مقدمة
من هو الرجل
عالم ومنهجه
تصنيف العلوم
سر اللغة وسحرها
فلسفة الكون
فعل البروج والكواكب
علم الكيمياء
جدل الفيلسوف
بين العلم والخرافة
مقدمة
من هو الرجل
عالم ومنهجه
تصنيف العلوم
سر اللغة وسحرها
فلسفة الكون
فعل البروج والكواكب
علم الكيمياء
جدل الفيلسوف
بين العلم والخرافة
جابر بن حيان
جابر بن حيان
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
كنت أحاضر طلابي في الجامعة ذات يوم، وكان موضوع المحاضرة متصلا بمناهج البحث العلمي، وكانت المادة التي أعرضها في المحاضرة مستمدة من علماء الغرب وفلاسفته؛ ذلك لأن العلوم الطبيعية حديثة النشأة، لم تكد تولد قبل عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، ولم نذكر العلوم الرياضية؛ لأنها أقدم نشأة وأسبق تطورا من العلوم الطبيعية، وأما قبل ذلك فقد كانت مختلطة بأصول فلسفية، معتمدة في أغلب الأحيان على تأمل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعقبة وتجريب دقيق صارم. ولما كانت الحضارة الإنسانية منذ النهضة الأوروبية قد اتخذت الغرب - أوروبا وحدها أولا، ثم أوروبا وأمريكا معا بعد ذلك - مقرا لها في طريقها الطويل الذي أخذت تنتقل خلاله من موطن إلى موطن، فقد بات الغرب - إبان الثلاثة القرون الأخيرة - هو مركز العلم، فلا مندوحة لمن يريد التحدث عن أصول العلم وفلسفته ومنهجه، عن الرجوع إليه ليستقي منه مادة حديثة.
غير أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها، حتى سألني طالب، وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يرجع إليه ويستفاد من مناهجه؟ ... وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى - في الشرق وفي الغرب على السواء - وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان لنقدره قدره أولا، ولنزداد به فهما لما هو كائن ثانيا، وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحا علينا بأن ينهض منا من يؤديه.
وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحين أن ألبي رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل؛ وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان.
لكني ما كدت أبدأ العمل حتى أخذت الصعاب تزداد أمام عيني ازديادا سد علي الطريق مرارا، فكم من مرة وهنت العزيمة يأسا، وكم من مرة ملأت نفسي بالعزيمة من جديد؛ وأصعب تلك الصعاب هو أن ليس بين أيدينا هنا إلا عدد قليل من مؤلفات ابن حيان التي يعدونها بالمئات، وأما بقيتها فهي لا تزال في صورها المخطوطة مبعثرة في مكتبات أوروبا؛ ولو أراد الباحث أن يوفي موضوعه حق البحث الصحيح، لالتزم أن يطلع على النصوص الأولية جميعا قبل أن يخط من بحثه سطرا واحدا؛ فما بالك وابن حيان يحذر قارئه في مواضع كثيرة من رسائله ألا يهم أحد بدراسته إلا إذا جمع مؤلفاته كلها، حتى لتراه يتهكم أحيانا على من يكتفي ببضعة من كتبه ليستدل منها مذهبه كاملا؛ فالجزء - كما يقول - لا يسوغ الحكم على الكل، وأحسب أن لو بعث ابن حيان اليوم ليلقي نظرة على كتابي هذا عنه، لألقاه مزورا مغضبا؛ لأنها دراسة لم توف الشرط الجوهري في بحث علمي، واستغنت بالقليل عن الكثير.
لكن شفيعنا عند ابن حيان لو ألقى إلينا بهذا اللوم، هو: أولا - أنه هو نفسه كثيرا جدا ما أنبأنا في رسائله أن طريقته في التأليف هي أن يعيد في كل كتاب ما قد أورده في سائر كتبه، ولكنها إعادة بصورة جديدة، فكأنما الكتب يوضح بعضها بعضا، ولا يضيف بعضها إلى بعض؛ فإذا كنا قد اكتفينا بما بين أيدينا من مؤلفاته - ومنها ما يقال عنه إنه أهم كتبه جميعا، وهو كتاب الخواص الكبير - فلم يفتنا شيء من مذهبه، وإن فاتتنا ألوان أخرى من التعبير كان يمكن لهذا المذهب نفسه أن يصور بها؛ وثانيا - لو أننا انتظرنا لا نكتب عنه إلا بعد أن تتكامل لنا مؤلفاته كلها، فالأرجح جدا أن يظل مهملا أمدا طويلا من الزمن، لا نعرف عنه إلا اسمه، فينهض من طلابنا من يسأل: لماذا لم تحدثونا عن علمائنا العرب بمثل ما تتحدثون به عن علماء الغرب؟
وأيا ما كانت الأسباب التي تشفع لي أو لا تشفع لي هذا الصنيع، فها أنا ذا قد صنعت ما صنعته، متقدما به إلى كل قارئ يود أن يذوق بطرف اللسان حسوة من عالم عربي أصبح اسمه في تاريخ العلم مرتبطا بعلم الكيمياء ارتباطا شديدا، لا في الشرق العربي وحده، بل وفي أوروبا كذلك، التي لم تكد تعرف جامعاتها مراجع تدرس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر إلا كتب جابر بن حيان.
كان جابر - شأنه في ذلك شأن رجال العصور الوسطى جميعا، يستمد أصوله الفكرية من تراث اليونان، ثم يبني عليها ما شاءت له قدرته أن يبني من علم جديد. ومن التراث الفلسفي اليوناني أخذ جابر فكرة الطبائع الأربع الأولية التي منها نشأت الكائنات جميعا، وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ ولو قلنا ذلك بلغة اليوم لقلنا إنها الحرارة بدرجاتها المختلفة والصلابة بدرجاتها المختلفة، وإذا كانت الحرارة في جوهرها حركة، وإذا كانت الصلابة في جوهرها تقاربا في ذرات الجسم الصلب، فالأصول الأولية - بلغة اليوم - هي حركة الذرات، التي إن ازدادت سرعة كانت حرارة، وإن قلت سرعة كانت برودة، وإن تزاحمت كانت صلابة، وإن تباعدت كانت ليونة - ومهما يكن من أمر، فقد أخذ جابر عن التراث اليوناني هذه الطبائع الأولية الأربع، وجعلها أصلا للكائنات جميعا.
هذه الطبائع الأربع الأولية تجتمع اثنتين اثنتين فتكون أجساما أربعة: فالحرارة واليبوسة معا يكونان النار، والحرارة والرطوبة معا يكونان الهواء، والبرودة واليبوسة معا يكونان الأرض، والبرودة والرطوبة معا يكونان الماء؛ وليس في الطبيعة كائن يخلو تركيبه من أن يكون واحدا من هذه الأجسام، أو مزيجا مركبا منها، لا فرق في ذلك بين جماد ونبات وحيوان إلا في نوع المركب ودرجة التركيب.
وإذا كانت أصول الأشياء مشتركة بينها جميعا، جاز أن نحول بعضها إلى بعض، لا نحتاج في ذلك إلا إلى دراسة الجسم الذي نريد تحويله والجسم الذي نريد الحصول عليه، لنرى فيم يتفقان وفيم يختلفان، فنضيف الناقص ونحذف الزائد حتى نحصل على ما نريد الحصول عليه.
ولعل أهم ما شغل جابرا من ذلك هو تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ ونظريته في ذلك مؤداها أن للمعادن مقومين أساسيين هما: الكبريت والزئبق - وهذان بدورهما قد تكونان في جوف الأرض على مر الزمن الطويل من العناصر الأساسية: النار والهواء ... إلخ، وما من معدن بعد ذلك إلا وهو تركيب من زئبق وكبريت بنسب مختلفة؛ وعمل الكيموي في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها، لولا أن الطبيعة قد استغرقت آمادا طوالا في تكوين ما كونته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها، على حين يستطيع العالم بتجاربه أن يختصر الزمن إلى برهة وجيزة - وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب.
لكن جابرا لم يكن كيمويا وكفى، بل كان كذلك فيلسوفا، يتصور الأمور كما يتصورها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة، يبحثون لها عن مبدأ أول ثم يفرعون منه الفروع، وهكذا فعل جابر، فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الأول.
وقد قسمت هذا الكتاب تسعة فصول لأصور بها جابرا من شتى نواحيه، تصويرا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرف شيئا عن شخصه متى عاش، وبمن تأثر، وأي كتب ألف؟ وفي الفصل الثاني والفصل الثالث معا ألقيت الضوء على منهجه العلمي، حتى تسهل المقارنة بعد ذلك بينه وبين فلاسفة المناهج العلمية الذين ألفنا دراستهم في هذا الباب؛ وفي الفصل الرابع تحدثت عن فلسفته اللغوية لأهميتها الشديدة بالنسبة إلى نظرياته الكيموية؛ وذلك لأن الرأي عند ابن حيان هو أن الاسم دال على طبيعة مسماه، فالعلاقة وثيقة بين اللغة من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فلا مندوحة لمن أراد تصريف الأشياء الطبيعية عن معرفة الأسماء والعبارات التي جاءت لتدل على تلك الأشياء، وهي لم تجئ جزافا، بل جاءت من إملاء العقل الذي اهتدى بطبيعة المسمى قبل أن يضع له اسما يدل عليه؛ فإذا ما فرغنا من فلسفته اللغوية، خرجنا إلى حيث الكون الخارجي، وقد جعلنا الفصل الخامس مجالا لذكر فلسفة جابر الكونية، وألحقناه بالفصل السادس عن البروج والكواكب التي فضلا عن كونها جزءا من الكون واجب الدراسة لذاته، لكنها أيضا ضرورية لدراسة طبائع الأشياء نفسها، ما دامت البروج والكواكب تحدد الزمن، والزمن أمر حيوي في تكوين أي شيء مهما كانت طبيعته. وهنا نجد الطريق قد مهد تمهيدا صالحا لنبدأ الحديث في أخص خصائص جابر بن حيان، ألا وهو علم الكيمياء عنده، وقد تحدثنا عنه في الفصل السابع؛ وأردفناه بفصل يصور جابرا الفيلسوف، ثم ختمنا الكتاب بفصل تاسع وأخير يبين كيف لم يسلم هذا العالم من شطحات الخيال.
وأنه لواجب علينا في هذا المقام أن نحيي ذكرى «بول كراوس» الذي لولا ما قدم إلينا من مخطوطات لجابر، جمعها من مختلف المكتبات في أوروبا، ونشرها في كتاب «مختار رسائل جابر بن حيان»، وذلك بالإضافة إلى مجلدين ألفهما في جابر بن حيان، تحدث فيهما حديثا مستفيضا عن كتبه ومذهبه، أقول إنه لولا هذه الآثار العلمية الجليلة التي تركها «كراوس»، لكانت الكتابة عن ابن حيان - بالنسبة لي على الأقل - ضربا من المحال؛ فقد اعتمدت كل الاعتماد على مجموعة المختارات التي نشرها من رسائل جابر، بالإضافة إلى ما هو موجود من رسائله في دار الكتب بالقاهرة مما لم ينشره «كراوس»، وهو قليل.
فلست أطمع في أن يعد كتابي هذا عن جابر بن حيان أكثر من محاولة متواضعة لإلقاء يسير من الضوء على حقيقته، وهي - فيما أعلم - أول محاولة من نوعها لمؤلف عربي.
زكي نجيب محمود
الجيزة في 24 يناير 1961
من هو الرجل
(1) شيء عن حياته
ها هو ذا علم من أعلام الفكر الإسلامي، كنا نتوقع أن نجد عنه الرواية المستفيضة والخبر اليقين، لكننا لا نصادف في ذلك إلا أقوالا متعارضة، قد بلغ فيها اختلاف الرأي حدا ينكر معه المنكرون أن رجلا كهذا قد شهده التاريخ، وهي قصة تتكرر مع كثيرين من نوابغ الفكر، كأنما الإنسانية تستكثر على نفسها أن ينبغ من أبنائها أحد يجاوز بنبوغه هذا حدا معلوما، فإن جاوزه قال عنه الخلف إنه أسطورة لفقها الخيال؛ فهوميروس قد وجد - وما يزال يجد - من أنكر وجوده؛ وشيكسبير قد وجد - وما يزال يجد - من أنكر وجوده، وامرؤ القيس قد وجد من تشكك في وجوده، وها هو ذا صاحبنا جابر بن حيان: «تقول عنه جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين إنه لا أصل له ولا حقيقة.» وقال بعضهم إنه حتى إن كانت له حقيقة تاريخية فهو لم يصنف هذه الكتب الكثيرة التي قيل إنه مصنفها، واستثنوا كتابا واحدا من كتبه نسبوه إليه، هو «كتاب الرحمة»، وأما بقية مصنفاته فقد صنفها غيره ثم نحلوه إياها - هذه رواية يرويها صاحب «الفهرست»
1
ثم يعقب عليها قائلا: «إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب، فيصنف كتابا يحتوي على ألفي ورقة، يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره - إما موجودا أو معدوما - ضرب من الجهل؛ وأن ذلك لا يستمر على أحد، ولا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا، وأي عائدة؟»
2
ولا يتردد ابن النديم في رفض هذه الدعوى، معترفا للرجل بأقل ما ينبغي الاعتراف به، وهو وجوده، قائلا إن أمره أظهر وأشهر من أن يخفى، وتصنيفاته أعظم وأكثر من أن ينكر وجود صاحبها؛ وكذلك أيضا فعل «كار دي فو» عند ذكره للرواية نفسها التي تزعم عن جابر أنه أسطوري لا حقيقة له في التاريخ؛ إذ قال: «إنها رواية نرفضها بغير تردد.»
3
ولا نكاد نقرر للرجل وجوده حتى نصطدم باختلاف آخر يسير حول اسمه، فهو آنا: «أبو عبد الله جابر بن حيان»
4
وهو آنا آخر: «أبو موسى جابر بن حيان».
5
وقد يكون مصدر الاختلاف في أن له ولدين بهذين الاسمين
6
ويقال إنه سمي «جابرا» لأنه هو الذي «جبر» العلم، أي أعاد تنظيمه.
وكذلك كان مسقط رأسه وتاريخ مولده موضع اختلاف؛ «فهنالك ما يسوغ لنا الظن بأنه فارسي ولد في طوس من بلاد خراسان.»
7 - وهي مسقط رأس الفردوسي الشاعر الفارسي، لكن رواية أخرى تقول: إنه من طرسوس، ورواية ثالثة تجعله صابئا من حران
8
ورواية رابعة يرويها «ليو الأفريقي» الذي أرخ سنة 1526 ميلادية لرجال الكيمياء في أفريقيا فيقول: إن كبيرهم هو: «جابر» الذي هو يوناني اعتنق الإسلام وكانت حياته بعد زمن نبي الإسلام بقرن من الزمان؛ وكذلك يرد اسم «جابر» مرة واحدة عند «ألبرت الكبير» منسوبا إلى مدينة إشبيلية، لكن جابرا المقصود هنا هو بغير شك جابر بن الأفلح الذي عاش في إشبيلية خلال القرن الحادي عشر الميلادي وألف في علم الفلك.
9
أما صفة «الكوفي» الذي ينعت بها في روايات كثيرة
10
فليست تدل على مكان مولده، ولكنها ترجع إلى مقامه فيها زمنا - وعلى كل حال فليس الأمر مقطوعا فيه برأي - فيقول ابن النديم: «وزعموا (أي الشيعة) أنه كان من أهل الكوفة ... وحدثني بعض الثقات ممن تعاطى الصنعة (أي الكيمياء) أنه كان ينزل في شارع باب الشام في درب يعرف بدرب الذهب (وذلك في الكوفة)، وقال لي هذا الرجل إن جابرا كان أكثر مقامه بالكوفة ... لصحة هوائها.»
11
وتمضي الرواية فتقول إنه قد حدث بعد وفاة جابر أن هدمت الدور في الحي الذي كان يسكنه، فكشفت الأنقاض عن الموضع الذي كان فيه منزله، ووجد معمله، كما وجد هاون من الذهب يزن مائتي رطل، وتقول الرواية إن هذا حدث في أيام عز الدولة ابن معز الدولة، والظاهر أن ما قد دعا جابرا إلى الإقامة في الكوفة زمنا، هو فراره من خطر كان محدقا به في عهد هارون الرشيد، والقصة - كما يرويها الجلدكي
12 - هي أنه: «قد أفضى بأسرار صناعته إلى هارون الرشيد وإلى يحيى البرمكي وابنيه: الفضل وجعفر، حتى لقد كان ذلك سببا في غناهم وثروتهم؛ فلما ساورت الرشيد الشكوك في البرامكة، وعرف أن غرضهم هو نقل الخلافة إلى العلويين، مستعينين على ذلك بمالهم وجاههم، قتلهم عن آخرهم، فاضطر جابر بن حيان أن يهرب إلى الكوفة خوفا على حياته، حيث ظل مختبئا حتى أيام المأمون، فظهر بعد احتجابه.»
وها هنا تنهض أمامنا نقطة أخرى من نقط الاختلاف عن حياة جابر، وهي تاريخ مولده؛ فعلاقته بالبرامكة - في عهد هارون الرشيد - يكاد يكون عليها إجماع، فإذا ذكرنا أن البرامكة قد لبثوا يتمتعون بثقة هارون الرشيد سبعة عشر عاما، منذ ولايته سنة 786 حتى سنة 803م - قبل موته بستة أعوام - تبين لنا خطأ التاريخ الذي ذكره حاجي خليفة في «كشف الظنون» من أنه قد توفي سنة 160ه (أي ما بين سنتي 776 و777م)، فلو فرضنا أن ولاية هارون الرشيد قد أدركت جابرا في صدر رجولته، كانت ولادته حوالي 750م أو قبل ذلك؛ وإذن فيمكن القول على وجه يقرب من اليقين أنه عاش خلال النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي والجزء الأول من القرن التاسع؛ وعن ذلك يقول هولميارد
13
الذي عني بدراسته: أن حياته امتدت خلال الشطر الأكبر من القرن الثامن.
وكما اختلف الناس في حقيقته التاريخية، واختلفوا في مولده مكانا وزمانا، واختلفوا في اسمه، فكذلك اختلفوا في أمره وإلى أي فئة أو مذهب ينتمي: «فقالت الشيعة إنه من كبارهم ... وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنفات؛ وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره، وأن أمره كان مكتوما.»
14
وحقيقة الأمر - كما سنرى في غضون هذا الكتاب - أنه كان الثلاثة معا: فهو من الشيعة سياسة، وهو من الفلاسفة جدلا، وهو من الكيمويين علما، ثم هو فوق هذا وهذا وذلك صوفي، حتى لقد لصقت صفة الصوفية باسمه كأنما هي جزء منه، فيدعى حيثما ورد ذكره جابر بن حيان الصوفي.
وإن جابرا ليتصل ذكره برجلين هما: خالد بن يزيد بن معاوية (توفي 704م)، وجعفر الصادق (700-765م تقريبا).
أما أولهما: «فهو أول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب ... ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام»
15
وقد أخذ جابر عن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان العلم،
16
وإن تكن شهرة جابر فيما بعد قد ألقت ظلا كثيفا على أستاذه.
ويروي ابن النديم عن خالد بن أبي سفيان أنه لم يكن هو الذي ترك الخلافة، ولكن الخلافة هي التي صرفت عنه واختزلت دونه؛ فقد جاء في الفهرست عن خالد أنه: «أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادا. يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة (الكيمياء)، فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني فلم أجد منها عوضا إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة (الكيمياء)، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة، ويقال - والله أعلم - إنه صح له عمل الصناعة، وله في ذلك عدة كتب ورسائل ...»
17
وأما «جعفر» الذي كثيرا ما يرد اسمه في كتابات جابر مشارا إليه بقوله: «سيدي»، فهنالك من يزعم أنه جعفر بن يحيى البرمكي، لكن الشيعة
18
تقول - وهو القول الراجح الصدق - إنه إنما عني به جعفر الصادق، وتقول إنه مرجح الصدق لأن جابرا شيعي، فلا غرابة أن يعترف بالسيادة لإمام شيعي.
19
هذا إلى وفرة المصادر التي لا تتردد في أن جعفرا المشار إليه في حياة جابر ونشأته، هو جعفر الصادق، فيذكر حاجي خليفة جابرا مصحوبا بعبارة: «تلميذ جعفر الصادق»،
20
ويقول كارا دي فو، وهو يتحدث عن جابر: «ومعلماه هما: خالد بن يزيد بن معاوية ... وجعفر الصادق.»
21
وفي مقدمة كتاب «الحاصل» لجابر
22
يقول هو نفسه: «... وقد سميته كتاب الحاصل؛ وذلك أن سيدي جعفر بن محمد - صلوات الله عليه - قال لي : فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب (الكتب التي ألفها جابر) وما المنفعة منها؟ ... فعملت كتابي هذا وسماه سيدي بكتاب الحاصل ...» وواضح أن هذا التوقير كله لا يكون موجها إلى برمكي؛ إذ كان جابر ذا مكانة ممتازة في بلاط الخليفة هارون الرشيد، وخالط أسرة البرامكة مخالطة الند للأنداد
23 - وإنما يوجه مثل هذا التوقير من شيعي إلى إمامه؛ على أن صلة جابر بجعفر لا بد أن تكون قصيرة الأمد؛ لأن وفاة جعفر كانت سنة 765م، وهو بعد مولد جابر بما لا يزيد عن عشرين عاما. (2) مزلته في علم الكيمياء
جابر هو كيموي العرب الأول، فهو أول من اشتهر علم الكيمياء عنه
24
وهو أول من يستحق لقب «الكيموي» من المسلمين
25
والظاهر أنه قد أصاب من ارتفاع المكانة وضخامة الثراء وبعد الصيت ما جعله موضع التقدير آنا وموضع الحسد والاضطهاد آنا؛ وأما التقدير فهو الذي أحاط اسمه بهالة من الجلال أزاغت عن حقيقته أبصار الكاتبين فيما بعد، حتى لتجد من يصفه منهم تارة بأنه: «ملك العرب»، وتارة أخرى بأنه: «ملك العجم»، وتارة ثالثة بأنه: «ملك الهند»
26
وقال عنه رسل الذي ترجم بعض مؤلفاته إلى الإنجليزية (لندن 1678م) إنه: «أشهر علماء العرب وفلاسفتهم.»
27
وقال عنه القفطي إنه: «كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيميا، وله فيها تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة.»
28
وحسبنا أن الرازي يشير إليه في كتبه الخاصة بعلم الكيمياء بقوله: «قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان.»
29
لكنه مع ذلك لا بد أن يكون قد لقي من الاضطهاد والحسد ما يلقاه كثيرون ممن ينبه ذكرهم في كل مكان وكل زمان، وإلا فما الذي دفعه إلى: «التنقل في البلدان، لا يستقر به بلد، خوفا من السلطان على نفسه؟»
30
وما الذي أطلق لسان القائل:
هذا الذي بمقاله
غر الأوائل والأواخر
ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر
31
بل إن الحقد قد تخطى أبعاد الزمن، حتى أدرك مؤرخا للعلم في العصر الحديث، أراد أن يضع جابر بن حيان في موضعه من تاريخ الكيمياء ، فاستكثر عليه أن يكون هو صاحب النظريات الكيموية ذات القيمة التي تنسب إليه في أوروبا، فراح يشطر إنتاجه شطرين: شطر فيه الدسم العلمي، نسبه إلى مؤلف قال عنه إنه مجهول، وإنه انتحل لمؤلفاته اللاتينية في العصور الوسطى اسم «جابر» ليحتمي بسمعته وشهرته، وشطر فيه تفاهة وغثاثة هو الذي يجوز نسبته إلى جابر العربي؛ أما هذا المؤرخ للعلم الذي أشير إليه، فهو «برتلو»
32
الذي زعم أنه حلل المؤلفات المنسوبة إلى جابر بن حيان في علم الكيمياء، وبعض هذا المؤلفات عربي خالص، وبعضها لاتيني وله أصل عربي، وبعضها لاتيني ولا توجد له صورة عربية؛ حلل «برتلو» هذه المؤلفات وزعم أن ثمة تفاوتا في مادتها وفي أسلوبها يتطلب التفسير.
ويتخذ «برتلو» من كتاب «الخالص»
33
لجابر بن حيان في ترجمته اللاتينية نموذجا للجانب الناضج من المؤلفات التي تنسب إلى العالم العربي، ويقول إن دراسة هذا الكتاب تدل على أنه ليس ينتسب إلى أصل عربي، لا في منهجه المتميز بإحكام السير في طريق الاستدلال حجة في إثر حجة إحكاما من شأنه أن يجمع المادة العلمية في سياق موحد متسق، ولا في الحقائق الواردة فيه، ولا في مفرداته اللغوية ولا في الأشخاص الذين يرجع إليهم في الفقرات المقتبسة. كل هذه جوانب من الكتاب يراها برتلو قاطعة بأن الكتاب لا يرتد إلى أرومة عربية؛ فعلى الرغم من أنه يشتمل - في رأي برتلو أيضا - على طائفة من الكلمات والعبارات التي ربما تكون مستعارة من جابر العربي، ألا أن المرجح هو أن الكتاب في جملته من عمل مؤلف لاتيني مجهول في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، لم يرد أن ينسب الكتاب إلى نفسه، ونسبه إلى أشهر الأسماء المعروفة عندئذ في علم الكيمياء، ألا وهو اسم «جابر» ليستفيد الكتاب شهرة بشهرة مؤلفه المزعوم.
ومضى برتلو يبحث في المخطوطات التي وجدها في باريس وفي ليدن، والتي تشتمل على مادة في الكيمياء تنسب إلى جابر بن حيان، ثم انتهى إلى أنه على الرغم من أنه لا يجد ما يسوغ نسبتها إلى جابر، إلا أنه لا يرتاب في أن مؤلفها عربي، ألفها بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر الميلادي - في فترة سابقة على اتصال اللاتين بالعرب - فقد وجد هذه الرسائل تختلف أسلوبا عن كتاب «الخالص» الذي أسلفنا ذكره والذي قلنا عنه إنه يحتوي على مادة علمية تتسم بالتفكير المحكم، ولماذا يقطع برتلو بأن هذه الرسائل المخطوطة - غير كتاب «الخالص» - من تأليف رجل عربي مسلم؟ الجواب عنده هو أن لغتها غامضة ومهوشة، وفيها نزعة مشبهة (أي تشبه الطبيعة بالإنسان) فضلا عن اشتمالها على إشارات وابتهالات إسلامية، ولا ينفك مؤلفها يقول في سياق حديثه: إنه سيرسل الكلام في غير تحفظ ولا ألغاز، ومع ذلك فلا تراه أبدا يذكر التفصيلات عن الموضوعات التي يعد قارئه بأنه سيكشف عنها الأسرار والأستار. إن مؤلف هذه الرسائل ليأخذ بالمذهب القائل بأن لكل شيء كيفية ظاهرة وأخرى باطنة، وأن الواحدة منها نقيض الأخرى - وهو المذهب الذي كان شائعا بين الكتاب اللاتين في القرون الوسطى - لكنه لم يذكر شيئا عن توليد المعادن بالكبريت والزئبق على النحو الذي يقال إن جابرا عرف به، أضف إلى هذا كله أن مؤلف هذه الرسائل يختلف عن مؤلف كتاب «الخالص» في أن الأول لا يتردد في أن يجعل للنجوم تأثيرا في توليد المعادن، على أن الثاني يرفض هذا المبدأ. واختصارا، فإن المستوى العلمي لهذه الرسائل، وهي الرسائل التي ينسبها برتلو إلى مؤلف عربي ما، والمستوى العلمي لكتاب «الخالص»، وهو الكتاب الذي ينكر برتلو نسبته إلى جابر العربي مختلفان اختلافا بعيدا؛ مما يدل - في رأي برتلو - على أن الكتب الكيموية المكتوبة باللاتينية والتي طبعت منذ القرن الخامس عشر، لا تنتسب إلى جابر العربي، على الرغم من أنها تحمل على الغلاف ما يفيد بأن مؤلفها هو جابر.
