ولو جاز أن يرى في الآخرة لجاز أن تأخذه السنة والنوم في الآخرة، ويطعم في الآخرة ويظلم، فلما كان هذا مدائح الله وصفاته كان ذلك من صفاته التي قال: {لا تدركه الأبصار}، فهي لا تدركه ولا تراه في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد قال الله تعالى في كتابه لموسى: {لن تراني}، فهو لا يراه. وقول بني إسرائيل: {أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون}، وقول الكفار: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}، قال الله: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا}.
فهذا ومثله في القرآن لمن احتج بأن الله لا يرى بالأبصار، وأنه لا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وتعالى الله وجل وعلا علوا كبيرا.
فإن قال: من جوز الرؤية من الحشوية، وقال: يرى ولا يدرك؟
قيل له: لا يجب ما قلت، وذلك أنا رأينا ووجدنا الرؤية بالبصر، هي الإدراك بالبصر، فلو كان مرئيا كان مدركا.
فإن قال: لم قلت ما قلت؟
قيل له: إنا ندرك بأبصارنا ما نراه بها، كما نعلم بقلوبنا ما نعرفه بها، فلو كانت الرؤية بالبصر غير الإدراك بالبصر لكان العلم بالبصر غير المعرفة بالبصر، فلما كان قول من قال: علمت بقلبي ما لم أعرفه بقلبي محالا كان قول من قال: رأيت ببصري ما لم أدركه ببصري محالا.
فإن قال: الدرك: إحاطة.
قيل له: وكذلك النظر إحاطة بالرؤية، إحاطة بالمرئي.
فإن قال: قد نرى السماء ولا ندركها؟
قيل له: وإن لم ندرك السماء كلها فقد أدركنا ما رأينا منها.
فإن قال: الدرك: إحاطة، { قال أصحاب موسى إنا لمدركون} أي: محاط بنا.
قيل له: الدرك على وجوه: منها: إحاطة. ومنها: انتهاء، يقال: أدرك الزرع، وأدركت الثمرة، وأدرك الغلام: إذا انتهى واحتلم.
Page 31