حياته
صفته
مذهبه
سعة علمه وجلالة قدره
أسلوبه وخصائصه
دعابته وفكاهته
حسن محاضرته
كتبه
اتهامه في دينه
شعره
Unknown page
درس وتحليل
نصوص من كلام الجاحظ
أمثلة من رسائل الجاحظ
أمثلة من جمل الجاحظ تجري مجرى الأمثال
حياته
صفته
مذهبه
سعة علمه وجلالة قدره
أسلوبه وخصائصه
دعابته وفكاهته
Unknown page
حسن محاضرته
كتبه
اتهامه في دينه
شعره
درس وتحليل
نصوص من كلام الجاحظ
أمثلة من رسائل الجاحظ
أمثلة من جمل الجاحظ تجري مجرى الأمثال
الجاحظ
الجاحظ
Unknown page
أئمة الأدب (الجزء الأول)
تأليف
خليل مردم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه رسالة في إمام الأدب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تتلوها رسائل في غيره من أئمة الأدب، فنستعين الله ونستهديه.
خليل مردم بك
حياته
في أيمن عصر من عصور المدنية الإسلامية، وفي البصرة إحدى حواضر العلم والأدب، ولد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
كل من ترجم للجاحظ لم يعين سنة ميلاده، وإنما المعروف أنه ولد في منتصف القرن الثاني، إلا أن هناك رواية انفرد بها ياقوت الحموي في معجم الأدباء، قال: «قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة؛ ولدت في أول سنة خمسين ومائة، وولد في آخرها.» فإذا صحت هذه الرواية يكون الجاحظ قد عمر أكثر من مائة سنة؛ لأنه توفي سنة خمس وخمسين ومائتين.
أما نسبه فلا نعلم منه إلا أنه عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، كان جده محبوب أسود وجمالا لأبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي، وبذلك قال يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ. على أن هناك من يدعي أنه كناني صريح مثل أبي القاسم البلخي، أما سبب تلقيبه بالجاحظ فلجحوظ عينيه.
Unknown page
نشأ الجاحظ بالبصرة نشأة فقير يعمل ليعيش، قد روي عنه أنه كان يبيع الخبز والسمك بسيحان (وسيحان نهر بالبصرة)، ثم انصرف إلى العلم والأدب، فطلبهما في البصرة وبغداد. تلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش، وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وكل من هؤلاء إمام في فنه. وكان الجاحظ مشهورا بكثرة المطالعة، قيل إنه ما وقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للمطالعة.
وكذلك انقطع للعلم والتأليف، فأصبح فيهما علما وشاع ذكره، وأقبل الناس على تصانيفه، وصار لقاؤه شرفا. قال سلام بن زيد، أحد علماء الأندلس: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء الجاحظ، فخرجت لا أعرج على شيء حتى قصدته وأقمت عليه عشرين سنة. وانفرد الجاحظ بآراء في التوحيد صارت مذهبا من مذاهب المعتزلة، وأخذ بأقواله جماعة عرفوا بالجاحظية. وأعجب المأمون بكتبه، وصدر في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام، ثم استعفى فأعفي. وكان سهل بن هارون يقول: إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتاب.
ثم اتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيات، وزير المعتصم والواثق، ولازمه واختص به، وقدم إليه كتاب الحيوان، فلما قبض على ابن الزيات في خلافة المتوكل هرب الجاحظ، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور؛ يريد ما صنع بابن الزيات وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه، فعذب هو فيه حتى مات.
ولقد أصاب الجاحظ رشاش من هذه المحنة، فإنه جيء به مقيدا إلى القاضي أحمد بن أبي دواد بعد قتل ابن الزيات، فلما نظر إليه قال: والله ما علمتك إلا متناسيا للنعمة كفورا، للصنيعة، معدنا للمساوي. فقال له الجاحظ: خفض عليك - أيدك الله - فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن من أن أحسن فتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني. فقال له ابن أبي دواد: قبحك الله، ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام. ثم قال: جيئوا بحداد. فقال: أعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني؟ قال: بل ليفك عنك. فجيء بالحداد، فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ ويطيل أمره قليلا، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة؛ فإن الضرر على ساقي وليس بجذع ولا ساجة.
1
فضحك ابن أبي دواد وأهل المجلس منه، وقال ابن أبي دواد لبعض الحاضرين: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه. ثم قال: يا غلام: صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى، واحمل إليه تخت ثياب وطويلة وخفا. فلبس ذلك ثم أتاه، فتصدر في مجلسه، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان. واصطلحت الحال بينهما، وأهدى إليه الجاحظ كتاب البيان والتبيين.
واتصل الجاحظ أيضا بالفتح بن خاقان، وسافر معه إلى دمشق ووصف مسجدها في كتابه «البلدان»، كما أنه دخل معه أنطاكية، وشكا من براغيثها وبقها.
وهكذا قضى الجاحظ أيامه في العلم والأدب والتصنيف، حتى أصيب بالفالج في أعقاب عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة المتوكل. قيل إن المتوكل وجه من يحمل الجاحظ إليه من البصرة، فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟!
