يدها ممدودة نحوه مبللة بالمطر. بشرتها ناعمة تشبه يدها وهي طفلة. يدها الأخرى جافة مشققة عروقها نافرة تشبه يد جدتها، والدقات تحت ضلوعها لها إيقاع المطر فوق أوراق الشجر. صفير الريح يدوي في أذنيها كالهتاف. أصوات كثيرة تهتف: يسقط النظام! يسقط! يسقط!
ترهف أذنيها. تتلهف على سماع الصوت. الناس يصيحون أم هي نائمة؟ يذوب الصوت في الصمت. يدوي الصمت في أذنيها كهدير الملايين. الكل يهتف والكل صامت. الليل يزحف بغير توقف، والهواء راكد مشبع بالهزيمة. وجهها ناحية النافذة وظهرها ناحيته: يا ساقطة!
ترن الكلمة في رأسها مألوفة، كأنما سمعتها طول العمر. في المدرسة كانت تسمع الشيخ بسيوني يقول سقط فعل ماض، والمؤنث سقطت. فهي ساقطة مثل أمها حواء. لها صورة بجوار أمها فوق ركبتيها أخوها الأصغر، وأبوها جالس وفوق ركبته أختها الصغرى، وأخوها الأكبر واقف إلى جوار أبيها، عيناه نصف مغلقتين، وهي واقفة في طرف الصورة عيناها مفتوحتان. تحملق في عين «الكاميرا» بنظرة متسعة شبه مجنونة.
ماذا كانت ترى هناك داخل بؤرة العدسة؟ ربما كانت ترى عين الله أو عين الشيطان. أو ربما هو الفراغ يتجمع في تلك البؤرة على شكل الثقب المفتوح، يتسرب منه العالم إلى الفراغ، أو ربما هي الشمس تتجمع في العين الزجاجية ثم تنعكس في عينيها فلا ترى شيئا.
منذ ولدت وعيناها مفتوحتان. كان الناس يولدون بعيون مغمضة. خرجت من بطن أمها تنظر لا يطرف لها جفن، وبصقت جدتها في فتحة ثوبها وهي تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنس والا جن؟
كانت عيون الرجال تنجذب نحو وجهها. تتوقف عند العينين، وسمعت من يقول إن في عينيها جاذبية الذكاء وبريقه. سرعان ما ينقلب إلى اتهام بخفة العقل أو لوثة الجنون. لون «النني» في عينيها يتغير مع حركة الأرض حول الشمس، فيصبح في الليل أسود داكنا كعيون الشياطين، وفي النهار تنعكس عليه زرقة السماء فيصبح سماوي اللون كعيون الملائكة، وفي ضوء الغسق عند الغروب أو الشفق يكتسب «النني» وهجا أحمر كعيون الممسوسين بأرواح الجن.
منذ عرفت الحروف والكتابة وهي تدون ما يهمس به الرجال في أذنيها. قال لها الشيخ بسيوني في المدرسة: عيناك فيهما شبق حوائي. قالها بلغة عربية فصحى. كان يدرسها اللغة والدين، ولم تعرف ما معنى كلمة «شبق حوائي». سألت أباها فرمقها بنظرة جعلت جذور الشعر تنتصب في فروة رأسها. وهمس رجل في أذنها وهي تمشي في الطريق: أنت أنثى! خرج لسانه من فمه وهو ينطق كلمة «أنثى». وعيناه فوق نهديها كأنما هي كائن غير عاقل من فصيلة الثدييات.
كلما كانت تكبر يتغير وصف الرجال لعينيها. بعضهم رأى فيهما الحزن الدفين منذ حواء الآثمة، وبعضهم رأى فيهما براءة وفرحا لا تسعهما الدنيا، أو طهارة العذراء مريم، وبعضهم رأى فيهما قوة تجذب، وآخرون رأوا فيها قوة تطرد، وهناك من رآهما مفتوحتين بلا نهاية على الأفق، وغيرهم رأوهما مسدودتين غير قابلتين للاختراق.
كانت هي الوحيدة العاجزة عن رؤية عينيها إلا من خلال زجاج المرآة، تحملق فيهما وبينها وبينهما الحاجز المسدود اللامع. ترى النظرة الحجرية من نوع الرخام الأبيض. داخلها دائرة سوداء فارغة، كالثقب العميق في بئر بغير قاع. - يا ساقطة!
الصوت يدوي في أذنيها من خلفها وهي تقفز فوق السلم. جدتها القبطية (أم أمها) كانت تحذرها من القفز فوق السلالم، أو ركوب الدراجة، أو أن تدب بقدمها فوق الأرض، أو أن تفتح ساقيها عن آخرهما وهي تمشي. - شرف البنت رقيق مثل ورقة السيجارة.
Unknown page