وأما القسم الثاني: وهو وسط بين الأول والثالث في المرتبة فهو أن ينثر المعنى المنظوم ببعض ألفاظه ويعبر عن البعض بألفاظ أخر.. هناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشابهة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لايلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاد. ولاخفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاستهداف للطعن. والطريق المسلوك إلى هذا القسم أن تأخذ بعض بيت من الأبيات الشعرية هو أحسن ما فيه ثم تماثله. وسأورد ههنا مثالا واحدا ليكون قدوة للمتعلم فأقول: قد ورد هذا البيت من شعر أبي تمام في وصف قصيدة له:
حذَّاءُ تملأ كلَّ أذنٍ حكمةً ... وبلاغةً وتدرُّ كلَّ وريدِ
فقوله: (تملأ كل أذن حكمة) من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت. فإذا أردت أن تنثر هذا المعنى فلا بد م استعمال لفظه بعينه لأنه في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة. فعليك حينئذ أن تؤاخيه بمثله وهذا عسر جدا وهو عندي أصعب مثالا من نثر الشعر بغير لفظه لأنه مسلك ضيق لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة. وأما نثر الشعر بغير لفظه فذلك يتصرف فيه ناثره على حسب ما يراه ولايكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته. وقد نثرت هذه الكلمات المشار إليها وأتيت بها في جملة كتاب فقلت: وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر وفاق مسير الشمس والقمر. وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علاقة وأمن من سرقته إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة. ومن خصائص صفاته أن يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة. وإذا جرت نفثاته في الأفهام قالت أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة.
1 / 34