وقال المبرد: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها؟! ثم أنشدنا:
أترجو أن تكون وأنت شيخ
Unknown page
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
دريس كالجديد من الثياب
وقال لمتطبب يشكو إليه علته: اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي. وتوفي الجاحظ بالبصرة في خلافة المعتز، في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين.
صفته
كان الجاحظ دميم الخلقة، مشوها، جاحظ العينين؛ ولذلك قيل له الجاحظ والحدقي، ولنا من صراحته وفكاهته وحسن أخلاقه دليل على تعرف دمامته؛ فأكثر ما روي عن تشويه خلقه مروي عنه. قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. وهناك أخبار في قبح صورته مروية عنه ، أغفلناها لأنها لا تختلف عما ذكرناه.
ولقد قال فيه بعضهم:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا
ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه
Unknown page
وهو القذى في كل طرف لاحظ
مذهبه
الجاحظ شيخ من شيوخ المعتزلة، وإمام فرقة من فرقهم تدعى الجاحظية، وقبل الكلام عن هذه الفرقة لا بأس بتعريف المعتزلة على سبيل الاختصار.
المعتزلة
المعتزلة - ويسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد - فرقة إسلامية، رئيسها أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار ويحضر حلقته، واتفق أنه انفرد عن أستاذه في مسألة فترك الحلقة واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، وتبعه جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل. فسمي وأصحابه معتزلة.
انفرد المعتزلة عن أهل السنة بآراء في الكلام لا محل للتبسط فيها، ويمكن الإشارة إليها بما يأتي:
اتفق المعتزلة على القول بأن الله تعالى قديم، ونفوا الصفات القديمة أصلا، واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق، واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ونفي التشبيه عنه من كل وجه، وسموا هذا النمط توحيدا.
واتفقوا على أن العبد خالق لأفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا في الدار الآخرة، والله تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالما كما لو خلق العدل كان عادلا، واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير، وسموا هذا النمط عدلا.
واتفقوا على أن المؤمن إذا مات على طاعة استحق الثواب، وإذا مات على كبيرة ارتكبها من غير توبة استحق الخلود في النار، لكن عقابه أخف من عقاب الكفار، وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا.
واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك، وورود التكاليف ألطاف للباري أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء امتحانا واختبارا.
Unknown page
ولا بد من الإشارة إلى أن المعتزلة من أكثر الفرق الإسلامية تحكيما للعقل واطلاعا على الفلسفة ، وقد وافقوا الفلاسفة في بعض مسائل التوحيد.
الجاحظية
وافترقت المعتزلة إلى فرق عديدة تربو على العشرين، منها الجاحظية، وهم أصحاب الجاحظ. قال الشهرستاني: طالع الجاحظ كثيرا من كتب الفلاسفة، وخلط وروج بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة، وانفرد بمسائل، منها قوله: إن المعارف كلها طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعباد كسب سوى الإرادة. وقال بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة، وقال باستحالة عدم الجواهر؛ فالأعراض تتبدل والجوهر لا يجوز أن يفنى. ومنها قوله في أهل النار إنهم لا يخلدون فيها عذابا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول النار تجذب أهلها إلى نفسها دون أن يدخل أحد فيها.
ومذهبه مذهب الفلاسفة في نفي الصفات. وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد مذهب المعتزلة.
وقال إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم، وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي، وهم محجوجون بمعرفتهم، ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد وجاهل به؛ فالجاهل معذور والعالم محجوج.
وحكى ابن الرواندي عنه أن القرآن جسد يجوز أن يقلب مرة رجلا ومرة حيوانا.
ثم قال: ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة، إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين.
سعة علمه وجلالة قدره
ما رزقت العربية كاتبا أكثر علما وأوسع مادة وأجمع لأنواع العلوم، معقولها ومنقولها، من الجاحظ. ولقد مر بنا أنه أدرك طائفة من أئمة الأدب وأخذ عنهم، كما أخذ الكلام عن النظام، أحد أئمة المعتزلة، وأكثر من مطالعة كتب الفلسفة. قال أبو هفان: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.
وذكر ابن عساكر أن الجاحظ حدث عن حجاج بن محمد، والقاضي أبي يوسف، وثمامة بن أشرس النميري؛ وروى عنه أبو سعيد الحسن بن علي العدوي، وأبو بكر عبد الله بن أبي دواد، ودعامة بن الجهم، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ويموت بن المزرع، وأبو العيناء محمد بن القاسم، وأبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي.
Unknown page
ولقد كان شعار الجاحظ في طلب العلم قوله: إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح. وقوله أيضا: وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مرة، فمن أضر ذلك قولهم لم يدع الأول للآخر شيئا، فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا.
على هذه الطريقة طلب الجاحظ العلم، فاطلع على علوم المتقدمين والمتأخرين لعصره، واستنبط واجتهد وانتقد وزاد وألف في الأدب والعلم والدين، وكان إماما في كل منها.
