استخدمت على سبيل التيسير، لا لأنها ضرورية. ومع ذلك فأنا أشعر أنه من المرجح جدا أن يكون الاستخدام الذي لا مفر منه للضمائر دليلا على وجود ذات لها هوية أيا كان معني هذه الذات. ولقد قام «ريموند هويلر
R. whecler » بدراسة تجريبية كان هدفها البحث عما إذا كان من الممكن استبطان مثل هذه الذات. وانتهى إلى أن الأشخاص الذين أجرى عليهم التجربة قد فشلوا - عن طريق استخدام الاستبطان - في اكتشاف أي لون من هذه الذات التي لا تقبل التحليل.
24
غير أن تقارير الأشخاص المفحوصين الذين قاموا بعملية الاستبطان في تجارب «هويلر» صيغت في عبارات مثل: «سألت نفسي» و«حالتي الخاصة» ... إلخ، إلخ، واستخدام الضمائر الشخصية بصورها المختلفة قد لا يكون بالطبع - كما سبق أن ذكرنا - أكثر من لغة مناسبة أو وسيلة سهلة لا ينبغي أن نستنتج منها أية نتائج فيما يتعلق بوجود ذات أو نفس. لكن يبدو لي أننا ينبغي أن نقول على الأقل إنه طالما أن أولئك الذين ينكرون أنهم خبروا الذات قد مارسوا ميزة استخدام كلمات تعني بوضوح الاعتراف بوجود الذات، فلا شك أن هناك احتمالا سيظل قائما، وهو أنه يمكن أن يكونوا قد خبروا فعلا - بطريقة ما - ذلك الذي ينكرونه من الناحية الشكلية. وبعبارة أوضح: إننا لا نستطيع أن نرفض وجود الذات رفضا قاطعا اللهم إلا إذا كان من الممكن أن نعبر عن أنفسنا تعبيرا تاما لا نستخدم فيه إلا الحوادث الذهنية دون أن نلجأ بعد ذلك إلى استخدام الأشكال المختلفة للضمائر الشخصية. ومن ناحية أخرى فسوف نبين بعد قليل أن الاستبطان ليس هو المنهج السليم، الذي يصلح لاكتشاف الذات، ذلك لأن ما نتوقع أن نكشف عنه باستمرار من خلال الاستبطان هو هذه الحالة أو تلك من الحالات الذهنية، أما الكشف عن الذهن نفسه فينبغي ألا نتوقع أبدا أن نصل إليه بهذا المنهج. (13) لقد أعلن هيوم أنه كلما حاول أن يستبطن «نفسه» فإنه «يعثر» باستمرار على حادثة ذهنية معينة بدلا من هذه «النفس»، ومن هنا استنتج أنه ليس لدينا معرفة بشيء اسمه «النفس». لكن القول بأن «النفس» - أو الذهن - لا يمكن أن تخضع للاختبار عن طريق الاستبطان قد يظهرنا - لا على أنه ليس هناك ذهن أو نفس - بل على أن هيوم استخدم منهجا خاطئا حين اختار الاستبطان منهجا لاكتشاف النفس أو الذهن. ولو أننا فشلنا في استبطان الذهن بما هو كذلك، ألا يمكن أن يكون في استطاعتنا مع ذلك أن ندركه باستخدام المنهج الجدلي؟ والمنهج الجدلي يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض. وذلك يعني أن نتناول بالدراسة والفحص بعض المواقف السيكولوجية لنرى أننا نناقض أنفسنا إذا ما أنكرنا وجود الذهن كشيء تتضمنه هذه المواقف، وفي هذه الحالة نضطر إلى إثبات وجود الذهن.
وإذا ما أخذنا الآن عبارة هيوم وطبقنا عليها هذا المنهج فسوف نجد ما يلي: يقول هيوم «إنني إذا ما توغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني أعثر دائما على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك ... إنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا هذا الإدراك.»
25
لكن قوله بأنه يتوغل داخلا إلى صميم نفسه، معناه أنه ينتبه إلى نفسه، أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يشير إلى الذهن أو العقل؟ إن وجهة النظر التي يعرضها هذا البحث على نحو ما سنعرف فيما بعد هي أن الذهن
Mind
عبارة عن ثنائية لا تنفصم بين الانتباه وموضوعه. ومهما قيل في معارضة هذه النظرية، وبأي معنى شئت أن تفهم به «الذهن»، فلا بد من النظر إلى الانتباه على أنه وظيفة هذا الذهن. وعلى ذلك فكلما «توغل» هيوم داخل نفسه فإنه ينتبه، ومن ثم فهو يفترض مقدما وجود الذهن.
وسوف نلاحظ أن المنهج الجدلي الذي نقترحه هنا لإدراك الذهن هو نفسه المنهج الذي استخدمه «ديكارت» حين أثبت وجود نفسه بوصفها عملية تفكير. فديكارت لم يزعم أن الذهن موجود لأنه اكتشفه عن طريق الاستبطان، لكنه زعم وجوده لأنه اكتشف أنه متضمن في موقف معين كان يقوم بفحصه، ووجد أن إنكار الذهن لا يعني سوى إعادة إثباته من جديد؛ فنحن أثناء عملية الاستبطان نكون على وعي مباشر بالحالة النفسية التي نقوم بفحصها، لكننا بالإدراك الجدلي الذي نقترحه هنا لاكتشاف الذهن، نستنتج وجوده لأننا نجد أنه من الضروري أن يكون متضمنا في المواقف السيكولوجية.
Unknown page