وهاك عبارة وردت في كتابه «الرحمة»
28
يصف بها تجربة أجراها، وهي تدل على دقة ملاحظته. قال ما معناه: كان لدي حجر ممغطس يرفع قطعة من الحديد وزنها مائة درهم، وحفظته عندي زمنا طويلا، ثم جربته على قطعة أخرى من الحديد، فلم يرفعها؛ فظننت أن هذه القطعة الثانية من الحديد قد تكون أكبر وزنا من القطعة الأولى، فوزنتها ووجدتها أقل من ثمانين درهما، ومن هنا استنتجت أن قوة الحجر الممغطس قد نقصت، على الرغم من ثبات وزنه.
ويطلق «جابر» اسم «التدريب» على ما نسميه نحن اليوم «تجربة»، وهو يجعل إجراء التدريبات (= التجارب) العلمية شرطا أساسيا للعالم الحق: «فمن كان دربا كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل.»
29
على أن جابرا قد يذكر حقيقة ما على أنها مستندة إلى تجربة أجريت، على حين أن الخطأ فيها واضح؛ كأن يقول مثلا: «إن من أخذ ثورا - وإن كان أحمر اللون فهو أجود - ثم أدخل بيتا فطرح له من ورق الحاشاشيا ثم سد عليه الباب الذي دخل منه، وفتحت له في أعلاه أربع كوى كما يدور البيت، فترك الثور حتى يموت ويعفن، تولد عنه زنبور النحل.»
30
والخطأ العلمي هنا واضح، فحتى لو أعفيناه من خطأ القول إن حشرة ما تتولد من غير طريق نسلها الصحيح، على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية حقيقة كون الكائن الحي يستحيل أن يتولد إلا عن كائن حي، ولا يتولد قط من غير الحي، أقول إننا لو أعفيناه من هذا الخطأ على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية ربما تكون قد كشفت في عصر لاحق لعصره، فكيف نعفيه من الخطأ المنهجي في تفضيله للثور الأحمر في أداء هذه التجربة؟ (6) الاستنباط والاستقراء
لكننا من قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تطابق ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم، وهي تتلخص في ثلاث خطوات رئيسية؛ الأولى: أن يستوحي العالم مشاهداته فرضا يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها، والثانية: أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف، والثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة؛ فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو أن ظروفا بعينها توافرت.
فطريق السير إذن هو هذا: مشاهدات توحي بفروض، ثم استنباط للنتائج التي يمكن توليدها من تلك الفروض، ثم مراجعة هذه النتائج على الواقع. وعندئذ فإما أن نقبل الفروض التي فرضناها أو نرفضها تبعا لصدق نتائجها على الواقع؛ ولقد اصطلح رجال المنطق على أن يطلقوا كلمة «الاستقراء» على مرحلتي المشاهدة الأولى والتطبيق الأخير؛ لأن في كليهما لمسا للوقائع العينية واستقراء لها، كما اصطلحوا على أن يطلقوا على مرحلة استنباط النتائج التي يمكن توليدها من الفروض، اسم «الاستنباط»، وهو عملية تتم في الذهن؛ وهنالك من العلوم ما هو استنباطي صرف كالرياضة، ومنها ما هو استنباطي استقرائي معا كالعلوم الطبيعية.
Unknown page