قال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين وفي حكاية مذهب المخالفين، والآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرءوها وعرفوا فضلها، وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه، علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان ومعرفة أصول الكلام وجواهره وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب كتب تشبهها. والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.
وقال ثابت بن قرة: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته و... إلخ؛ والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوى و... إلخ؛ والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدل، وإن جد خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد، حبيب القلوب ومراح الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا ، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء، الخلفاء تعرفه، والأمراء تصفه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، والذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطي الرجال عقبه، وتهادوا أربه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
ومن اطلع على شيء من كتب الجاحظ سلم بما نقلناه من تقريظه، وحكم أنه المرجع في خزانة أدبنا، بل هو الشارع للتأليف، ولا يزال إماما يهتدى بهديه.
قال ابن العميد: ثلاثة علوم الناس كلها عيال فيها على ثلاثة أنفس؛ أما الفقه فعلى أبي حنيفة، وأما الكلام فعلى أبي الهذيل، وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة فعلى أبي عثمان الجاحظ.
ولقد ألف أبو حيان التوحيدي كتابا في تقريظ الجاحظ. وقيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
ولقد بلغ الجاحظ من جلالة القدر أن يرى نفسه في آخر أيامه أعظم من أن ينقطع إلى الخلفاء، وكأن الوزراء والحجاب عرفوا منه ذلك، فلقد كتب إليه الفتح بن خاقان كتابا يقول في فصل منه:
إن أمير المؤمنين يجد بك ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول فيه ومتوفر عليه.
وفي ابن خلكان أن بعض البرامكة مر بالبصرة والجاحظ عليل، فذهب ليراه، فلما قرع الباب خرجت خادم، فقالت: من أنت؟ فقال: رجل غريب، وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ. فبلغته الخادم ما قال. فقال الجاحظ: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي، فقال أحب أن أراه قبل موته، فأقول قد رأيت الجاحظ.
Unknown page
والأخبار في هذا الباب مستفيضة، نختمها بما رواه ابن عساكر في تاريخه، ولا ندري كنه هذه الرواية ؛ أهي من جد الجاحظ أم هزله؛ قال علي بن قاسم الخوافي: حدثني بعض إخواني أنه دخل على الجاحظ فقال: يا أبا عثمان، كيف حالك؟ فقال الجاحظ: سألتني عن الجلة فاسمعها مني واحدا واحدا؛ حالي أن الوزير يتكلم برأيي وينفذ أمري، ويواتر الخليفة الصلات إلي، وآكل من لحم الطير أسمنها، وألبس من الثياب أفخرها، وأجلس على ألين الطبري، وأتكئ على هذا الريش، ثم أصبر على هذا حتى يأتي الله بالفرج. فقال له الرجل: الفرج ما أنت فيه. قال: بل أحب أن تكون الخلافة لي، ويعمل محمد بن عبد الملك بأمري، ويختلف إلي، فهذا هو الفرج.
أسلوبه وخصائصه
لا أعرف في كتاب العربية كاتبا يداني الجاحظ في قوة طبعه على الإنشاء، وانقياد الجمل إليه، فهو في النثر كالبحتري في الشعر، وطبع كل منهما في فنه مضرب المثل، وما أشبه الجاحظ في ترادف جمله بالبحر الزاخر، ما يرسل موجة إلا ليعقبها بأخرى.
يروعك من أسلوب الجاحظ ذلك السمو في المفردات والتراكيب الصادرة عن طبع فياض، ليس للتعمل فيه أثر البتة؛ فهناك ما شئت من سلاسة وسهولة، وهناك ما شئت من بسط وإسهاب. وأعظم من هذا تلك الشخصية البارزة الماثلة في كل فقرة من فقر الجاحظ، فما أذكر أنني قرأت فصلا إلا تمثل لي في كل جملة عينان جاحظتان تنظران نظرات فيها من معاني الجد والهزل ما لا تترجم عنه إلا العيون، فهو من هذه الجهة أكبر كتاب العربية شخصية، وكل كلمة من كلماته تكاد تكون مطبوعة بطابعه الخاص.
يكثر الجاحظ من الاستطراد حتى يخرج بالقارئ عن الموضوع الذي عقد له الفصل، وما أظن ذلك ناشئا إلا عن غزارة مادته وطاعة الألفاظ له وكثرة المران على الجدل.
عالج الجاحظ كل ما عرف لوقته من ضروب العلم؛ فكتب في التوحيد والقرآن ومذاهب الفرق الإسلامية، وكتب في الأدب وفنونه شعرا ونثرا، وجدا وهزلا، وكتب في الأخلاق والاجتماع وطبائع الناس، وكتب في الحيوان والنبات، ولم يفته أن يكتب في الطب والكيمياء؛ فكأن كتبه صورة عن الكون، تبتدئ بالذر الحقير وتنتهي إلى الخالق العظيم، ولا تخطئ ما بينهما.
