ومن الدليل على أن المعرفة هي ثبات العقل وكماله، بان علمنا أن شراب الخمور، وأهل الدعارة والشرور، إذا شربوها زالت عنهم الألباب، وأنها مضطرة إليه محتاجة، تعزب بعزوبه، وتحضر بحضوره، وتتفرع في ثباته، وتعدم عند عدمه، فعدمت بزواله منهم المعارف، حتى يطيح عنهم واضح البيان(1) ويزيح بما قد كان مؤديا إليهم من بين اللغة واللسان، وحتى تلتبس عليه حلائله من أخواته، وأمهاته من خالاته، ويأتي على لسانه من القذف والفحش، والمنكر والدناءة، في النادي والجماعات؛ ما يفضحه ويشينه، وما لعله لو عرض مفروجا(2) عليه عند ثبات لبه، وتفرع معرفته سوء(3) ما كان منه إذ كان لا معرفة له بما سلف منه في حال كينونته، ويأتي متيقظا واحدا(4) من أفعاله في عزوب لبه؛ ما فعل ذلك أبدا، بل لعله يود أنه كان ميتا فانيا، مفقودا نائيا، ولا تبين منه الأشياء الفواضح، والأفعال الطوالح.
ففي أقل ما ذكرنا دليل على أن المعرفة لا تثبت ولا تكون إلا بالعقل ومن العقل.
فإن احتج فقال: قد نرى البهائم التي نعلم نحن وأنت أنها عدمت العقول تعرف أولادها وأمهاتها، وتعرف طعامها وشرابها من غيره، وتعرف ما يضرها مما ينفعها ، فتعتزل المضار، وتتبع المنافع.
Page 798