام الأنام في ظل عدله. وأحيا ميت الإعدام بوافر إحسانه وفضله. مظهر [آيات] (5) الألطاف الربانية. مصدر أنوار العنايات الرحمانية. مطرح الأزهار الملكوتية. مسطمح الأنظار اللاهوتية باسط بساط العدل والانصاف. هادم أساس الجور والإعتساف. ناصر الشريعة القويمة [مالك] (6) [المسالك] (7) المستقيمة ظل الله تعالى الوريف الممتد على القوي والضعيف صاحب القرآن السعيد وإسكندر الزمان المديد ، الذي أجار الآثام من جور الأيام وأسبل على الأمة سوابغ الكرم والنعمة الأقاليم بأقلامه ، وأمنت الأيام من أيامه ، ناشر ألوية العدالة والأمان الممتثل بنص ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) [النحل : 90].
نادى به الملك حتى قيل ذا ملك
دنا به العدل حتى قيل ذا بشر
هو مولانا السلطان الأعظم. والخاقان المكرم ، صاحب البند (8) والعلم والسيف والقلم. سلطان البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان [بن السلطان] (9) الملك المظفر المعان. مولانا السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان بن
Page 15
السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان سليم خان بن السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان محمد خان بن السلطان بايزيد خان بن [بلدرم] (1) السلطان مراد الغازي بن السلطان أورخان بن السلطان عثمان خان عليهم الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن.
أولئك الناس إن عدوا وإن ذكروا
ومن سواهم فلغو غير معدود
اللهم أيد الإسلام وأعل كلمة الإيمان بدوام دولة هذا الملك الذي [أقيمت] (2) بدولته شعار الدين وأخمدت بصولته نار الملحدين وعمرت بأيامه البسيطة وجعلت ملائكة النصر برايته محيطة اللهم اجعل فروع دولته من أيامه الزاهية الزاهرة يانعة وبهجتها فوق مطالع البدور الباهية الباهرة طالعة وزد من شأنه عظمة وعلوا واجعل الجوزاء دون منازل مقداره [عزة] (3) وسموا ما دامت حبول عزمه من ميادين الظفر سابقة ورياض [هممه] (4) بعيون كرمه ناضرة باسقة وهمته العلياء في البأس والندى ومن الفضل لم تبرح مدى الدهر فائقة فإن براعة استهلاله زاد الله تعالى من جلاله برعت أولا ببديع نظامه ، ولم تتخلص من الحقيقة إلى مديح غيره ولا تكلمت إلا بحسن ختامه وحيث كانت الثريا أقرب تناولا من ذلك المرام كما يقضي بصدق هذه الدعوى [عز] (5) شرف المقام.
قريب ولكن دون ذلك أهوال
وكان يقال تمني العلا سهل وإدراكه صعب ومن تجاوز حده تعرض بجميعه للعطب وكان يقال : أين الماء من السماء وأين موقع السيل من مطلع سهيل أين ورقاء العرش من عنق العرش. أين من فلك المعاني فلك الصورة. وأين من بحر اللآليء بحر الفكر وأين مطلع صباح البصائر من مطلع صباح الأبصار هذا أفق يتعاقب فيه شمس وقمر وذاك أفق كله شموس وأقمار ودون رسم الديار حد بسيوف. مانع من دنا لسجف خباء. [لا تخافوا] (8) فلو دنوت إليها أحرقتني أشعة الاحتواء ، وبالجملة فما مزية التقرب
Page 16
إلى ابن داود برجل الجراد. والتسحب على البحور [بأوشاذ] (1) التماد. وكيف أعرض على روح القدس وحيا. واجلب إلى صنعاء اليمن وشيا أم كيف أخلع [ربقة] (2) النهى. وأقابل بين البدر والسهى. أين الهباء من [البهاء] (3) وأين الأغبياء من النبهاء وحيث وقفت الأماني دون تلك المآرب لعزة هاتيك المطالب. وقلت لأصحابي : هي الشمس [ضوؤها] (4) قريب ولكن من تناولها بعد. فلتكن خدمة بخزانة مولى لا زالت عتبته العلية كعبة فضل يقول عليها وسدته السنية مدينة علم يهاجر إليها ولا برحت [وفود] (5) العلماء عاكفة بناديه [وألسنة] (6) الرجاء من آفاق الثناء تناديه. بسلام فواتح أشواقه. نفر [من] (7) بهيج الأزهار ، وفواتح أوراقه أعطر من أريج الأشجار. مشفوعا بدعاء يقرع أبواب الإجابة بأنامل الرجاء [وثناء] (8) يملأ بطيب أرجه سائر [الأرجاء] (9).