يعمد الجاحظ إلى الموضوع الحقير كالنملة مثلا، فلا يزال يصف طبائعها ويورد الحقائق على حزمها حتى تعظم في نفسك. ويقصد إلى الموضوع العظيم كمحنة الإمام أحمد في القول بخلق القرآن، فلا يزال يهون المحنة حتى تظن أن الإمام غلب بالحجة لا بالقوة. وذلك من سحر البيان، وإن من البيان لسحرا، وهو بعد في دقة التصوير وحكاية الواقع ووصف الحديث آية لا تعدلها آية.
أدب الجاحظ أدب واقعي، بل طبيعي، يؤثر التصريح على التلويح، ويصور الحقيقة كما هي، ويرى في ذلك السبيل الأقوم فيدعو إليه، ويعيب من يرغب عنه. قال: «لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء؛ فالسخيف للسخيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال. وإن كان موضع الحديث على أنه مضحك وملهي، وداخل في باب المزاح والطيب، فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته. وإن كان في لفظه سخف، وأبدلت السخافة بالجزالة، صار الحديث الذي وضع على يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها. وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر الحر و... و... ارتدع وأظهر التعزز واستعمل باب التورع، وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع.»
وربما تعمد الجاحظ اللحن في نقل أحاديث الناس ليحافظ على روايتها كما نطق بها أصحابها. قال في كتاب الحيوان يحكي ما قاله إبراهيم النظام في كلب: «إن كنت سبع فاذهب مع السباع، وعليك بالبراري والغياض، وإن كنت بهيمة فاسكت عنا سكوت البهائم.» ثم قال الجاحظ: «ولا تنكر قولي وحكايتي عنه بقول ملحون من قولي «إن كنت سبع» ولم أقل إن كنت سبعا، وأنا أقول إن الإعراب يفسد نوادر المولدين، كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب؛ لأن سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة وتلك العادة، فإذا دخلت على هذا الأمر - الذي إنما أضحك بسخفه وبعض كلام العجمية التي فيها - حروف الإعراب والتخفيف والتثقيل، وحولته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة، انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدلت صورته.»
وهو لا يقف عند هذا الحد، بل ربما نقل كلام الأعجمي بنصه، قال في كتاب البخلاء يحكي حديث بخيل من أهل مرو تجاهل ضيفا زاره من أهل العراق: لو خرجت من جلدك لم أعرفك. قال الجاحظ: وترجمة هذا الكلام بالفارسية: «كراز بوستت بارون ببائي نشناسيم.»
Unknown page
1
هذا من حيث الرواية والحكاية، وهو في غيرهما أيضا لا يرى بأسا باستعمال الكلمات الفارسية، كقوله في كتاب البخلاء: «وكانوا يعلمون أن إحضار الجدي إنما هو شيء من آيين
2
الموائد الرفيعة.» وكذلك فإنه استعمل كلمة «بانوان»، وفسرها بقوله: «والبانوان الذي يقف على الباب ويسل الغلق ويقول بانوا، وتفسير ذلك بالعربية: يا مولاي.»
والجاحظ بعد زاهد في السجع، يؤثر السهولة على الحزونة، والوضوح على الغموض، والبسط على الإيجاز. قال بديع الزمان الهمذاني: «كلام الجاحظ بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له بكلمة غير مسموعة أو لفظة غير مصنوعة؟»
ومن خصائص الجاحظ في أسلوبه الدعابة والفكاهة والتنادر والسخرية والتهكم، وتلك أمور تخف على نفس القارئ وتستهويه، ولها محل رفيع في آداب الأمم الحية، ولكن أدبنا لا يزال ينقصه شيء كثير منها، والجاحظ في هذا الباب فرد لا يضارعه أحد. •••
أدب الجاحظ أدب حي، مستمد من الدرس والتفكير والتجارب، ولا تكاد تجد مؤلفا يعطيك من هذه الثلاثة كما يعطيك الجاحظ؛ فهو يشارك الرواة في سعة حفظه وروايته، ويشارك الفلاسفة في تفكيره الحر واعتماده على المعقول، ويبذ الجميع في ملابسته للناس على اختلاف طبقاتهم وفهمه لروح عصره. ولو قيض لمجموعة مصنفاته البقاء لكان لدينا صورة ناطقة عن عصر الجاحظ في كل مناحيه، وعما وصل إليه العلم والأدب والاجتماع.
يعتمد أدب الجاحظ على عناصر شتى، أقواها بلاغة العرب في الجاهلية والإسلام، والكتاب والسنة، وما نقل إلى العربية من آداب الفرس واليونان والهنود وفلسفتهم، ولكن أظهر ما يكون فيه الرأي الشخصي والتفكير الحر.
لئن كان ابن المقفع إمام الكتاب في عصر الترجمة، فالجاحظ إمامهم في عصر الوضع والتأليف والإبداع وتكوين الأدب الحضري المرتكز على أسس العلم والمدنية والتفكير من غير أن يفقد شيئا من فصاحة البداوة وروعتها.