ولست في الحقيقة أجد ما أعلق به على رأي برتلو بأن اسم جابر منحول على هذا الكتاب أو ذاك، وأن المؤلف الحقيقي المجهول هو الذي انتحله ليشتد به أزرا، أقول إني لا أجد ما أعلق به على هذا الرأي أفضل من عبارة ابن النديم التي أسلفت ذكرها، والتي رد بها على القائلين بأن جابرا لم يكن له وجود، وأن اسمه منحول على الكتب التي تنسب إليه، وها أنا ذا أعيدها مرة أخرى: «إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب، فيصنف كتابا يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره - إما موجودا أو معدوما - ضرب من الجهل، وأن ذلك «العمل» لا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا وأي عائدة؟»
وماذا يجدينا بعد هذا التشكيك في شخصية جابر العربي من قبل برتلو، أن يقول برتلو بعد ذلك عن هذا الاسم - اسم جابر - إنه ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم أرسطو في تاريخ المنطق؟ وهو بذلك يريد بالطبع أن يقول إنه أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه، كما كان أرسطو أول من وضع لعلم المنطق قواعده وأصوله؛ أنه إذا كان برتلو قد وجد تفاوتا في أسلوب الرسائل التي تنسب إلى جابر، وفي مادتها، فليس التفسير الوحيد لهذا التفاوت أن يكون لهذه الرسائل أكثر من مؤلف واحد؛ بل يفسر هذه الظاهرة نفسها أن يفرض وجود التفاوت بين قدرات الشخص الواحد في أوقات مختلفة، ثم يفسرها تفسير ثالث، وهو أن يكون المؤلف أحيانا صاحب ظاهر وباطن - وهو أمر مألوف في المؤلفين القدامى - فقد يظهر المؤلف شيئا ويخفي شيئا. ومما يرجح عندنا هذا التفسير، أن جابر بن حيان كان صوفيا، وكان شيعيا، ورغبته في الخفاء والإخفاء واردة في كتبه ورودا بينا واضحا في كثير جدا من المواضع. وفي ذلك يقول الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة، يقول عن جابر بن حيان إنه قد يعقد الحديث في ظاهر الأمر على شيء ما - كالكلام في التناسخ مثلا - لكنه يجعل باطن الحديث منصرفا إلى علم الكيمياء، حتى لا يفطن إلى هذا العلم الكيموي عنده إلا من يريد لهم هو أن يفهموه. ويقول الطغرائي: وما أشك أنه أضل عالما من الناس لم يعرفوا مغزاه الباطن فحملوه على ظاهر معناه ... وأنا أضيف: أفلا يكون برتلو من هؤلاء المضللين عندما قرأ رسائل جابر العربي فوجدها غامضة، ثم استبعد بعد ذلك أن يكون صاحبها هو نفسه صاحب كتاب «الخالص»؟
روى الجلدكي في «شرح المكتسب»
34
بعد أن بين انتسابه إلى جابر، أنه أراد أن يتعلم الكيمياء على جابر، فأخذ هذا يصرفه ويراوغه. ولما ألح عليه الجلدكي في الطلب، قال جابر: «إنما أردت أن أختبرك، وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك؛ ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك، واعلم أن من المفترض علينا (أي على رجال الكيمياء) كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألا نكتمه عن أهله؛ لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خراب العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعا لهم؛ وقد رأينا الحكمة صارت في زماننا مهددة البنيان، لا سيما وطلبة هذا الزمان من أجهل الحيوان، وقد اجتمعوا على المحال، فإنهم ما بين سوقة وباعة وأصحاب دهاء وشعبذة، لا يدرون ما يقولون، فأخذوا يتذاكرون الفقر ويذكرون أن الكيمياء غناء الدهر ...» فجابر هنا واضح التعبير عن رغبته في إخفاء علمه إلا على من يحسنه.
إلا أن جابرا ليعتز بعلمه اعتزازا بلغ به حد الغرور، فما أكثر ما يقول عن هذه الرسالة أو تلك من رسائله العلمية: إنها مستحيلة على غيره من البشر، فاسمع إليه - مثلا - وهو يوجه الخطاب إلى سيده في سياق «كتاب الأحجار»: «... وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي - صلوات الله عليه - لما وصلت إلى حرف من ذلك آخر الأبد، لا أنت ولا غيرك، إلا في كل برهة عظيمة من الزمان.» أو اسمع إليه يقول في كتابه «إخراج ما في القول إلى الفعل»: «ليس على وجه الأرض كتاب مثل كتابنا هذا، ولا ألف ولا يؤلف آخر الأبد.»
35
وأمثال هذا كثير جدا في مختلف رسائله. (3) كتبه
ينسب إلى جابر بن حيان عدد كبير جدا من الكتب والرسائل، يقول في بعضها ما لا يقوله في بعضها الآخر أحيانا، وأحيانا أخرى يلخص في بعضها ما قد بسطه في بعضها الآخر. قال الجلدكي في نهاية الطلب:
36 «إن من عادة كل حكيم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها، ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم، كما خص «جابر» من جميع كتبه كتابه المسمى بالخمسمائة.» وقال الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة
37
في وصف الطريقة التي انتهجها جابر في تأليفه لكتبه، أنه يعرض مذهبه بصور مختلفة في كتبه المختلفة، أي إن المادة التي يعرضها في هذا الكتاب هي نفسها المادة التي يعرضها في ذلك، والاختلاف إنما يكون في صورة العرض وحدها؛ فأحيانا يطيل وأحيانا يوجز؛ ومرة يصرح وأخرى يلجأ إلى الرمز، وهكذا. يقول الطغرائي: «انظر إلى هذا العالم كيف يتلاعب بالناس ويخرج هذه الصناعة الشريفة في المعاريض المختلفة ومغزاه واحد، وكيف يعرض مرة ويصرح أخرى.»
وسنعرض فيما يلي قائمة كاملة بكتبه ورسائله كما وردت في فهرست ابن النديم، مثبتين أمام كل كتاب منها أو رسالة ما قد يفيد من الملاحظات، على أن قائمة ابن النديم يعيبها عيبان: (1) فهي أولا قد تثبت أسماء بغير مسميات، أعني أنها مجرد عناوين لكتب غير موجودة. (2) وهي ثانيا قد تهمل كتبا موجودة فعلا. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن ثمة مؤلفات باللاتينية تنسب إلى جابر بن حيان، دون أن تكون هنالك مقابلاتها العربية، وهذه هي التي قال عنها «برتلو» - كما أسلفنا - إنها لمؤلف لاتيني انتحل لنفسه اسم جابر وأخفى اسمه الحقيقي، وهي على وجه العموم تمثل مرحلة في علم الكيمياء أكثر تقدما من المرحلة التي تصورها الأصول العربية الموجودة والمنسوبة إلى المؤلف نفسه، أي إلى جابر.
وفيما يلي قائمة بأهم ما عرفناه من مؤلفاته:
38 (1) كتاب أسطقس الأس الأول إلى البرامكة، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (2) كتاب أسطقس الأس الثاني إليهم، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (3) كتاب الكمال، وهو الثالث إلى البرامكة، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (4) تفسير كتاب أسطقس، لم يذكره صاحب الفهرست، وذكره يوسف إلياس سركيس في معجم المطبوعات العربية والمعربة، على أنه واحد من مجموعة أحد عشر كتابا يضمها كتاب واحد «في علم الإكسير العظيم». (5) كتاب الواحد الكبير، منه نسخة بالقسم العربي من المكتبة الأهلية بباريس في المجموعة رقم 2606. (6) كتاب الواحد الصغير، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة 2606. (7) كتاب الركن، والأرجح أنه هو بعينه كتاب الأركان، وقد أخذت مقطوعات منه في القسم السابع من كتاب «رتبة الحاكم» للمجريطي، ويقول هولميارد: إن كتاب «رتبة الحاكم» نسب خطأ إلى المجريطي، وقد ذكر جابر نفسه كتابا له باسم كتاب الأركان الأربعة في كتابه «نار الحجر»، أما المجريطي المشار إليه فهو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي الذي عاش في مدينة مدريد أيام الحكم الثاني (961-976م).
39 (8) كتاب البيان، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891، وموجود بدار الكتب بالقاهرة ضمن مجموعة رقم 583، 631 مع ملاحظات لهولميارد. (9) كتاب النور، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891، وموجود بدار الكتب بالقاهرة ضمن مجموعة رقم 583، 631 مع ملاحظات لهولميارد. (10-12) كتاب التدابير، وكتاب التدابير الصغير، وكتاب التدابير الثالث. هذه الكتب الثلاثة ورد ذكرها عند جابر نفسه في المقالة الثانية والثلاثين من كتابه «الخواص الكبير».
40 (13) كتاب الملاغم الجوانية، من مجموعة تسمى بالمائة واثني عشر كتابا، ذكره كراوس. (14) كتاب الملاغم البرانية، من مجموعة تسمى بالمائة واثني عشر كتابا، ذكره كراوس. (15-16) كتاب العمالقة الكبير وكتاب العمالقة الصغير، ذكرهما كراوس. (17) كتاب الشعر، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 7722. (18) كتاب التبويب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس بالمجموعة 2606، وذكره الطغرائي، راجع المجموعة رقم 8229 بالمتحف البريطاني. (19) كتاب الأحجار على رأي بليناس (بليناس هو أبولونيوس)، نشره بول كراوس، وهو أربعة أجزاء. (20) كتاب أبي قلمون - وأبو قلمون اسم لحشرة تأكل الذباب - ذكره جابر في المقالة الرابعة والعشرين من كتابه: (الخواص الكبير)، مختار كراوس ص318. (21) كتاب الباهر، ذكره كراوس. (22) كتاب الدرة المكنونة، مخطوط في المتحف البريطاني ضمن مجموعة 7722. (23) كتاب البدوح، وهي مجموعة أحرف: ب، د، و، ح، وهو طلسم يفيد السرعة والإنجاز. (24) كتاب الخالص، ويرجح أنه هو الكتاب الذي ترجم إلى اللاتينية باسم (
Summa Perfectionis ) والذي أشار إليه «برتلو» بقوله إنه ليس من تأليف جابر العربي، بل هو منسوب إلى اسم جابر على سبيل الانتحال، والمؤلف الحقيقي أوروبي. (25) كتاب القمر، أي كتاب الفضة ، منه نسخة بمكتبة باريس مجموعة 2606. (26) كتاب الشمس، أي كتاب الذهب.
ذكرهما جابر في كتابه «الميزان الصغير»، (مختار كراوس، ص450)، وقال عنهما إنهما يشتملان على ما قد ذكر قبل ذلك في كتابه «الأصول». (27) كتاب التركيب أو (التراكيب) منه نسخة بمكتبة باريس ضمن مجموعة 2606. (28) كتاب الأسرار، ويرجح أنه هو كتاب «سر الأسرار» المحفوظة منه نسخة بالمتحف البريطاني - مجموعة رقم 23418 نمرة 14 - وأنه هو الذي ذكر منه الطغرائي عدة مقطوعات في عدة مواضع (راجع مجموعة المتحف البريطاني رقم 8229) وفي اللاتينية مخطوطة تنسب إلى جابر بنفس العنوان وهو (
Secreta Secretorim ). (29) كتاب الأرض (أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة، وسادسة، وسابعة) ولعله هو «أرض الأحجار» الذي طبعه برتلو نقلا عن المخطوط الموجود في مجموعة ليدن رقم 440، ومنه نسخة بمكتبة باريس مجموعة رقم 2606. (30) كتاب المجردات، ذكره «جابر» في المقالة الثالثة والثلاثين من كتابه «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص324) وهو يقول عنه: «إنا جردنا فيه جميع الأبواب التي ذكرناها في المائة والاثني عشر كتابا، ومبلغ الأبواب التي فيه خمسة آلاف باب، وهو قاعدة كتبنا المائة والاثني عشر، وبه تتم وتصح أبواب المائة والاثني عشر كتابا، فاطلبه واعمل بما فيه فهو في نهاية الحسن والشرف لمن علم ... فأما لمن جهل فمشقة وتعب وحسرة.»
وعن هذا الكتاب نفسه يقول جابر أيضا في المقالة الثامنة والثلاثين من كتابه: «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص327): «... فما لك كتاب مثله في فك الرموز المستصعبة ... وهو من أمهات كتبنا التي لا يسع لأحد أن يجهله.» (31) كتاب الحيوان، ويذكره الجلدكي منسوبا إلى جابر. (32) كتاب الأحجار، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م. (33) كتاب ما بعد الطبيعة، ذكره جابر في كتابه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» (مختارات كراوس ص31).
وتمضي هذه القائمة - بذكر أسماء لكتب أخرى - حتى تبلغ 112، وبهذا تتكون المجموعة المسماة باسم «المائة واثني عشر» من مؤلفات جابر.
ويلي ذلك - فيما قد أورده ابن النديم - مجموعة أخرى مؤلفة من سبعين عنوانا تعرف باسم «السبعين»، وهي معروفة في اللاتينية باسم (
Liber LXX )، نذكر منها:
كتاب الخمسة عشر، وهو معروف في اللاتينية باسم (
Liber XV ) ومنه نسخة عربية في مكتبة كلية ترنتي بأكسفورد رقم 363.
الروضة، ذكره الجلدكي في الجزء الثامن من كتابه نهاية الطلب.
وتمضي قائمة ابن النديم فتذكر عشرة كتب يقول عنها إنها مضافة إلى السبعين المذكورة سابقا.
ومن هذه العشرة المضافة نعرف:
الإيضاح، نقل بالزنكوغراف في الهند 1891م.
وبعد ذلك تأتي قائمة بعشر مقالات تسمى بالمصححات نذكر منها:
مصححات سقراط، ومنه نسخة بالمكتبة البودلية بأكسفورد تحت رقم 1416.
مصححات أفلاطون، ومنه نسخة بالقسطنطينية بمكتبة راغب باشا، مجموعة 96 رقم 4.
ويتلو هذه المقالات العشر في قائمة ابن النديم عشرون اسما، ويلحق بها ثلاثة أخرى تتصل بها، ونذكر من هذه الثلاثة كتابا نعرفه هو:
كتاب الضمير، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس، بالمجموعة 2606، وذكره الجلدكي في الجزء الثاني من نهاية الطلب باسم «كتاب الضمير في خواص الإكسير».
ثم يجيء بعد ذلك في قائمة ابن النديم مجموعة من سبعة عشر كتابا، وكذلك تلحق بها ثلاثة كتب تتصل بها، وأهم هذه المجموعة، بل من أهم مؤلفات جابر على الإطلاق: (40) كتاب الموازين، طبعة «برتلو» عن نسخة موجودة بليدن، ويظن هولميارد أن هذا الكتاب هو المعروف في اللاتينية بعنوان (
Liber de ponderibis artis ).
ثم تتوالى القوائم مجموعات مجموعات، وتختم بقوله: «قال أبو موسى: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة، وألفا وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب، ثم ألفت في الطب كتابا عظيما، ثم ألفت كتبا صغارا وكبارا، وألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب ... ثم ألفت كتب المنطق على رأي أرسطاليس، ثم ألفت كتاب الزيج اللطيف نحو ثلاثمائة ورقة ... ثم ألفت كتابا في الزهد والمواعظ، وألفت كتبا في العزائم كثيرة حسنة ... وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتبا كثيرة، ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقضا على الفلاسفة، ثم ألفت كتابا في الصنعة يعرف بكتب الملك، وكتابا يعرف بالرياض.»
من هذا يتبين أن الكتب والرسائل التي يظن أن جابرا قد ألفها كثيرة، قد تحقق لنا وجود بعضها
41
ولم يتحقق لنا وجود بعضها الآخر؛ وليس هذا الكتاب موضعا لتفصيل كامل لما تحقق وما لم يتحقق، كلا ولا في وسع مؤلفه أن يؤدي في ذلك شيئا أكمل مما أداه العاملون في هذا الميدان: «برتلو» و«هولميارد» و«كراوس» - فحسبنا أن نختم قائمتنا الموجزة بطائفة أخرى من كتبه المهمة المعروفة: (41) كتاب الزئبق، طبعه «برتلو» في كتابين، أحدهما عنوانه: كتاب الزئبق الشرقي، والآخر باسم الزئبق الغربي، نقلا عن مخطوط في مكتبة ليون رقم 440، وهناك أيضا نسختان بالمكتبة الأهلية بباريس، مجموعة رقم 2606. (42) كتاب الخواص، منه نسخة بالمتحف البريطاني رقم 4041، وبالمجموعة رقم 23419، نشر كراوس نخبا من كتاب «الخواص الكبير».
42 (43) كتاب الاستتمام، ذكر الطغرائي بعض مقطوعات من هذا الكتاب، (محفوظات المتحف البريطاني رقم 8229)، وكذلك ذكره الجلدكي في كتابه نهاية الطلب، ويقابل هذا الكتاب ما هو معروف في اللاتينية باسم:
Liber La investigatione perfectioni . (44) كتاب الملك، طبع «برتلو» هذا الكتاب عن نسخة بليدن رقم 440 من المجموعة العربية، وتوجد نسخة أخرى مختلفة في المكتبة الأهلية بباريس رقم 605، وهاتان النسختان تختلفان عن نسخة نقلت بالزنكوغراف في الهند سنة 1891م، ويرجح هولميارد أن هذا الكتاب نقل إلى اللاتينية، وذكره بورليوس
Borrellius - راجع محفوظات الجمعية الكيماوية بباريس رقم 1654 ص103؛ وكذلك ذكره كاريني بعنوان
Rivista Sicula
43
وقد أشار جابر نفسه إلى هذا الكتاب في المقالة الثالثة والثلاثين من كتاب «الخواص الكبير» (مختارات كراوس ص326). (45) كتاب التصريف، وهو المعروف في اللاتينية باسم
Liber mutalorium ، وقد ذكره جابر نفسه في عدة مواضع من كتبه الأخرى: ذكره في كتابه إخراج ما في القوة إلى الفعل (مختارات كراوس ص92)، وفي كتاب الخواص الكبير (مختارات كراوس ص329)، وفي كتاب التجميع (مختارات كراوس ص342) وفي كتاب الحاصل (مختارات كراوس ص537). هذا إلى أن بول كراوس قد اختار من كتاب التصريف نخبا أثبتها في مختاراته، ص392-425.
كتاب شرح المجسطي، ترجمه «جيرارد الكريموني»
Gerard of cremona
ومنه مخطوطة بأكسفورد في مكتبة كلية
Gorpus Christi ، وأخرى بأكسفورد أيضا في المكتبة البودلية، وثالثة بمكتبة جامعة كيمبردج.
44
كتاب الوصية، منه نسخة بالمتحف البريطاني بالمجموعة 7722، وله ترجمة لاتينية بعنوان
Geberi testamentum
موجودة في كلية ترنتي بكيمبردج (مجموعة 925 و138).
45
كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، نشره بول كراوس في مختاراته، ص1-97.
كتاب الحدود، نشره بول كراوس في مختاراته، ص97-115.
كتاب كشف الأسرار، منه نسخة بالمتحف البريطاني في المجموعة 7722 رقم 54، ونسخة بمكتبة القاهرة، ترجمه إلى الإنجليزية
R. Stule
عام 1892
46 - وقد يسمى هذا الكتاب بأسرار الكيمياء. (51) كتاب خواص إكسير الذهب، منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس مجموعة 2625 رقم 6، وترجمه «هولميارد» إلى الإنجليزية. (52) كتاب الرحمة، طبعة برتلو عن مخطوطة بمكتبة ليدن رقم 440، ويذهب هولميارد إلى أنه من تأليف أبي عبد الله محمد بن يحيى، وذكر فيه مقطوعات كثيرة عن جابر، غير أن جابرا أشار إلى هذا الكتاب على أنه كتابه، وذلك في المقالة العشرين من كتابه الخواص الكبير؛ إذ يقول: «... أنى دفعت إلى زمان ... فيه طلاب هذه الصناعة (أي الكيمياء) كثير جدا ... ووجدت قوما خادعين ومخدوعين، فرحمت الجميع وعملت لهم ما قد حكيته مجردا في صدر كتابي الرحمة» (مختارات كراوس، ص314). (53) كتاب التجميع، نشره بول كراوس في مختاراته، ص341-392. (54) كتاب الأصول، موجود في المتحف البريطاني بالمجموعة 23418 رقم 13، وقد ترجم إلى اللاتينية بعنوان
Liber Radicum
وقد أشار إليه جابر عدة مرات في كثير من كتبه، قائلا عنه: «إنه والله من نفيس الكتب» (مختارات كراوس، ص74، 322، 342، 450).
ونكتفي بهذا القدر من مؤلفات جابر؛ لأن غايتنا ليست هي الحصر الكامل المحقق لهذه المؤلفات، بل هي تقريب الصورة إلى القارئ عن هذا العالم العربي.
عالم ومنهجه
(1) إيمانه بالعلم «والعلم» هنا مقصود به علم الكيمياء بصفه خاصة؛ و«الكيمياء» مقصود بها الوسائل التي يستطيع بها الكيميائي أن يبدل طبائع الأشياء تبديلا يحولها بعضها إلى بعض، وذلك إما بحذف بعض خصائصها أو بإضافة خصائص جديدة إليها؛ لأنه إن كانت الأشياء كلها ترتد إلى أصل واحد، كان تنوعها راجعا إلى اختلاف في نسب المقادير التي دخلت في تكوينها، فليس الذهب - مثلا - يختلف عن الفضة في الأساس والجوهر، بل هما مختلفان في نسبة المزج، فإما زيادة هنا أو نقصان هناك، وما على العالم إلا أن يحلل كلا منهما تحليلا يهديه إلى تلك النسبة كما هي قائمة في كل منهما، وعندئذ يرتسم أمامه الطريق واضحا إذا أراد أن يغير من طبيعة هذا أو ذاك؛ لأن مدار التغيير هو - كما قلنا - حذف أو إضافة.
وكان رجال الفكر من هذا العلم فريقين: فأكثرية تذهب إلى بطلانه واستحالته، وقلة تؤكد إمكانه عند العقل وفي الفعل على حد سواء.
فمن المنكرين الشيخ الرئيس ابن سينا الذي حاول في كتابه الشفاء أن يقيم الحجة على بطلانه، وكانت حجته هي أن الصفات التي يقال عنها إنها إذا أضيفت هنا أو حذفت هناك تحولت الأشياء بعضها إلى بعض، صفات محسوسة عرضية لا تمس جواهر الأشياء، فليست هي بالفواصل الحقيقية التي تميز نوعا من نوع وأما الفواصل الحقيقية فمجهولة، فلسنا ندري ماذا في الذهب مما يجعله ذهبا ولا ماذا في النحاس ما يجعله نحاسا، وإذا كان الشيء مجهولا فكيف يتاح لنا أن نوجده إيجادا أو أن نفنيه إفناء؟
1
وكان الفيلسوف الكندي كذلك من المنكرين لا مكان قيام هذا العلم، وأقام إنكاره هذا على أساس أن الطبيعة قد انفردت - دون الإنسان - بأشياء محال على الإنسان أن يأتي بمثلها كما انفرد الإنسان - دون الطبيعة - بأشياء أخرى، ومن الخلط بل من الخداع أن يحاول الإنسان فعل ما قد انفردت الطبيعة بفعله،
2
فكما أنه محال على الطبيعة أن تصنع سيفا أو سريرا أو خاتما فكذلك محال على الإنسان أن يصنع ذهبا أو فضة أو نحاسا.
والظاهر أن أبا نصر الفارابي قد وقف موقفا وسطا بين إمكان علم الكيمياء واستحالته، مستندا في ذلك إلى أرسطو وموقفه من هذا الموضوع نفسه. وخلاصة هذا الموقف الوسط، هي أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض متوقف على نوع الصفات المراد حذفها أو إضافتها، فإن كانت ذاتية تعذر التحول، وأما إن كانت أعراضا عرضية التحول، هذا إلى أن إمكان التحول قد يكون مقلوب الوجه الصورية النظرية، لكنه عسير من الوجهة العملية.
3
لكن هناك فريقا آخر هم أكثر إيمانا بما يستطيعه العلم هؤلاء الإمام «فخر الدين الرازي» الذي عقد فصلا في المشرقية يبين فيه إمكان علم الكيمياء، ومنهم الشيخ نجم ابن البغدادي الذي رد على ابن تيمية وزيف ما كان؟ استحالة علم الكيمياء، ومنهم كذلك أبو بكر محمد بن الرازي الذي تصدى للرد على الكندي في الموضوع، وصنف «الطغرائي» كتبا يثبت فيها إمكان قيام هذا العلم على ما كان «ابن سينا» قد ذهب إليه من عدم إمكان ذلك.
4
وعلى رأس المثبتين لعلم الكيمياء بالقول وبالفعل معا هو «جابر بن حيان» الذي كان أول من اشتهر عنه هذا العلم فهو يتساءل في عجب: كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول الطبيعة وأسرارها؟ ألم يكن في مستطاع العلم أن يجاوز الطبيعة إلى ما وراءها؟ فهل يعجز عن استخراج كوامن الطبيعة ما قد ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو مستور وراء حجبها؟ وهو يستدرك هنا بقوله: إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء، بل نطلب ذلك من ذوي العلم الذين استوفوا أركان البحث؛
5
ولعمري إن هذا القول من «جابر» لمما نضعه في مقدمة الشروط التي نستوجب استيفاءها في كل باحث علمي، كائنا ما كان موضوع بحثه، وفي أي عصر جاء؛ فلا يجوز لغير العلماء المختصين أن يقولوا ماذا يستطاع وماذا لا يستطاع في مجال البحث. ويمضي «جابر» في حديثه عن إمكان العلم الكيموي أو امتناعه، فيقول إن أسرار الطبيعة قد تمتنع على الناس لأحد سببين؛ فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسر الكشف عنها، وإما أن يكون للطاقة تلك الأسرار بحيث يتعذر الإمساك بها، وسواء كان الأمر هو هذا أو ذلك، كان في وسع الباحث العلمي أن يلتمس طريقا إلى تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء دون السير في شوط البحث إلى غايته.
