وأول ما يستخلص من هذه المشاهدات وهذه الحقائق أن الغزل الحسن شيء لا يشترط فيه استحسان شمائل المحبوب والمبالغة في إطرائها، وأنه كذلك شيء لا يشترط فيه الترقق والشكوى وضراعة الخطاب، وإنما هو التعبير الصادق عن الحب، كما خلقه الله في نفوس الأحياء، وهو بهذه المثابة شيء أعظم من حياة الإنسان نفسه؛ لأنه يتناول الغرائز النوعية كلها والطبائع الكونية كلها، ولا يقتصر على فرد من الأفراد في حالة من الحالات، فهو كالبحر اللجي الذي تتيه فيه العقول ويتسع للنقائض ويعج بضروب من المفاجآت ليس لها انتهاء.
هو ظفر حيوي؛ لأنه استيلاء شخصية على شخصية أخرى تنضوي إليها وتفتح لها أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها، فهو إذن غبطة وفرح وانتشاء.
وهو تضحية؛ لأنه مطلب نوعي تهمل فيه منافع الفرد ولذاته وأمانيه، فهو إذن يأس وشدة وبلاء.
وهو لذة؛ لأن الطبيعة تحتال على الفرد أحيانا لتوقعه في حبائلها، فتريه لذته فيما تقوده إليه من أغراضها، فهو إذن نعيم وطرب وترنيم.
وهو حسرة ؛ لأنه يربط مسرات الدنيا كلها بمخلوق واحد لا ينوب عنه مخلوق آخر، فهو إذن نعمة مهددة بالضياع والقلق في كل حين.
وهو عراك ووئام وظفر وتسليم، واختيار وإكراه، وعزة وذل، وقسوة ورحمة، وخشونة ولين.
وهو كما خلق في الغرائز جارف عنيف، وكما تعهدته الحضارة مهذب مصقول، ولا يزال بين الغريزة والصقل قابلا للوثبة المفاجئة من النقيض إلى النقيض، لا ينقاد للعنان مرة إلا جذبه مرة أو مرات، فكأنه منطلق بغير عنان.
مثل هذا الفيلم الزاخر من الحياة النوعية والحياة الفردية حمق أسخف الحمق أن يحصره المتبطلون من مصطنعي النقد في قالب واحد أو هيئة واحدة أو لون لا يتبدل، فمن حصره هذا الحصر وسامه هذا السوم، فأقل ما يقال فيه: إنه يلغو بما لا يدريه.
ونحن لا يفوتنا أن نستحضر هذه الحقيقة إلا فاتنا أن نحكم الحكم الصحيح على كل غزل وكل عاطفة غزلية، وكل علاقة إنسانية تستند إلى طبائع الأحياء.
فجميل - مثلا - أبطل المبطلين في عشقه وغزله عند مدرسة «الاستحسان» أو مدرسة الرقة حين قال:
Unknown page