وهكذا فالجاحظ شرع طريقة التأليف في الأدب، وكل من ألف بعده متأثر بطريقته شعر أم لم يشعر. قال ابن النديم في الفهرست: «ابن خلاد الرامهرمزي حسن التأليف مليح التصنيف، يسلك طريقة الجاحظ»، وقال أيضا: «الآمدي مليح التصنيف جيد التأليف، متعاطي مذهب الجاحظ فيما يعمله من الكتب.»
Unknown page
ولم يقف أثره عند هذا الحد، بل تعداه إلى أن أصبحت الكتاب تترسم خطاه في الإنشاء، بل تقتبس جمله ذات الجلبة في السمع والروعة في النفس. قال القاضي الفاضل: «وأما الجاحظ، فما منا - معشر الكتاب - إلا من دخل داره، أو شن على كلامه الغارة، وخرج وعلى كتفه منه الكارة.»
والجاحظ يكره التكلف كما يكره الإسفاف، ويعجب بالطبع السليم كما يعجب بالفكر الثاقب. قال: «أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكأن الله - عز وجل - ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله؛ فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، ومصونا من التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة.»
هذا وفي إنشاء الجاحظ كثير من أساليب الخطابة والجدل، وله جملة تدل على ذلك، قال: «ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصة بكلام العامة.»
ومما يشهد بسرعة جوابه وذلاقة لسانه قوله لرجل آذاه: «أنت - والله - أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.»
وفي أجوبته وأحاديثه قليل من السجع والصنعة بخلاف إنشائه، قال أبو سعد داود بن الهيثم: رأيت الجاحظ يكتب شيئا، فتبسم، فقلت: ما يضحكك؟ فقال: «إذا لم يكن القرطاس صافيا، والمداد ناميا، والقلم مواتيا، والقلب خاليا، فلا عليك أن تكون كابيا.»
ووصف الحبارى فقال: «سلاحها سلاحها»، ووصف نبات النروج فقال: «يخرج كاسيا كاسيا»، وكان يقول: «من صنف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف.»
وكأنه كان يستعمل ذلك في كلامه من باب التظرف والتملح.
دعابته وفكاهته
كان في الجاحظ على جلالة قدره دعابة وفكاهة وخفة روح؛ فهو يخلط الهزل بالجد، ويجيد النكتة جوابا وكتابة ورواية، ولا تجد كاتبا من الكتاب شاعت النكتة في آثاره وحرص عليها مثل الجاحظ. وربما قيد إلى النكتة بالسلاسل، فكان ذهوله ونسيانه فكاهة مستملحة، قال: «نسيت كنيتي ثلاثة أيام، حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكتني؟ فقالوا: بأبي عثمان.»
وطالما استعمل الجاحظ فكاهته في النقد اللاذع، فعبث بالقصاص الدجالين، وتنادر على غلاة الشيعة، وسخر بالحكام ووسطائهم، وتهكم على الأدعياء، وضحك من الأغبياء، فبلغ من كل ذلك مبلغا لا ينال بالجد.
Unknown page
سأله بعضهم أن يعطيه كتابا إلى بعض العمال يكون بمثابة وسيلة، فبعث الجاحظ بكتاب مختوم فيه: «هذا الكتاب مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك». فلما سئل عن ذلك قال: هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقال المكتوب لأجله: أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف ... وأم من يسأله حاجة. فلما استنكر منه ذلك قال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ.
قال أبو كريمة: ولعله هو الذي كتب الكتاب لأجله:
لم يظلم الله عمرا حين صيره
من كل شيء سوى آدابه عاري
بتت حبال وصالي كفه قطعت
لما استعنت به في بعض أوطاري
فكنت في طلبي من عنده فرجا
كالمستغيث من الرمضاء بالنار
إني أعيذك والمعتاذ محترس
من شؤم عمرو بعز الخالق الباري
Unknown page
فإن فعلت فحظ قد ظفرت به
وإن أبيت فقد أعلنت إسراري
وصار الجاحظ إلى منزل بعض إخوانه فاستأذن عليه، فخرج إليه غلام أعجمي، فقال: من أنت؟ قال: الجاحظ. فدخل الغلام إلى صاحب الدار فقال: الجاحد على الباب. وسمعها الجاحظ. فقال صاحب الدار للغلام: اخرج فانظر من الرجل. فخرج يستخبر عن اسمه، فقال: أنا الحدقي. فدخل الغلام، فقال: الحلقي. وسمعها الجاحظ. فصاح به في الباب: ردنا إلى الأول؛ يريد أن قوله الجاحد مكان الجاحظ أسهل عليه من الحلقي مكان الحدقي، فعرفه الرجل فأوصله واعتذر إليه.
وقال الجاحظ مرة بحضرة السدري: «إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت ...» فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلا.
وأتاه يوما رجل فقال: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها. قال: نعم. فقال: إذا قال لي شخص يا زوج الفاعلة، يا ثقيل الروح، أي شيء أقول له؟ قال: قل له صدقت.
