Jamal Din Afghani
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
Genres
وعزة الحق أن ما كتبته عن حق مصر وما استنهضت من الهمم وما حذرت به من سوء المصير لو تلي على الأموات لتحركت أرواحهم، ولرفرفت على أجداثهم، ولأحدثت لأعدائهم أحلاما مزعجة ومراء مريعة. كاد لا يخلو سطر من العروة الوثقى إلا فيه ذكر مصر، ولا براهين وأدلة على ظلم الإنكليز إلا ويتمثل في مصر، ولا خوف من شر مستطير يفكك أجزاء السلطنة العثمانية إلا وتراه في التهاون في أمر مصر. وذلك لأن جرح مصر كان ولم يزل له في جسم الأمة الإسلامية والعرب عموما نغولا وبعروقها اتصالا ... ولا يفوتن أهل الشرق العلم بأن كل مدينة وكل مقاطعة إسلامية شرقية هي بمنزلة مصر وإن لم تسقط تحت الاستعمار بعد. فالشرك منصوب للكل .
7
فمصر هي نموذج مصغر أو مكبر لكل الدول التي يطمع فيها الاستعمار والتي تناهض وتقاوم من أجل الاستقلال.
مصر مركز الخلافة ودرة الممالك العثمانية. وصون مصر صون لها. ومصر مفتاح المسألة الشرقية. وتحررها بداية العالم الإسلامي كله. وكل المقاطعات الإسلامية في الحملة العثمانية هي بمنزلة مصر. فمصر هي نموذج الوطن والذب عنه. وقد كانت مصر قبل الدولة العثمانية مركزا للخلافة. فقد انقسمت الخلافة قديما إلى عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في الأندلس. وبدأت مصر والدولة العثمانية نهضتهما الحديثة معا بنقل العلوم الغربية دون معرفة كيفية نشأتها. ونصبت الدول الغربية الحبائل للإيقاع بهما معا.
ويرصد الأفغاني تاريخا لمصر قبل محمد علي وأثناء محمد علي وبعد محمد علي حتى ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر، مبينا مأساة مصر وعظمتها في آن واحد. كانت حكومة مصر قبل محمد علي تعد من حكومة الأشراف (المماليك) دون معرفة ما حقيقتها. ثم أتاها محمد علي يحول مصر إلى دولة حديثة وحكومة نظامية حتى تقدمت على جميع الممالك الشرقية. وهو أمي على الفطرة يحب الحضارة وبث العلوم وتأسيس العمران. وتفجرت في مصر ينابيع الثورة وفاضت على البلاد الشرقية حتى صارت قبلة الغربيين. سادها الأمن وأصبحت مثل الممالك الأوروبية العظيمة. ثم تعثرت مصر، وحسدتها الأيام. عثر العاقل، وفرط المالك، وتهور الغبي، تقرب البعيد، وبعد القريب. وانتشرت الدسائس في دوائر الحكومة. تقطع الوصال، وعمت الفتن. حل القضاء بالبلاد، وطمع فيها الأجانب. واحتلتها إنجلترا بحجة الدفاع عن طريق الهند. وقامت إنجلترا بالقتل والشنق والحرق والتدمير. وأصبحت ماليتها محط أنظار أوروبا، وبدعوى عدم الوفاء بالدين تم احتلال مصر وأوروبا ناقصة الإيراد، وتريد تعويض مخاسرها في السودان في احتلاله ثم إخلائه. وألغى الجيش الوطني وهو الذي حقق أعظم الانتصارات أيام محمد علي وإبراهيم. وطرد آلاف الوطنيين من الحكومة، وتشرد الأطفال والنساء. سادت الأهواء، وملئت السجون بالرعية، والكرابيج على الأبدان. أغلقت أبواب العمل، وتنازع الحكام، وعمت الفوضى. وارتفعت الأصوات بالشكوى، وانتشرت الأمراض، وفسدت الزراعة. اشتد الضنك، وباع الفلاح بيته. وزاد الويل بالنيل من الحريات الشخصية والأخذ بالشبهات والتهم الباطلة. تحتاج مصر إلى الإصلاح ولكن إنجلترا دخلت البنجاب بدعوى الإصلاح، واستولت عليه أربعين عاما. فليحذر المصريون. دخل الإنجليز مصر لقمع الثورة العرابية والاستيلاء على طريق الهند وإعادة الأمن. وطردوا الآلاف من الموظفين الوطنيين فأصبحوا مشردين. امتلأت السجون بالأحرار. وأغلقت أبواب العمل. شاعت الفوضى، وتوقف العمل، وانتهكت الحريات الشخصية. أراد الأفغاني توجيه بريطانيا إلى إيقاف الخطر الروسي على شمال الهند بدلا من وقوعها في الشرك المصري بعد أن ظنت أنها تستطيع القضاء على مصر. وذلك لا يتم إلا بمساعدة العثمانيين وبعض المصريين.
8
والحديث عن محمد علي هو الاستثناء في الدولة العثمانية التي آثرت الغزو لا الفتح والقوة لا العلم، والاستعمار لا التمدن، وذلك بفضل محمد علي في مصر. محمد علي
ذلك الأمي الكبير، نابغة رجال أمصار وأجيال. فقد طوى تحت جبته همما تدك الجبال، وقلبا يقدم به على هائل الأعمال، وتحت عمامته دماغا فعالا، وعقلا جوالا، وبصرا نافذا ، وفكرا ثاقبا، ورأيا صائبا .
9
فقد بلغ من حدة الذهن وفرط الذكاء، وبعد أن حسن خراج مصر، وعدل ما اختل فيها، وبنى القناطر الخيرية، وشق الترع والرياحات طلب من الباب العالي أن يعيضه بالبصرة عن مصر، يفعل فيها ما فعل في مصر ثم الموصل للإعمار والبناء، وكما عمر القدماء دمياط ورشيد والإسكندرية ودلتا النيل. عمر محمد علي مصر كما عمر القدماء البصرة والموصل. وكان المسافر من بغداد في عصر الرشيد غربا يمشي بين الأشجار حتى يصل إلى دمشق وحلب، وشمالا يرى الخضرة حتى سيحون وجيحون، وجنوبا حتى دمياط ورشيد والإسكندرية ومصب النيل. وكلها ملك للمسلمين. وكانوا في نفس الوقت قادرين على الصمود ضد أهل المكر والخديعة.
Unknown page