أبلج لا يخجل راجي فضله
ولا يرى الوصمة في سؤاله
هو مولانا وأحد العلماء وماجد العظماء. ابن عباس العلوم محرر المنطوق والمفهوم ، إياس القضاة [ركنا (10) وزهادة] وأويس الزمان عفة وسهادة. مجمع المفاخر. [والألقاب الفواخر] (11) المحقق دعوى كم ترك الأول للآخر؟
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد
ملأ المسامع والأفواه والمقل
أكرم به من قاض تشرفت بأحكامه الشريفة ، مصر المحروسة وما والاها واستوفى المستحق بها من ذمة الزمان ديونه إذ تولاها ، فلله إمداد نعمه ، ومداد قلمه ، إذ لم يشكل أمر الإنزال برؤس الأنامل إبهامه ورد الضلالة بحسن تدبير إلى أهلها وزودهم بالكرامة إنعامه فكيف لا وهو القائل فيه بعض واصفيه :
هنيئا لمصر إذ حوت قاضيا حوى
كمالا على تفضيله انعقد النص
Page 17
عن ترجمان البيان [المحفوظ] (1) الملحوظ بعناية المعيد المبدي مولانا شعبان أفندي [لا زال صدر] (2) المعالي بمكانه من انشراح وفوائد وقلائد معاليه من أبهى وشاح. ولا برح الزمان ينفد ما صدر من قضائه وحكمه. والله تعالى يزيده بسطة من علمه وجسمه. مصيبا به الأغراض من مرامي المرام ، محسنا مطابقته [البديعية] (3) من النقض [والإبرام] (4) فإنه أعز الله تعالى ذاته ، وأطال وأطاب حياته ، لا جملة من أخباره إلا ولها محل من الإعراب عن المقصد الجليل ، ولا ضمير إلا وهو من اعتقاده على النحو القديم والرأي الجميل.
[وما ألطف ما قال] :
فلا زال ميمون اليمين بهمة
تعلمنا بالفعل كيف نقول
هذا ولما كان من لازم من تمسك بأهداب الآداب اطلاع مواليهم على محاسن ما يستطاب. [وما زالت] (5) الألسنة طائرة والعادة جارية بإهداء النفائس إلى النفيس من المرؤس إلى الرئيس.
وأحسن ما يهدي إلى المرء ماله
إليه ارتياح وهو ذكرى الحبائب
ولم تزل الفضلاء من كل زمان ، والنبلاء من كل عصر وأوان يتقربون إلى خواطر [مخاديمهم] (6) بأحسن ما يؤلفون وأبدع ما يصنفون.
فلا غرو من إهداء هذا الوضع البديع إلى ذلك الجناب [البديع] (7) فإن لكل جديد بهجة ولكل ناطق لهجة. والجزئي كلي عند الكريم والقليل جليل [مع] (8) ملاحظة التعظيم ، وإن كنت من ذلك كمن أهدى الزهر إلى غصنه والقطر إلى مزنه. والبحر يمطره السحاب وماله من عليه لأنه من [مائه] (9). هذا ولقد عرضت حكمة على لقمان وأهديت جرادة إلى حضرة السيد سليمان.
قال بعضهم من صدر كتاب له : ولما كانت الهدايا تزرع الحب وتضاعفه وتعضد
Page 18
الشكر وتساعفه. أحببت أن أهدي إليه هدية فائقة تكون من سوق [فضائله نافقة] (1) فلم أجد إلا العلم الذي شغفه حبا والحكم التي لم يزل لها صبا. والأدب الذي اتخذه كسبا ورأيت فإذا التصانيف من كل فن لا تحصى. والأمالي من سطور العلماء وطروس (2) الحكماء أوسع دائرة من أن تستقصى ، إلا أن التأنق من التحبير من قبيل إبراز الحقائق في الصور ولكل جديد لذة ولا خلاف من ذلك عند أهل النظر رحمهم الله تعالى.
ما كان من حمل اليراع بكاتب
خطا يباري بهجة وبيانا
وكان يقال : الوضع وضعان : وضع له افتخار ووضع له تجار.
وحسن التأليف مواهب
وللناس مما يعشقون مذاهب
هذا مع اعترافي بأني من فنون الذوق قليل البضاعة ومن شجون الشوق كليل الصناعة ولكن دأبي التقاط درر العبارات من حياض العلماء وديدني أخذ غرر الإشارات من عياض الحكماء فهو لسان إخوان الصفاء لا لساني وبيان خلان الوفاء لا بياني.
