Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
الحمد لله رب العالمين
[الفاتحة: 2] و
الحمد لله الذي خلق السموت والأرض
[الأنعام: 1] وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه. وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح كما قال جل ثناؤه:
سبحان الذى أسرى بعبده ليلا
[الإسراء: 1] وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه، ومفاتح بعضها تمجيدها، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفاتح السور الأخرى التي أوائلها بعض حروف المعجم مدائح نفسه أحيانا بالعلم، وأحيانا بالعدل والإنصاف، وأحيانا بالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك.
وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع مرفوعا بعضها ببعض دون قوله: { ذلك الكتاب } ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعا عن معنى { الم } ، وكذلك «ذلك» في تأويل قول قائل هذا القول الثاني مرفوع بعضه ببعض، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول. وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل وسوى تهجي قول القائل: { الم }. وقالوا: غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه . فلما كان ذلك كذلك وكان قوله: { الم } لا يعقل لها وجهه توجه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادا بها تهجي { الم } صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل لأن قول القائل: { الم } لا يجوز أن يليه من الكلام ذلك الكتاب لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول إذا ولي الم ذلك الكتاب. واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما: حدثنا به محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل. قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رباب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه: { الم ذلك الكتاب } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم.قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: { الم ذلك الكتاب }؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: «نعم» قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك فقال حيي بن أخطب: وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم» قال: ماذا؟ قال: «المص» قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون.
فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم» قال: ماذا؟ قال: «الر» قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: «نعم المر»، قال: فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
[آل عمران: 7] فقالوا: قد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل وفساد ما قاله مخالفونا فيه. والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد، كما قال الربيع بن أنس، وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة دون ما زاد عليها. والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع وما قاله سائر المفسرين غيره فيه، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء استغني بذكر ما ذكر منه في مفاتح السور عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة لا ريب فيه، فإنه قول خطأ فاسد لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل، فكفى دلالة على خطئه شهادة الحجة عليه بالخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه، إذ صار إلى البيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله: { لا ريب فيه } ومرة بقوله: { هدى للمتقين } وذلك ترك منه لقوله إن { الم } رافعة { ذلك الكتاب } وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل { الم ذلك الكتاب } وأن تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملا الدلالة على معان كثيرة مختلفة؟ قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة كقولهم للجماعة من الناس: أمة، وللحين من الزمان: أمة، وللرجل المتعبد المطيع لله: أمة، وللدين والملة: أمة.
Unknown page