6 (2) مصدر العلم
أنى للإنسان أن يعلم العلم الذي يعلمه؟ هذا سؤال ما انفك الفلاسفة يسألونه ويحاولون عنه الجواب: أفيكون في فطرة الإنسان وطبعه المجبول أن يهتدي إلى العلم من تلقاء نفسه لو واتته الظروف المناسبة؟ ذلك ما أخذ به سقراط الذي كان على اعتقاد بأن العلم كامن في الإنسان، ولا يحتاج إلا إلى من يحركه بالأسئلة الموجهة، فيخرج العلم من حالة الإضمار إلى حالة الظهور، أو من حالة الكمون إلى حالة العلن، أو - بالمصطلح الفلسفي - من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل. ولو كان الأمر كذلك لكان التعلم ضربا من ضروب الكشف عما هو خبيء في النفس، وليس هو باكتساب شيء يأتي إلى نفس المتعلم من خارجها، ولكانت عملية التعليم لا تزيد على عملية التوليد، ويعبر «جابر» عن هذا الرأي بقوله إن المتعلم عندئذ: «يكون مبتدعا للأشياء من نفسه في أول الأمر بطباعه.»
7
لكنه لا يجعل هذه الصفة عامة في كل إنسان على حد سواء، بل يقصرها على من يصفهم ب «الاعتدال»، والاعتدال عنده معناه توازن العناصر التي منها يتكون الشخص المعين - «فالشخص المعتدل هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة.» ويستطرد «جابر» فيقول نقلا عن فورفوريوس
8 «إن من كان هذا سبيله (هو) سقراط الحكيم؛ فإنهم لا يشكون أن كثيرا من العلم وقع له بقليل الرياضة، وأن ذلك بالطباع.»
9
أي أن رياضة قليلة، أو قل فاعلية وجهدا قليلين كانا يكفيان لتحريك علم كثير في نفسه؛ لأن العلم كامن هناك بالفطرة، ينتظر ما يحركه فيتحرك.
العلم بالفطرة - إذن - أحد المذاهب المختلفة في تفسير التعلم؛ ومذهب آخر يقول إن العلم إنما يكون بالتلقين، فما في فطرة الإنسان علم لا بالقوة ولا بالفعل، فهي - على حد العبارة التي قالها الفيلسوف الإنجليزي «جون لك» (1632-1704) - تولد صفحة بيضاء، ثم تأتي العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخط عليها آثارها ومن هذه الآثار المخطوطة يتكون علم الإنسان، ومن بين هذه العوامل الخارجية - بل من أهمها - هو المعلم، والوالدان هما بمثابة المعلمين، فهؤلاء يلقنون الناشئ بما يكون له نفسه على الصورة التي يريدونها له؛ وفي ذلك يقول «جابر»: «... [إن من يوكل إليه أمر تكوين الإنسان] يدرس عليه جميع العلوم وضروب الآداب وعلوم العلويات، أو غير ذلك مما يراد من ذلك المكون أن يكون ماهرا فيه.»
10
يذكر «جابر» هذين المذهبين في مصدر العلم؛ المذهب القائل بأن العلم لدني ينبع من الفطرة، والمذهب القائل إن العلم آت كله من الخارج بالتحصيل والتلقين، ثم يضيف إليهما مذهبا ثالثا يقع بين بين؛ وذلك أن يكون في نفس المتعلم استعداد للتلقي، ثم تجيء العوامل الخارجية فتستخدم ذلك الاستعداد الفطري؛ فالفطرة ليست «علما» ولكنها «تهيؤ» لقبول العلم، وإذن فلا بد في الأمر من داخل وخارج معا؛ وهذا هو بعينه ما يقوله القائلون بضرورة الوراثة والبيئة معا في عملية التربية إلا أن جابرا يستخدم لغة أخرى غير هذه اللغة، فيعبر عن الحقيقة نفسها بقوله: «إن [العلم] لا يكون بالبديهة، ولا بالتعليم من الصغر، بل يكون على البديهة.»
11 - فهو يقول عن العلم إنه «بالبديهة» في الحالة التي يكون فيها موروثا بالطبع، ثم يقول عنه إنه «على البديهة» حين لا يكون الموروث بالطبع إلا استعدادا فقط، وعلى هذا الاستعداد تأتي المؤثرات من خارج، وإن جابرا ليختار من هذه المذاهب الثلاثة مذهبا، وهو هذا الذي يجمع بين الاستعداد والتلقين، مؤكدا أن: «النفس لا تكون عالمة أولا بالضرورة.»
12
أي أنها محال عليها أن تولد مزودة بالعلم كاملا، لكنها مستعدة للتقبل بطبيعتها، فهي: «قادرة فاعلة جاهلة.»
13
أول الأمر، ثم تراض بعد ذلك بفضل قدرتها وفاعليتها، فيتحول الجهل علما.
لكن ما مصدر التلقين عند «جابر»؟ من ذا الذي كشف له عن الحقائق فتلقفها وتمثلها بفطرته القابلة القادرة؟ ها هنا نجده يصرح في أكثر من موضع بأن مصدر علمه هو النبي وهو علي وهو سيده «جعفر الصادق» وما بين هؤلاء جميعا من أبناء الأسرة الشريفة، فهو يقول: «تأخذ [من كتبي] علم النبي وعلي وسيدي وما بينهم من الأولاد، منقولا نقلا مما كان وهو كائن وما يكون من بعد إلى أن تقوم الساعة.»
14
وفي موضع آخر يقول: «فو الله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها، والباقي علم النبي
صلى الله عليه وسلم .»
15
فما مؤدى هذا؟ مؤداه أن مصدر التلقين هو الوحي، ينزل على النبي ثم يتوارثه الخلفاء من بعده، وعن هؤلاء يكسب الكاسبون. فليس العلم عقلا ولكنه نقل، ليس هو بالكشف المبتكر الأصيل بالنسبة إلى العالم الكاشف، بل هو تنزيل من السماء. وعلى هذا الضوء نفهم اسم «الكيميا» لماذا أطلق على مثل هذه الأبحاث التي قام بها «جابر»؛ فهي لفظة معربة من اللفظ العبراني، وأصله كيم يه، ومعناه أنه من الله.
16 (3) الأستاذ والتلميذ
لهذا كان للأستاذ الذي ينقل العلم للمتعلم منزلة مقدسة عند «جابر»؛ وإنا لننقل هنا مقالة كتبها في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ،
17
ونعتقد أنها من الروائع في ميدان التربية، ولن ندخل على لفظها من التعديل إلا بمقدار ما يجعلها مناسبة لسمع القارئ الحديث، قال:
فأما ما يجب للأستاذ على التلميذ، فهو أن يكون التلميذ لينا قبولا لجميع أقواله، من جميع جوانبه، لا يعترض عليه في أمر من الأمور ... فإن ذخائر الأستاذ العالم ليس يظهرها للتلميذ إلا عند السكون إليه، وحمده غاية الحمد؛ وذلك أن منزلة الأستاذ هي منزلة العلم نفسه، ومخالف العلم مخالف الصواب، ومخالف الصواب واقع في الخطأ والغلط، وهو ما ليس يؤثره عاقل؛ فإذا لم يكن التلميذ على هذا المقدار من الطاعة للأستاذ، أعطاه الأستاذ قشور العلم وظاهره.
ولست أريد بطاعة التلميذ للأستاذ أن تكون هذه الطاعة في شئون الحياة العملية الجارية، بل أريدها طاعة في قبول العلم والدرس وسماع البرهان على أستاذه، وحفظه، وترك التكاسل والتشاغل عنه؛ ذلك أن شئون الحياة العملية لا قيمة لها عند الأستاذ الرباني؛ لأن الأستاذ هو كالإمام للجماعة التي هو قيم بها، وكالراعي، والسائس للأشياء التي يتولى صلاحها وإصلاحها؛ فمتى عسرت عليه، أو عسرت عن التقويم، فإما أن يطرحها، وإما أن يتعبه تقويمها إلى أن تستقيم ...
وينبغي للتلميذ أن يكون صامتا للأستاذ، كتوما لسره؛ لأن التلميذ في هذه الحال كالأرض المزروعة التي يتخذها الإنسان لصلاح حاله؛ فإن كانت تربتها طيبة استقر فيها البذر، فأزكى وأينع، ورد أمثال بذره؛ وإن كانت تربتها فاسدة قبيحة، هلك البذر فيها ولم يثمر إلا ما هو قليل النفع ... وواجب التلميذ أيضا أن يكون منقطعا إلى الأستاذ دائم الدرس لما أخذ عنه، كثير الفكر فيه؛ فليس في وسع الأستاذ إلا أن يعلم تلميذه أصول العلم، وعلى التلميذ بعد ذلك أن يروض نفسه على ما قد تعلم.
فأما ما يجب للتلميذ على الأستاذ فهو: أولا - أن يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم ؛ وأعني بالقريحة جوهر المتعلم الذي طبع عليه، ومقدار ما فيه من القبول، والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه، وقدرته على حفظ ما قد تعلمه وعلى تذكره؛ فإذا وجد الأستاذ تلميذه قبولا، ذا أرض زكية، وجوهر ترتضع فيه المعلومات كلما ارتسمت فيه، أخذ يسقيه أوائل العلوم التي تتناسب مع قدرته على القبول، وتتناسب مع سنه وخبرته؛ ولم يزل به يلقنه العلم أولا أولا، وكلما احتمل الزيادة زاده، مع امتحانه فيما كان قد تعلمه؛ فإذا كان حافظا لما كان سقاه وغير مضيع له، زاده في الشرب والتعليم، وإن وجده ينسى ويتخبل في حفظه، أنقص له المقدار، وعاتبه على ذلك عتابا كالإيماء من غير إمعان في التصريح؛ ثم امتحنه بعد ذلك ثانيا وثالثا؛ فإن وجده جاريا على ديدن واحد في النسيان، هزه بالعتاب وأوجعه بالتقريع، وبالغ في توبيخه.
ومن أوائل العلوم يتدرج الأستاذ بتلميذه من مرتبة إلى مرتبة حتى يصير في عداد الأستاذين الذين يجب عليهم للتلامذة مثل ما وجب له في أول أمره؛ وإذا بلغ التلميذ إلى هذه المرتبة من العلم ومن رموزه وصغائره ولطائف ما فيه، أصبح واجبه أن يعلمه، فإن لم يفعل ذكره أستاذه بذلك قبل أن ينتقل إلى تلميذ سواه؛ والأستاذ الذي يغفل عن تلميذه يكون خائنا والخائن لا يؤتمن، ومن لا يؤتمن لا يؤخذ عنه علم؛ لأن العالم لا يكون إلا صادقا.
وبالجملة فإني أقول: إن سبيل الأستاذ والتلميذ أن يكونا متعاطفين بعضهما على بعض تعاطف قبول، وأن يكون التلميذ كالمادة، والأستاذ له كالصورة - انتهت مقالة الأستاذ والتلميذ.
وأنه لمما يتصل بموضوع الأستاذ والتلميذ ما قد ذكره «جابر» في مواضع كثيرة جدا من الطريقة التي ينبغي للدارسين أن يتناولوا كتبه بها، ونخص بالذكر في سياقنا هذا شروطه التي يشترطها على القارئ؛ لأنها شروط منهجية سليمة في كل بحث علمي يرجع فيه صاحبه إلى النصوص والأصول والوثائق.
ذلك أن جابرا يشترط على الدارس أن يقرأ كل كتاب من كتبه ثلاث قراءات متتالية، لكل قراءة منها هدف خاص؛ أما القراءة الأولى فللتثبت من صحة ألفاظ النص، ومن معاني تلك الألفاظ، وأما القراءة الثانية فلدراسة هذا النص، لا من حيث معانيه المباشرة، بل بغية الوصول إلى مدلولاته البعيدة الخفية، فما أكثر ما يكشف تحليل النص عن معان ما كانت لتظهر لو وقف الدارس عند ظاهر اللفظ وحده، دون الغوص إلى ما هو منطو في تضاعيفه وثناياه، وأما القراءة الثالثة فهي لتبويب المعاني وتصنيفها لعلنا نجمع الشبيه إلى شبيهه، أو نوازن بين المتباين منها، تصنيفا وموازنة من شأنهما أن يبلغا بنا الغاية المرجوة من موضوع الدراسة.
18
على أن جابرا اشترط كذلك شرطا للقراءة الدارسة الفاحصة، هو أيضا في صميم المنهج العلمي السليم؛ إذ يشترط على الدارس أن يجمع كتبه كلها أولا قبل أن يهم بقراءة بعضها، لكي يضيف ما في كل كتاب منها إلى ما في الآخر،
19
لأن الكتاب الواحد قد ينفرد بمعنى واحد لا يشاركه فيه غيره
20
وعندئذ يكون الاكتفاء بدراسة بعض كتبه دون بعض مؤديا إلى تكوين فكرة مهوشة ناقصة عن مذهبه؛ هذا فضلا عن أن كل كتاب من كتبه - كما يقول هو نفسه - إنما يعد شرحا لبقية الكتب كلها، وهو في ذلك يقول عن كتبه: «فإنا إنما نضرب المثل بعد المثل في المواضع على تفسير كتاب من كتاب في مسألة تمر بنا أو شيء مثل ذلك، فإن قواعد هذه الكتب إنما هي أنا نذكر في كل كتاب خاصة لجميعها ليست في غيره من الكتب، وبعضها يشرح بعضا.»
21 (4) تعريف الألفاظ
لقد بلغت الدقة العلمية المنهجية بجابر مبلغا بعيدا، عندما أدرك في وضوح خطر تحديد المعاني الواردة في أي بحث علمي، تحديدا يبين معالم الموضوع في حسم وجلاء، ويساعد على استنباط الأفكار بعضها من بعض؛ ولقد وضع في «الحدود» - أعني تعريف الألفاظ العلمية - كتابا سنوجز مادته فيما يلي، لكننا نسارع هنا إلى إثبات عبارة قالها في تقديره لقيمة كتابه هذا؛ لأنه تقدير يدل على وعيه الشديد بأهمية الموضوع، فيقول: «يا ليت شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتبنا ، فإذا قرأته يا أخي، فلا تجعل قراءتك له مثل قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن تكون قراءتك للكتب مرة في الشهر، وأما «الحدود» فينبغي أن ينظر فيه كل ساعة، وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
22
وأنه في ذلك لعلى حق؛ لأنك إذا أحسنت تحديد المعنى الذي تتحدث فيه، قطعت بذلك شوطا بعيدا من طريق البحث الموفق السديد.
يقول جابر في كتابه «الحدود»:
23
إن الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على حقيقته، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخل فيه ما ليس منه، فإذا ما حدد الموضوع تحديدا تاما، صار لا يحتمل زيادة ولا نقصانا؛ والتحديد التام إنما يكون بذكر الجنس الذي يندرج تحته النوع المراد تحديده، ثم بذكر الفصل الذي يميز ذلك النوع من بقية الأنواع التي تندرج معه تحت جنس واحد.
وقد قيل في الحد إنه لا يحتمل الزيادة والنقصان؛ لأنك إذا زدت من الحد أدى ذلك إلى نقصان المحدود؛ كأن تضيف إلى حد الإنسان «بأنه حيوان ناطق» بحيث تجعله «حيوان ناطق يسكن جزيرة العرب»، فعندئذ تنحصر دائرة المحدود في طائفة قليلة من الناس، بعد أن كان المحدود هو الناس جميعا؛ وكذلك إذا انتقصت من الحد أدى ذلك إلى زيادة المحدود؛ كأن تقول في حد الحمار إنه حيوان ذو أربع قوائم، فتنقص فصله المتمم لنوعه وهو النهاق، وبهذا تتيح بهذا النقصان في الحد لكل ذي قوائم أربع الدخول في ذلك الحد، ولا تجعله حدا مقصورا على الحمار وحده؛ لكن زيادة الحد لا تنقص من المحدود إلا إذا كان زيادة تشمل بعض أفراد النوع دون بعضهم الآخر، كأن تضيف إلى حد الإنسان عبارة «متكلم بالعربية»، فيصبح: «الإنسان حيوان ناطق متكلم بالعربية»، فالزيادة ها هنا تؤدي إلى نقصان المحدود، أما إذا كانت الزيادة صفة شاملة للنوع كله، أي أنها خاصة من خصائصه المميزة، مثل إضافة كلمة «الضحاك» إلى حد الإنسان بحيث يصبح هذا الحد هو: «الإنسان حيوان ناطق ضحاك»، فمثل هذه الزيادة لا تؤدي إلى نقصان المحدود؛ وأما النقصان من الحد فهو مؤد إلى زيادة المحدود لا محالة على أي وجه جاء هذا النقصان منه؛ وذلك لأن الحد مؤلف من الجنس والفصل الذي يميز النوع ويحدثه، فإذا أنقصنا من الحد أحد فصوله المميزة للنوع دخل في النوع ما ليس منه ...
نعم إن «جابرا» لم يزد شيئا على ما قاله أرسطو في الحد (التعريف)، ولكن حسبه - وهو العالم الطبيعي - أن يتنبه إلى ضرورة الأساس الذي ينبني عليه تحديد المعاني، لكي يقيم عليها العالم بناءه العلمي في دقة منطقية، وسنورد في موضع آخر من هذا الكتاب
24
تصنيفه للعلوم وتحديده لها تحديدا يميزها بعضها من بعض، كما قد صنع كل صاحب منهج في تاريخ الفكر. (5) رجل التجارب العلمية
لقد أسلفنا القول في رأي «جابر» عن مصدر العلم ماذا عساه أن يكون؟ وهو أن مصدر العلم وحي أولا ينزل على النبي عليه السلام، ثم يتوارثه خلفاؤه من بعده - خلفاؤه المعترف بهم عند الشيعة - ثم يجيء التلقين من هؤلاء لمن رأوه من التلاميذ صالحا للتعلم؛ ومعنى ذلك بعبارة موجزة أن مصدر العلم أستاذ مؤهل من جهة، واستعداد فطري عند التلميذ من جهة أخرى.
والحق أني لا أعرف كيف أوفق توفيقا أطمئن إليه بين هذا الرأي في مصدر العلم الأول - وهو الوحي يأتي من الخارج - وبين منهجه التجريبي في بحوثه العملية، وهو منهج نموذجي في دقته وفي حرصه على التثبت؟ أيكون العلم عنده نوعين: فنوع تلقيني خاص بتحصيل الأحكام الشرعية وما إليها، ونوع آخر كشفي علمي تجريبي خاص بالعلم الطبيعي؟ يجوز أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه في تصنيفه للعلوم
25
قد قسم العلوم قسمين أساسيين: علم الدين وعلم الدنيا.
وأيا ما كان الأمر، فلجابر منهج تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيمياوية، جدير بالبسط والتحليل؛ فهو حريص على أن يقصر نفسه على مشاهداته التي تجيء التجربة مؤيدة لها؛ إذ قد تكون الظاهرة المشاهدة حدثا عابرا لا يدل على اطراد في الطبيعة. يقول «جابر» في رسم خطته العلمية: «يجب أن تعلم أنا نذكر في هذه الكتب (يشير هنا إلى الكتب التي بحث فيها خواص الأشياء) خواص ما رأيناه فقط - دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه - بعد أن امتحناه وجربناه؛ فما صح أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم.»
26
فهو في هذا النص يهتم اهتماما خاصا «بشهادة الغير» - سواء أكانت شهادة مقروءة أم مسموعة - هل يؤخذ بها في البحث العلمي أو لا يؤخذ بها؛ فتراه لا يعتد بها إلا على سبيل التأييد لما يكون قد وصل إليه هو بتجاربه؛ وهذا ولا شك إسراف منه في الحرص؛ لأن العلم يستحيل أن يخطو في تقدم مطرد ما لم يأخذ اللاحقون عن السابقين علمهم، وكل ما ينبغي التثبت منه هو أن نستيقن من أمانة أولئك السابقين الذين عنهم نأخذ ما نأخذه؛ أما أن يقتصر العالم على مشاهداته هو وحده وتجاربه هو وحده، وألا يلجأ إلى أقوال غيره من العلماء إلا على سبيل الاستشهاد على صدق ما قد انتهى إليه هو نفسه من مشاهداته وتجاربه؛ فذلك التزام لما ليس يلزم، لكنه على كل حال التزام يكشف لنا عن مبلغ دقة هذا العالم في منهج بحثه؛ وإنك لتراه في مواضع أخرى يتخفف بعض الشيء من التزامه المنهجي هذا، ويجيز لنفسه قبول النتائج العلمية التي ينقلها إليه الآخرون، فهو في ذلك يقول - مثلا -: «وما لم يبلغنا ولا رأيناه، فإنا من ذلك في عذر مبسوط.»
27
أي أن للعلم المحقق المقبول عنده مصدرين: فإما الرؤية بحاسته، وإما رؤية الآخرين كما تبلغه، ولا شك أنه يضمر شرطا لهذا الذي يبلغه عن الآخرين، وهو أن يكون هؤلاء الآخرون من الثقات المركون إلى أمانتهم العلمية.
وهاك عبارة وردت في كتابه «الرحمة»
28
يصف بها تجربة أجراها، وهي تدل على دقة ملاحظته. قال ما معناه: كان لدي حجر ممغطس يرفع قطعة من الحديد وزنها مائة درهم، وحفظته عندي زمنا طويلا، ثم جربته على قطعة أخرى من الحديد، فلم يرفعها؛ فظننت أن هذه القطعة الثانية من الحديد قد تكون أكبر وزنا من القطعة الأولى، فوزنتها ووجدتها أقل من ثمانين درهما، ومن هنا استنتجت أن قوة الحجر الممغطس قد نقصت، على الرغم من ثبات وزنه.
ويطلق «جابر» اسم «التدريب» على ما نسميه نحن اليوم «تجربة»، وهو يجعل إجراء التدريبات (= التجارب) العلمية شرطا أساسيا للعالم الحق: «فمن كان دربا كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل.»
29
على أن جابرا قد يذكر حقيقة ما على أنها مستندة إلى تجربة أجريت، على حين أن الخطأ فيها واضح؛ كأن يقول مثلا: «إن من أخذ ثورا - وإن كان أحمر اللون فهو أجود - ثم أدخل بيتا فطرح له من ورق الحاشاشيا ثم سد عليه الباب الذي دخل منه، وفتحت له في أعلاه أربع كوى كما يدور البيت، فترك الثور حتى يموت ويعفن، تولد عنه زنبور النحل.»
30
والخطأ العلمي هنا واضح، فحتى لو أعفيناه من خطأ القول إن حشرة ما تتولد من غير طريق نسلها الصحيح، على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية حقيقة كون الكائن الحي يستحيل أن يتولد إلا عن كائن حي، ولا يتولد قط من غير الحي، أقول إننا لو أعفيناه من هذا الخطأ على اعتبار أن هذه الحقيقة العلمية ربما تكون قد كشفت في عصر لاحق لعصره، فكيف نعفيه من الخطأ المنهجي في تفضيله للثور الأحمر في أداء هذه التجربة؟ (6) الاستنباط والاستقراء
لكننا من قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تطابق ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم، وهي تتلخص في ثلاث خطوات رئيسية؛ الأولى: أن يستوحي العالم مشاهداته فرضا يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها، والثانية: أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف، والثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة؛ فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو أن ظروفا بعينها توافرت.
فطريق السير إذن هو هذا: مشاهدات توحي بفروض، ثم استنباط للنتائج التي يمكن توليدها من تلك الفروض، ثم مراجعة هذه النتائج على الواقع. وعندئذ فإما أن نقبل الفروض التي فرضناها أو نرفضها تبعا لصدق نتائجها على الواقع؛ ولقد اصطلح رجال المنطق على أن يطلقوا كلمة «الاستقراء» على مرحلتي المشاهدة الأولى والتطبيق الأخير؛ لأن في كليهما لمسا للوقائع العينية واستقراء لها، كما اصطلحوا على أن يطلقوا على مرحلة استنباط النتائج التي يمكن توليدها من الفروض، اسم «الاستنباط»، وهو عملية تتم في الذهن؛ وهنالك من العلوم ما هو استنباطي صرف كالرياضة، ومنها ما هو استنباطي استقرائي معا كالعلوم الطبيعية.
أما التفكير الاستنباطي الذي هو رياضي في طبيعته، فيعتمد على مفاهيم ذهنية يتسق بعضها مع بعض، بغض النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها لواقع قائم في العالم الخارجي؛ وهو ضرب من التفكير لا مندوحة عنه في كل بحث علمي حتى لا يتقيد الباحث بحدود ما يقع له في خبرته الحسية المباشرة؛ إذ ترى الباحث في تفكيره الاستنباطي العقلي الخالص، يدير في ذهنه الأمر من كافة وجوهه، فيربط فكرة بفكرة ويستخرج فكرة من فكرة وهكذا، حتى إذا ما اهتدى بفضل هذه العمليات العقلية الداخلية إلى نتيجة يراها نافعة لو طبقت، فعندئذ يخرج إلى العالم الطبيعي الخارجي ليختبر صدق هذه النتيجة اختبارا يعتمد على الواقع المحسوس؛ فإذا تبين صدقها أصبحت قانونا علميا أو نظرية علمية تستخدم في الجانب التطبيقي من حياة الإنسان العملية.
وكان التفكير الاستنباطي الصرف هو المنهج الوحيد الذي يعتد به في العصور القديمة والوسيطة؛ لأن التفكير عندئذ كان كله قائما على أسس يفرضها العقل لنفسه فرضا، أو على أسس يوحي بها إلى الإنسان إيحاء، وما عليه في كلتا الحالتين سوى أن يستنبط النتائج من تلك الفروض المسلم بصدقها ؛ حتى جاءت النهضة الأوروبية وجاء معها العلم الطبيعي فعندئذ أحس رجال المنهج الفكري بضرورة إضافة منطق جديد يضاف إلى المنطق الأرسطي الاستنباطي الذي كان قد رسم ليسد حاجة التفكير في عصره والعصر الذي تلاه؛ أحس رجال المنهج الفكري إبان النهضة الأوروبية (القرن 16-17) بالحاجة الملحة إلى منهج استقرائي جديد يصلح لمعالجة الظواهر الطبيعية على أساس المشاهدة وإجراء التجارب.
ثم اندمج المنهجان آخر الأمر في منهج واحد وجد أن لا مناص من اصطناعه في كل بحث علمي منتج، فلا بد من ملاحظة خارجية أولا، لنستوحيها فروضا نفرضها، ثم لا بد في الوقت نفسه من طريق الاستنباط ننهجه داخل عقولنا لنولد من تلك الفروض التي فرضناها نتائج ننتفع بها في دنيا العمل والتطبيق.
أفليس من حق عالمنا العربي جابر بن حيان علينا، أن نسجل له بالفخر والإعجاب منهجا فكريا رسمه لنفسه في القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، وهو منهج لو كتب بلغة عصرنا ولو فصل القول فيه قليلا، لجاء وكأنه من نتاج العصر الحديث؛ ذلك لأنه منهج اعتمد على الاستنباط والاستقراء معا اعتمادا واعيا صريحا، فاقرأ - مثلا - هذه الجملة الواحدة تجيء عرضا في حديثه ليصف بها منهجه: «... قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب.»
31
فها هنا قد أجمل صاحبنا كل ما نريده نحن من الباحث العلمي في كلمات قلائل رتبت أدق ما يكون الترتيب؛ فعمل باليد أولا، وإعمال للعقل فيما قد حصلته اليد ثانيا، حتى تنتهي منه إلى نظرية مفروضة، ثم امتحان تطبيقي ثالثا للفرض العقلي الذي فرضناه.