كمن يجد وليس له بعير
ومن يرعى وليس له سوام
وبالجملة فإن المرء ما بين هاج ومادح ومنتصر وقادح :
على أنني لم أخل من حاسد ومن
عدو ولكني له باسط العذرى
وهذه بنات فكر عاجز وبينات ذهن بينه وبين المعاني حاجز قد ترهبت إما من الكساد [فليست] (4) من المداد مستحا أو من الوجل فجاءت تمشي على استحياء صفحا وقد أطاع القول على هذا العذر المنصوص. وأبت كؤوس المعاني إلا أن ترقص بما فيها رقص القلوص.
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا
جبال حنين ما سقوني لفنت
Page 19
ومن وقف على تحقيق هذا الكلام. أنشد من تصديق هذي الدعوى إذا قالت حذام وإن كنت فيما أعاينه أتعوض عن الجوهر بالخرز وأكتفي عن المعاني الجليلة بما هو سداد من عوز. لكني ممن يعرف [الدرر وان] (1) لم يملكه ، وينقل التبر وإن لم يسبكه. ولقد جاء بعناية الله تعالى ونظره السعيد نزهة للنظر. هذا وإن السعادة كما يقال [لتلحظ] (2) الحجر.
فكأنه من حسن رقة لفظه
ذكرى حبيب فاق كل حبيب
[فليكن] (3) كتابا بسببه ذكره الشريف يؤرخ ، وكافور القرطاس بغالية أوصافه من معناه يضمخ :
ما تنسخ الأيدي يبيد وإنما
يبقى لنا ما تنسخ الأقلام
فقد أسارت شفاه الليالي بقايا وأخلفت بواسق النخيل ودايا وعلى [رفيق] (4) خزا من بادية العربية من عضاضة دولة الإسلام. واقيا لهم على الوردة الفارسة. في حدائق الكلام مآدب تغزو الروح وتهز العطف المروح إفادتها ميامن المستجن بطبه طيبا فسدت بها [اوكية] (5) النطق على فنن اللسان رطيبا.
وأتى على ما في من حضرته
ليعجبني ظل [حتى] (6) المشرع
وقد استقرت العزيمة على الاكتفاء. بغيض من فيض. وطل من ويل ونهر من بحر. إذ كل [كتيره] (7) عدو للطبيعة. وراكب سهوب الاسهاب مستهدف للوقيعة. وإنما يحمد المرء من اختصار [القيل] (8) وإلقاء القول الثقيل أوجزت جمعي ومن الايجاز فائدة وللكرام من التطويل تصديع. على أني لا أزعم أنه جمع سلامه. ولا أدعي انه صنيع فاضل يستحسنه النبيه والعلامة وإلا فوحي البلاغة من بعد لم تنقطع وسلوك طريق الايجاز أصلا ورأسا لم يمتنع. ومن لي بخلو البال واستقامة الحال. ومعاضدة الزمن الغشوم. بانتفاء الهموم والشواغل [ومساعدة] (9) القدر بكف أذى اللئام والأرذال فأخذ من مصنوع الكلام وانني على ذلك المقام. وكيف تصفو القريحة وصفاء الوقت يكدر.
وسبيل المحن من أعلى الروابي تحدر. مع أني من زمن تشابه فيه الضاحك والباكي.
Page 20
وقل به الشاكر وكثر الشاكي وفيما رفعت إليه من المضايق وحال دون أمالي من العوائق. ما يرتج به الكلام على الفصيح ويشتبه الصواب على الحازم المسيح.
فإن اعترافي بالتأخر حيث لا
يقدمني فضل أجل وأرجح (1)
وما أصدق ما قال :
إذا كان عون الله للمرء فائدا
تهيأ له من غير سعي مراده
وكأني بالحواسد والعذال ، نسبوني من ذلك إلى المحال وقال قائلهم مادح نفسه يقريك السلام. فأقول نعم ويهدي من التحية والثناء ما تتأرج به الرياض باكرتها الغمام [ومن هاهنا نشرع من المراد] (3) والله الموفق للسداد وعلى كرمه التعويل. وبواسطة لطفه التأميل.
مسئلة (4): المدينة من [مدن] (5) بالمكان أقام (6)، أو من دان إذا أطاع فالميم زائدة وذلك لأن السلطان يسكن المدن فتقام له طاعة فيها ، أو لأن الله تعالى يطاع فيها أو لأنه عليه السلام يسكنها فدانت له الأمم. وهي أبيات مجتمعة تجاوز حد القرى [كثرة] (7) وعمارة لم تبلغ حد الأمصار وقيل يقال لكل مصر ، والمدينة علم على طابة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث إذا اطلق هذا اللفظ لا [ينصرف] (8) إلا إليها والنسبة إليها «مدني» وإلى غيرها من المدن مديني للفرق كذا في الوفاء.
