Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأي معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا، فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته. القول في تأويل قوله تعالى: { على ملك سليمان }. يعني بقوله جل ثناؤه: { على ملك سليمان } في ملك سليمان وذلك أن العرب تضع «في» موضع «على» و«على» في موضع «في»، من ذلك قول الله جل ثناؤه:
ولأصلبنكم في جذوع النخل
[طه: 71] يعني به: على جذوع النخل، وكما قال: «فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا» بمعنى واحد. وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: { على ملك سليمان } يقول: في ملك سليمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في قوله: { على ملك سليمان } أي في ملك سليمان. القول في تأويل قوله تعالى: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل: وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر لأنفسهم عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم بشر، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا، وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه. ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم: قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر.
فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان، فقال: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. حدثني أبو السائب السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه، قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحد. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذبت لست بسليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرىء الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } فأنزل الله جل وعز وعذره. حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خلي عنه، فرأى الناس السجع والسحر وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان فقال الله جل ثناؤه: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. حدثنا أبو حميد، قال: ثنا جرير، عن حصين ابن عبد الرحمن، عن عمران بن الحرث، قال: بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل، فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع فقال: ما تقول لا أبا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فيشربها قلوب الناس فأطلع الله عليها سليمان فدفنها تحت كرسيه. فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي.
فأخرجوه فقالوا: هذا سحر. فتناسخها الأمم، حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق. فأنزل الله عذر سليمان: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وأعلموهم إياه. فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم فتتبع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا }. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان. فقال الله جل وعز: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. حدثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، حدثنا الحسين قال: عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب، قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان، فكتبت: من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: «هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم»، ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا، هذا سحره، بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا. فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا. فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح. فأنزل الله عذر سليمان: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا، والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } أي بإتباعهم السحر وعملهم به { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت }. قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } ما ذكرنا فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } من السحر { على ملك سليمان } فتضيفه إلى سليمان، { وما كفر سليمان } فيعمل بالسحر { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. وقد كان قتادة يتأول قوله: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } على ما قلنا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } يقول: ما كان عن مشورته، ولا عن رضا منه ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه. وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى «تتلو»، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن «تتلوا» بمعنى تلت، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: { واتبعوا } وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وأما معنى قوله: { ما تتلوا } فإنه بمعنى الذي تتلو وهو السحر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } أي السحر. قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له: بلى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت }.
اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: { وما أنزل على الملكين } فقال بعضهم: معناه الجحد وهي بمعنى «لم». ذكر من قال ذلك:. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } فإنه يقول: لم ينزل الله السحر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثني حكام عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: { وما أنزل على الملكين } قال: ما أنزل الله عليهما السحر. فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله: { وما أنزل على الملكين } إلى: ولم ينزل على الملكين، واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: { ببابل وهاروت وماروت } من المؤخر الذي معناه التقديم. فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود. فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم. وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: { وما أنزل على الملكين } «الذي». ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم، قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين وإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا.
Unknown page