على أن الأمر عنده لا يقتصر على مثل هذه العبارات المقتضبة الموجزة المركزة يصف بها منهجه؛ بل إنه يفيض الكلام في ذلك إفاضة كافية في مواضع كثيرة من كتبه.
فانظر إليه - مثلا - وهو يوضح لك كيف يمكن للعالم أن يبدأ بالتعريف العقلي لمفهوم ما، ثم يستنبط من هذا التعريف ما يريده من التفصيلات الخاصة بالعلم الذي يتعلق به ذلك المفهوم المعرف، فيقول على سبيل المثال: إننا إذا ما بدأنا بتعريف «الإيقاع» بأنه تأليف عددي، استطعنا أن نستخرج من هذا التعريف سلسلة من النتائج التي يلزم بعضها عن بعض، والتي تضع لنا أسس العلم الموسيقي؛ فالنتيجة الأولى لهذا التعريف هي أنه ما دام الإيقاع هو تأليف عددي فإنه لا بد أن يكون تأليفا من حركة وسكون في مجال النطق والسمع؛ ومن تأليف المتحرك والساكن تنتج نتيجة هي: أن أوزان الألفاظ تكون كذا وكذا؛ أما في مجال الموسيقى، فمن تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي، ينتج أن هذا التأليف إما أن يكون فردا في العدد أو زوجا؛ والزوج والفرد يأتلفان معا على أربع صور: زوج زوج، أو فرد فرد، أو زوج فرد، أو فرد زوج، والعدد الفرد يكون مثل الواحد وأخواته، والزوج مثل الاثنين وأخواتها، ويتولد عن ذلك أربع طرائق في الموسيقى، وهي التي يسمونها بالأسماء الآتية: ثقيل الأول، وثاني الثقيل، والرمل، والهزج؛ ثم إنهم ولدوا كل واحد من هذه خفيفا، فصارت ثمانية، وهي: خفيف ثقيل الأول، وخفيف ثقيل الثاني، وخفيف الرمل، وخفيف الهزج، ثم جعل لكل واحد من هذه نسبة في الأصابع، فكان خلف هذه في الأصابع، كخلف تلك في الحلق واللسان والشفتين؛ إذ إنه قد يحدث من هذه الطرائق بالأصابع ساكن ومتحرك، كما حدث لنا في الحروف ساكن ومتحرك، وبهذا تصبح لكل طريقة من طرائق الموسيقى الأربع، أربع صور، وربما فرقوا بينها بنقرة يسيرة فصارت ثمانية، أي أن مجموع الصور كلها يكون عندئذ ثمانية في أربعة، أعني أنه يكون اثنتين وثلاثين طريقة ... وهكذا - كما يقول جابر نفسه في نهاية تحليله السابق - ينتج هذا كله من تعريفنا للإيقاع بأنه تأليف عددي.
32
إلى هذا الحد البعيد يمكن للمنهج الاستنباطي وحده أن يزودنا بحقائق العلوم، على شرط أن نبدأ بتعريفات سديدة خصبة؛ ولهذا ترى جابرا يعني أكبر العناية بتعريف العلوم - وسنبسط القول في ذلك في الفصل التالي - اعتقادا منه أن التوفيق في تعريف أي علم شئت، يضمن لنا إلى حد بعيد توفيقا في الحقائق التي نحصل عليها من ذلك العلم؛ فلا غرابة بعد هذا أن نراه يختص «حدود» العلوم (أي تعريفاتها) بكتاب مستقل، يقول عنه «يا ليت شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتبنا؛ فاذا قرأته يا أخي، فلا تجعل قراءتك له مثل قراءة سائر الكتب، بل ينبغي أن يكون قراءتك للكتب مرة في الشهر، وأما الحدود فينبغي أن ينظر فيه كل ساعة؛ وأن إعطاء الحد أعظم ما في الباب.»
33
وأما عن الجانب الاستقرائي من المنهج العلمي - وهو جانب يكاد ينسب كله لمناطقة أوروبا ابتداء من النهضة العلمية إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر - فقد سبق ابن حيان إلى الكتابة بما يكفي وحده أن يضع هذا العالم بين أئمة المنهج العلمي، فضلا عن منزلته التي اكتسبها بقضاياه العلمية نفسها.
فالاستقراء - على خلاف الاستنباط - ينصب على أشياء الوجود الخارجي، ومداره هناك هو اتخاذ الحاضر شاهدا على الغائب؛ فمن علمنا طبيعة الضوء - مثلا - نستطيع أن نتوقع ظواهر ضوئية معينة تحدث في المستقبل حين تتوافر ظروف معينة؛ ومن علمنا باتجاه الريح ومقدار الضغط الجوي ودرجة الرطوبة في الهواء، نستطيع أن تتوقع شيئا عن نزول المطر أو عدم نزوله، وهكذا؛ وذلك أننا نحلل الظواهر الذي تقع لنا في مشاهداتنا وتجاربنا تحليلا يربط الجوانب المتلازمة في الوقوع ربطا يتيح لنا أن تتوقع حدوث بعضها إذا رأينا أن بعضها الآخر قد حدث بالفعل.
فماذا يقول «جابر بن حيان» في المنهج الاستقرائي (دون أن ترد بالطبع كلمة «استقراء» في سياقه)؟
يقول: إن المشاهد يتعلق بالغائب على ثلاثة أوجه، وهي: (أ) المجانسة. (ب) مجرى العادة. (ج) الآثار. وسنوجز القول فيما يلي عن الاستقراء القائم على المجانسة، ثم نعقب عليه بذكر الاستقراء عن طريق العادة، ونأسف ألا نجد بين أيدينا ما قاله جابر عن الاستقراء عن طريق «الآثار».
34 (6-1) الاستدلال عن طريق المجانسة
يقول جابر في ذلك ما مؤداه: إن الاستدلال بالمجانسة هو من قبيل حكمك على شيء ما إذا رأيت نموذجا له؛ كأن ترى - مثلا - حفنة من قبح لتستدل بها على بقية القمح ما نوعها وما طبيعتها ؛ على أن الاستدلال على هذا الوجه - فيما يقول جابر - ليس ثابتا ولا صحيحا؛ ومع ذلك فقد اضطر إليه بعض العلماء اضطرارا؛ لكن جابرا يعترض على مثل هذا المنهج في التفكير؛ لأن وجود النموذج لا يدل بذاته على وجود الكل الذي قيل إنه متمثل في النموذج المذكور. ومن أمثلة الأخطاء التي وقع فيها من استخدم هذا المنهج، خطأ الطائفة التي قالت: إنه إذا كان في العالم نور وظلمة وخير وشر وحسن وقبيح، فإنه يجب أن يكون خارج هذا العالم أيضا نور وظلمة وخير وشر وحسن وقبيح؛ لأن ما في هذا العالم من هذه الأشياء كلها هو بمثابة العينة التي تدل على ما هو خاف عنا في عالم الغيب. يقول جابر: إن هذا الاستدلال لا يستقيم إلا إذا أثبتوا أولا أن ما في هذا العالم هو جزء من كل، وأما إذا لم يثبتوا ذلك امتنعت ضرورة النتيجة التي انتهوا إليها؛ أفلا يجوز أن يكون النور الذي في هذا العالم هو كل ما هنالك من نور، والظلمة هي كل ما هنالك من ظلمة، وهكذا قل في الخير والشر والحسن والقبيح؟ «ألا ترى أن الأنموذج لا يثبت عند من دفع إليه كم من ذلك الجوهر عند من أراه ذلك الأنموذج، بل لا يثبت عنده بعلم يقين أن عنده من ذلك شيئا غير ما أراه.»
35
ولا يفوت جابرا هنا أن يعرج بالحديث على كتبه - وهو كثيرا ما يفاخر بها - فيجعلها مثلا تطبيقيا توضيحيا لمبدأ الاستدلال بطريق المجانسة ومدى ما يعرض صاحبه له من خطأ، فيقول: إن من لم يقرأ كتبي كلها بكل ما فيها من تفصيلات وتعليقات، مكتفيا ببعضها دون بعضها الآخر، قمين أن يكون فكرة خاطئة؛ فمن قرأ كتابين من كل فن من فنون كتبي هو أعلم ممن قرأ كتابا واحدا من كل منها.
36
ويذكر جابر اعتراضا قد يوجه إليه في قوله: إن الجزء لا يؤتمن في الحكم على الكل، يذكر هذا الاعتراض ليرد عليه؛ فقد يعترض معترض بقوله: إن الجزء والكل أمران متضايفان لا يعقل أن يوجد أحدهما بغير الآخر؛ فمجرد قولك عن شيء إنه جزء يقتضي بالضرورة أن يكون هناك الكل الذي يحتويه، وكذلك مجرد قولك عن شيء إنه كل يقتضي بالضرورة أن له أجزاء تدخل فيه. لكن الاعتراض مردود بما يأتي: هذا كله صحيح على شرط أن يثبت لنا أن النموذج المقدم هو جزء، ومن أين يجيئنا هذا اليقين إذا قدم لنا شيء ما أنه ليس هو الجنس كله، وليس جزءا يندرج في جنس يضمه مع غيره من الأجزاء التي تجانسه؟ (6-2) الاستدلال المنبني على جري العادة
هذا هو الاستدلال الاستقرائي الذي يصل به صاحبه إلى التعميم عن طريق مشاهدته لعدة أمثلة يراها متشابهة في ناحية من نواحيها فيعمم عليها الحكم تعميما يجعلها زمرة واحدة؛ فكأنما يبني المستدل تعميمه في هذه الحالة على عادة يتعودها في مشاهداته؛ إذ يتعود أن يرى صفتين - مثلا - مقترنتين دائما، فيتوقع بعد ذلك إذا ما رأى إحداهما أن يرى الأخرى. وبطبيعة الحال لا يكون هذا التوقع قائما إلا على أساس احتمالي؛ إذ ليس هناك ما يمنع أن تجيء الحوادث على غير ما قد شهدها الإنسان في الماضي، وعلى غير ما يتوقع لها أن تكون. وإنه لمما يستوقف النظر في هذا الصدد أن نرى تطابقا تاما بين ما يقوله جابر بن حيان في هذا الضرب من الاستدلال، وما قاله ديفد هيوم في القرن الثامن عشر، مما يعد أبرز طابع في فلسفته؛ فكلاهما ينبه إلى أن الاستدلال الاستقرائي قائم على أساس «العادة» وحدها، وبالتالي فهو استدلال احتمالي لا تحتمه الضرورة العقلية؛ فليس فيه بعبارة ابن حيان: «علم يقين واجب اضطراري برهاني أصلا، بل (فيه) علم إقناعي يبلغ إلى أن يكون أحرى وأولى وأجدر لا غير.»
37
ويمضي جابر بن حيان في الحديث عن الاستدلال الاستقرائي فيقول ما معناه: إن الناس يكثرون من استخدام هذا الاستدلال ويستندون عليه في أمورهم أكثر مما يستندون إلى أي ضرب آخر من ضروب الاستدلال؛ لأنه قياس واستقراء للنظائر واستشهاد بها على الأمر المطلوب إقامة الحجة على صوابه؛ وليس هذا الضرب من الاستدلال المبني على الشواهد ما يطلق عليه في المصطلح المنطقي ب «البرهان»؛ إذ البرهان لا يكون إلا في حالة الاستنباط الذي نولد به النتيجة مقدماتها توليدا يجعلها صريحة بعد أن كانت مضمرة في المقدمات؛ فإذا كانت المقدمات صحيحة لزم بالضرورة أن تكون النتيجة صحيحة كذلك؛ فالاستقراء والبرهان ضربان متعارضان: الأول احتمالي والثاني يقيني، الأول يتفاوت قوة وضعفا «بحسب كثرة النظائر والأمثال المتشابهة وقلتها والثاني لا تفاوت فيه بين قوة وضعف؛ لأنه لا تفاوت في درجات اليقين». ويقول ابن حيان: إن قوما قد ظنوا أن الاستقراء يمكن أن يكون مؤديا إلى علم برهاني يقيني؛ وذلك إذا اطردت النظائر المتشابهة اطرادا لا يشذ فيه مثل واحد.
38
ولهذا يرى «ابن حيان» أنه جدير بالقول المفصل، لا يختلط أمره في عقول الباحثين، فيقول:
39
إن أضعف استدلال من هذا القبيل هو ذلك الذي لم يوجد له إلا واحد نقيس عليه حكمنا العام؛ «كرجل قال مثلا: إن امرأة ستلد غلاما؛ فسألناه عن الدليل من أين علم ذلك؟ فأجابنا قال: من حيث إنها ولدت في العام الأول غلاما؛ ولم تكن المرأة ولدت إلا ولدا واحدا فقط ...» هذه هي أضعف حالات الاستقراء. وأما أقوى حالاته فهي تلك التي نجد جميع ما في الوجود مطردا فيها على مثال واحد، ولا نجد أبدا ما يخالف؛ كرجل قال: «إن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها ويكون بعقبها؛ فسألناه من أين علم ذلك فأجاب بأن قال: من قبل أني لم أجد ليلة إلا وانكشفت عن يوم.»
40
تلكما هما أضعف الحالات وأقواها بين حالات التدرج في القوة والضعف «وأما ما بين هذين فقوية وضعيفة في الدلالة بحسب كثرة النظائر وقلتها، وليس في هذا الباب علم يقين واجب»، فإذا جاز لنا أن نستشهد في أمثال هذه الحالات بحيث نحكم بالحاضر على الغائب، فما ذاك إلا «لما في النفس من الظن والحسبان، فإن الأمور ينبغي أن تجري على نظام ومشابهة ومماثلة؛ فإنك تجد أكثر الناس يجرون أمورهم على هذا الحسبان والظن، ويكاد أن يكون ذلك يقينا، حتى إنه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الأخرى؛ فإن حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك أن سيحدث مثله في السنة الثالثة؛ وإن حدث في السنة الثالثة أيضا، حتى إذا حدث ذلك مثلا عشر مرار في عشر سنين، لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة تكون من بعد، وإذا كان هذا مقدار ما يقع في النفس من هذا المعنى، فما ترى يكون فيما لم يشاهد قط إلا على ذلك الوجه.»
41
كالمثل الذي أسلفناه لاستدلال المستدل بأن ليلتنا هذه ستنفرج عن يوم، هذا ما يقوله ابن حيان. ولا بد هنا من تنبيه القارئ بقوة إلى نقطتين وردتا في كلامه هذا، يقر بأنه من رجال المنهج العلمي في العصور الحديثة؛ أولاهما إشارته إلى ميل النفس البشرية التي توقع تكرار الحادثة التي حدثت، فكأنما الاستدلال الاستقرائي مبني على استعداد فطري في طبيعة الإنسان؛ وإنك لترى هذا المبدأ نفسه عند جون ستيوارت مل؛ والنقطة الثانية هي كون درجة احتمال التوقع تزداد كلما زاد تكرار الحدوث، وهي نظرية لها اليوم تفصيلات كثيرة ولا يتسع المقام هنا للإطناب في الشرح والتعليق.
ويضرب لنا جابر مثلا على استخدام الطريقة الاستقرائية السالف ذكرها - وهي الطريقة التي يوصل فيها إلى التعميم عن طريق اختبار عدد من الأمثلة الفردية المنتمية إلى النوع الذي نعمم الحكم على جميع أفراده - أقول إن جابرا يضرب لنا مثلا على استخدام هذه الطريقة في البحوث العلمية التي وقعت فعلا في تاريخ العلم، والمثل الذي يضربه هو جالينوس
42
فيقول عنه: إن جالينوس مع تمكنه من العلم، وتدربه في النظر، قد أخذ المقدمات التي بنى عليها علمه، من الأمثلة الفردية التي وقعت له في خبرته، ثم جعل هاتيك المقدمات بمثابة المبادئ الأولية العقلية التي يلزم قبولها؛ حتى إنه قال في كتابه البرهان: إن من المقدمات الأولية في العقل أنه إذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع، ويريد جالينوس بهذا أن يقول: إن تسلسل الأحداث كما يقع في المشاهدة حينا بعد حين، يصبح قانونا مطردا يمكن الحكم على أساسه، حكما لا يتقيد بزمان؛ وها هنا يستطرد جابر في الحديث موجها النقد إلى جالينوس على نحو يشهد لجابر بدقة علمية منهجية ليس بعدها دقة؛ إذ يقول: «وأنا أحسب أن هذه المقدمة (مقدمة أن الخريف إذا كان يعقب الصيف حتما، فما ذلك إلا لأن الصيف قد سبقه ربيع) ليست بصحيحة دون أن يصح أن الأزمان لم تزل ولا تزال على مثل ما هي عليه؛ فإذا لم يصح ذلك فإنه لا يؤمن أن يكون صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع.»
43
ومراد جابر بهذا القول هو أن تعاقب الفصول في المشاهدة وحدها لا يضمن لنا سلامة الحكم العام بتعاقبها دائما، إلا إذا كان في رءوسنا فرض سابق مضمر، وهو أن الزمن أزلي لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وهذا الفرض بطبيعة الحال ليس مستمدا من المشاهدة، وإنما هو أولي في العقل؛ وبغير هذا الفرض السابق، لا يجوز الحكم الحتمي اليقيني الضروري بأن هذا الصيف سيسبقه خريف؛ إذ قد يكون هذا الصيف هو آخر الزمان، كما أنه لا يجوز الحكم بأن صيفا ما في الماضي قد جاء حتما بعد ربيع؛ إذ ربما كان ذلك الصيف أول الزمان ولم يسبقه شيء.
وما يصدق على هذا المثل يصدق على أمثلة أخرى كثيرة، فهل يجوز منهجيا - مثلا - أن أحكم على عالم الأفلاك بأنه هكذا كان دائما، ما دمت أنا وآبائي وجميع القدماء لم يزالوا يرونه مطردا على هذه الصورة التي نراها، «فقد رصد المنجمون قبل ألوف السنين، فوجدوه على مثال واحد في أعظامه (= أبعاده وأحجامه) وحركاته.»
44
كلا، لا يجوز لنا ذلك إلا على سبيل الاحتمال المرجح لا على سبيل الضرورة واليقين؛ إذ من أدرانا ألا يكون هذا الكون مسبوقا بحالة تختلف عن الحالة المشاهدة، بل من أدرانا ألا يكون الكون مسبوقا بشيء على الإطلاق؟ وخذ مثلا آخر: هل يجوز لنا من الوجهة المنهجية أن نقول إنه ما دام الآدميون هم على الصورة التي نراها، فمحال على إنسان أن يجيء على غير هذه الصورة؟ كلا، فليس هذا الحكم في وسعنا ما دامت خبرتنا مقصورة على بعض العالم دون بعضه، وعلى فترة محدودة من الزمن دون بقية الزمن «فإنه قد يمكن أن يكون موجودات «مخالف» حكمها في أشياء حكم ما شهدنا وعلمنا؛ إذ كان التقصير عن إدراك جميع الموجودات لازما لكل واحد منا».
45
وبعد هذه الأمثلة التي يسوقها جابر، ينتهي بنا إلى المبدأ العام، وهو أنه: «ليس لأحد أن يدعي بحق أنه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد، أو في الماضي والمستقبل إلا مثل ما في الآن؛ إذ كان مقصرا جزئيا، متناهي المدة والإحساس؛ وكذلك لا ينبغي أن يستدل الإنسان على أن العالم لم يزل (= أزلي) من أنه لم يدرك أحد من الناس ابتداء كونه؛ ولا على أنه لم يكن رجل إلا عن امرأة ورجل؛ لأنه لم يدرك الأمر إلا كذلك، من قبل أنه يمكن أن يكون وجود الناس متأخرا عن ابتداء كون العالم، وأن يكون كون الإنسان الأول مخالفا لما عليه الأمر في تكوين سائر الناس ...»
46
وأحسب أن جابرا قد صور بهذه الفقرة السالفة حدود المنهج التجريبي أدق تصوير، فمن المشاهد لا يجوز الحكم على ما لم يشاهد إلا على سبيل الاحتمال، لا على سبيل اليقين؛ لكنه إذا لم يكن من الجائز القطع بوجود الغائب على أساس الحاضر المشاهد، فكذلك ليس من الجائز إنكار وجود الغائب ما دام هذا الغائب لم يقع في نطاق الخبرة والمشاهدة؛ وإلا لانحصر الإنسان في حدود حسه هو، أو في حدود ما تناهى إليه خبره؛ ولزمه أن ينكر وجود أشياء كثيرة وهي موجودة؛ ففي العالم بلدان وأمم لم يحس أهلها بالتمساح قط، إذا أخبرهم مخبر بأن ثمة حيوانا يحرك لحيته العليا عند المضغ، وجب عليهم أن ينكروا الخبر ما داموا لم يشهدوا حيوانا كهذا، كلا «فليس لأحد أن يدفع ويمنع وجود ما لم يشاهد مثله، بل إنما ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان بوجوده أو عدمه.»
47
وأما أن يحكم الإنسان بعدم وجود شيء ما دام لم يرد عليه أو يخبر به، وأن يحكم ببطلان ما يخبر به ما دام لم يقع له في مشاهداته المباشرة، «فجهل بطريق الاستدلال - على ما قدرنا - واضح.»
48
إن الدهريين ليستندون في إنكارهم لخلق العالم إلى أن أحدا من الناس لم يشاهد قط عالما بدئ بتكوينه، حتى يجوز لنا القول بأن عالمنا هذا قد كان له بداية؛ لكننا - على أساس المنهج الاستدلالي الذي شرحناه - نسألهم بدورنا؛ أولا: لماذا لا يكون الإنسان قد خلق بعد خلق الكون بدهر طويل، بحيث لم يتح له أن يشهد البدء؟ وإذا سلمنا بذلك فهل يحق للإنسان أن يحكم بقدم وجود بدء للخلق ما دام مثل هذا البدء لم يقع في خبرته المباشرة؟ وثانيا: افرض أن هنالك مدينة أو قصرا لا يذكر أحد متى بنيت تلك المدينة أو متى بني ذلك القصر، أفنقول - إذن - إن المدينة أو القصر ليس لها أو له أول على غرار ما يقول الدهريون عن قدم العالم؟ فإذا قال الدهري إنه في حالة المدينة أو القصر لا يقول بالقدم، لأنه قد شاهد المدن والقصور تبنى ابتداء، فليس عليه من حرج أن يقيس على ما يرى، فردنا عليه هو: على أي أساس تحكم بأن ما يشبه ما قد رأيته يكون عندك صوابا مع أنك لم تشهده، وما ليس يشبه ما قد رأيته يكون عندك خطأ؟ إنك في كلتا الحالتين لم تشاهد هذا الذي حكمت عليه بحكم ما، ووجود شبيهه في خبرتك أو عدم وجوده - إن دل على احتمال - فهو لا يدل على صدق ضروري لازم واجب يقيني محتوم.
إن من حق جابر علينا أن نسجل له هنا بهذا الذي أوردناه عنه في موضوع الاستقراء، من أنه يؤدي إلى الحكم الاحتمالي فقط دون اليقين، سبقا لرجال المنهج العلمي في العصور الحديثة، الذين أوشكوا اليوم - منذ «ديفد هيوم» - أن يكونوا على إجماع في هذا؛ حتى لقد أصبح من أبرز الخصائص التي تميز العلم اليوم أنه احتمالي النتائج ما دام قائما على أسس استقرائية ؛ وإن رجال المنطق اليوم ليصطلحون على تسمية هذه المشكلة كلها ب «مشكلة الاستقراء»، ومؤداها: كيف نوفق بين أن يكون منهج العلم استقرائيا، وأن تكون قضاياه مقبولة الصدق؟ (7) المنهج الرياضي في البحث العلمي
إنه إذا كانت المشاهدة الاستقرائية وحدها غير مؤدية إلى يقين؛ وجب علينا أن نلتمس مصدرا آخر لليقين إذا أردناه؛ ومصدره - عند جابر - هو المبادئ العقلية التي تدرك بالعيان العقلي المباشر، ثم ترتب عليها النتائج المستنبطة منها؛ فأما المبادئ العقلية فلا برهان على صدقها لأنها مدركة إدراكا مباشرا، وأما النتائج فصدقها مضمون ما دام استنباطها من تلك المبادئ سليما.
يقول جابر ما نصه: «إنه ينبغي أن تعلم أولا موضع الأوائل والثواني في العقل، كيف هي، حتى لا تشك في شيء منها، ولا تطالب في الأوائل بدليل، وتستوفي الثاني منها بدلالته.»
49
وإن هذا النص القصير الموجز ليرسم حدود المنهج الرياضي في تركيز واضح؛ ولسنا نقصر «المنهج الرياضي» على العلوم الرياضية وحدها، بل إنه منهج ينتهج في أي بحث علمي آخر ما دام الباحث ينشد يقين النتائج ولا يكتفي بالنتائج الظنية؛ وهو منهج يوصي به فلاسفة كثيرون، وعلى رأسهم ديكارت في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث؛ فلو شئت تلخيصا للمنهج الديكارتي كله، لما وجدت خيرا من هذا النص الموجز الذي أسلفناه عن جابر بن حيان.
يفرق جابر في النص المذكور بين ما أسماه «بالأوائل» وما أسماه «بالثواني» في العقل؛ أما الأوائل فهي بطبيعة كونها أولة في العقل لا تكون مستنبطة من سواها، وإلا لما كانت أولة ولسبقها غيرها، هو هذا الذي استنبطناها منه؛ ولذلك فلا يطلب على صدق «الأوائل» برهان سوى حدسها حدسا صادقا ومباشرا، أو رؤيتها بالعيان العقلي رؤية مباشرة؛ وأما «الثواني» فهي التي تأتي بعد ذلك عن طريق الاستنباط من «الأوائل»؛ وهذه الثواني هي التي يطلب عليها الدليل، ودليلها هو أن يردها الباحث إلى الأوائل التي جاءت الثواني منها نتائج لازمة عنها؛ فهكذا تكون الرياضة - كالهندسة مثلا - إذ تبدأ بمسلمات مفروضة الصدق، ولا يطلب على صدقها برهان، ثم تستنبط منها «النظريات» التي يكون دليل صدقها هو إرجاعها إلى المسلمات الأولية التي منها جاءت.
وإن رجال المنهج العلمي ليختلفون - وما يزالون يختلفون إلى يومنا هذا - أي المنهجين أولى في البحث العلمي: الاستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق، أم الاستنباط الذي يضمن اليقين في النتائج؟ على شرط أن تكون مقدماته يقينية، ولا تكون المقدمات كذلك إلا إذا جاءت عن غير طريق الملاحظة الخارجية، أي أنها تجيء عن طريق الإدراك الحدسي المباشر من الداخل، أم أنه لا بد من الجمع بين هذا وذاك: فنلاحظ ظواهر الطبيعة أولا، ثم نحدس بالعيان العقلي فرضا نفرضه لتفسير ما قد لاحظناه، ثم نركن إلى الاستنباط في استخراج ما يلزم عن ذلك الفرض لزوما عقليا؟ ... إن لكل من هذه الاتجاهات من يناصره؛ ف «فرانسس بيكن» (1561-1626م) مثلا نصير للملاحظة الخارجية وحدها؛ و«ديكارت» (1596-1650م) نصير للاستنباط العقلي وحده، و«جون ديوي» (1859-1952م) نصير للجمع بين الملاحظة الخارجية والاستنباط معا.