وقال الجاحظ: كان رجل من أهل السواد تشيع، وكان ظريفا، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض عليا - عليه السلام - والله لئن فعلت لتردن عليه الحوض يوم القيامة ولا يسقيك. قال: والحوض في يده يوم القيامة؟ قال: نعم. قال: وما لهذا الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش! فقيل له: أتقول هذا مع تشيعك ودينك؟ قال: والله لا تركت النادرة ولو قتلتني في الدنيا، وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال: كان يأتيني رجل فصيح من العجم، فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان، لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها. فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفظه نسبا حتى حفظه وهذه هذا فقلت له: الآن، لا تته علينا. فقال: سبحان الله! إن فعلت ذلك فأنا إذن دعي.
وروى ابن عساكر أن الجاحظ قال: رأيت جارية ببغداد في سوق النخاسين ينادى عليها، فدعوت بها وجعلت أقلبها، فقلت لها: ما اسمك؟ قالت: مكة. قلت: الله أكبر! قد قرب الحج، أتأذنين أن أقبل الحجر الأسود؟ قالت: إليك عني! أولم تسمع الله يقول:
لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس .
وقال الجاحظ: كنت وقفت أنا وأبو حرب على قاص، فأردت الولوع به، فقلت لمن حوله: إنه رجل صالح لا يحب الشهرة فتفرقوا عنه. فتفرقوا، فقال لي: الله حسيبك إذا لم ير الصياد طيرا، كيف يمد شبكته؟
Unknown page
وقال أيضا: اشتريت عبدا بمائة درهم فاسترخصته، فتعشيت سمكا فنمت، فاستدعيت منه ماء، فقال: اسكت، تأكل السمك وتشرب عليه الماء ليتولد منه كذا وكذا، وامتنع. فلما اشتد عطشي قمت وشربت، فقال: يا مولاي، احمل معك حتى أشرب أنا أيضا.
وقال أيضا: حدثني ثمامة بن أشرس قال: شهدت رجلا يوما من الأيام وقد قدم خصما له إلى بعض الولاة، فقال: أصلحك الله! ناصبي رافضي جهمي مشبه مجبر قدري، يشتم الحجاج بن الزبير الذي هدم الكعبة على علي بن أبي سفيان، ويلعن معاوية بن أبي طالب. فقال له الوالي: ما أدري مم أتعجب؛ من علمك بالأنساب، أو من معرفتك بالمقالات! فقال: أصلحك الله، ما خرجت من الكتاب حتى تعلمت هذا كله.
وقال أيضا: كنت مجتازا في بعض الطرق، فإذا أنا برجل قصير بطين، كبير الهامة طويل اللحية، متزر بمئزر، بيده مشط يشق به شقة ويمشطها بيده، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى، فاستزريته، فقلت: أيها الشيخ، قد قلت فيك شعرا، فترك المشط من يده وقال: قل. فقلت:
كأنك صعوة في أصل حش
أصاب الحش طش بعد رش
فقال لي: اسمع جواب ما قلت. فقلت: هات. فقال:
كأنك كندر في ذيل كبش
تدلدل هكذا والكبش يمشي
وكان الجاحظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات، فجاءوا بفالوذجة، فتولع محمد بالجاحظ وأمر أن يجعل من جهته ما رق من الجام، فأسرع في الأكل، فتنظف ما بين يديه، فقال ابن الزيات: تقشعت سماؤك قبل الناس. فقال الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقا.
وقال الجاحظ في مغفل اسمه كيسان: كان يكتب غير ما يسمع، ويستملي غير ما يكتب، ويقرأ غير ما يستملي، ويملي غير ما يقرأ. أمليت عليه يوما:
Unknown page
عجبت لمعشر عدلوا
بمعتمر أبا عمرو
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا فحص، واستملى أبا زيد.
وفي تاريخ ابن عساكر، قال أبو بكر محمد بن إسحاق: قال لي إبراهيم بن محمود ونحن ببغداد: ألا ندخل على عمرو بن بحر الجاحظ؟ فقلت: ما لي وله؟ قال: إنك إذا انصرفت إلى خراسان سألوك عنه، فلو دخلت عليه وسمعت كلامه. ثم لم يزل بي حتى دخلت عليه يوما، فقدم إلينا طبقا عليه رطب، فتناولت منه ثلاث رطبات وأمسكت، ومر إبراهيم فأشرت إليه أن يمسك، فرمقني الجاحظ فقال لي: دعه يا فتى، فقد كان عندي في هذه الأيام بعض إخواني، فقدمت إليه الرطب فامتنع، فحلفت عليه فأبى إلا أن يبر قسمي بثلاثمائة رطبة.
حسن محاضرته
لم يكن الجاحظ من أولئك العلماء المتزمتين الذين زووا وجوههم عن المجتمع، وتجاهلوا ما يحيط بهم من أحوال عصرهم، واقتصروا على فهم الحياة من الكتب؛ كلا، فلقد كان كثير الاختلاط، يلابس طبقات الناس كلها، من الخليفة وحاشيته إلى الحراس.
