ولم يكن احتكاك المسلمين بأهل المدنية الحديثة بالغا مبلغه الآن ليتكهربوا بتيار الحرية الجاري في جسم الممالك الأوروبية، وليمزقوا تلك الحجب ويندفعوا إلى فضاء الحرية فضاء العلم والحياة، لذا كانوا في حالة تشبه الخدر يصيب الجسم، وينبه قليل من الدلك.
أما الآن فقد تغيرت الحال، وتنبه ذلك الجسم المتخدر رغم الوسائط الكثيرة التي كان يستعملها لتعطيل حركته أولئك المستبدون؛ وذلك لسببين: السبب الأول اندفاع الدول الأوروبية بكليتها إلى الشرق، وتهافتها على البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا وخصوصا في أواخر القرن الماضي تهافتا خاليا عن كل تبصر ارتعدت له فرائص المشرق، واهتزت له أعصاب المسلمين في كل أنحاء الأرض، فشعروا بالخطر المحيط بهم وبوشك سقوط سيادة كل شعب منهم حتى على الأرض التي جبلوا هم وأجدادهم الشرقيون بترابها، وتمتعوا بحق القرار فيها منذ عرف تاريخ الإنسان.
والسبب الثاني هو احتكاك المسلمين بالأوروبيين خصوصا في هذا العصر احتكاكا شديدا، سواء كان في المعاشرة والمتاجرة أو باقتباس العلم عنهم في أوروبا وفي الشرق نفسه، وهذا يدعو بطبيعته إلى الاستفادة من العلوم والمبادئ التي نهض بها الغرب، وهذا أمر لا محيص عنه ما دام الشرق متصلا بالغرب، وما دام العلم مشاعا بين الأمم، والمبادئ تسري من قوم إلى قوم بحكم الحاجة إلى النافع وتقليد الضعيف للقوي.
إذا تقر هذا فقد تعين على ساسة أوروبا أن يقدروا نهضة المسلمين لهذا العهد قدرها، ويتحققوا أنها نهضة طبيعية انبعثت عن أسباب قاهرة وطبيعية لا عما يسمونه التعصب أو غيره، والأسباب التي دعت الأمم الأوروبية إلى المطالبة بالحرية وهدم أركان الحكومات المطلقة عقب الثورة الفرنساوية وسريان مبادئها يومئذ في نفوس الشعوب؛ تقليدا للفرنساويين واقتداء بهم، هي عينها التي تدعو المسلمين الآن إلى طلب الحرية، سواء كانوا محكومين بحكومات مسلمة أو مسيحية، فكما يطالب العثمانيون حكومتهم الإسلامية بالدستور، ويتفانى الإيرانيون في سبيل الحرية وتأييد دعائم الحكم النيابي الذي نالوه من الشاه من بضعة شهور، كذلك يؤيد المسلمون في القفقاس والقريم وكل البلاد الروسية إخوانهم الروسيين في طلب الدستور من حكومتهم المسيحية، وكثير منهم انحاز إلى جانب السوسيالست من الروسيين؛ مغالاة في المبادئ الحرة التي نفثت فيهم بحكم الطبيعة أو الاقتداء والجوار.
والأسباب التي دعت اليونانيين والبلغاريين وغيرهم إلى طلب الاستقلال عن الدولة العثمانية ونصرتهم على هذا الطلب كل أوروبا المسيحية باسم الإنسانية، هي التي تدعو الشعوب الإسلامية المحكومة بالأجنبي إلى طلب الاستقلال والحرية وتأمل أن تسعفهم أوروبا باسم الإنسانية أيضا.
إذن ما دامت هذه النهضة الإسلامية أثرا من آثار الترقي الطبيعي في العالم منعكسة صورته عن الغرب، والغرب هو السابق في بث هذه الروح العالية روح الحرية والاستقلال، فمن الواجب على ساسة أوروبا أن يتلقوا بالارتياح كل خطوة يخطوها المسلمون إلى الأمام ما داموا يحذون بخطاهم حذو الأوروبيين ويعترفون لأهل المدنية الحديثة بفضل السبق في رفع راية الحرية والعلم.