وها هو ذا عالمنا العربي جابر بن حيان - فيما نرى - يضطر إلى الاستنباط والاستقراء معا في منهجه، وإن يكن - فيما أظن - لا يجمع بينهما في عملية منهجية واحدة؛ إذ يجعل لهذا موضعه ولذاك موضعه، فبينما تراه يؤكد ضرورة الملاحظة الخارجية في تجاربه العلمية - كما أسلفنا القول في ذلك - تراه من ناحية أخرى يبني مذهبه العلمي كله على أساس لو حللته لوجدته هو المنهج الرياضي الاستنباطي بعينه: فحدوس أولية يراها العقل رؤية مباشرة (أو يوحي بها إلى نبي ثم يتوارثها الخلفاء الشرعيون من بعده) ثم نتائج تلزم عن تلك الحدوس.
فليس الفرق بين المنهجين - في حقيقة الأمر - فرقا سطحيا وكفى، بل إنه ليضرب بجذوره إلى أعماق الفلسفة التي يصطنعها الباحث العلمي عن الكون: أهو يسير على اطرادات يجيء فيها تعاقب الأحداث أمرا واقعا لكنه لا يهدف إلى شيء، أم أنه يسير على خطة عقلية تستهدف غاية معلومة؟ فإن كانت الأولى فما على العالم إلا أن يلاحظ تعاقب الأحداث المطردة ويسجل ملاحظاته فتكون هي قوانين الطبيعة؛ وإن كانت الثانية فالأمر أمر تحليل عقلي يرتد بنا إلى المبدأ الأول الذي عنه صدرت الظواهر كلها؛ فها هنا في هذه الحالة الثانية تكون العلاقة السببية بين الظواهر علاقة ضرورية، بمعنى أن المسبب يكون كامنا في السبب بالقوة، ثم يخرج إلى الظهور بالفعل خروج النتيجة العقلية من مقدمتها الملزمة لها، لا مجرد ظهور اللاحق الذي يلحق سابقه دون أن تكون بينهما أية رابطة باطنية داخلية تجعل طبيعة اللاحق منبثقة من طبيعة السابق.
ولست أشك في أن فلسفة جابر الكونية هي فلسفة عقلية تربط الأشياء بالروابط السببية الضرورية، التي يكشف عنها التحليل العقلي؛ فالسببية عنده هي سببية الكمون أو هي سببية المحايثة - كما تسمى أحيانا - هي السببية التي لا تجعل تلاحق السبب والمسبب أمرا عارضا قد يكون وقد لا يكون، بل تجعله أمرا ضروريا محتوما؛ ما دام المسبب كان موجودا في سببه بالقوة قبل ظهوره بالفعل، فكأنما السبب يلد مسببه ولادة طبيعية. يقول جابر: «إن في الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الإخراج.»
50
وأظن أن دلالة هذه الجملة واضحة في أن الكون كله مترابط في وحدة واحدة؛ فإذا رأيناه يتخذ ظواهر متعددة، فهذه الظواهر يرتد بعضها إلى بعض ويخرج بعضها من بعض؛ والكل في النهاية يرجع إلى أصل واحد كان يحمل كل شيء في جوفه بالقوة ثم ظهر منه كل شيء بالفعل. والعقل - دون مشاهدة الحواس - هو بالطبع ما يدرك هذه الرابطة بين الأشياء المختلفة في ظاهرها، المتحدة في أصلها ومصدرها؛ على أن الأشياء يخرج بعضها من بعض على صورة طبيعية أحيانا، وعلى صورة مصطنعة مدبرة من الإنسان أحيانا أخرى، وهذه الحالة الثانية هي مجال العلم؛ أي أن التجارب العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض إنما تحاكي الطبيعة فيما تؤديه من هذا الإخراج؛ فيقول جابر في ذلك: «التدبير على القصد المستقيم (= التجربة العلمية السليمة) هو الذي يخرج ما في قوى الأشياء، مما هو لها بالقوة، إلى الفعل، فيما يخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يخرج.»
51
الاستنباط العقلي إذن ضروري لكي نستعين به على إدراك الروابط الضرورية بين الأشياء؛ لكن الاستقراء أيضا ضروري لكي نستعين بمنهجه على إجراء التجارب التي نحاكي بها الطبيعة في إخراج شيء من شيء؛ فكيف نجمع بين المنهجين؟
إن لجابر عبارة وردت في كتابه: «الأحجار على رأي بليناس»
52
أراها - مع شيء من الاجتهاد في التأويل - تصف لنا كيف يكون الجمع بين المنهجين في الطريقة العلمية، وهذه العبارة هي: «ينبغي أن تفرد ما أخرجه لك الهجاء، عما أخرجه لك الحدس، لتطلب مثل ما أخرجه الحدس بالإضافة إلى الصورة، ليصير لك الشكلان شكلا واحدا.» فما معنى ذلك؟
إن أحد المبادئ المنهجية عند ابن حيان مبدأ سنفيض القول فيه فيما بعد،
53
وهو أن اسم الشيء دال بحروفه على طبيعة ذلك الشيء، وإذن فمن أحرف الهجاء التي منها تتركب أسماء الأشياء، تستطيع أن تستدل على طبائع الأشياء التي على أساسها تجري تجاربك العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض، وهذا هو جانب واحد من البحث، وأما الجانب الثاني فهو أن تستلهم الحدس العقلي ماذا عسى أن تكون طبيعة شيء معين تريد معرفة تركيبه؛ فبالحدس العقلي وما ينبني عليه من استنباطات عقلية صرف، يمكنك أن تعرف - مثلا - طبيعة النحاس أو الذهب، دون أن تلجأ إلى ملاحظة خارجية لخصائص هذين المعدنين؛ وبهذا تتكامل عندك نتيجتان عما تريد العلم به: إحداهما جاءت عن طريق البحث في اسم هذا الشيء الذي تريد أن تحيط به علما، وما تدل عليه الأحرف المكنونة لهذا الاسم، والأخرى جاءت عن طريق التفكير العقلي الباطني الخالص. فإذا تطابقت النتيجتان كان بها، وإلا فإذا اختلفتا فعليك أن تكمل النتيجة التي جاءت عن طريق البحث الظاهري بما قد دلت عليه النتيجة التي جاءت عن طريق التفكير الباطني؛ أي أن الأولوية لحكم العقل، فهو معيارنا الأخير في استقامة الأحكام التي تجيء عن طريق البحث في الظواهر بالملاحظة الخارجية.
فمهما يكن من قيمة البحث في الظواهر، فلا مناص لنا من الرجوع آخر الأمر إلى ما يحكم به العيان العقلي لنهتدي به سواء السبيل؛ وهذا العيان العقلي لا يكون لك ولي من أفراد الناس، بل يكون بادئ ذي بدء وحيا يوحى به إلى نبي ثم يتوارث؛ وبغير هذا السند نظل تتخبط أين يكون الحق وأين يكون الباطل، فالشكوك - في رأي جابر - لا تنجاب «إلا بالعيان وبإقامة البرهان ... وإقامة البرهان لا تكون إلا بالعيان ... والعيان من أفعال الأنبياء.»
54
وهذه هو بعينه ما يقوله حين يقول أيضا: «فو الله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها، والباقي علم النبي.»
55 (8) من أخلاق العلماء
لقد نثر ابن حيان في غضون مؤلفاته مبادئ يراها لازمة لكل من يتصدى للبحث العلمي، فهي - إذا شئت - المنهج الخلقي للعلماء؛ ومن هذه المبادئ إنصاف الخصوم، والإنصاف يقتضي كذلك أن ينصف الباحث نفسه إزاء خصومه، فليس من الإنصاف الكامل أن توفي خصومك حقوقهم ثم تفرط في حق نفسك عندهم؛ لأن المسألة بينك وبينهم مسألة حق يراد بلوغه؛ فإذا كنت بصدد خصم علمي في فكرة بعينها، فواجبك أن تعرض حججه كلها، حجة حجة، لا تترك منها شيئا وأنت عامد، ولا تضيف إليها من عندك شيئا وأنت عامد؛ ثم تذكر عن كل حجة ما لها وما عليها من وجهة نظرك. يقول ابن حيان: «إن العالم إذا كان منصفا فإنه ليس ينزل في الأقسام شيئا إلا ذكره، واحتج عليه وله، وأخذ حقه من خصومه، ووفاهم حقوقهم، وإلا فقد وقع العناد حماقة وجهلا.»
56
ومن المبادئ الخلقية للعالم أن يكون مثابرا دءوبا غير يائس من الكشف عن الحقيقة المنشودة؛ فما أكثر ما يقتضي البحث عناء شديدا قد لا يحتمله الباحث، فينفض عنه في قنوط؛ لكن الذي يريد الإحاطة بعلم ما من جميع فروعه إحاطة تتيح له أن يتكلم في أصوله، وجبت عليه - كما يقول جابر - المثابرة التي لا تعرف إلى اليأس سبيلا. ويستشهد جابر من هذا السياق بالآية الكريمة:
ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون
وهو يوجه الخطاب إلى مولاه فيقول: «وقد سمعت ما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم
في القنوط، وأحذرك أن تصير إلى هذه الحال فتندم حين لا ينفعك الندم، والله أعلم بأمرك ... وحق سيدي عليه السلام إن لم تقبل لتكونن مثل رعاع العامة السفلة الأجناد، لعنهم الله أكثر مما قد لعنهم.»
57
ويؤكد جابر لقارئه أنه لا نجاح في عمل علمي إلا إذا كان مسبوقا بعلم؛ فالتحصيل النظري أولا ثم التجربة والتطبيق ثانيا. نعم إن هذا التحصيل الكامل قد يقتضي تعبا وجهدا، لكنه لا مناص من ذلك إذا أريد الوصول. يقول: «اتعب أولا تعبا واحدا، واجمع، وانظر، واعلم، ثم اعمل؛ فإنك لا تصل أولا، ثم تصل إلى ما تريد.»
58
ومبدأ آخر يوصي به ابن حيان، وهو - فيما أرى - أدخل في المبادئ التربوية منه في مبادئ المنهج العلمي في إجراء البحوث، لكنه على كل حال طابع يميز جابر ويصور لنا شخصيته تصويرا واضحا؛ ألا وهو التكتم والتخفي، فواجب العلماء - في رأيه - أن يتكتموا علمهم، فلا يكشفوه إلا في الظروف الملائمة وإلا للأشخاص الذين يستحقونه ويطيقونه ويستطيعون حمله بما يتفق وكرامته؛ لأنك إذا صببت في إنسان علما أكثر مما يطيق، كنت كمن يضع في إناء أكثر مما يسع فيذهب الأمر هباء، لا بل إنك لتزهق ذلك الإنسان وتحرقه بما تحمله إياه من علم يعجز عن حمله: «ولولا أنني أمرت أن أعطي الناس بقدر استحقاقهم لكشفت من نور الحكمة ما يكون معه الشفاء الأقصى؛ ولكنى أمرت بذلك لما فيه من الحكمة؛ لأن العلم - يا أخي - لا يحمله الإنسان إلا على قدر طاقته وإلا أحرقه، كما لا يقدر الإناء والحيوان أن يحمل إلا بقدر طاقته وملئه، وإلا فاض، ورجع بالذل والعجز.»
59
روى الجلدكي في شرح المكتسب عن جابر بن حيان رواية
60
تبين وجهة نظر ابن حيان في وجوب تكتم العالم حتى يصادف الظروف المواتية؛ وذلك أن تلميذا أراد التعلم والأخذ عنه، فماطله جابر وراوغه. فلما أصر التلميذ ولم يتحول عن طلبته، قال جابر: «إنما أردت أن أختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك، ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك. واعلم أن من المفترض علينا كتمان هذا العلم، وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألا نكتمه عن أهله؛ لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خراب العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعا لهم.»
ونختم حديثنا عن منهج «ابن حيان» بموجز لهذا المنهج يضغطه في عشر نقط،
61
هي: (1)
على صاحب التجربة العلمية أن يعرف علة قيامه بالتجربة التي يجريها. (2)
على صاحب التجربة العلمية أن يفهم الإرشادات فهما جيدا. (3)
ينبغي اجتناب ما هو مستحيل وما هو عقيم. (4)
تجب العناية باختيار الزمن الملائم والفصل المناسب من فصول العام (في هذه الفقرة إشارة إلى اعتراف جابر بتأثير النجوم ومواضعها في البحوث العلمية كما سيرد ذكر ذلك مفصلا في هذا الكتاب). (5)
يحسن أن يكون المعمل في مكان معزول. (6)
يجب أن يتخذ الكيموي أصدقاءه ممن يثق فيهم. (7)
ولا بد أن يكون لديه الفراغ الذي يمكنه من إجراء تجاربه. (8)
وأن يكون صبورا كتوما. (9)
وأن يكون دءوبا. (10)
وألا تخدعه الظواهر فيتسرع في الوصول بتجاربه إلى نتائجها.
تصنيف العلوم
إنه لمما يتصل اتصالا وثيقا بالمنهج عند العالم الفيلسوف أو عند الفيلسوف العالم، أن يصنف العلوم تصنيفا بين حدودها والعلاقة القائمة بينها، وإن الأمر هنا ليحتاج إلى نظرة واسعة شاملة تنظر إلى المعرفة الإنسانية جملة واحدة؛ فلئن كان المختص في علم واحد ملما بأطراف علمه وحدوده، فهو لا يشمل بنظرته ما وراء هذا العلم المعين من علوم أخرى، لا بد أن تكون على صلة به بعيدة أو قريبة، ما دام العالم عالما واحدا؛ ولعل هذا الفرق بين النظرة المحدودة بحدود علم واحد، والنظرة الشاملة للعلوم جميعا في علاقاتها بعضها ببعض، أقول لعل هذا الفرق بين النظرتين هو أبرز ما يميز نظرة العلم الصرف من نظرة الفلسفة؛ فالفلسفة دائما تعني بالتفكير العلمي في عصرها ، أعني أنها لا تختلف عن العلم أصلا وجوهرا، وأما موضع الاختلاف بينهما فهو درجة التخصيص أو التعميم. فالعلم الواحد يختص بموضوع واحد، والفلسفة تحلل لتصل إلى القاعدة العميقة التي تشترك فيها العلوم كلها، وعنها تتفرع. وبديهي أن تكون هذه القاعدة المنشودة غاية في التعميم، ما دامت تغض النظر عن الاختلافات النوعية جميعا، وهي الاختلافات التي تفرق بين علم وعلم.
فلا تكاد تجد في تاريخ الفلسفة فليسوفا لم يتناول علوم عصره بالتصنيف، ولئن اختلف الفلاسفة في تصنيفهم للعلوم، فذلك راجع - فضلا عن اختلافاتهم في وجهة النظر - راجع إلى اختلاف العلوم نفسها عصرا بعد عصر، فلا وجه للغرابة - إذن - أن نجد تصنيف جابر لعلوم عصره مشتملا على جوانب لا نقرها نحن اليوم بين العلوم المعترف بها في عصرنا.
رادف «ابن حيان» بين ثلاث كلمات فجعلها بمعنى واحد، وهي: «العلم» و«العقل» و«النور»؛ ولو فهمنا كلمة «النور» بمعنى الإشراق العقلي الذي يتيح للإنسان أن يدرك حقيقة ما بعيانه العقلي المباشر، أي أنه يدركها بحدسه الصادق ولقانته - وقد استعمل «ديكارت» كلمة «النور» في مسألة الإدراك بهذا المعنى، فهو استعمال مجازي قريب إلى الأذهان - أقول إننا لو فهمنا كلمة «النور» بمعنى «الحدس» الصادق المهتدي بطريق مباشر إلى الحقيقة المدركة، لكانت الكلمات الثلاثة المترادفة عنده هي: «الحدس» و«العقل» و«العلم»؛ ولهذه المرادفة مغزى بعيد؛ إذ تدل على أن العلم عند ابن حيان عملية عرفانية صرف، تكشف عن حقائق موجودة قائمة، ولا تخلق ما ليس موجودا ولا قائما؛ أو إن شئت فقل إن العلم عنده عملية فيها إدراك ولكن ليس فيها إرادة ونزوع إلى فعل؛ أي أن العلم ليس من شأنه أن يغير شيئا، فالعالم هناك بعناصره وكيفياته منذ الأزل؛ فكما تنير مصباحا في غرفة مظلمة فتكشف بضوء المصباح عن أثاث الغرفة دون أن تضيف إليه شيئا أو أن تغير من أوضاعه شيئا، فكذلك علم العالم إزاء الكون وموجوداته؛ فهو «نور» يكشف لصاحبه عما هنالك وكفى؛ وهذا يقتضي أن يتساوى موقفان: موقف تكون الحقائق التي تنكشف لنا مما يمكن أن يتحول إلى فعل، وموقف آخر لا تكون الحقائق المكتشفة فيه مما ينفع في تغيير الأشياء.
والحق أن قد لبثت الفلسفة طوال العصر القديم والعصر الوسيط تنظر إلى الحقيقة من جانبها العرفاني الإدراكي الصرف، فيكفي الإنسان أن «يعرف» ما هنالك، بغض النظر عن طبيعة هذه المعرفة من حيث علاقتها بجانب الإرادة الفاعلة النشيطة؛ حتى جاء عصر النهضة الأوروبية ونادى «فرانسس بيكن» بدعوته القوية نحو أن يكون «العلم قوة» - وهذه عبارة بيكن - قاصدا بذلك أن يقصر كلمة «العلم» بمعناها الصحيح على ما يزود الإنسان بالقدرة على الفعل، وإذا لم يكن للمعرفة التي نحصلها أو نكشف عنها هذه القابلية، فليست هي عنده من العلم في شيء - وغني عن البيان أن المدرسة البراجماتية المعاصرة تعد تلبية لدعوة بيكن هذه.
ونعود إلى عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان، ونقول إنه رادف بين: «العلم» و«العقل» و «النور» (= الحدس الصادق)؛ أي أنه لا يشترط في العلم أن يكون قابلا للتطبيق والفعل،
1
وهذه هي عبارته بنصها: «العلم نور، والعقل نور؛ فالعلم عقل، والنور عقل؛ كل واحدة من هذه يمكن أن تكون مقدمة، ويمكن أن تكون وسطا، فتقول: كل علم عقل، وكل عقل نور، فالنتيجة كل علم نور؛ وكذلك إذا قدم العقل وجعل العلم وسطا، كان كذلك (يعني أنك تستطيع أن تقول: كل عقل علم وكل علم نور؛ فالنتيجة كل عقل نور)، وكذلك إذا قدم النور وجعل العلم وسطا، فكان: كل نور علم، وكل علم عقل، فالنتيجة كل نور عقل.»
2
وفيما يلي مخطط بالعلوم كما يصنفها جابر بن حيان، استخرجناه من أقواله، وسنعقب عليه بتعريفاته لهذه العلوم علما علما، مع ملاحظة أنه يقدم لكل علم تعريفين؛ لأنه ينظر إلى كل علم من زاويتين: فتعريف للعلم منظورا إليه من ناحية الطريقة التي يعلم بها، وتعريف آخر للعلم نفسه منظورا إليه من حيث هو علم قائم بذاته، سواء وجد من يتعلمه أو لم يوجد. بعبارة أخرى، التعريف الأول لكل علم هو تعريف له في علاقته بالإنسان الذي يحصله، أي أنه تعريف له من الناحية التربوية، وأما التعريف الثاني فهو تعريف للعلم المعين في حدوده الموضوعية المستقلة عن الإنسان.
3 (1) تعريفات العلوم (1-1) علم الدين (أ)
التعريف من طريق التعليم:
هو صور يتحلى بها العقل ليستعملها فيما يرجو الانتفاع به بعد الموت. وليس يعترض على هذا طلب رئاسة الدنيا، ولا إعظام الناس له من أجلها، ولا الحيلة عليهم بإظهارها؛ لأن كل ذلك ليس هو لها بالذات، لكن بطريق العرض. (ب)
تعريف علم الدين في ذاته:
هو الأفعال المأمور بإتيانها للصلاح فيما بعد الموت. (1-2) علم الدنيا (أ)
هو الصور التي يقتنيها العقل والنفس لاجتلاب المنافع ودفع المضار قبل الموت؛ وإنما قلنا في هذا الحد: «يقتنيها العقل والنفس»؛ لأن من المنافع والمضار أشياء متعلقة بالشهوة، وهي من خواص النفس؛ فعلم هذه مقصور على النفس؛ إذ كان العقل عدوا للشهوة، ومنها أشياء متعلقة بالرأي، فعلمها مقصور على العقل؛ فلذلك احتجنا في الحد إليهما. (ب)
هو جميع ما في عالم الكون من الحوادث، الضارة والنافعة، بأي وجه كان ذلك فيها.
4 (1-3) العلم الشرعي (من علوم الدين): (أ)
هو العلم المقصود به أفضل السياسات النافعة دينا ودنيا، لما كان من منافع الدنيا نافعا بعد الموت؛ وإنما خصصنا هذا النوع من منافع الدنيا؛ لأن ما لم يكن من منافعها هذه حاله، ولا تعلق له بالدين، فلا يدخل في هذا التعريف. (ب)
هو السنن المقصود بها سياسة العامة على وجه يصلحون فيه صلاحا نافعا في عاجل أمرهم وآجله. (1-4) العلم العقلي (من علوم الدين): (أ)
هو علم ما غاب عن الحواس، وتحلى به العقل الجزئي من أحوال العلة الأولى وأحوال نفسه، وأحوال العقل الكلي والنفس الكلية والجزئية، فيما يتعجل به الفضيلة في عالم السكون، ويتوصل به إلى عالم البقاء. (ب)
هو الجوهر البسيط القابل لصور الأشياء ذوات الصور والمعاني على حقائقها؛ كقبول المرآة لما قابلها من الصور والأشكال ذوات الألوان والأصباغ. (1-5) علم الحروف (من الجانب العقلي في علوم الدين): (أ) ... ... ... ... (ب)
هو الأشكال الدالة بالمواضعة على الأصوات المقطعة تقطيعا يدل بنظمه على المعاني بالمواطأة عليها. (1-6) علم المعاني (معاني الكلمات، وهو من الجانب العقلي في علوم الدين): (أ)
هو العلم المحيط بمباحث الحروف الأربعة، أي الكلمات الأربعة، وهي: هل، ما، كيف، لم (الهلية، والمائية، والكيفية ، واللمية) - أعني هو العلم الذي يحيط بالأشياء من حيث أصلها وصفاتها والهدف المقصود من وجودها. (ب)
هو الصور المقصود بالحروف إلى الدلالة عليها. (1-7) علم معاني الحروف الطبيعي
5 (أ)
هو العلم بالطبائع الخاصة التي تدل عليها حروف الكلمات؛ إذ إن كل كلمة دالة على طبيعة مسماها بالأحرف التي ركبت منها. (ب)
هو الإحاطة بالوسائل التي نستحدث بها كائنات ذوات طبائع معينة. (1-8) علم معاني الحروف الروحاني (أ)
هو العلم بالأشكال المؤتلفة من النور والظلمة. (ب)
الروح هو الشيء اللطيف الجاري مجرى الصورة الفاعلة. (1-9) العلم النوراني (وهو أحد فرعي علم الحروف الروحاني): (أ)
هو العلم بحقيقة النور الفائض على الكل. (ب)
النور هو الجوهر الذي يكسب جميع الأشياء بياضا مشرقا بالممازجة، بحسب قبول تلك الأشياء، على اختلافها في القبول. (1-10) العلم الظلماني (وهو الفرع الآخر من فرعي علم الحروف الروحاني): (أ)
هو العلم بما هو ضد للنور، وكيفية تضاده، وعلة ذلك التضاد؛ ولا نقول هو العلم بطبيعة ذلك الضد؛ لأن العلم بأحد الضدين هو في الوقت نفسه علم بالآخر في الجملة. (ب)
الظلمة هي عدم النور من الأشياء العادمة له أو العادمة لأثره، وهي الأشياء التي يقال لها ظلمانية، وأما الأشياء القابلة للنور فيقال لها نورانية.
6 (1-11) علم الحرارة (وهو أحد الفروع الأربعة التي يتفرع إليها علم الحروف الطبيعي): (أ)
هو العلم بالحرارة في جوهرها وفي أثرها وفي سبب حدوثها. (ب)
الحرارة هي غليان الهيولى، وهي حركتها في الجهات كلها.
7 (1-12) علم البرودة (وهو ثاني الفروع الأربعة لعلم الحروف الطبيعي): (أ)
هو العلم بها من حيث جوهرها وأثرها وسبب وجودها. (ب)
البرودة هي حركة الهيولى من محيطها إلى مركزها.
8 (1-13) علم الرطوبة (وهو ثالث الفروع لعلم الحروف الطبيعي): (أ)
هو العلم بجوهرها وخاصتها وسبب حدوثها؛ ولم نقل هنا هو العلم بأثرها ؛ لأن الرطوبة منفعلة لا فاعلة. (ب)
الرطوبة هي مادة الحرارة في حركتها، وغذاؤها المحيي لها. (1-14) علم اليبوسة (أ)
هي العلم بجوهرها وخاصتها وسبب حدوثها؛ ولم نقل هنا أيضا إنه العلم بأثرها؛ لأن اليبوسة - كالرطوبة - منفعلة لا فاعلة. (ب)
اليبوسة هي المفرقة بين الأشياء المجتمعة تفريقا طبيعيا؛ وإنما قلنا تفريقا طبيعيا لئلا يلتبس عليك بتفريق الصناعة؛ لأنا قد نقطع الشيء بالسكين فنفرق بين أجزائه، وليس السكين يبوسة؛ ففي مثل هذه الحالة يكون التفريق منسوبا إلى الصناعة لا إلى الطبيعة. (1-15) العلم الفلسفي (وهو أحد فرعي علم معاني الحروف): (أ)
هو العلم بحقائق الموجودات المعلومة. (ب)
الفلسفة هي العلم بأمور الطبيعة وعللها القريبة والبعيدة. (1-16) العلم الإلهي (وهو الفرع الآخر من فرعي علم معاني الحروف): (أ)
هو العلم بالعلة الأولى وما كان عنها بغير واسطة، أو بوسيط واحد فقط. (ب)
هو علم ما بعد الطبيعة من النفس الناطقة والعقل والعلة الأولى وخواصها.
9 (1-17) علم الشرع (علم الدين ينقسم قسمين: عقلي وشرعي، وقد كان حديثنا من رقم 4 إلى 16 منصرفا إلى أقسام علم الدين العقلي، وننتقل الآن إلى القسم الشرعي - انظر أيضا رقم 3): (أ)
هو العلم بالسنن النافعة - إذا استعملت على حقائقها فيما بعد الموت وقبله - من الأشياء النافعة فيما بعد الموت. (ب) ... ... ... ... (1-18) علم الظاهر (وهو أحد فرعي علم الشرع): (أ)
هو العلم بالسنن كما يدركها عامة الناس في الطبيعة والعقول والنفوس. (ب)
هو علم أولئك الذين يؤلفون عامة الناس. (1-19) علم الباطن (وهو الفرع الآخر من فرعي علم الشرع): (أ)
هو العلم بعلل السنن وأغراضها التي تليق بالعقول الإلهية. (ب)
هو الغرض المستور المراد بالظاهر.