1
فأضاف إلى واسع روايته في الأدب عظيم خبرته لأهل زمانه، فضلا عن حدة ذكائه وقوة عارضته، وعما ركب في طبعه من حب الدعابة والفكاهة؛ فليس عجيبا أن يكون حلو الحديث حسن المحاضرة حاضر الجواب سريع النكتة، وحسبنا أن نروي من ذلك قصة رواها ابن خلكان؛ قال: قال الجاحظ: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والانحدار في حراقته، وكنا بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارة وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:
كل يوم قطيعة وعتاب
ينقضي دهرنا ونحن غضاب
Unknown page
ليت شعري أنا خصصت بهذا
دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت، فأمر الطنبورية فغنت:
وا رحمتا للعاشقينا
ما أن أرى لهم معينا
كم يهجرون ويصرمو
ن ويقطعون فيصبرونا
قال: فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون! وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء. وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء، فأنشد:
أنت التي غرقتني
بعد القضا لو تعلمينا
Unknown page
وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما معتنقان، ثم غاصا فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك وهاله أمرهما، ثم قال: يا عمرو، لتحدثني حديثا يسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما. قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم يوما، وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل، فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول رسولا آخر يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، فقال لها الفتى غني:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل. فقال: غني:
تألق البرق نجديا فقلت له
يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته، فقال له يزيد: قل. فقال: يا مولاي، تأمر لي برطل شراب؟ فأمر له به، فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل، ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي، يا غلمان خذوها بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا عنه بثمنها. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:
من مات عشقا فليمت هكذا
لا خير في عشق بلا موت
فألقت نفسها في الحفيرة، فماتت. قال الجاحظ: فسري عن محمد وأجزل صلتي.
Unknown page
كتبه
الجاحظ من أقدم المؤلفين وأكثرهم تصانيف في كل فن وعلم كان معروفا لزمانه، بل يمكن أن يقال إنه هو الذي شرع التأليف في الأدب. وكتبه تجمع إلى العلم والفائدة البراعة في التعبير وسحر البلاغة في الأسلوب، وتبعث الشوق على المطالعة لما فيها من النوادر والنكات الشائعة فيها، وهي سنة المؤلفين من بعده، بها اقتدوا وعلى سبيلها نهجوا، ولولاها لفقد كثير من آداب العرب، ولا تزال في غزارة المادة المرجع والأم، ولولا عدم تنسيقها لما فضلها كتاب.
كان أبو محمد عبد الله بن حمود الزبيدي الأندلسي يقول: رضيت في الجنة بكتب الجاحظ عوضا عن نعيمها.
وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ الرئيس أبي الفضل (ابن العميد)، فقصر رجل بالجاحظ وأزرى عليه، وحلم الأستاذ عنه، فلما خرج قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله مع عادتك بالرد على أمثاله. فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه لصار إنسانا، يا أبا القاسم، كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا.
وقال أبو علي الحسن بن داود: فخر أهل البصرة بأربعة كتب: كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الحيوان له، وكتاب سيبويه، وكتاب العين للخليل.
وقد بلغ شغف الناس بكتب الجاحظ وتهافتهم عليها أن أبا بكر بن الإخشاد أراد أن يطلع على كتاب الفرق بين النبي والمتنبي فلم يظفر به، فلما دخل مكة حاجا أقام مناديا بعرفات ينادي: رحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبي على أي وجه كان.
أما مؤلفات الجاحظ فتعد بالمئات، ورد في مقدمة كتاب التاج أن الجاحظ ترك نحوا من ثلاثمائة وستين مؤلفا، رآها سبط ابن الجوزي كلها تقريبا في مشهد أبي حنيفة النعمان ببغداد.
أما نحن، فنتكلم الآن على ما طبع منها، وهو قليل جدا، ثم نذكر أسماء ما اتصل بنا من كتبه التي لم تطبع.