مسئلة : المدينة من الأقليم الثاني وهو حيث يكون طول النهار الأطول ثلث عشرة ساعة ونصف ساعة ويرتفع القطب الشمالي فيه مقدار أربعة وعشرين جزء وعشر جزء ومساحة هذا الإقليم أربعمائة ميل وفيه سبعة عشر جبلا وسبعة عشر نهرا وأربعمائة وخمسين مدينة كذا في الخطط للمقريزي.
انظر / القاموس المحيط (4 / 270).
Page 21
** مسئلة :
جبل على نقطة [من] (1) الأرض وأدير الجبل على الكرة حتى انتهى الطرف الآخر إلى نقطة الابتداء كانت مساحة الجبل العدد المذكور وكل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلا وثلثا ميل [فإذا ضربنا عدد درج الفلك من ستة وستين ميلا وثلثي ميل] (2) كانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وصحرء [سجار] (3) ووطاءة الكوفة من الأراضي [المتساوية] (4) انتهى من كتاب سر الفلك.
** مسئلة :
الأرض سبع [عرض] (5) شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وغاية ما يرتفع الطير في الهواء اثني عشر فرسخا وتنقطع الكيفيات من وراء ثمانية عشر فرسخا ولا يخلو وجه الأرض المعمور من [المشرق] (6) من وقت إبداء فالوقت الواحد يكون شروقا عند قوم زوالا عند غيرهم غروبا عند آخرين وأصغر كوكب يرى من الثوابت كالسها أكبر من زحل وزحل مثل الأرض إحدى وتسعين مرة والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ، والذنب للعين لا للنجم في الصغر.
** مسئلة :
في الكتاب العزيز إلا الأرض؟ .. الجواب أنه عليه السلام «رقي إلى السموات السبع» (7) فلتشرفها به ذكرت أو لأن الانتفاع من أرض الدنيا فقط بناء على أنها طبقات ولم يتشرف به غيرها ومن كتاب «المواهب اللدنية» قد جاء أن السموات شرفت بموطىء قدميه صلى الله عليه وسلم ، بل لو قال قائل : إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرقها بكونه صلى الله عليه وسلم حالا فيها لم يبعد بل هو الظاهر المتعين وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها لكن قال النووي : الجمهور على تفضيل السماء على الأرض ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة.
** مسئلة :
Page 22
من الوارد الحرمة الحاصلة لها بتوطينه عليه السلام إياها ودفنه فيها ومعنى حرمت أوجبت حرمتها وحماها بإقامتي فيها فصارت حمى محروسا من الآفات كما ورد «عن كل نقب (1) منها ملك يحرسها» (2) ولذا يصرف عنها الدجال ويؤيده انه كان صغير بالمدينة وكان عليه السلام يقول له : «يا أبا [عمير] (3) (4) فافعل النغير (5) (6)» فلو كانت كمكة لما جاز ذلك» انتهى من كتاب زهر البساتين قال الملا على القاري من شرح لباب المناسك وعباب المسالك عند قوله وإذا دنا من [حرم] (7) المدينة المشرفة أي حولها من الأماكن المحترمة إذ لا حرم للمدينة عندنا كحرم مكة من أحكامها.
قلت : وفيما ورد من الأحاديث من ذلك ما يقضي للمدينة المنورة بأنها حرم
والحاكم في المستدرك (4 / 427).
قال الشاعر :
قال القاضي عياض : النغير طائر معروف يشبه العصفور. وقيل : هي فراخ العصافير. وقيل : هي نوع من الحمر بضم المهملة وتشديد الميم ثم راءه قال : والراجح أن النغير طائر أحمر المنقار. قال الحافظ ابن حجر : قلت : هذا الذي جزم به الجوهري. قال : وقال صاحب «العين والمحكم» : الصعو صغير المنقار أحمر الرأس. انظر / فتح الباري (10 / 600).
Page 23
كمكة (1) من أحكامها (2) فقد أطال الكلام على ذلك السيد السمهودي في تاريخه الوفاء.
وأنشد عليه بعضهم :
إن المدينة لا يشك كمكة
حرم ولكن بالنبي تفضل
انظر / مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي قيد الطبع بتحقيقنا. محمد فارس شرح المهذب (7 / 480 481). المغني (3 / 354) فتح الباري (4 / 100). صحيح : أخرجه البخاري في الأدب (10 / 543) الحديث (6129). ومسلم في الأدب (3 / 1692 1693) الحديث (30 / 2150). والترمذي في البر والصلة (4 / 357) الحديث (1989).