إلى هنا انتهينا من فروع علم الدين، وننتقل إلى علم الدنيا وفروعه - راجع فقرة 2. (1-20) علم الدنيا (أ)
هو العلم بالنافع والضار، وما جلب المنافع منها أو أعان فيه، ودفع المضار منها أو أعان على ما تدفع به.
10 (ب) ... ... ... ... (1-21) علم الدنيا الشريف (وهو ما يسمى بعلم الصنعة): (أ)
هو العلم بما أغنى الإنسان عن جميع الناس في قوام حياته الجيدة.
وهو العلم بالإكسير . (ب)
الشريف هو المستغني عن غيره فيما تحتاج إليه الأشياء بعضها إلى بعض. (1-22) علم الدنيا الوضيع (وهو ما يسمى بعلم الصنائع): (أ)
هو العلم بما يوصل إلى اللذات والمنافع وحفظ الحياة قبل الموت؛ فهو العلم بما يحتاج إليه الناس في منافع دنياهم. (ب)
الوضيع هو المحتاج إلى غيره حاجة تقتضي تفضيله عليه.
والصنائع هي الآلات الموصلة إلى استغناء الإنسان بنفسه عمن سواه في المكاسب من جهة غير معتادة.
وعلم الدنيا الشريف محتاج في تحقيقه إلى علم الدنيا الوضيع؛ لأن هذا الأخير هو الوسائل الموصلة إلى أهدافه ذاك. (1-23) علم الإكسير (وهو علم مراد لنفسه): (أ)
هو العلم بالشيء الذي تجرى عليه التجارب، وهو الذي يصبغ جوهرا ما من الجواهر الذائبة الخسيسة، ويحوله إلى جوهر ذائب شريف. (ب) ... ... ... ... (1-24) علم العقاقير (وهو علم مراد لغيره): (أ)
هو العلم بالأحجار والمعادن المحتاج إليها في بلوغ الإكسير والوصول إليه. (ب)
العقاقير هي الأجسام التي تجرى عليها التجارب. (1-25) علم التدابير (وهو أيضا علم مراد لغيره): (أ)
هو العلم بالأفعال المغيرة لأعراض ما حلت فيه إلى أعراض أخر أشرف منها وأسوق إلى تمام الإكسير. (ب)
التدابير هي الأفعال المقصود بها بلوغ المراد لنفسه من الصنعة. (1-26) علم الحجر (وهو أحد فرعي علم العقاقير): (أ)
هو العلم بالشيء الذي يراد تبديل أغراضه ليصير إكسيرا. (ب)
الحجر هو الجوهر المطلوب منه الغنى عن الغير من وجه شريف غير معتاد. (1-27) علم العقاقير الداخلة في تدبير هذا الحجر (وهو الفرع الآخر من فرعي علم العقاقير): (أ)
هو العلم بالجواهر المعدنية ذوات الخواص التي تغير أعراض هذا الحجر المراد تغيرها. (ب) ... ... ... ... (1-28) العلم الجواني (وهو أحد فرعي علم التدابير): (أ)
هو العلم بالشيء الذي تجرى التجارب عليه من داخل، ليتحول من حالة إلى حالة. (ب)
الجواني هو ما تقع عليه التجربة من جوانب الشيء مجتمعة بقصد الوصول إلى غاية ما يمكن الوصول إليه. (1-29) العلم البراني (وهو الفرع الآخر من علم التدابير): (أ)
هو العلم بالتجارب التي تجرى على الشيء في ظاهره. (ب)
البراني هو الشيء إذا نظر إلى جوانبه مفردا بعضها عن بعض في أول الأمر، وهو لا يوصلنا إلى آخر ما يمكن للصنعة أن تصل إليه. وفي هذه الحالة نكون على علم بما سيئول إليه أمره قبل أن يصير إليه. (1-30) علم الأحمر الجواني (وهو أحد فرعي العلم الجواني): (أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبا على صورة كاملة. (ب)
الصبغ الأحمر هو ما كان غائصا منه في الأجسام الذائبة، وهو إما أحمر وإما أصفر وإما مسكيا بين الصفرة والحمرة. (1-31) علم الأبيض الجواني (وهو الفرع الآخر من العلم الجواني): (أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس فضة على صورة كاملة. (ب)
الصبغ الأبيض هو الغائص في الأجساد الذائبة وهو إما أبيض خالص، وإما أغبر، وإما أحمر كمد. (1-32) علم الأحمر البراني (أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبا على صورة ناقصة. (ب) ... ... ... ... (1-33) علم الأبيض البراني (أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس فضة على صورة ناقصة. (ب) ... ... ... ... (1-34) علم الإكسير الأحمر (وهو أحد فرعي علم الإكسير): (أ)
هو العلم بما يصبغ الفضة ذهبا بحكم طبيعته. (ب)
الإكسير التام هو الصابغ للجوهر الذائب صبغا ثابتا وذلك بتحويله من نوع إلى نوع أشرف منه. (1-35) علم الإكسير الأبيض (وهو الفرع الآخر من علم الإكسير): (أ)
هو العلم بما يصبغ النحاس أو الرصاص فضة بحكم طبيعته. (ب)
الإكسير الأبيض التام هو الصابغ للنحاس فضة بيضاء جامعة لخواص الفضة بأسرها. (1-36) علم العقاقير البسيطة (أ)
هو العلم بما لم يدخله تدبير الصنعة. (ب) ... ... ... ... (1-37) علم العقاقير المركبة (أ)
هو العلم بما دخله تدبير الصنعة. (ب) ... ... ... ... (1-38) علم البسيط الغبيط (أ)
هو العلم بما كان على خلقته الأولى التي هو بها هو هو. (ب)
البسيط الغبيط هو ما لا تدبير فيه من تدابير الصنعة. (1-39) علم الأركان (أي عناصر التركيب): (أ)
هو العلم بالعناصر التي إذا دبرت تدبيرا يجمعها ما تكون الإكسير. (ب)
الشيء المركب هو ما دخله التدبير مع غيره.
تلك هي صنوف العلم - الديني والدنيوي - عند جابر بن حيان، وحدودها التي تميزها بعضها من بعض، ونستطيع أن نلخص الأمر تلخيصا نضع به النقاط البارزة أمام أنظارنا، فنقول إنه - أولا - يفرق بين ما هو علم ديني وما هو علم دنيوي على أساس زمن الانتفاع بالثمرة؛ فإن كان هذا الانتفاع بعد الموت كان علما دينيا، وإن كان قبل الموت كان علما دنيويا.
وثانيا - هو يميز في علوم الدين بين علم يقوم على النص قياما مباشرا، وعندئذ إما أن تأخذ النص بظاهره وإما أن تأخذه بتأويلاته الخفية الباطنة، وعلم يقوم على الأحكام العقلية التي يقاس فيها موضوع الحكم على شيء سواه؛ وها هنا لا بد لنا من منطق يدقق النظر في الكلمات والجمل؛ لأن العقل مداره قضايا وأحكام، وهذه مؤلفة من كلمات، والكلمات مؤلفة من أحرف.
وثالثا - يجعل جابر علم الصنعة (أي علم الكيمياء) قطب الرحى في علوم الدنيا، وكأنما هو يقسمه قسمين: نظري وعملي؛ فالنظري منه هو الذي يقصر عليه اسم «علم الصنعة»، وأما العملي فهو الذي يسميه «علم الصنائع» ويقصد بها الوسائل التجريبية التي لا بد منها في علم الصنعة؛ ولب اللباب في علم الصنعة هذا (= علم الكيمياء) هو أن نصل إلى المادة الصابغة التي تحيل الفضة ذهبا أو تحيل النحاس فضة وهكذا. •••
على أننا نجد لابن حيان تصنيفا آخر للعلوم؛
11
إذ يصنفها سبعة أصناف، يجعل علم الصنعة واحدا منها؛ وهي: (1) علم الطب. (2) علم الصنعة. (3) علم الخواص. (4) علم الطلسمات. (5) علم استخدام الكواكب العلوية. (6) علم الطبيعة. (7) علم الصور وهو علم تكوين الكائنات. ويفيض ابن حيان القول في كل علم من هذه العلوم السبعة المختلفة، ليبين في كل علم منها أقسامه الفرعية ووسائله وأهدافه وما إلى ذلك.
فتراه - مثلا - يقسم علم الطب قسمين أساسيين: نظري وعملي، ثم يقسم كلا من القسمين قسمين: أحدهما يعنى بالعقل أو بالنفس، والآخر يعنى بالجسم. وعند حديثه على طب الجسم يلجأ إلى تحليل الجسم إلى عناصره، وتشريحه إلى أعضائه في استفاضة وإطناب مما لا يتسع المقام لذكره مفصلا؛
12
فمن قبيل كلامه في التشريح قوله: «الإنسان مركب من أربعة وثمانين ألف قطعة كبار وصغار، وجميعها يقال لها إما عظم، وإما عضل، وإما عصب، وإما شريان، وإما وتر، وإما ليف، وإما غضروف، وإما عظام سمسمانية يقال لها السلامى في لغة العرب، وإما ظفر، وإما جلد ...» ثم يمضي في ذكر أجزاء كل من هذه الأقسام.
13
ويقول كذلك إن الأعضاء الرئيسية في الإنسان أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان (؟)، والأخلاط في بدن الإنسان أربعة أنواع: البلغم ويقابل الدماغ، والصفراء وتقابل الكبد، والدم ويقابل القلب، والسوداء وتقابل الأنثيين (؟).
وهذه العلل بدورها تقابل العناصر الرئيسية الأربعة: الماء، والنار، والهواء، والأرض؛ فالماء للدماغ، والنار للقلب، والهواء للكبد، والأرض للأنثيين (؟).
والعناصر الأربعة بدورها تقابل الكيفيات الأربع: الرطوبة للماء، والحرارة للنار، والبرودة للهواء، واليبوسة للأرض؛ على أن هذه الكيفيات الأربع هي في الحقيقة مركبات، كل منها مركب من عنصرين أساسيين على الوجه الآتي:
البرودة + الرطوبة = ماء.
الحرارة + اليبوسة = نار.
الحرارة + الرطوبة = هواء.
البرودة + اليبوسة = أرض.
وصحة الجسم هي في اعتدال هذه الأشياء كلها في مزاج متزن.
وفي أقسام الدماغ يقول جابر إنها ثلاثة: الأول هو المسامت للوجه ويقال له بيت الخيال، والأوسط وهو بيت الذكر، والثالث في مؤخرة الدماغ ويقال له بيت الفكر؛ وأي هذه فسد فسد ذلك الشيء المحدود به، حتى يفسد الخيال والفكر والذكر.
14
وهكذا يتناول جابر أجزاء الجسم التي ذكرها أول الأمر مجملة فيحللها إلى أقسام والأقسام إلى أقسام فرعية وهكذا.
وبمثل هذه الإفاضة يتحدث عن بقية العلوم السبعة: علم الصنعة، وعلم الخواص، وعلم الطلسمات، وعلم استخدام الكواكب العلوية، وعلم الطبيعة، وعلم الصور، مما سيرد ذكره في مواضعها المناسبة في هذا الكتاب.
سر اللغة وسحرها
(1) اللغة والعالم
سؤال طرحه الفلاسفة على أنفسهم طرحا صريحا أو متضمنا، وما يزالون يطرحونه إلى يومنا هذا، وهو هذا: إلى أي حد نستطيع أن نستدل طبيعة العالم الخارجي من طبيعة اللغة التي نتحدث بها عن ذلك العالم؟ ها نحن أولاء قد أنشأنا لأنفسنا مجموعة ضخمة من رموز - هي الكلمات - واتفقنا معا على الطريقة التي نبني بها هذه الرموز فتكون جملا مفهومة ينطق بها المتكلم فيفهم عنه السامع؛ وواضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة، وهي تختلف باختلاف الجماعات البشرية؛ إذ إن لكل جماعة منها لغتها الخاصة بها في عمليات التفاهم بين أبنائها، واضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة - أعني اللغة - ليست هي نفسها الأشياء التي جاءت تلك الرموز لترمز إليها؛ فليست «كلمة» خبز هي الخبز نفسه الذي يؤكل، ولا «كلمة» الماء هي الماء الذي يروي الظمأ؛ فالرمز اللغوي شيء والمرموز إليه شيء آخر. وإذا ما تكاملت لدينا لغة للتفاهم، كان لدينا جانبان مختلفان هما: هذه اللغة من ناحية، ثم العالم الخارجي الذي تتحدث عنه بهذه اللغة من ناحية أخرى. أقول إن هذه الثنائية بين رموز اللغة وبين أشياء العالم الخارجي المرموز إليها برموز اللغة، هي من الوضوح بحيث لم تكن تستدعي منا ذكرا وتوضيحا؛ ولكن ما ظنك وهذه الحقيقة الواضحة كثيرا ما تحتاج إلى لفت الأنظار إليها، ثم هذه الأنظار لا تلتفت إلا بعد جهد شديد؟ فكأنما اللغة هواء شفاف لا يحجب الأشياء التي وراءه، فنحسب أن لا هواء بيننا وبين تلك الأشياء.
ونعود بعد هذا إلى سؤالنا الأول: إلى أي حد نستطيع أن نستدل طبيعة العالم الخارجي من طبيعة اللغة التي أنشأناها لنرمز بها إلى ذلك العالم؟ في هذا يختلف الفلاسفة - أو معظمهم - فينقسمون إزاءه فئات ثلاثا: (1)
فريق يستدل خصائص العالم من خصائص اللغة؛ فإن كان تركيب الجملة - مثلا - لا يكون إلا بتوافر جانبين، هما: المسند إليه من جهة والمسند من جهة أخرى، فلا بد أن تكون أشياء العالم على هذا النحو من التأليف، فيكون لكل شيء جوهره من جهة والخصائص التي تطرأ على ذلك الجوهر من جهة أخرى، وكذلك إذا كان في اللغة كلمات مختلفة النوع، فلا بد أن تكون مسمياتها مختلفة أيضا؛ فهنالك - مثلا - أسماء جزئية وأسماء كلية، فلا بد أن يكون في العالم الخارجي ما يقابل هذه وتلك؛ ففيه كائنات جزئية، وفيه أيضا كائنات كلية، وهذا هو بعينه ما دعا «أفلاطون» إلى افتراض وجود عالم بأسره لهذه الكائنات الكلية - أسماه بعالم الأفكار أو بعالم المثل - إلى جانب عالمنا هذا المادي الذي كل ما فيه أفراد جزئية ... هكذا تستطيع أن تمضي في مفردات اللغة وفي طرائق تركيبها، فتستدل من كل مفرد لغوي ومن كل تركيب ماذا ينبغي أن يكون مقابلا له في عالم الأشياء؛ وفريق الفلاسفة الذين يرتكزون على طبيعة اللغة ليفهموا طبيعة العالم هم: أفلاطون، واسبينوزا وليبنتز، وهيجل، وبرادلي
1
وسنرى أن عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان هو من هذه الزمرة. (2)
وفريق ثان من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان محال عليه أن يجاوز بعلمه حدود كلمات اللغة إلى حيث العالم الخارجي في ذاته، وإن شئت أن تفهم وجهة نظر هذا الفريق فحاول أن تنقل إلى من شئت أمرا تريد أن تحيطه به علما، كأن تقول له - مثلا - «إن الورقة بيضاء» تجد أنك تشرح له كلمة بأخرى، وهذه بثالثة فرابعة وهلم جرا، أي أنك ستظل مع زميلك حبيس الكلمات التي تتفاهمان بها، ولا وسيلة أمامكما تخرجان بها من سجن الكلمات إلى حيث «البياض» الخارجي الذي يصف الورقة، فما بالك إذا أردت لزميلك أن يعرف - مثلا - أنك خائف أو حزين أو نشوان أو عاشق ولهان؟ مجاوزة اللغة هنا إلى الحقيقة المرموز إليها باللغة أمر محال. وخلاصة الرأي عند هذا الفريق الثاني من الفلاسفة هي أن أي أن معرفة وكل معرفة - حتى المعرفة العلمية - إنما هي معرفة كلمات لغوية لا أكثر ولا أقل، ومن هذا الفريق أولئك الذين يسمون بالاسميين في تاريخ الفلسفة، مثل وليم أوكام في العصور الوسطى (1290-1349 تقريبا) ومثل «باركلي» في العصور الحديثة (1685-1753) ومثل طائفة من جماعة الوضعيين المنطقيين في الفلسفة المعاصرة. (3)
وفريق ثالث من الفلاسفة يذهب إلى أن الإنسان في وسعه أن يدرك حقيقة ما غير كلمات اللغة التي يتكلمها، ويعتقد هذا الفريق أن مثل هذه الحقيقة يستحيل على اللغة أن تعبر عنها، ومع ذلك ترى مدركيها يكتبون عنها ويتكلمون على الرغم من اعترافهم بأن الكتابة والكلام لا يجديان في نقلها إلى القارئ أو إلى السامع، اللهم إلا على سبيل الإيحاء، وهؤلاء هم المتصوفة والفلاسفة الذين يأخذون بالإدراك الحدسي مثل برجسون.
ولسنا في هذا المقام بصدد تحليل هذه الآراء الثلاثة في اللغة، ودلالتها أو عدم دلالتها على حقيقة الواقع الخارجي الذي هو من طبيعة غير طبيعة اللغة، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن نضع جابرا في موضعه من مذاهب الفلسفة اللغوية، فهو من القائلين بأن طبيعة اللغة بأحرفها وكلماتها وجملها تشف عن طبائع الأشياء؛ فدراسة الاسم هي في الوقت نفسه دراسة للمسمى، كما سنرى تفصيلا فيما بعد.
يقول ابن حيان: «إن تركيب الكلام يلزم أن يكون مساويا لكل ما في العالم من نبات وحيوان وحجر.»
2
ولو حللنا هذه العبارة تحليلا وافيا، لكشفت لنا وحدها عن وجهة نظر منطقية تحدد موقف ابن حيان إزاء اللغة وعلاقتها بعالم الأشياء، وهو موقف جد شبيه بفرع من فروع المنطق الحديث الذي يأخذ به فتجنشتين
3
وبرتراند رسل وغيرهما من فلاسفة التحليل في عصرنا الحاضر؛ ومؤداه أن كلمات اللغة هي ضرب من التصوير، بل إنها قد كانت تصويرا فعليا في بعض الكتابات القديمة، ولئن اخترعت أحرف الهجاء تيسيرا لتركيب الصور التي نصور بها الأشياء، لسهولة حلها وجمعها في صور لا نهاية لعددها، فإن ذلك لم يسلب من الكتابة قوتها التصويرية؛ فلا فرق من حيث الجوهر بين أن ترسم شجرة وترسم طائرا على أحد فروعها، وبين أن تكتب هذه العبارة: «الطائر على الشجرة»، فهذه العبارة - لو أمعنت فيها النظر - هي «صورة»، فكلمة «الشجرة» تنوب عن صورة الشجرة، وكلمة «الطائر» تنوب عن صورة الطائر، وكلمة «على» تنوب عن العلاقة التي تصل الطائر بالشجرة لو صورناها بصورة تعكس الواقع عكس المرآة، وما دامت الكتابة في حقيقتها «تصويرا» للواقع، وجب أن نحاسب المتكلم أو الكاتب على هذا الأساس، فنطالبه - منطقيا - بأن يرسم بكلامه صورا للواقع، والكلام الذي لا يرسم مثل هذه الصور لا يكون ذا معنى ولا يقوم بمهمة الكلام التي خلق الكلام أساسا من أجلها. ولو كانت لنا اللغة المنطقية الكاملة لوجدنا تراكيبها - كما ورد في عبارة ابن حيان السالف ذكرها - «مساوية لكل ما في العالم من نبات وحيوان وحجر». (2) محاورة أقراطيلوس
كان من أهم الأسس التي اعتمد عليها جابر بن حيان في فهمه للطبيعة، أساس اللغة وتحليلها؛ فعن طريق معرفتنا بالحروف والكلمات وما لها من طبائع وخصائص، نعرف طبائع الأشياء وخصائصها، ولم تكن هذه الفكرة وليدة جابر، بل إن لها لجذورا قديمة تضرب في أعماق الماضي حتى تصل إلى عصور السحر والكهانة؛ حيث لم تكن الكلمات والحروف رموزا اصطلح عليها اتفاقا، بل كان لها مشاركة في طبيعة الأشياء التي يرمز إليها بها، وعن طريق الاسم تستطيع أن تفعل بالمسمى ما شئت مستعينا بوسائل معينة.
فلئن كنا اليوم قد فرغنا تماما من مشكلة اللغة: أهي مجرد رموز متفق عليها اصطلاحا، أم هي ذات طبيعة تشارك بها طبيعة الأشياء، فلم يكن الأمر كذلك فيما مضى، بل كان للموضوع وجهتان من النظر، سجلهما أفلاطون في محاورة «أقراطيلوس» بصفة خاصة، كما تعرض لهما في محاورات أخرى، مثل ثيتاتوس وطيماوس، وعلى الرغم من أن جابر بن حيان قد نسق الموضوع تنسيقا فريدا خاصا به، من وجهة النظر التي أخذ بها في أمر اللغة ودلالتها على الأشياء، إلا أننا لا نشك في أن التراث الفلسفي اليوناني قد كان معروفا يؤثر في الفكر الإسلامي بطريق مباشر حينا وغير مباشر حينا آخر.
وفيما يلي موجز لمحاورة أقراطيلوس، التي عرفها العرب منقولة بترجمة حنين بن إسحاق عن الصورة المشروحة التي تناولها بها جالينوس، وللفارابي في كتابه عن فلسفة أفلاطون تعليق على محاورة أقراطيلوس هذه؛ إذ يقول إن أفلاطون قد: «فحص ... هل تلك الصناعة هي صناعة علم اللسان، وهل إذا أحاط الإنسان بالأسماء الدالة على المعاني على حسب دلالتها عند جمهور تلك الأمة التي لها ذلك اللسان ... يكون قد أحاط علما بجواهر الأشياء، وحصل له بها ذلك العلم المطلوب؛ إذ كان أهل هذه الصناعة يظنون بأنفسهم ذلك، فبين أنه لا تعطي هذه الصناعة ذلك العلم أصلا ... وهذا في كتابه المعروف بأقراطلس.»
4
وموضوع محاورة أقراطيلوس (أو أقراطلس) هو نشأة اللغة: هل الأسماء دالة على مسمياتها «بطبيعتها» وبحكم خصائص نابعة من الرمز اللغوي نفسه تجعله ملائما للشيء المرموز إليه به، أم أنها تكتسب قوتها الدلالية بحكم «الاتفاق» الذي يصطلح عليه الناس في عملية التفاهم؟ فإن كانت الأولى، كان لا مندوحة لنا عن اسم معين للشيء المعين، وإن كانت الثانية كان أمر الاختيار متروكا لنا، وكان الأمر جزافا.
يأخذ أقراطيلوس بوجهة النظر الأولى، ويأخذ هيرموجنيس - في المحاورة - بوجهة النظر الثانية، فيقول أقراطيلوس بأنه ما لم نطلق على الشيء اسمه الصحيح الطبيعي الوحيد، فنحن بمثابة من لا يسميه إطلاقا، حتى لو اتفق الناس جميعا على اسم يختارونه له ويطلقونه عليه، فيرد هيرموجنيس بأن أي اسم يتفق أصحاب اللغة على إطلاقه على شيء ما كان اسما له، وليس في طبائع الأشياء ما يحتم اسما دون اسم سواه؛ ويسأل سقراط عن رأيه في هذا النزاع، فيقول إنه ليس خبيرا باللغة واستعمالها الصحيح، ولو أدلى في الأمر برأي فسيكون رأيا مستمدا من البداهة الفطرية.
والحق أن هذا الاختلاف في وجهة النظر إلى اللغة، إن هو إلا وجه من عدة وجوه لاختلاف أكبر وأوسع، يقابل فيه بين «الطبيعة» من ناحية و«الأوضاع الاجتماعية» من ناحية أخرى، وهو اختلاف شمل عصر «بركليس» في يونان القديمة شمولا لم يكد يترك مسألة إلا أدخلها في هذه المقابلة: أيستند الإنسان في حياته الأخلاقية والسياسية والفكرية إلى فطرة الطبع، فتحكمه قوانين الطبيعة كما تحكم كل شيء، أم يستند إلى تقاليد المجتمع وأوضاعه كائنة ما كانت؟
على أن الهدف الرئيسي للمحاورة ليس هو نشأة اللغة، بل هو المهمة التي تؤديها؛ فلو كانت اللغة تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل لوجب أن تلتزم قواعد وأصولا، مع أننا لو أخذنا بوجهة النظر القائلة إن اسم الشيء هو ما يصطلح الاتفاق عليه جزافا، لأدى بنا ذلك إلى موقف تسلب فيه اللغة من أصولها وقواعدها الثابتة، مما لا يتفق مع حقيقتها كما هي قائمة فعلا.
لقد بدأ هيرموجنيس عرض رأيه - في المحاورة - في شيء من الإسراف، فبالغ في قوله إن اللغة جزاف واعتساف، قائلا إنه لو أراد هو أن يطلق اسما على شيء ما، أصبح هذا الاسم اسما للشيء عنده هو، حتى لو خالف به كل المتحدثين باللغة؛ فلو أطلق اسم «حصان» على ما قد اتفق بقية الناس على تسميته «إنسانا» لأصبحت كلمة «حصان» هي الاسم الصحيح في لغته هو الخاصة، كما أن اسم «إنسان» هو الاسم الصحيح للكائن نفسه عند سائر الناس.
وهنا تنشأ مسألة شائكة، وهي: الاسم جزء من جملة، والجملة من الجمل تكون إما صادقة وإما كاذبة؛ فهي صادقة إذا حكت عن واقع حقيقي، وكاذبة إذا كانت على خلاف ذلك، لكننا إذا قلنا عن الجملة الواحدة أو عن الفكر المؤلف من عدة جمل إنه إما صادق وإما كاذب، فكذلك ينبغي أن تكون الحال بالنسبة إلى كل جزء من أجزاء الجملة؛ فكل جزء من أجزاء جملة صادقة لا بد أن يكون بدوره صادقا، فكيف يكون الصدق أو الكذب بالنسبة إلى الكلمة الواحدة إلا إذا افترضنا بأن هنالك من الكلمات ما هو صحيح بطبيعته وما هو مغلوط بطبيعته؟ وإن سقراط ليدلي في هذا الموضع من المحاورة برأي سديد؛ إذ يقول: إن اللغة نشاط «اجتماعي» فهي في أساسها أداة للتفاهم بين عدة أفراد في مجتمع واحد؛ فلو أطلقت أنا وحدي اسما على شيء ما، ثم زعمت أنه الاسم الصحيح بالنسبة لي، على الرغم من اختلافه عما قد تواضع الناس عليه في تسمية ذلك الشيء، لما أدت اللغة عندئذ مهمتها الاجتماعية؛ وبهذا جاز لنا أن نقول عن اسم ما إنه باطل حين نقصد بالبطلان أنه يعوق عملية التفاهم.
