Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
[البقرة: 5] فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
[2.5]
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: { أولئك على هدى من ربهم } فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منهم وأنهم هم المفلحون. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك: المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }. وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عنى بذلك الذي يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنوا أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب. وعلى هذا التأويل الآخر، يحتمل أن يكون: { الذين يؤمنون بمآ أنزل إليك } في محل خفض، ومحل رفع فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف على ما في { يؤمنون بالغيب } من ذكر «الذين». والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، ويكون: { أولئك على هدى من ربهم } مرافعها. وأما الخفض فعلى العطف على { المتقين }. وإذا كانت معطوفة على «الذين» اتجه لها وجهان من المعنى، أحدهما: أن تكون هي «والذين» الأولى من صفة المتقين، وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد { الم } نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون «الذين» الثانية معطوفة في الإعراب على «المتقين» بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله { الم } غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين. وقد يحتمل أن تكون «الذين» الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الاستئناف، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الاستئناف إذ كانت في مبتدأ آية وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين. وأولى التأويلات عندي بقوله: { أولئك على هدى من ربهم } ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون «أولئك» إشارة إلى الفريقين، أعني المتقين { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ، وتكون «أولئك» مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله: { على هدى من ربهم } وأن تكون «الذين» الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام على ما قد بيناه. وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثم أثنى عليهم فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات، كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يتسحقان به الجزاء من الأعمال فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ويحرم الآخر جزاء عمله، فكذلك سبيل الثناء بالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الجزاء. وأما معنى قوله: { أولئك على هدى من ربهم } فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم كما: حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { أولئك على هدى من ربهم } أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم. القول في تأويل قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون }. وتأويل قوله: { وأولئك هم المفلحون } أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة. قال: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وأولئك هم المفلحون } أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا. ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح إدراك الطلبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعقلي إن كنت لما تعقلي
ولقد أفلح من كان عقل
يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا. ومنه قول الراجز:
عدمت أما ولدت رباحا
جاءت به مفركحا فركاحا
Unknown page