وأبو داود في الأدب (4 / 294) الحديث (4969). وابن ماجه في الأدب (2 / 1226) الحديث (3720).
Page 24
وفي الصحيح اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت ما بين لابتيها» (1) (2).
وعلى القول بأنها حرم فهي بريد من بريد وذلك ما بين عير إلى ثوربيان يحدها من الجنوب إلى الشمال وهما مأزماها وما بين لابتيها أي حدتيها الشرقية والغربية.
ونظم ذلك من قال :
حرم المدينة حده فيما حكوا
عيرا وثورا قبلة وشمالا
مسئلة : صح أنه عليه الصلاة والسلام التفت إلى المدينة الشريفة وقال : «إن الله برأ هذه الجزيرة من الشرك» (3).
والإمام مالك في الموطأ في الجامع (88912) (10). والإمام أحمد في مسنده (4 / 174) الحديث (7277!).
Page 25
وقال بعضهم : قلت هنيئا لأهلها فإنهم برآء من الشرك بشهادة.
[قال بعضهم هذا] (1):
هذا الأثر. وبشرى لهم بتسميتها «دار الأبرار» ودار الأخيار والعاصمة والمرحومة والمرزوقة. والناجية. والمقدسة والجابرة ودار السلامة.
أسامينا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
وبالجملة فإن فضل المدينة لا ينكر ومحاسنها الغراء لا تحصى ولا تحصر وجيران صاحب «الحوض والكوثر» (2) «المغفور له من ذنبه ما تقدم وما تأخر» (3) على يقين إن شاء الله تعالى من السلامة في المعاد وثقة بالكرامة في يوم الأشهاد.
وما أحسن ما قال :
تلك دار إن لم تكن هي
ذات النفس مني فإنها [مشتهاها] (4)
وما أحسن ما قال الشيخ محمد البكري :
دار الحبيب إخوان تهواها
ونحن من طرب إلى ذكراها
Page 26
* [المقالة] (1) الأولى
فيما يتعلق بالمكان ويشتمل على أبواب. هي بالقبول إن شاء الله تعالى مفتحة لأولى الألباب.
أبواب إقبال تفتح بالهنا
أيام شعبان لها أبان
باب : فيما تميزت به المدينة الشريفة عما سواها ، وذكر بعض محاسنها التي يطرب لها المحب ويرضاها ، ولا أتعرض لحصر ألقابها فيعترض دونها الحصر ، بل كحضور الملاح لرشاقتها تختصر [شعر] (2)
أملياني حديث من سكن الجزع
ولا تكتباه إلا بدمعي
ومن أحسن محاسنها السنية : إشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع ، وإن كان صلوات الله وتسليماته على فروعه وأصوله روح وجود الكائنات وسر الموجود جلية وجميلة.
لا تقل دارها [بشرقي] (3) (4) تجد
كل نجد للعامرية دار
وما أحسن ما قال :
أحن إليه وهو قلبي وهل ترى
سواي أخا وجد يحن لقلبه
انظر / القاموس المحيط (4 / 223).
Page 29
وقال آخر :
أمر له وبه ومنه تعينت
أعياننا ووجودنا المتلبس
وقال :
وجود غيرك يأكل المنى عدم
وأي غير وأنت الكل لو علموا
ومن محاسنها أن سائر بلاد الإسلام [فتحت] (3) بالسيف. وافتتحت حصن بالقرآن العظيم ، وأنه يبعث [منها] (4) أشراف هذه الأمة يوم القيامة. على ما نقله القاضي عياض من المدارك عن مالك.
ومن محاسنها «تحريكه عليه السلام دابته عند قدومه إليها إذا أبصر منازلها (5) ودعاؤه لها بالبركة» (6) (7). وقوله : «غيروا فقد سبق المفردون» (8).
وقال ابن حزم : لا حجة في الحديث بأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة. ورده عياض بأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا ، لأنها بمعنى النماء والزيادة ، فأما في الأمور الدينية فلما يتعلق بها من حق الله تعالى من الزكاة والكفارات ولا سيما في وقوع البركة في الصاع والمد. انظر / فتح الباري (4 / 187). قال الشيخ النووي : والظاهر من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها والله أعلم. انظر / شرح صحيح مسلم للنووي (9 / 142). قال الحافظ ابن حجر : وقال القرطبي : إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص.
انظر / فتح الباري (4 / 118).
ومسلم في الحج (2 / 994) الحديث (466).
Page 30