على أن هذا الرأي يبطل أن تكون الأسماء من وضع فرد واحد يضعها لاستعماله الخاص، لكنه لا يبطل أن تكون الأسماء من وضع جماعة بعينها، وأنه لا فرق بين اتفاق واتفاق، فلا فرق بين لغة اليونان ولغة الهمج، ما دامت كل منهما اتفاقا يسري بين أبنائها؛ وإن تعدد اللغات في شعوب الأرض لهو وحده دليل كاف على أن اللغة إن لم تكن مقصورة على اصطلاح الفرد الواحد بينه وبين نفسه، فهي اصطلاح تصطلح عليه كل جماعة على حدة.
لكنه إذا كانت أسماء الأشياء مرهونة بأي اتفاق شاءت الجماعة أن تتواضع عليه، فليس الأمر كذلك بالنسبة لحقائق الأشياء ذاتها. نعم إن بروتاجوراس قد ذهب إلى أن حقيقة أي شيء هي أمر نسبي يختلف من شخص إلى شخص حسب طريقة إدراك الشخص المعين للشيء، لكننا نغض النظر الآن عن مثل هذا الرأي، ونقرر أن حقائق الأشياء ثابتة، وليست هي بالأمر المرهون باتفاق الناس واصطلاحهم؛ لكن أليست ضروب الفاعلية الإنسانية هي من بين الأشياء؟ وإن كانت كذلك، ألا يكون لها «طبيعة» خاصة بها و«حقيقة» ثابتة لها؟ إننا إذا أردنا أداء فعل معين يحقق هدفا معينا، لم يكن لنا الاختيار في طريقة أدائه ولا في الأداة التي نستخدمها في فعله؛ بل يتحتم علينا أن نراعي طبيعة الشيء الذي نصب عليه الفعل، كما نراعي نوع الأداة المستخدمة؛ فشق الخشب مثلا له طريقة خاصة وأداة خاصة، وهكذا؛ لكن «الكلام» عن الأشياء، وإطلاق «أسماء» على الأشياء هو ضرب من الفاعلية ولا شك؛ وإذن فليس هو متروكا لنزواتنا وأهوائنا، بل هو ملزم باصطناع طريق خاص وأداة خاصة، فإذا أسمينا شيئا، تحتم علينا أن نراعي طبيعة ذلك الشيء وأن نراعي في الوقت نفسه طبيعة الأداة - أي الاسم الذي نطلقه - حتى تتفق الطبيعتان معا.
إن المادة الخامة التي نصوغ منها الكلمات هي الحروف والمقاطع، فلتكن هذه المادة الخامة ما تكون، ما دامت تمكننا من صياغة الكلمة التي تصلح أداة للشيء الذي تسميه؛ فالأمر هنا شبيه بالنجار يصنع مغزلا لغزال، فعليه وهو ينجر الخشب أن يضع نصب عينيه طبيعة الغزل لكي تجيء الأداة صالحة لها، وله أن يتخذ أي مادة يختار، ما دام هذا الهدف نصب عينيه، وكذلك الأمر في اللغة؛ فواضعها له الحق في اختيار ما شاء من الحروف والمقاطع، ما دام يضع نصب عينيه طبيعة الأشياء التي توضع اللغة لها؛ وهذا يفسر تعدد اللغات، مع اشتراكها جميعا في كونها لغات طبيعية تتفق مع طبائع الأشياء، كما يفسر تفاوت اللغات في قوة الأداء، فأكملها هي أقربها إلى مسايرة الأشياء على طبائعها الحقيقية، وإذن فقد كان أقراطيلوس على صواب في وجهة نظره عن اللغة، وكان هيرموجنيس على خطأ. (3) الحروف وطبائع الأشياء
كان عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان على نفس الرأي الذي عبر عنه أقراطيلوس، من أن اللغة مسايرة للطبائع، فهو في ذلك يقول: «انظر إلى الحروف كيف وضعت على الطبائع، وإلى الطبائع كيف وضعت على الحروف، وكيف تنتقل الطبائع إلى الحروف والحروف إلى الطبائع.»
5
والمعنى واضح، فلكل حرف ما يقابله من طبائع الأشياء.
ولا يقف جابر - بالطبع - عند هذه التعميمات التي لا تفيد كثيرا، بل يوغل في التفصيل الذي سنورد بعضه ونهمل بعضه مضطرين لضيق المقام، ونسبق ترتيب الكتاب لنقول في هذا الموضع: إن موجودات الطبيعة هي إما حيوان وإما نبات وإما حجر، وهذه مركبة كلها من العناصر الأولية الأربعة: النار والهواء والماء والأرض، وكل عنصر من هذه العناصر يتألف من اتحاد اثنتين من الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فمن الحرارة واليبوسة معا تتكون النار، ومن الحرارة والرطوبة معا يتكون الهواء، ومن البرودة واليبوسة معا تتكون الأرض، ومن البرودة والرطوبة معا يتكون الماء؛ فإذا عرفنا أي الحروف دال على هذه الكيفية أو تلك، عرفنا بالتالي الحروف الدالة على العناصر الأربعة، وعرفنا أخيرا الحروف الدالة على مختلف الطبائع. ويقسم جابر الحروف الثمانية والعشرين إلى مجموعات أربع، يجعل كل مجموعة منها مقابلة لإحدى الكيفيات الأربع على الوجه الآتي:
الحرارة:
أ ه ط م ف ش ذ.
البرودة:
ب و ي ن ص ت ض.
اليبوسة:
ج ز ك س ق ث ظ.
الرطوبة:
د ح ل ع ر خ غ.
6
على أن هذا تقسيم كيفي للطبائع من جهة وللحروف التي تقابلها من جهة أخرى، ولكنه لا بد إلى جانبه من معرفة كمية للمقادير التي تتفاوت بها هذه الكيفيات في تركيبها للأشياء، وما يقابلها من دلالات كمية للحروف المختلفة، فما كل حرف ككل حرف آخر في قوته، ونترك التفصيل في هذه النقطة الآن لنعود إليها عند الحديث على نظريات ابن حيان في علم الكمياء.
وقد أسمى جابر كتابه الذي أخذ يوازي فيه بين الحروف والطبائع «كتاب التصريف» تشبها بما يسميه النحويون تصريفا ؛ إذ لا فرق في حقيقة الأمر بين تصريف الكلمات وتصريف طبائع الأشياء، حسب النظرية التي نحن الآن بصدد بسطها؛ فلو شاء العالم أن يحول شيئا ما ليصيره شيئا آخر، فليدرس الأسماء وتصاريفها أولا، لينتج له من هذه الدراسة كيف يكون طريق السير في تحويل الأشياء بعضها إلى بعض. يقول جابر: إنه لما كان «الكلام كله على الحروف، ولا كلام إلا بتأليف الحروف، لم يكن بد من أن يقع في الطبائع مثل ذلك، فحقيق أن يكون تصريف الطبائع كتصريف الحروف.»
7
قلنا إن الأصل الذي تكونت منه الموجودات كافة هو الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ لكن هذه الكيفيات محال أن تقوم الواحدة منها على حدة بمعزل عما عداها؛ ولذلك كان لا بد من اتحادها اثنتين اثنتين على الأقل؛ فالحرارة لا تكون وحدها أبدا، بل لا بد أن تمتزج بها، أما اليبوسة وبهذا تتكون النار، وأما الرطوبة وبهذا يتكون الهواء، وكذلك البرودة لا تكون وحدها أبدا، بل لا بد أن تمتزج بها، أما اليبوسة وبهذا تتكون الأرض، وأما الرطوبة وبهذا يتكون الماء، فما الذي يقابل هذا في اللغة؟ يقابله أن الحرف الواحد المعزول عما عداه محال على النطق
8
ويكون في حكم المعدوم من الناحية اللغوية، «فنحن لا نقدر أن نتكلم بحرف واحد حتى نضيفه إلى حرف آخر، كذلك لا يمكننا وزن طبع واحد إلا بإضافته إلى طبع آخر ليتبين»
9 «فكما أن الشيء الواحد لا يكون على أقل من عنصرين (من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة) أو ثلاثة، ولا يكون على واحد ... «فكذلك» قولنا كلمة ما، مثل محمد وجعفر وغير ذلك من الأسماء، لا يكون إلا بتراكيب الحروف، وقد تكون كلمة من حرفين وثلاثة وأكثر من ذلك وأقل، إلا أن كلمة لا تكون من حرف واحد ... لأنه لا تكون كلمة أقل من حرفين: حرف النطق وحرف الاستراحة؛ فقد وجب أن يكون تركيب الحروف كتركيب الطبائع في سائر الموجودات.»
10
ويقول جابر أيضا: «كما أن النحويين يعالجون تصريف الكلمات فيردونها إلى أحرفها التي منها نشأت، فكذلك للفلاسفة تصريف خاص بهم.»
11
إذ هم يردون الأشياء إلى بسائطها؛ فعلم النحو وعلم الطبيعة يتبعان منهجا علميا واحدا.
ولا أحسبني أسرف في التأويل والتخريج إذا قلت إن هذا المنهج بعينه هو الطابع المميز لإحدى مدارس المنطق المعاصرة، وهي مدرسة برتراند رسل المعروفة باسم «الذرية المنطقية»، وخلاصتها أن العالم الطبيعي من ناحية يقابله عالم اللغة من ناحية أخرى، وأنه إذا كان علم الطبيعة الذري قد فتت الأشياء وحللها إلى ذرات، كل ذرة منها مكونة من كهارب، فعلم المنطق الذري هو الذي يقابله في عالم اللغة، وإذن فالطريق الصواب هو أن يفتت اللغة ويحللها إلى ذرات بسيطة، يستحيل تحليلها إلى ما هو أبسط منها على الرغم من أن كل ذرة منها قد تكون مؤلفة من أكثر من مقوم واحد، وهذه الذرات المنطقية هي ما يسمونه بالقضايا البسيطة أو القضايا الذرية. لكن حذار أن نفهم كلمة «الذرة» وكلمة «الذري» هنا بالمعنى المادي، وإلا لفاتنا فهم الطبيعة والمنطق المعاصرين، كما يفوتنا أيضا فهم جابر على حد سواء؛ إنما الذرة والذرية هنا معناهما لا مادي؛ فالذرة في علم الطبيعة الحديث قوامها طاقة، وكذلك القضايا الذرية في منطق برتراند رسل لا يوصل إليها إلا بالتجريد، فهي لا ترد في الحديث والكتابة أبدا؛ لأن كل ما يرد في الحديث والكتابة قضايا مركبة يمكن تحليلها بالعقل وحده إلى البسائط التي منها تتكون، وكذلك الأمر في فلسفة جابر بن حيان؛ فهو ذري بالمعنى الحديث لكلمة الذرة وكلمة الذرية، لا بمعنى الذرة عند ديمقريطس مثلا، وهو المعنى الذي يجعل من الذرة جسما ذا حيز وأبعاد؛ فيكفي أن تتذكر أن جابرا يحل الطبيعة إلى كيفيات أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وأن هذه الكيفيات أمور مجردة لا وجود للواحدة منها في الطبيعة وجودا مفردا. أقول إنه يكفي ذلك لتعلم أنه حين يرد الطبيعة إلى بسائطها فلا يرتد إلى بسائط مادية بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، وكذلك حين يحلل اللغة التي هي القسيم المقابل للطبيعة، فإنما يحللها إلى أحرف، والحرف الواحد - كما أسلفنا - مستحيل على النطق وهو مفرد وحده، ولا وجود له من الناحية اللغوية إلا على سبيل التجريد العقلي.
فهنالك أشياء في عالم الطبيعة ثم تصور لها ولعناصرها في العقل، ثم النطق تعبيرا عما قد تصوره العقل، ثم كتابة هذا الذي نطقنا به؛ أربع خطوات في مرحلة واحدة، أو أربع حلقات في سلسلة واحدة، كل حلقة منها تعيد مضمون الحلقة السابقة في صورة أخرى، لكن جوهر المضمون واحد، وإذن فمسافة الخلف ليست بعيدة بين الشيء الخارجي في طبيعته، وبين الكلمة المنطوقة أو الكلمة المكتوبة الدالة على ذلك الشيء في طبيعتها. يقول جابر: «إن الأشياء كلها تقال على أربعة أوجه: الأول منها أعيان الأمور وذواتها وحقائقها؛ كالحرارة في ذاتها والبرودة في ذاتها، وإن كانا غير موجودين لنا، ثم تصور ذلك بالعقل ... ثم النطق به ... وذلك بتقطيع الحروف ... ثم كتابتها.»
12
ويقول أيضا في هذا المعنى نفسه: قالت الفلاسفة بأن الكتابة دالة على ما في اللفظ المنطوق، واللفظ دال على ما في الفكر، وما في الفكر دال على ماهية الأشياء.
13 (4) ميزان الحروف
لو بلغت اللغة حد كمالها المنطقي - هكذا قال جابر بن حيان، وهكذا يقول رودلف كارناب أمام الوضعية المنطقية اليوم
14 - لجاءت مفرداتها مقابلة تمام المقابلة لما في الطبيعة من أشياء بما لها من صفات وما بينها من علاقات، بحيث لا تدل الكلمة الواحدة إلا على مقابل طبيعي واحد، كما أنه لا يقابل الشيء الواحد في الطبيعة إلا كلمة واحدة في اللغة، فعندئذ لا تجد كلمة تدل على أكثر من مسمى واحد، كما لا تجد شيئا واحدا يشار إليه بإحدى كلمتين على حد سواء؛ في مثل هذه اللغة الكاملة منطقيا لا يكون ازدواج معنى ولا يكون غموض، وفي هذا نفسه يقول جابر بن حيان: «إن المسمي للأشياء بهذه الأسماء قد ترك أشياء كثيرة بلا أسماء البتة، وسمى أشياء كثيرة باسم واحد، وسمى شيئا واحدا بأسماء كثيرة، فقال في السيف: السيف والصمصام والباتر والحسام وأمثال ذلك، وجعل في الأول كاسم العين دالا على معان كثيرة؛ كالعين المبصرة وعين الماء وعين الشمس وأمثال ذلك.»
15
ويلاحظ جابر أن اللغة كما هي قائمة لا تجعل الأسماء وفاق المعاني وبقدر عددها؛ إذ يزيد فيها مقدار المعاني على مقدار الأسماء زيادة كبيرة.
وإن جابرا ليتصور الأمر على نحو ما يتصوره فلاسفة التحليل في عصرنا هذا؛ إذ يشترط - لكي يكون للكلام معنى - أن يكون له مقابل في الطبيعة، فهو يقول: «الأشياء كلها تنقسم قسمين: إما نطق وإما معنى (= إما كلام وإما مدلولاته)، والكلام الذي لا معنى تحته فلا فائدة فيه.»
16
بل إنه كذلك ليتفق مع فلاسفة التحليل المعاصرين في حقيقة بالغة الأهمية، ألا وهي أن رجل الفكر العلمي والفلسفي لا يعنيه من اللغة إلا ما كان منها ذا قسيم مقابل في جانب الطبيعة الخارجية، أعني أن يكون مخبرا بخبر ما عن شيء ما في العالم الخارجي؛ وذلك لأن من اللغة تركيبات ينطق بها صاحبها لا لينبئ سامعه بنبأ عن أشياء الدنيا المشتركة بينهما، بل ليعبر له عن حالة وجدانية تضطرب بها نفسه من داخل؛ كأن يتوجع أو يتمنى أو أن يأمر وينهى. والحق أن رجال المنطق العقلي منذ نشأ هذا المنطق لم يفتهم أن يضعوا هذه الحدود التي تفرق بين ما هو فكر وما ليس هو بفكر، حين قالوا إن وحدة الفكر هي «القضية» والقضية هي ما يجوز أن يقضى فيها بحكم عليها إما بأنها صادقة وإما بأنها كاذبة؛ وبطبيعة الحال لا يكون الصدق أو الكذب ذا معنى مفهوم إلا إذا وصف به نبأ يقرر به صاحبه تقريرا ما عن شيء ما، أما إذا تمنى أو أمر أو نهى أو صرخ صرخة ألم أو ضحك ضحكة مسرور، فليس هذا مما يقال عنه إنه صدق أو كذب. وبعبارة مختصرة، لا يكون الكلام تفكيرا علميا وفلسفيا إلا إذا كان أحكاما على أمور الواقع، وأما ما كان منه تعبيرا عن ذات النفس من داخل فهو أدب وفن وليس علما ولا فلسفة.
هذا المعنى نراه في قول جابر عن أقوال اللغة إنها مما لا تدخل في اختصاص الفلاسفة إذا كانت أمرا أو نهيا أو طلبا أو تمنيا أو ما إلى ذلك؛ وأما إذا كانت تحمل خبرا ففيها عندئذ الفائدة العظمى، «وقد ينقسم القول إلى المبتدأ والخبر؛ وأما الخبر فهو الذي فيه الفائدة العظمى ... وهو الذي يحتمل الصدق والكذب، وفيه تدفن العجائب من الكلام، من المحال والحق؛ ومن لم يحسن يقين الأخبار، ويقايس بعضها ببعض، فإنه عري من علم الفلاسفة والفلسفة ...»
17 «ونقول أيضا في الشعر والبلاغة الخطبية، إنه لا فائدة من علومنا فيها ولكنها نافعة في مواضع أخر من ترتيب الحروف نفسها.»
18 - وهذه تفرقة من جابر بن حيان كانت وحدها تكفي لنحييه عالما فيلسوفا له من دقة التحليل والتمييز ما يحاول بلوغه أصحاب مدرسة التحليل المعاصرة التي ينتمي إليها مؤلف هذا الكتاب.
نعود فنقول إنه لو بلغت اللغة حد كمالها المنطقي، لجاءت كلماتها مساوية لأشياء العالم الخارجي، ثم لجاءت أحرف الكلمات مقابلة لطبائع تلك الأشياء - ونحن نتكلم الآن بلسان ابن حيان - فلا زيادة فيها ولا نقصان؛ لكن الذي يحدث فعلا في اللغة القائمة المتداولة هو أنها بعيدة عن هذا الكمال، فكلمات زادت حروفها عن الأصل المطلوب، وكلمات أخرى نقصت حروفها عن الأصل المطلوب، وإذن فالخطوة الأولى التي يتحتم علينا البدء بها، إذا أردنا أن نستشف طبائع الأشياء الخارجية من أسمائها في اللغة، هي أن نسقط الزوائد من الكلمة إن كان فيها زوائد، أو أن نضيف النواقص إن كان فيها ما هو محذوف.
لكننا لكي نحذف أو نضيف، ينبغي أولا أن نستوثق من أصول الكلمات ما هي، ومن الأحرف الزائدة ما هي؛ فأما الأحرف الزائدة فهي عشرة، وهي: الهمزة، واللام، والياء، والواو، والميم، والتاء، والنون، والسين، والألف، والهاء - وهي حروف يجمعها قولك: «اليوم تنساه».
ويفصل جابر القول في هذه الأحرف الزائدة، فيقول:
19 «أما الميم واللام فمخصوص بهما الاسم، واللام يصحبها الألف وهما للتعريف ... وتزاد اللام أيضا في «الذي» ... أما الميم فإنها تزاد في مكرم ومستضرب وما شاكل ذلك ...»
وأما الهمزة فتزاد في أحمد وأفضل وهما اسمان، وفي أحسن وأكرم وهما فعلان؛ وإنما نريك ذلك - وليس مقصدنا تعليمك النحو - لأن من الأحجار والعقار والحيوان ما يقع اسمه كالاسم وما يقع اسمه كالفعل، فنريك الحروف التي هذه زائدة في الأفعال وزائدة في الأسماء؛ أو زائدة في الأسماء وأصلية في الأفعال، أو أصلية في الأسماء وزائدة في الأفعال، ليحكم على كل شيء بحكمه، والياء تزاد في «يعمل»
20
وهو اسم، وفي «يضرب» وهو فعل، والواو تزاد في «جوهر» وهو اسم، وفي «حوقل» وهو فعل، والتاء تزاد في «تنضب» وهو اسم، وفي «تضرب» وهو فعل، والنون تزاد في «نرجس» وهو اسم، وفي «نضرب» وهو فعل، والسين تزاد في «مستضرب» وهو اسم وفي «استضرب» وهو فعل، والألف تزاد في «مضارب» وهو اسم، وفي «ضارب» وهو فعل، والهاء تزاد في «قائمة» وهو اسم، وفي «ارمه» وهو للموقف.
ويضرب لنا جابر أمثلة كثيرة لأسماء مواد يراها هامة في تركيب الدواء، ليبين لنا أيها نعده أصيلا لا زيادة فيه، وأيها فيه الزيادة حتى نعمد إلى حذفها قبل أن نحسب ميزان الحروف، وهو ما نستدل به على طبيعة الدواء المستخرج من المادة المحسوب قدرها بهذا الميزان؛ ومن قبيل كلامه في هذا الباب قوله:
21 «ينبغي أن تعلم أن الإثمد سالم ما لم تدخله الألف ولام التعريف، وكذلك الأبهل من النبات؛ فأما الأقاقيا فتسقط الألف الثانية والأخيرة؛ فينبغي أن يوزن على أنه أ ق ق ي، وأما النحاس والأنزروت فإنهما سالمان إذا سقط منهما الألف ولام تعريف، وكذلك الذهب والكبريت، وأما الفضة فتحذف منها كذلك تاء التأنيث ... إلخ» وبعد أن يذكر لنا جابر قائمة طويلة من الأسماء على هذا النحو، يختم الحديث بقوله: «ولولا أن يطول الكتاب ويسخف، لأثبتنا فيه - كما أثبتنا في كتاب النبات وكتاب الأحجار وكتاب الحيوان - من تعديد ما فيها من أنواعها كلها، ولكن ملنا إلى التخفيف وقد علمناك وجه القياس فيه.»
22
وهو - بالطبع - إذ يقرر الأحرف الزائدة في الكلمة، فإنما يقرر ذلك بعد معرفة مبنى الكلمة في أصلها واشتقاقها؛ ففي الذهب والفضة - مثلا - يقول: «... فمعلوم أن الذهب أصل؛ إذ هو بريء من «الزوائد»، وصار هجاء الفضة «فضى»؛ إذ الهاء إنما دخلت للتأنيث ولا ذكر لها.»
23
وعن البنية الأصلية للكلمات يقول: «ومبنى الكلام المنطوق به كله على ثلاثة أوضاع: ثلاثي؛ كقولك جمل، ورباعي؛ كقولك جعفر، وخماسي؛ كقولك جحمرش ... أما الثلاثي فإنه ينقسم من قبل طبعه اثني عشر قسما، وهي: إما فعل متحرك العين؛ كقولك ملص، وإما فعل ساكن العين؛ كقولك بعد، وإما فعل كقولك جمل، وإما فعل كقولك ملك، وإما فعل كقولك جرذ، وإما فعل كقولك سبع، وإما فعل كقولك ضرب (... جزء محذوف من المخطوط ...) هذا من الفعل ولم يرد شيء من الأسماء على وزنه، وأما فعل فليس ينطق به، فذلك في الثلاثي.» «وأما الرباعي فإنه ينقسم على خمسة أنواع، وهي: إما فعلل كقولك جعفر، وإما فعلل كقولك زبرج، وإما فعلل كقولك صبرج، وإما فعلل كقولك درهم، وإما فعلل كقولك قمطر، فهذا في الرباعي.» «والخماسي يكون على أربعة أمثال، وهي: فعللل مثل جحمرش، وعلى فعللل مثل خزعبل، وعلى فعللل مثل جردحل، وعلى فعللل مثل قذعمل».
24
فقد تتفاوت أسماء الأشياء في عدد حروفها، لكن أصولها تكون على واحد من الأوضاع الثلاثة السالف ذكرها. يقول جابر: «إنه لا يخلو الشيء المحتاج إلى معرفة وزنه من أن يكون على حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة؛ وما أقل ما يقع شيء من العشرة أو التسعة، ولكنا ذكرناه استظهارا واحتراسا من ذم الطاعنين أن ذلك إنما عملناه على حسب الهوى والعادة، ولسنا نفعل ذلك في علم من العلوم، ولكن على ما يوجبه حكم النظر وصحة التفتيش والقياس الغير مضطرب ولا مشوب بإهمال النظر ...»
25 - وفي هذه الفقرة ما يدل على دقة جابر وعلى حرصه في البحث والنظر ؛ ويهمنا أن نلفت نظر القارئ إلى دفعه عن نفسه نقيصة الجري في بحثه العلمي على حسب الهوى والعادة، وإلى التزامه صحة التفتيش والقياس الذي لا يتعرض للخطأ والإهمال.
على أن حروف الكلمة الكاشفة عن طبيعة مسماها لا تتكافأ في قوتها ولا في مقدارها؛ فمن الحروف ما يدل على ظاهر الشيء ومنها ما يدل على باطنه؛ وكذلك من الحروف ما يقابل في الوزن أكثر من غيره. يقول جابر: «... إن في الحروف الواقعة على الأدوية وغيرها من الثلاثة الأجناس (النبات والحيوان والحجر) ما ينبئ عن باطنه ولا ينبئ عما في ظاهره، وفيها ما هو بالعكس؛ مثل أن ينبئ عما في الظاهر ولا يدل على الباطن، وفيها ما يوجد جميعا فيها، وفيها ما يدل على ما فيها (ظاهرا وباطنا) وزيادة تحتاج إلى أن تلقى ويرمى بها، كما يحتاج الناقص إلى أن يتم ويزيد ...»
26
هذا من حيث دلالة الحروف على الأشياء ظاهرا، أو باطنا، أو ظاهرا وباطنا معا، أو ظاهرا وباطنا معا مضافا إليهما زيادة يستغنى عنها، أو محذوفا منهما ما يستوجب الإضافة لتكمل للشيء طبيعته. وأما تفاوت الحروف في موازينها فالكلام فيه طويل عريض؛ لأن أساس الصنعة عند جابر هو ضبط هذا الميزان لحروف الكلمة، لكي ينضبط بالتالي ميزان المادة التي يتناولها بالتحويل والتركيب في تجاربه؛ وحسبنا في هذا الموضع أن نقول إنه يقسم الحروف سبع مجموعات تتدرج في موازينها، ويطلق على كل مجموعة منها اسما يدل على منزلتها،
27
وذلك على النحو الآتي: (1)
مرتبة: أ ب ج د. (2)
درجة: ه و ز ح. (3)
دقيقة: ط ي ك ل. (4)
ثانية: م ن س ع. (5)
ثالثة: ف ص ق ر. (6)
رابعة: ش ت ث خ. (7)
خامسة: ذ ض ظ غ.
على أن كل حرف في إحدى المنازل يساوي ما تحته أربع مرات؛ فالألف تساوي الهاء مكررة أربع مرات؛ والهاء تساوي الطاء مكررة أربع مرات، وهكذا؛ وكذلك الياء تساوي الواو مكررة أربع مرات، والواو تساوي الياء مكررة أربع مرات، وهكذا، وعلى هذا المنوال قس بقية الحروف .
