Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا المجاز. ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال: قد عرفت فسميت عرفات. فوقف إبراهيم بعرفات. حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله: { وأرنا مناسكنا }. وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة: المناسك المذابح. فكان تأويل هذه الآية على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: { وأرنا مناسكنا } قال: ذبحنا . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: مذابحنا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: { وأرنا مناسكنا } قال: أرنا مذابحنا. وقال آخرون: «وأرنا مناسكنا» بتسكين الراء. وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا ودلنا عليها، لا أن معناها أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حطائط بن يعفر أخي الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لأنني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
يعني بقوله أريني: دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين. وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: { أرنا مناسكنا } أخرجها لنا، علمناها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال: فعلت أي رب فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علمناها فبعث الله جبريل فحج به. والقول واحد، فمن كسر الراء جعل علامة الجزم سقوط الياء التي في قول القائل أرنيه،أرنه وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم.
ومن سكن الراء من «أرنا» توهم أن إعراب الحرف في الراء فسكنها في الجزم كما فعلوا ذلك في لم يكن ولم يك. وسواء كان ذلك من رؤية العين، أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب. وأما المناسك فإنها جمع «منسك»، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولذلك قيل لمشاعر الحج مناسكه، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها. وأصل المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال: لفلان منسك، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر ولذلك سميت المناسك مناسك، لأنها تعتاد ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله. وقد قيل: إن معنى النسك: عبادة الله، وأن الناسك إنما سمي ناسكا بعبادة ربه، فتأول قائل هذه المقالة قوله: { وأرنا مناسكنا } وعلمنا عبادتك كيف نعبدك، وأين نعبدك، وما يرضيك عنا فنفعله. وهذا القول وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى المناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الحج التي ذكرنا معناها. وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما، وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين، فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما صارا كالمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }. ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا: { وأرنا مناسكنا }. وأما التي في الآية التي بعدها:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
[البقرة: 129] فجعلا المسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود: «وأرهم مناسكهم»، يعني بذلك: وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم. القول في تأويل قوله تعالى: { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم }. أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد إلى ربه: أوبته مما يكرهه الله منه بالندم عليه والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه. فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟ قيل: إنه ليس أحد من خلق الله إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا به الحال التي كانا عليها من رفع قواعد البيت، لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله.
وجائز أن يكونا عنيا بقولهما: { وتب علينا } وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا، الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما، كما يقال: أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان: إذا بر ولده. وأما قوله: { إنك أنت التواب الرحيم } فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران، الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.
[2.129]
وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:
Unknown page