كتبه المطبوعة (1)
البيان والتبيين: أحد أركان كتب الأدب وأقدمها، أهداه الجاحظ إلى ابن أبي داود فأعطاه خمسة آلاف دينار. والكتاب يبحث في فنون الأدب والبلاغة نثرا ونظما، ويتناول النقد واللغة، ويأتي على ذكر الأدباء والخطباء والمنشئين والشعراء، ويمثل بنماذج من أقوالهم. وفيه طائفة صالحة من كلام النبي والخلفاء والصالحين والزهاد والنساك وفصحاء الخوارج، وما يقابل ذلك من كلام اللحانين والنوكى والموسوسين والجفاة والأغبياء، إلى أحاديث ونوادر مبثوثة في الكتاب. وهو من أجل وثائق الأدب العربي في الجاهلية والإسلام، وكل من ألف بعده في الأدب نهج على منواله على ما فيه من نقص في التنسيق. (2)
Unknown page
كتاب الحيوان: أهداه إلى الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، فأعطاه خمسة آلاف دينار. وهو أول كتاب ألف في موضوعه يدخل في سبعة أجزاء، ويبحث عن طبائع الحيوان وما ورد فيه من الأخبار والقصص والنوادر والخرافات والفكاهة والمجون، وما قالته العرب فيه من الشعر، فضلا عما اختبره المؤلف بنفسه. وفي الكتاب استطرادات كثيرة يسوقها المؤلف لأدنى مناسبة، فينتقل بالقارئ من موضوع إلى آخر، وكثيرا ما تتسلسل المناسبات حتى يخرج عن الصدد، ولكن القارئ يقف في أثناء ذلك على أخبار ممتعة وفوائد قيمة تمثل له المعارف الإسلامية وما بلغته في القرن الثالث؛ فهناك أشعار الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والمحدثين، وهناك تفسير كثير من آي القرآن والحديث، وهناك آراء المتكلمين ومذاهب الفرق الإسلامية، وهناك شبه الملحدين والزنادقة والرد عليهم، أضف إلى ذلك معارف الهنود واليونان والفرس مما ترجمه العرب ومما تسوق إليه المناسبة في ذلك الكتاب، فضلا عن أنه يصور كثيرا من وجوه الحياة في القرن الثالث. (3)
كتاب البخلاء: كتاب طريف، جمع فيه الجاحظ أخبار البخلاء ونوادر الأشحاء، وصدره برسالة سهل بن هارون في البخل، وهي من أبلغ وأمتع وأنفس ما كتب في هذا الموضوع. والكتاب ممتع جذاب لما فيه من الفكاهات الطلية والأماليح التي تدور حول البحث، ولقد أضاف إليه الجاحظ ما انفق له من النوادر مع بعض البخلاء، ولا يخلو الكتاب من آراء سديدة في الاقتصاد والتدبير، كل ذلك بأسلوب رشيق يستهوي القارئ. (4)
كتاب المحاسن والأضداد: كتاب حسن، جمع الجاحظ فيه نحو ثمانين موضوعا متقابلة؛ فهو يعقد للموضوع فصلا يذكر فيه محاسنه، ثم يعقبه بضده، وهكذا إلى آخر الكتاب. وقد بدأه بذكر محاسن الكتابة، وختمه بذكر شيء من محاسن الموت. وجميع المواضيع التي عالجها ذات بال، كمحاسن الجواب والمشورة والعفو والوفاء وحب الوطن وأضدادها. وقد صرح الجاحظ في المقدمة بأنه لم يسبق إلى هذا الكتاب بقوله: «وهذا كتاب وسمته بالمحاسن والأضداد، لم أسبق إلى نحلته، ولم يسألني أحد صنعه.» والكتاب من أكثر كتب الجاحظ تنسيقا وترتيبا، وأشدها مراعاة لحسن التبويب، وضم كل معنى إلى مشاكله، وقد جرى على سننه البيهقي فألف كتابا سماه المحاسن والمساوي. (5)
كتاب التاج في أخلاق الملوك: يبحث عما يتعلق بأمور الملوك في السياسة والتدبير، وفي حياتهم الخاصة وآداب مجالستهم ورسوم الدخول عليهم ومحادثتهم، وما إلى ذلك من أحوالهم العامة والخاصة، وفيه شواهد عن ملوك الفرس وخلفاء العرب. والكتاب يدل على ما بلغه العرب من العزة والسلطان، ورسوخ قدمهم في الحضارة، وما أظن أن رسوم أعرق قصر بالمدنية في الوقت الحاضر تفوق ما ورد في ذلك الكتاب من الرسوم والآداب. (6)
الفصول المختارة من كتب الجاحظ: وهو كتاب اختاره عبيد الله بن حسان من عشرين كتابا للجاحظ، وهذه أسماؤها: كتاب الحاسد والمحسود، كتاب المعلمين، كتاب التربيع والتدوير، كتاب مدح النبيذ، كتاب طبقات المغنين، كتاب النساء، كتاب مناقب الترك، كتاب حجج النبوة، كتاب مسائل القرآن (وفيه بحث عن خلق القرآن)، كتاب الرد على النصارى، كتاب المودة والخلطة، كتاب استحقاق الإمامة، كتاب استنجاز الوعد، كتاب تفضيل النطق على الصمت، كتاب صناعة الكلام، كتاب مدح التجارة وذم عمل السلطان، كتاب الشارب والمشروب، كتاب الإمامة، كتاب مقالة الزيدية والرافضة. (7)
ثلاث رسائل للجاحظ، هي: الرد على النصارى (التي مر ذكرها مع الفصول المختارة)، ذم أخلاق الكتاب، رسالة القيان. (8)
الحنين إلى الأوطان. (9)
إحدى عشرة رسالة طبعت في مصر، ذكر أكثرها في الفصول المختارة، وما لم يذكر منها هو : فخر السودان على البيضان، كتاب الوكلاء والموكلين. (10)
رسالة في بني أمية: وقد سماها بعضهم رسالة النابتة. (11)
كتاب الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير: فيه كثير من الأدلة العقلية على وجود الخالق وحكمته وتدبيره، وهو كتاب قيم وأسلوبه عال، ولكنه بأسلوب الحكماء أشبه. (12)
Unknown page