Jamal Din Afghani
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
Genres
ويبدأ الأفغاني بتأصيل الموضوع في المسألة الشرقية في الماضي والحاضر والمستقبل. فقد انتشر الإسلام في الشرق، ومصر والمغرب العربي جزء من روح الشرق. انتشر حربا أم صلحا في أقصر عصر، انطلاقا من شبه الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر وفارس والهند وتركيا بدافع ديني يقوم على المساواة والترابط الاجتماعي وانتشار الآداب واللسان العربي والأخلاق الفاضلة مثل الصدق والوفاء بالعهد والعدل والحرية والمساواة وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة. لذلك سقطت العروش. وتحولت مصر الرومانية إلى إسلامية عربية، وكذلك سوريا والعراق. كانت الفضائل وسيلة التعرب وكذلك الآداب. فقد كان العرب الأوائل، حتى قبل الإسلام، يقدرون آداب الغير، ويحلون بها لسانهم مثل كسرى أنوشروان. وظهر من بينهم الحكيم الطبيب مثل الحارث بن كلدة يماثل حكماء الفرس. وكان للشاعر في قبيلته المكان الأول. وإذا ما استعمرت أقوام وحافظت على لسانها فإن ذلك يكون أحد أسباب تحررها.
أما الفتح التركي فقد كان عسكريا وليس ثقافيا. توغل الأتراك في كبد أوروبا حتى فينا، واستولوا على بلغاريا والصرب والجبل الأسود، ولكنهم لم يتركوا آثارا كما ترك العرب في مصر والشام والعراق والأندلس وكما قال الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
تعرب الأتراك ولكن الأتراك لم يعربوا غيرهم أو يتركوه. لذلك ثارت دول البلقان ضدهم. عرب العرب بالحكمة والتسامح واللين، والتركي لم يترك أثرا باعتراف الأتراك أنفسهم مثل ضيا باشا. فتوحات العرب حضارية وفتوحات الأتراك مجرد غزو. لم تتبع الأتراك سنة محمد الفاتح والسلطان سليم، وهو قبول اللسان العربي. أخذ الأتراك الإسلام الشعائري العقائدي البدوي، ولم يتركوا وراءهم الإسلام الحضاري للناس وللشعوب المفتوحة. وانغمسوا في السفه والترف والبذخ والإسراف. وكلها عوامل اضمحلال وانقراض وزوال للعمران. الأتراك مسلمون كالعرب ولكن شكلا دون مضمون. وفضل العرب على الأتراك ترك الآثار والعمران. والفرنسيون كالعرب يتركون الآثار في حين تظهر عيوب الألمان لفرنسا في الحروب السبعينية. ويستشهد الأفغاني بآية
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، ويفسر السعي بأنه ترك الآثار. وهو سبيل النجاح. لقد أثر العرب في الشعوب بإعطائهم أفضل ما لديهم، اللغة والعلم، وانتشر الإسلام باللغة والحضارة في كل الأرض القديمة بآداب الدين وليس بالجزية، ونشر قيم المساواة وحفظ كيان المجموع بحرية دون إكراه مع الإبقاء على التعددية اللسانية والفكرية والاجتماعية. وسبب ذلك أخلاق العرب، واستحسان الأمم أخلاق الوافدين، والإعجاب بلسانهم. انتشر اللسان العربي ليس بسبب الفتح بل بسبب الآداب العربية، الحكم والأمثال والمواعظ. وقد ساهم فيها البدو والحضر. ولكن العربية وسعها البدو في البراري والقفار وضيقها الحضر في المدن والأمصار. وكان التحول من البدو والحضر خسارة للغة وانتقال لها من الطبيعة إلى الصنعة، ومن الحرية والإبداع إلى التزمت والتقليد، لا فرق في ذلك بين الأفغاني وروسو. لذلك لزمت التربية الوطنية للشرقيين بعد أن حظر الغرب إدخال الأسلحة والتعليم إليها، أي القوة والعلم لإبقائهم تحت الوصاية وإبعادهم عن الوطن والعمل له. فحياة الشرقيين بالعلم الصحيح موت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم.
1
يدرس الأفغاني المسألة الشرقية كفيلسوف سياسة وفيلسوف تاريخ نظرا لارتباط فلسفة السياسة بفلسفة التاريخ، السياسة محرك التاريخ، والتاريخ مجال النشاط السياسي. ويقصد بها الخلافة العثمانية وضعفها وتفككها وطريقة فتوحاتها للبلقان وشرق أوروبا وحال ولاياتها مثل مصر. وجوهرها الصراع بين الغرب والشرق، واستعمال الدين لصالح كل منها. يتذرع الغرب بالنصرانية والشرق بالإسلام، وأهل كل دين صامت خامل لا يتحرك. يسخر قادة النصرانية الدين من أجل الدنيا، ويحسنون أمور حياتهم، ويسخر قادة الإسلام الدنيا من أجل الدين ولا يعملون بأحكامه فخسروا الدين والدنيا معا. في الغرب الدين وسيلة والدنيا غاية. وفي الشرق الدين غاية والدنيا وسيلة. سبب نهضة الغرب التحول من إحياء علوم الدين إلى إحياء علوم الدنيا، وسبب تخلف المسلمين التحول من إحياء علوم الدنيا إلى إحياء علوم الدين.
2
لقد ولد فتح محمد الفاتح القسطنطينية حقد الملوك المسيحيين ضد المسلمين، وأخذوا في الكيد لهم، وناصبوا الدولة العثمانية العداء والعمل على اضمحلالها وسلب فتوحاتها منها. ويتحمل العثمانيون جزءا من المسئولية؛ لأن استمرار الحروب والتغلب والانتصار فيها لا يكون إلا بالقوة والعلم وليس بالقوة وحدها. ولو أن الدولة العثمانية راقبت حركات الغرب وجارته في مدنيته وحضارته وعمرانه، وزاوجت الفتوحات المادية بالقوة العلمية كما فعلت اليابان لما كانت هناك مسألة شرقية، ولما ظهر هذا التباين بين قوة وجهل عند العثمانيين ، وقوة وعلم عند الغربيين. ولما انهزمت حكومة الجهل على يد حكومة العلم. يهزم الغرب المسلمين الآن بالعلم مصدر القوة. وينهزم المسلمون الآن أمام الغربيين بالجهل مصدر الضعف. إذن ليس الدين وحده سبب المسألة الشرقية. فقد فتح آل عثمان الممالك، وبقي أهلها نصارى أشد تمسكا بالنصرانية. فتحوا البلاد ولم ينشروا الإسلام ولا لغته، ولا عملوا بآدابه وتعاليمه. انتصر الأتراك أولا على الأوروبيين بالعلم العربي، وقد كان الأوروبيون أولا جاهلين به. وجمعوا بين القوة والعلم كما يفعل الأوروبيون الآن. وجمع السلاطين بين القوة والعدل. وظل النصارى في طاعتهم طالما كانوا يجمعون بين القوة والعلم في الحكم، والضعف والجهل في المحكوم. ثم انعكس الأمر فتحول الحاكم إلى محكوم، والمحكوم إلى حاكم بنفس القانون،
Unknown page