بأبياتكم ما درت حيث أدور
ولم أكن أدور لأرى أم جعفر، وإنما كنت أدور مخافة أن أوقظ أم جعفر أو أزعجها، فيكون شر في هذه الدار التي لم تعرف الشر إلا قليلا.
ولست أحدثك بما كان حين انجلى الصبح، وأشرقت الشمس، وفتحت الأبواب، واندفعت إلى غرفتي، وأسرعت إلى مضجعي، والتمست الراحة فلم أظفر منها بشيء ثم نهضت مكدودا مجدودا، وأقبلت أسعى إليك، ولم أذق للنوم طعما في هذه الليلة الطويلة القصيرة التي امتلأت من الأمر بأشده غرابة، وأعظمه سخفا، ولولا قصة المفتاح هذه، لما شككت في أني رأيت حلما من هذه الأحلام الكثيرة التي تعبث بنفوس الناس حين يجن عليهم الليل، ولكنك ترى أني مستيقظ منذ أشرق الصباح أمس، ولعلك تذكر وما أظنك نسيت أننا قد قضينا شطرا من الليل عند صديقنا فلان نسمر حول أحاديث الجن والشياطين، وما تزعم العرب من الصلة التي تكون بينهم وبين الشعراء، والخطباء، والكتاب، والذين يتعرضون لألوان البيان، وقد قال قائل منا: إن العرب في جاهليتهم وإسلامهم لم يتحدثوا بما يكون بين الشياطين والخطباء والكتاب من صلات، وإنما زعموا أن الشياطين قد وكلوا بالشعراء خاصة حتى إذا كان ابن شهيد في الأندلس زعم لنا في قصته المشهورة التوابع والزوابع أن للخطباء والكتاب شياطين كما أن للشعراء شياطين، وقد قص علينا في رسالته تلك زيارته لوادي الجن، وما كان من حوار بينه وبين خطباء الجن وكتابهم أولئك الذين كانوا يلهمون خطباء الإنس وكتابهم، وسمى لنا شيطان عبد الحميد الكاتب، وشياطين غيره من أعلام البيان، وسمى لنا شياطين جماعة من خصومه ومنافسيه في الفن، وزعم لنا أنه خاصمهم فخصمهم، وناظرهم فتفوق عليهم، وقد أخذت بحظي من هذا السمر كما أخذتم بحظوظكم منه، فلما تفرقنا بقيت في نفسي هذه الأبيات التي ألقاها زهير بن نمير. ذلك الدليل الجني لابن شهيد في زياراته المتصلة لتلك الأندية التي كان يجتمع فيها شياطين البيان، ولعلك تذكر أن زهيرا ألقى أبياته هذه إلى صاحبه ابن شهيد، وجعلها آية بينه وبينه، فكلما احتاج ابن شهيد إلى صاحبه أنشد هذه الأبيات، فيسرع إليه زهير، ويجيبه من الأمر إلى ما يريد.
وقد جعلت أردد هذه الأبيات في نفسي، وأنا أمضي متباطئا إلى الدار، ثم لست أدري لماذا لم أكتف بإدارة هذه الأبيات في نفسي، وإنما جعلت أنشدها في صوت خافت لا يكاد يسمعه غيري:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
Unknown page