إن المسلمين - أيها الساسة - أمم مثلكم أهل شعور لا يختلف في شيء عن شعور غيرهم إلا بكونه أرق وأشد استعدادا للتأثر بالجميل بما أودعه فيه دينهم المبين من حب الفضيلة وحب الغير وحب المحسنين إليهم، فعاملوا ولو شعبا واحدا منهم كما عاملت فرنسا الأميركيين أيام حروب الاستقلال ، وكما عاملت كل دولكم اليونان أيام طلبها الاستقلال، وكما تعاملون كل الشعوب المسيحية التي تحاول نيل الاستقلال والحرية، وانظروا بعد ذلك كيف يكون ذلك الشعب مع ناصريه على الاستقلال ومانحيه الحرية، وكيف يقابل الإحسان بالإحسان، ويذكر الجميل لصاحبه على مدى الزمان.
إنكم تعاملون المسلمين الآن حكمتموهم أو لم تحكموهم بالقسوة المتناهية، بحيث لم يبق شعب منهم إلا ذعرتموه، ولم تبق دولة من دولهم إلا قصدتم إذلالها وحاولتم نزع استقلالها، وإذا ثار على المسلمين شعب مسيحي تألبتم لنصرته باسم الإنسانية، وإذا نال شعبا مسلما من حكومة مسيحية ظلم في الأموال وإرهاق في الأنفس وهضم في الحقوق لا تأخذكم عليه الرحمة، ولا تدفعكم إلى نصرته الإنسانية، ومع هذا كله تطلبون من المسلمين وداعة الحملان، وطاعة العميان، وإلا وصمتموهم بالتعصب ورميتموهم بأنواع التهم.
ليس هذا ما تطلبه منكم الإنسانية، وليست سياستكم هذه بالسياسة التي تنتج تألف قلوب الأمم الإسلامية أو تؤدي إلى بسط السيادة على الشرق الإسلامي إلا إذا كنتم تظنون أن من الهين استخضاع ثلاثمائة مليون من البشر في الشرق لسلطان الغرب بالقوة، وأخذهم بالعنف، وأعيذ عقلاءكم من مثل هذا الظن لا سيما في هذا العصر الذي تكهربت فيه أعصاب الأمم بكهرباء الحرية، وأحس الشرق كله بثقل سيطرة الغرب، وأنانية أهليه البالغة، لا فرق في هذا الإحساس بين المسلم والمسيحي والوثني كما نعلم وتعلمون.
وبناء على هذه الاعتبارات كلها، فإني كما نصحت لإخواني المسلمين أنصح لكم أيها الساسة الكرام أن توقنوا أن المسلم إنسان كامل يتأثر بكل المؤثرات التي يتأثر بها غيره، وأنه يأنس بمن يحسن إليه، وينفر ممن يسيء إليه، وأن المسلمين الذين سادوا على كثير من الممالك، وشيدوا بنيان التمدن الإسلامي، وأدخلوا دينهم وتمدنهم إلى كثير من ممالك آسيا وأوروبا وإفريقيا، وبسطو سلطانهم على جزء عظيم من الأرض، يضنون بالبقية الباقية لهم من السيادة، ويحرصون على أن لا تأتي أوروبا على آثار مجدهم القديم، فمن الصعب بل المستحيل أن تذهبوا أيها الساسة بحياة المسلمين السياسية في أنحاء الأرض؛ لأنها مرتبطة بحياتهم المادية، والفراغ الذي يشغله من الكرة ثلاثمائة مليون من البشر يستحيل أن يشغل بغيرهم من جنس البشر إلا إذا خلف فراغا مثله أنتم أحوج إلى شاغليه في متاجركم وصنائعكم، فاتقوا الله والإنسانية في سياستكم البالغة منتهى التهور والأنانية الباطلة مع المسلمين، واعلموا أن دعواكم العريضة في نصرة الإنسانية ونشر التمدن وما شابه ذلك من الألفاظ إنما تكون بأن تساعدوا الأمم الإسلامية على الرقي مساعدة الإنسان لأخيه، وأن تسعفوا المحكومين منكم من المسلمين بما هم في حاجة إليه من الحرية والعدل وتشرب روح العلم والمدنية، وأن تعرفوا لهم من الحقوق ما تعرفه كل حكومة إسلامية لغير المسلمين من رعيتها تبعا للقاعدة الإسلامية المحتم عليهم العمل بها، وهي «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وعندئذ ترون من إخلاص المسلمين لكم، واعترافهم بالجميل لحسن معاملتكم والتودد إليكم ما يذهب بثورة الغل من الصدور، ويؤلف بين الشرق والغرب.
Unknown page