ومن ثم كان التجريد نتيجة للانتباه إلى نقاط الاتفاق في الأشياء واستبعاد نقاط الاختلاف، أو العكس. أعني الانتباه إلى نقاط الاختلاف واستبعاد نقاط الاتفاق، وفي كلمة واحدة التجريد هو انتباه طارد.
والتجريد هو الخطوة الضرورية في تكوين التصورات؛ فالتصور هو الفكرة المجردة للطابع الذي يتفق فيه عدد من الموضوعات الجزئية، وهو ينشأ من الانتباه إلى بعض خصائص الموضوع، أو لعدد الموضوع، أو لعدد من الموضوعات المتشابهة، واستبعاد الخصائص الأخرى، ففي تكويننا لتصور عام أو فكرة مجردة عن المربع مثلا ترانا ننتبه إلى موضوعات مربعة متعددة، ثم نسقط منها المواد التي تتركب منها هذه الموضوعات، وكذلك الأماكن التي تشغلها وحجمها ... إلخ، وننتبه فقط إلى شكلها، وبذلك نكون فكرة عن الطابع الذي تتفق فيه هذه الموضوعات، أعني أننا نكون تصورا للمربع.
وحتى لو قيل (كما قال - مثلا - باركلي وهيوم) إنه من المستحيل أن نجرد شيئا من شيء آخر، أو أن نتصور الخصائص منفصلة؛ لأنها لا توجد منفصلة على الإطلاق، وأن الكلي يعتمد على جزئي يكون ممثلا لغيره - فسوف يبقى صحيحا مع ذلك كله. إننا نستطيع، بفضل الانتباه وحده إلى نقاط التشابه بين أعضاء الفئة الواحدة، واستبعاد نقاط الاختلاف، أن نعرف الجزئي الواحد على أنه ممثل للفئة بأسرها.
ومن هنا فإن عملية التجريد وتكوين التصورات مشروطة مقدما بالانتباه وما يقوم به من انتقاء واختيار. وقل مثل ذلك في الحكم، فالحكم هو الفعل الذي يحتل مضمونا فكريا إلى واقع متجاوز لذلك الفعل، ونحن في مثل هذه الإحالة للمضمون الفكري إلى الواقع المقابل ترانا نقارن بين تصورين من حيث علاقتهما بموضوع مشترك. وطالما أن الحكم يتألف من مجموعة من التصورات، وطالما أن التصورات جاءت نتيجة انتقاء صفات معينة واستبعاد صفات أخرى، فإن الحكم - بالتالي - يفترض مقدما الانتباه الذي يختار ويرفض.
ويمكن أن يقال نفس الشيء في عملية الاستدلال، فمهما يقال عن الاستدلال من آراء فسوف يبقى في النهاية أنه إدراك لعلاقات جديدة: «الفعل الأساسي لقوة الاستدلال عندنا يعتمد على إظهار مثل جديد لظاهرة من الظواهر مهما تكن معرفتنا السابقة بشبيه هذه الظاهرة أو مماثلها أو نظيرها أو مساويها.»
فالتشابه أو الهوية تظهر في جميع الدرجات، وتعرف بأسماء مختلفة، لكن القاعدة الكبرى للاستدلال تشمل جميع الدرجات، وتؤكد أنه طالما وجد تشابه أو هوية أو مشابهة «بين شيئين» فإن ما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر.
73
وإدراك علاقات جديدة بين تصويرين تستلزم بالضرورة درجة من التجريد - تجريد للخصائص الجزئية التي نجد أنها ترتبط معا بهذه الطريقة أو تلك، والتجريد كما قلنا هو انتباه طارد. (42) إن فهم الذات على أنها الفاعل السيكوفيزيقي بمقدار ما ينتبه إلى موضوع ما، يمكن أن يفسر وحدة هذه الذات واستمرارها على النحو التالي: إن وحدة التنوع الحالي للذات يفسره أولا قولنا إن الفاعل في حالة الانتباه يعمل كفرد، أعني ككل وليس كمجموعة من الأجزاء. ويفسر ثانيا أن الموضوع الذي ينتبه إليه يؤخذ ككل، أعني كعرض واحد، أيا ما كانت العناصر التي يمكن أن نحلله إليها من الناحية العقلية. وبعبارة أخرى: الفرد المنتبه واحد، والموضوع الذي ننتبه إليه واحد باستمرار، رغم كثرته. والواقع أن «واحدية
Oneness » الموضوع إنما ترجع إلى وحدة الفرد المنتبه. الشعور بوحدة نشاط الانتباه ترجع «الواحدية» التي يضفيها هذا النشاط على عناصر الموضوع.
ويمكن أن نفسر استمرار الذات من ناحية أخرى بطبيعة ما نسميه باسم «لحظة الانتباه» أو لحظة الشعور. ولقد رأينا أن لحظة الانتباه تتألف من «قبل» و«بعد»، دون أن ننظر إلى عنصر «القبل» على أنه تعبير عن الماضي، أو إلى عنصر «البعد» على أنه تعبير عن المستقبل. ذلك لأن «قبل وبعد» هما في آن معا، جزآن من كل واحد، هو الحاضر الرواغ. وهذا الحاضر الرواغ يتحرك إلى الأمام، بحيث «تنخر» رأسه في المستقبل، ويتوارى ذيله في الماضي، ويبقى في الذاكرة . وفي هذه الحركة الأمامية المستمرة يصبح ما كان «بعدا» «قبلا». خذ مثلا لحظتين متتاليتين من لحظات الانتباه.
Unknown page