يقول جابر ما نصه: «إنه ينبغي أن تعلم أولا موضع الأوائل والثواني في العقل، كيف هي، حتى لا تشك في شيء منها، ولا تطالب في الأوائل بدليل، وتستوفي الثاني منها بدلالته.»
49
وإن هذا النص القصير الموجز ليرسم حدود المنهج الرياضي في تركيز واضح؛ ولسنا نقصر «المنهج الرياضي» على العلوم الرياضية وحدها، بل إنه منهج ينتهج في أي بحث علمي آخر ما دام الباحث ينشد يقين النتائج ولا يكتفي بالنتائج الظنية؛ وهو منهج يوصي به فلاسفة كثيرون، وعلى رأسهم ديكارت في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث؛ فلو شئت تلخيصا للمنهج الديكارتي كله، لما وجدت خيرا من هذا النص الموجز الذي أسلفناه عن جابر بن حيان.
يفرق جابر في النص المذكور بين ما أسماه «بالأوائل» وما أسماه «بالثواني» في العقل؛ أما الأوائل فهي بطبيعة كونها أولة في العقل لا تكون مستنبطة من سواها، وإلا لما كانت أولة ولسبقها غيرها، هو هذا الذي استنبطناها منه؛ ولذلك فلا يطلب على صدق «الأوائل» برهان سوى حدسها حدسا صادقا ومباشرا، أو رؤيتها بالعيان العقلي رؤية مباشرة؛ وأما «الثواني» فهي التي تأتي بعد ذلك عن طريق الاستنباط من «الأوائل»؛ وهذه الثواني هي التي يطلب عليها الدليل، ودليلها هو أن يردها الباحث إلى الأوائل التي جاءت الثواني منها نتائج لازمة عنها؛ فهكذا تكون الرياضة - كالهندسة مثلا - إذ تبدأ بمسلمات مفروضة الصدق، ولا يطلب على صدقها برهان، ثم تستنبط منها «النظريات» التي يكون دليل صدقها هو إرجاعها إلى المسلمات الأولية التي منها جاءت.
وإن رجال المنهج العلمي ليختلفون - وما يزالون يختلفون إلى يومنا هذا - أي المنهجين أولى في البحث العلمي: الاستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق، أم الاستنباط الذي يضمن اليقين في النتائج؟ على شرط أن تكون مقدماته يقينية، ولا تكون المقدمات كذلك إلا إذا جاءت عن غير طريق الملاحظة الخارجية، أي أنها تجيء عن طريق الإدراك الحدسي المباشر من الداخل، أم أنه لا بد من الجمع بين هذا وذاك: فنلاحظ ظواهر الطبيعة أولا، ثم نحدس بالعيان العقلي فرضا نفرضه لتفسير ما قد لاحظناه، ثم نركن إلى الاستنباط في استخراج ما يلزم عن ذلك الفرض لزوما عقليا؟ ... إن لكل من هذه الاتجاهات من يناصره؛ ف «فرانسس بيكن» (1561-1626م) مثلا نصير للملاحظة الخارجية وحدها؛ و«ديكارت» (1596-1650م) نصير للاستنباط العقلي وحده، و«جون ديوي» (1859-1952م) نصير للجمع بين الملاحظة الخارجية والاستنباط معا.
وها هو ذا عالمنا العربي جابر بن حيان - فيما نرى - يضطر إلى الاستنباط والاستقراء معا في منهجه، وإن يكن - فيما أظن - لا يجمع بينهما في عملية منهجية واحدة؛ إذ يجعل لهذا موضعه ولذاك موضعه، فبينما تراه يؤكد ضرورة الملاحظة الخارجية في تجاربه العلمية - كما أسلفنا القول في ذلك - تراه من ناحية أخرى يبني مذهبه العلمي كله على أساس لو حللته لوجدته هو المنهج الرياضي الاستنباطي بعينه: فحدوس أولية يراها العقل رؤية مباشرة (أو يوحي بها إلى نبي ثم يتوارثها الخلفاء الشرعيون من بعده) ثم نتائج تلزم عن تلك الحدوس.
فليس الفرق بين المنهجين - في حقيقة الأمر - فرقا سطحيا وكفى، بل إنه ليضرب بجذوره إلى أعماق الفلسفة التي يصطنعها الباحث العلمي عن الكون: أهو يسير على اطرادات يجيء فيها تعاقب الأحداث أمرا واقعا لكنه لا يهدف إلى شيء، أم أنه يسير على خطة عقلية تستهدف غاية معلومة؟ فإن كانت الأولى فما على العالم إلا أن يلاحظ تعاقب الأحداث المطردة ويسجل ملاحظاته فتكون هي قوانين الطبيعة؛ وإن كانت الثانية فالأمر أمر تحليل عقلي يرتد بنا إلى المبدأ الأول الذي عنه صدرت الظواهر كلها؛ فها هنا في هذه الحالة الثانية تكون العلاقة السببية بين الظواهر علاقة ضرورية، بمعنى أن المسبب يكون كامنا في السبب بالقوة، ثم يخرج إلى الظهور بالفعل خروج النتيجة العقلية من مقدمتها الملزمة لها، لا مجرد ظهور اللاحق الذي يلحق سابقه دون أن تكون بينهما أية رابطة باطنية داخلية تجعل طبيعة اللاحق منبثقة من طبيعة السابق.
ولست أشك في أن فلسفة جابر الكونية هي فلسفة عقلية تربط الأشياء بالروابط السببية الضرورية، التي يكشف عنها التحليل العقلي؛ فالسببية عنده هي سببية الكمون أو هي سببية المحايثة - كما تسمى أحيانا - هي السببية التي لا تجعل تلاحق السبب والمسبب أمرا عارضا قد يكون وقد لا يكون، بل تجعله أمرا ضروريا محتوما؛ ما دام المسبب كان موجودا في سببه بالقوة قبل ظهوره بالفعل، فكأنما السبب يلد مسببه ولادة طبيعية. يقول جابر: «إن في الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الإخراج.»
50
وأظن أن دلالة هذه الجملة واضحة في أن الكون كله مترابط في وحدة واحدة؛ فإذا رأيناه يتخذ ظواهر متعددة، فهذه الظواهر يرتد بعضها إلى بعض ويخرج بعضها من بعض؛ والكل في النهاية يرجع إلى أصل واحد كان يحمل كل شيء في جوفه بالقوة ثم ظهر منه كل شيء بالفعل. والعقل - دون مشاهدة الحواس - هو بالطبع ما يدرك هذه الرابطة بين الأشياء المختلفة في ظاهرها، المتحدة في أصلها ومصدرها؛ على أن الأشياء يخرج بعضها من بعض على صورة طبيعية أحيانا، وعلى صورة مصطنعة مدبرة من الإنسان أحيانا أخرى، وهذه الحالة الثانية هي مجال العلم؛ أي أن التجارب العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض إنما تحاكي الطبيعة فيما تؤديه من هذا الإخراج؛ فيقول جابر في ذلك: «التدبير على القصد المستقيم (= التجربة العلمية السليمة) هو الذي يخرج ما في قوى الأشياء، مما هو لها بالقوة، إلى الفعل، فيما يخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يخرج.»
Unknown page