28
ولقد يفيدنا أن نسبق ترتيب السياق في هذا الكتاب فنقول في هذا الموضع إن الأعمدة الأربعة في القائمة التي أسلفناها هي التي تقابل الكيفيات الأربع في الطبيعة:
فالحرارة يقابلها: أ ه ط م ف ش ذ .
والبرودة يقابلها: ب و ي ن ص ت ض.
واليبوسة يقابلها: ج ز ك س ق ث ظ.
والرطوبة يقابها: د ح ل ع ر خ غ.
وستكون لنا عودة إلى هذه الكيفيات عندما نتحدث عن الطبيعة ومقوماتها في الفصلين التاليين. (5) اختلاف اللغات
إذا كانت الكلمة من كلمات اللغة دالة بذاتها على طبيعة مسماها، بحيث يكفي أن تحسب حساب حروفها لتعرف مم يتركب ذلك المسمى، فإن سؤالا ينشأ لنا على الفور، وهو ما يأتي: إن لغات الناس المختلفة شعوبهم مختلفة، فليس اللسان العربي هو اللسان الناطق وحده على هذه الأرض، بل إن هنالك إلى جانبه لسانا للفرس وآخر للروم وهلم جرا، فأي الكلمات في هذه اللغات المتباينة يكون هو الدال على طبيعة المسمى؟
وقد كان محالا بالطبع أن تفوت هذه المشكلة على عالم مثل جابر بن حيان؛ فتناولها بالبحث في كتابه «الحاصل»
29
إذ يعرض المشكلة بقوله: «إنا نجد الأشياء باللغات المختلفة تختلف، وإذا وجد اختلافها في الكتب، وجب اختلاف ما علمناك (أي ما قد ورد في كتبه السابقة على كتاب الحاصل) وانتقض الأصل الذي رتبناه على الطبائع قياسا بها ...»
ويمضي جابر بعد ذلك يعرض على قارئه أسماء الأحجار الرئيسية بلغات مختلفة، فيقول: «إنا نجد الأحجار السبعة التي هي قانون الصنعة يعبر عنها باللغة العربية أنها الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والأسرب؛ ووجدنا يعبر عنها باللسان الرومي ما يوجب نقض الأول أو نقض بعضه وائتلافه مع بعض في حروف وأشخاص لا في أنواع وأجناس؛ وذلك أني وجدتها يعبر عنها بأن يقال للذهب رصافي، وللفضة اسمي، وللنحاس هركما، وللحديد سيداريا، وللرصاص قسدروا، وللزيبق برسري، وللأسرب رو. وهذه بينها وبين العربي بون ليس باليسير؛ إما لطول كلامها وكثرة حروفها، وإما لاختلاف مواقع الحروف بين نطق العرب بالسين والرومي بها، ولعلل أخر مما جانس ما ذكرناه؛ ووجدت هذه الأحجار باللسان الإسكندراني تخالف الاثنين - أعني العربي والرومي - أيضا؛ وكان هذا أزيد في إيقاع الشك في نفوس المبتدئين والمتعلمين؛ وذلك أني وجدتهم يسمون الذهب قربا ، والفضة كوما، والنحاس جوما، والحديد ملكا، والرصاص سلسا، والزيبق خبتا، والأسرب قدرا؛ ووجدت هذه أيضا ربما وافقت الشيء من ذلك في الخاص لا في العام، ووجدت الفارسي أيضا يخالف الثلاثة بأسرها؛ وذلك أني وجدتهم يدعون الذهب زر، والفضة سيم، والنحاس رو، والحديد آهن، والرصاص أرزيز كلهي، والزيبق جيبا، والأسرب أرزيز ...» (هذه الكلمة الأخيرة غير واضحة في المخطوط). «ولقد تعبت في استخراج الحميري تعبا ليس بالسهل؛ لأني لم أر أحدا يقول إنه سمع من يقرأ به فضلا عن أن أرى من يقرأ به، إلى أن رأيت رجلا له أربعمائة سنة وثلاث وستين سنة (؟!) فكنت أقصده، وعلمني الحميري، وعلمني علوما كثيرة ما رأيت بعده من ذكرها ولا يحسن شيئا منها - قد أودعتها كتبي في المواضع التي تصلح أن أذكرها فيها - وذلك إذا سمعتنا نقول: «قال الشيخ الكبير» فهو هذا الشيخ؛ وإذا قرأت كتابنا المعروف بالتصريف، فحينئذ تعرف فضل هذا الشيخ وفضلك أيها القارئ والله أعلم أنك أنت هو ...»
30 «ولنعد الآن إلى غرضنا الذي كنا به وأقول: إني وجدت الحميري أيضا أشد خلفا لسائر اللغات مما تقدم؛ وذلك أني وجدت الذهب في لغتهم - على ما علمني الشيخ - يدعى أوهسمو، والفضة هلحدوا، والنحاس بوسقدر، والحديد بلهوكت، والرصاص سملاخو، والزيبق حوارستق، والأسرب خسحد عزا، فيا ليت شعري كيف يصل العالم من كتب الفلاسفة في علم الموازين إلى إيضاح هذا الخلف؟ ...»
لقد أوردت هذا النص الطويل لأبين به كيف أن جابرا لم يغفل عن مشكلة تعدد اللغات، ولأبين في الوقت نفسه منهجه العلمي في تقصي الأمور؛ فقد أراد أن يعلم إلى أي حد تتشابه اللغات المختلفة وإلى أي حد تتباين في تسميتها للشيء الواحد المعين كالذهب مثلا، فاستعرض العربية والرومية والإسكندرانية والفارسية والحميرية؛ بل إنه بالنسبة إلى هذه الأخيرة لما لم يجد أحدا يعرفها راح يسعى حتى وجد الشيخ الذي قص علينا قصته.
وقد انتهى البحث بجابر إلى أحد حلين: أولهما هو: «أن تمتحن الأدوية والعقاقير في العربي، ثم في الفارسي، ولسان لسان مما ذكرناه ... فأيها صح فالزمه في سائر تدبيراتك». والحل الآخر هو أن يعمل في كل عمل بلسانه.
أما الحل الأول فمقتضاه ألا يقصر الباحث نفسه على لغة واحدة، بل يختار من مختلف اللغات مجموعة الأسماء التي تدل التجارب على أنها دالة على طبائع مسمياتها دلالة واضحة؛ فلا ضير على العالم في هذه الحالة أن يستعمل للذهب - مثلا - اسمه العربي، ثم يستخدم للنحاس أو الرصاص اسمه الفارسي أو الرومي. وأما الحل الثاني فمؤداه أن يلتزم الباحث لغة واحدة بحذافيرها في شتى أبحاثه، وسيجد أن كل لغة مكتفية بذاتها في الدلالة على طبائع الأشياء؛ لأن حقائق الأشياء ثابتة لا تتعدد بتعدد اللغات، لكن جابرا يروي الرأي الثاني نقلا عن فيلسوف لم يذكر اسمه، ثم يرفضه؛ لأنه يرى أنه ما دامت كلمات اللغات المختلفة مختلفة البنية، فلا يعقل أن تكون كلها على حد سواء في الدلالة على حقائق الطبيعة، وهذه هي عبارة جابر في ذلك: «وسمعت بعض الفلاسفة من فلاسفة زماننا يقول في ذلك الوجه أن يعمل في كل عمل بلسانه. وليس القول كما ظن هذا الرجل؛ إذ كان الحق لا يكون في وجهين مختلفين.»
31
وخلاصة القول: إن الرأي عند «ابن حيان» في اللغة هو أنها نتاج ظهر بالطبع لا بالاتفاق العرضي؛ ولهذا فهي ذات دلالة أصيلة على حقائق مسمياتها؛ فهو يقول: «... وهل ذلك (أي كلمات اللغة) بالاصطلاح على ما جاء واتفق أو بقصد طبيعي نفساني؟ وهل ذلك عرض أو جوهر؟ فأقول: القول بأنها وضع واصطلاح وعرض خطأ؛ لأنه جوهر بالطبع لا بالوضع، لكن بقصد نفساني؛ لأن الأفعال النفسانية جوهرية كلها ... فالحروف التي هي هيولى الكلام ابتداع نفساني».
32
ويقول أيضا: «إذا كان قد ظهر أن لكل شيء موجود فعلا ما، فليعلم أن للإنسان خاصة أكثر الأفعال وأكبرها؛ فليعلم ضرورة أن عمله واستخراجه علم المنطق والنحو والهندسة والطب والنجوم - وإن كان موضوع كثير منها باطلا - فإن جميع ذلك حق؛ وغير مدافع أن الكلام وتأليف الحروف وعمل أشكالها من تأليف الإنسان، إلا أنها قد وقعت بالطبع ... فغير شك إذن أن الكلام ونظم الحروف له طبع ما؛ إذ كان كل موجود له طبيعة ما، وهذا موجود».
33
فلسفة الكون
(1) مراحل الكون
يرى جابر أن أول ما كان في الأزل هو العناصر الأولية الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فهذه هي «أوائل الأمهات البسائط» كما يسميها،
1
ثم طرأت على هذه البسائط حركة وسكون، فتكون منها تركيبات منوعة، ولولا الحركة والسكون لظلت تلك الأصول الأولى مستقلا بعضها عن بعض؛ كل منها خالص لنفسه وقائم برأسه، لكن الحركة والسكون وحدهما لا يكفيان لخروج هذه الكائنات التي نراها من حيوان ونبات وحجر، بل لا بد كذلك من مبدأ الكمية يدخل في عملية الامتزاج؛ لأن الأشياء إن تشابهت في خروجها أساسا من تلك الأمهات الأربعة، فهي تعود فتختلف حيوانا ونباتا وحجرا باختلاف المقادير التي تدخل في تكوينها من كل عنصر من العناصر الأولية؛ فقد تزيد الحرارة هنا وتقل هناك، وقد تزيد اليبوسة في شيء عنها في شيء آخر، وهكذا؛ وإذن فمراحل الوجود على وجه الإجمال هي: كيفيات، فحركة وسكون، فكمية، بهذا الترتيب.
فليس يذهب جابر مع الذاهبين إلى أن تلك العناصر الأولية الأربعة قد سبقها إلى الوجود هيولى خلو من الكيف - وهو المذهب الأرسطي - ثم جاءت العناصر الأربعة فروعا متفرعة عن الهيولى الخالصة بأن اكتسبت تلك الهيولى الساذجة كيفية ما، فصارت حرارة، وكيفية أخرى فصارت برودة، وكيفية ثالثة فصارت يبوسة، وكيفية رابعة فصارت رطوبة. ويقول أنصار هذا المذهب - كما يرويه عنهم جابر - إن الهيولى اكتسبت أول ما اكتسبت الأقدار الثلاثة: الطول والعرض والعمق، فصارت الهيولى بهذه الأبعاد الثلاثة جسما ذا ثلاثة أبعاد، وبعدئذ خلقت فيه الكيفيات الأربع المذكورة فنشأت طبائع الأشياء وأركان الخليقة، ثم تركبت هذه الطبائع الأربع، وامتزج بعضها ببعض، فكانت منها جميع هذه الأشخاص والأشباح الموجودة في العالم .
2
يعرض جابر هذا المذهب موجزا ليتناوله بالنقد
3
مقيما الدليل على استحالة أن يكون قد سبق الأصول الأربعة شيء خلو منها؛ وإلا فكيف يجوز عند العقل أن يكون نفس المصدر الذي نشأت عنه النار هو الذي خلق منه الماء؟ إن هيولى الشيء هو ما قد تركب منه ذلك الشيء، فهل يتركب الماء والنار - وهما ضدان - من هيولى واحدة؟ يقول جابر مخاطبا أصحاب الرأي القائل بأن أصل العالم هيولى لا كيف لها: لقد زعمتم أن أولى مراحل الخلق طينة أزلية لم تكن جسما، ولا كانت موصوفة بصفة مما توصف به الأجسام، وزعمتم أن تلك الطينة هي أصل الأشياء وعنصر البرايا؛ ومحال علينا أن نتصور بخيالنا هذه الطينة ولا أن نعقلها، ثم قلتم إن المرتبة الثانية هي أن قد اتخذت تلك الطينة الأزلية أبعادا ثلاثة، فصارت بها جسما، لكنه جسم غير موصوف بشيء من حر أو برد أو رطب أو يابس أو لون أو طعم أو رائحة أو حركة أو سكون؛ لأن هذه كلها كيفيات، والكيفيات لم تكن قد طرأت عليها بعد، وهذا أيضا شيء غير معقول؛ ثم زعمتم أن الكيفيات الأربع قد حدثت بعد ذلك، وأعني بها: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومنها نشأت الطبائع الأربع التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ لكن هذا القول هو بمثابة قولنا: إن شيئا خرج من لا شيء؛ فهل كان يجوز أن يخلق الماء من نفس الشيء الذي خلقت منه النار؟ إنكم إذا أجبتم بالإيجاب كنتم تجيبون بما هو محال؛ وذلك أن كل شيء ركب منه شيء فهو هيولى لما تركب منه؛ فمن أمثلة ذلك قولنا: إن نطفة الإنسان هيولى الإنسان ونطفة الحمار هيولى الحمار. وإنا لنزعم أنه محال أن تقبل نطفة الإنسان صورة الحمار؛ لأنها ليست بهيولى لها، وكذلك محال أن تقبل نطفة الحمار صورة الإنسان، فوجب على هذا القياس أن يكون الشيء الذي يقبل صورة النار هو هيولى لها، فمحال أن يقبل صورة الماء وأن يكون هيولى له.
ويستطرد ابن حيان في مخاطبة أصحاب مذهب الهيولى الواحد، فيقول عنهم إنهم قالوا: إنا نجد الماء يستحيل فيصير نارا، فيكون الجوهر الحامل لكيفياته وحالاته هو نفسه الجوهر الحامل لكيفيات النار وحالاتها، فما جاز على الأول جاز على الثاني، والذي تغير في الحالتين هو الأعراض، فكذلك الهيولى القديم واحد، وهو حامل لكيفيات الماء وحالاته إن حدثت فيه، وحامل لكيفيات النار وحالاتها إن هي حدثت فيه. نقول إنهم إن قالوا ذلك قلنا: إن الماء ليس يستحيل دفعة واحدة فيصير نارا، بل هو يتدرج في ذلك، فيتحول أولا إلى بخار، ثم يصير البخار هواء، ثم يتحول الهواء فيصير نارا. فلو قال قائل: إن الماء يستحيل هواء فيصير نارا، لأهمل بذلك مرحلة البخار التي ينتقل خلالها من حالة الماء إلى حالة الهواء، فيصبح قوله غير معقول، وهكذا قولكم - يا أصحاب مذهب الهيولى - كان يكون معقولا لو أنكم جعلتم الماء والنار يصدران عن هيولى بسيط أزلي على النحو المتدرج الذي أسلفناه، لكنكم لم تقولوا ذلك، بل قلتم: كان يجوز أن يكون الهيولى الذي استحوذت عليه طبيعة الماء وحالاته، تستحوذ عليه - بدلا منها - طبيعة النار وحالاتها بغير استحالات متوسطة فيما بين الماء والنار، وهذا خلاف المعقول.
ويمضي ابن حيان في تفنيد دعوى أصحاب مذهب الهيولى، فيقول: إنهم إن زعموا أن الهيولى القديم - قبل أن يكتسي بالصور ويكتسب الطبائع - كان شيئا له القوة على قبول حالات النار وكيفياتها بجانب من جوانب تلك القوة، وبجانب آخر يقبل حالات الماء وكيفياته، وبثالث يقبل حالات الهواء وكيفياته، وبرابع يقبل حالات الأرض وكيفياتها ... إن زعموا ذلك عن الهيولى القديم كانوا بهذا الزعم قد أثبتوا للخليقة أربعة عناصر أزلية قديمة، وهي مختلفات القوى، وبطل قولهم: إن العنصر الأول واحد ليس بمختلف.
وتسألهم: هل يجوز انحلال الأشياء إلى الهيولى القديم كما تركبت منه؟ فإن قالوا: لا يجوز هذا، سألناهم: ولم لا يجوز؟ فإن قالوا: إن ذلك بطلان الأشياء ورجوع بها إلى الأزلي البسيط الذي لا تركيب فيه، قلنا: وما ضركم أن تقولوا إن الأشياء تعود إلى الأزلي البسيط الذي لا تركيب فيه ويبطل هذا العالم؟
ومما يدل على فساد قولهم بأن أول الخلق هيولى بسيط لا كيف فيه، أن الفلاسفة قد بينوا لنا استحالة وجود جوهر عطل من الأفعال كلها - الطبيعية منها والصناعية - بحيث يكون ذلك الجوهر غير ذي فعل في نفسه أو في غيره؛ مع أن الهيولى التي زعم هؤلاء القوم أنه أزلي بسيط، وأنه الجوهر الأول، هو في الحقيقة عطل من الأفعال كلها - الطبيعية والصناعية - وهو أمر مستحيل على البرهان العقلي، كما أنه بالبداهة مستحيل أيضا على الإثبات بطريق الإشارة.
فإذا كان هذا هكذا، انتهينا إلى الرأي الذي نأخذ به، وهو أن الأصل الأول هو الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فهذه لم تنفعل لشيء سبقها فيما عدا البارئ جل ثناؤه. (2) تقسيمات رباعية
من هذه الأصول الأربعة الأولى: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة نشأت أربعة عناصر؛ وذلك باجتماع تلك الأصول بعضها ببعض اثنين اثنين؛ فقد اجتمع الحار واليابس فنشأت النار، واجتمع الحار والرطب فنشأ الهواء، واجتمع البارد واليابس فنشأت الأرض، واجتمع البارد والرطب فنشأ الماء؛ على أن هذه العناصر الأربعة إنما يتفاوت ترتيبها علوا وسفلا على الوجه الآتي: فالنار أعلاها، ويتلوها الهواء، ثم الماء، وأخيرا الأرض.
وفصول السنة أربعة تقابل تلك العناصر الأربعة؛ فالصيف يقابل النار، والربيع يقابل الهواء، والشتاء يقابل الماء، والخريف يقابل الأرض.
وفي بدن الإنسان أخلاط أربعة تقابل العناصر الأربعة؛ فالصفراء تقابل النار وزمانها القيظ، والدم يقابل الهواء وزمانه الربيع، والبلغم يقابل الماء وزمانه الشتاء، والسوداء يقابلها الأرض وزمانها الخريف. وسيكون لتحديد الأزمان الملائمة لكل من هذه الأخلاط الأربعة شأن في العلاج الطبي للأمراض التي تطرأ على هذا الجزء أو ذاك، كما سنرى عندما تتعرض لأهمية التحديد الزمني عند جابر، والتحديد الزمني للظاهرة إنما يتقرر بأوضاع النجوم في أفلاكها.
وللإنسان كذلك أعضاء رئيسية أربعة، هي: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان (؟)، يقابل كل عضو منها جانبا خاصا من التقسيمات الرباعية السالفة الذكر؛ فالقلب في الأعضاء يقابل الصفراء في الأخلاط، ويقابل القيظ في الفصول، ويقابل النار في العناصر، والنار بدورها مؤلفة من الحرارة واليبوسة وهما من البسائط الأولية، والدماغ في الأعضاء يقابل البلغم في الأخلاط، ويقابل الشتاء في الفصول، ويقابل الماء في العناصر، والماء بدوره مؤلف من البرودة والرطوبة وهما من البسائط الأولية، والكبد في الأعضاء يقابل الدم في الأخلاط، ويقابل الربيع في الفصول، ويقابل الهواء في العناصر، والهواء بدوره مؤلف من الحرارة والرطوبة، وهما من البسائط الأولية، والأنثيان في الأعضاء يقابل السوداء في الأخلاط، ويقابل الخريف في الفصول، ويقابل الأرض في العناصر، والأرض بدورها مؤلفة من البرودة واليبوسة وهما من البسائط الأولية. «هذه هي بنية العالم والطبيعة والإنسان؛ فكان العالم ضرورة إنسانا، والإنسان جزءا صغيرا بالإضافة إلى العالم.»
4
هكذا يقول جابر تعليقا وتلخيصا لهذه التقسيمات الرباعية، وهو قول بالغ الأهمية في تحديد فلسفته الكونية؛ إذ يبين نزعته المشبهة - التي تشبه العالم بالإنسان - وهي نزعة تجعل الكون إنسانا كبيرا، وتجعل الإنسان كونا صغيرا؛ فكل من الجانبين يصور الآخر، كأنما هما خريطتان لشيء واحد اتفقتا في طريقة التصوير واختلفتا في مقياس الرسم وحده. يقول كارا دي فو في مقالته عن جابر: «إن المذهب الموجود في مؤلفاته - وفي كتاب الرحمة بصفة خاصة (وهو كتاب لا شك في نسبته إلى جابر) - هو مذهب موغل في إسقاط الصفة البشرية على الطبيعة، أو إن شئت فقل إنه موغل في بث الحياة في الطبيعة؛ فهو يعد المعدن كائنا حيا، ينمو في حضن الأرض مدة طويلة - آلاف السنين - متحولا من الحالة الناقصة (حالة الرصاص) إلى الحالة الكاملة (حالة الذهب). ومهمة الكيميا أن تعجل عملية التحول؛ إنك لترى جابرا يستخدم عن المعادن ألفاظا مأخوذة من الحياة البشرية؛ كالتوالد والزواج والتلقيح والتربية، كما يستخدم عنها لفظتي الحياة والموت؛ فالعناصر الأرضية الغليظة «ميتة» والخفيفة اللطيفة «حية»، وعنده أن كل جسم كيموي روح وبدن، ومهمة الكيموي أن «يخلص» الواحد من الآخر، لكي يبث في الجسم روحا تلائمه.»
5
وعلى ذكر الغلظة واللطافة في تمييز الأجسام، نعود إلى تقسيماتنا الرباعية، فنقول إن الأخلاط الأربعة في الجسم الإنساني: الدم والصفراء والبلغم والسوداء، تختلف سرعة وبطئا ودقة وغلظا؛ فللدم السرعة والغلظ معا. ألم نقل إنه يقابل في العناصر الهواء، والهواء مؤلف من بسيطين أولين هما الحرارة والرطوبة؟ ثم أليست صفة الحرارة هي السرعة وصفة الرطوبة هي الغلظ؟ إذن فللدم هاتان الصفتان الرئيسيتان: السرعة أخذها من حرارته، والغلظ أخذه من رطوبته؛ وعلى هذا النحو قل: إن البلغم يتصف بالبطء والغلظ معا؛ لأن البلغم يقابل الماء، والماء مزيج من برودة ورطوبة، والبرودة بطء والرطوبة غلظ؛ والصفراء سرعة ودقة معا؛ لأنها تقابل النار، والنار مزيج من حرارة ويبوسة، والحرارة سرعة واليبوسة دقة أجزاء. وأما السوداء فبطء ودقة معا؛ لأنها تقابل الأرض، والأرض برودة ويبوسة، والبرودة بطء واليبوسة دقة أجزاء؛ ولهذه الخصائص شأن كبير في علم الطب عند ابن حيان.
6
وليست العناصر الأربعة سواء لا بالنسبة إلى وضعها من الكون ولا بالنسبة لمنزلتها من الفاعلية؛ فلقد أسلفنا القول إنها في وضعها درجات متدرجة: النار في أعلى ويتلوها الهواء فالماء والأرض، ونضيف هنا أن الحرارة والبرودة فاعلان، وأما اليبوسة والرطوبة فمنفعلان، بمعنى أن الحرارة تصب فعلها على اليبوسة فتنتج النار، والبرودة تصب فعلها على الرطوبة فينتج الماء؛ وكذلك تصب الحرارة فعلها على الرطوبة فينتج الهواء، وتصب البرودة فعلها على اليبوسة فتنتج الأرض
7
ونوضح هذا بالجدول الآتي:
الحرارة فاعلة واليبوسة منفعلة = النار.
الحرارة فاعلة والرطوبة منفعلة = الهواء.
البرودة فاعلة واليبوسة منفعلة = الأرض.
البرودة فاعلة والرطوبة منفعلة = الماء.
فبين المركبات الأربعة، النار والهواء والأرض والماء تقابل بعضه ناقص وبعضه تام؛ فبين النار والأرض تقابل ناقص؛ لأنهما مشتركتان في اليبوسة ومختلفتان في أن النار حارة والأرض باردة؛ وكذلك بين الماء والهواء تقابل ناقص؛ لأنهما مشتركتان في الرطوبة ومختلفتان في أن الماء بارد والهواء حار؛ أما الأرض والهواء فبينهما تقابل تام؛ لأنهما مختلفان في كل شيء، فالأرض باردة والهواء حار، والأرض يابسة والهواء رطب، وكذلك بين النار والماء تقابل تام؛ فالنار حارة والماء بارد، والنار يابسة والماء رطب. ونوضح هذا بالرسم الآتي:
ولما كان الهواء والماء والنار والأرض مركبات، كل مركب منها مؤلف من عنصرين أوليين، كان في مستطاع المجرب أن يقيم التجارب ليرد كل مركب منها إلى عنصريه البسيطين؛ فالماء - مثلا - برودة ورطوبة معا؛ فإذا أردنا أن نطرح منه رطوبته لنستبقي برودته وحدها، أمكن ذلك بتجربة نجريها على الوجه التالي: «وجه التدبير أن تلقي الماء في القرعة وتترك في القرعة شيئا فيه يبس شديد قوي؛ كالكبريت وما جانسه، فإن الرطوبة نشفتها اليبوسة والحرارة، ويحرق ما فيه من الرطوبة، فتبقى لبرودة مفردة.»
8
وهكذا نستطيع أيضا أن نتصرف إزاء الحار اليابس، فننبذ حرارته ونستبقي يبوسته، أو ننبذ يبوسته ونستبقي حرارته، حسب حاجتنا فيما نجريه من تجارب علمية.
وعلى الطبائع الأولية الأربع يتوقف كثير من الصفات، بحيث يكفينا العلم ببعض جوانب شيء ما لنستدل جوانبه الأخرى، ما دامت صفاته وليدة طبيعته الأولى؛ فلو عرفنا هذه استنتجنا تلك، ولو عرفنا تلك استنتجنا هذه. مثال ذلك أن تلحق صفة الخفة بالحار واليابس، وصفة الثقل بالبارد والرطب؛ والحرارة يلحقها العلو كالنار تتجه دائما إلى أعلى، والبرودة يلحقها الهبوط إلى أسفل؛ كالحجر يتجه دائما إلى أسفل، والرطوبة يلحقها الحركة الأفقية فلا هي إلى أعلى ولا هي إلى أسفل؛ كالماء ينساح عرضا، فلو ترك إلى طبيعته لما علا ولا هبط، بل ركد في سطح مستو، واليابس شأنه أن يتغلغل في دواخل الأشياء؛ كالهواء يتسلل خلال دقائق الشيء فنستطيع - إذن - أن نقول إن الطول من توابع الحرارة، والقصر من توابع البرودة، والعرض من توابع الرطوبة، والعمق من توابع اليبوسة.
9 (3) الفلك وجرم الفلك
أما الفلك فهو الإطار الخارجي للكون، وأما جرمه فهو ما يملأ ذلك الإطار، والإطار الخارجي - عند جابر - هو الأوليات الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وعلى أساسها تتركب الأشياء بشتى صنوفها؛ لكن هذه الأوليات الأربعة نفسها - كما قدمنا - ليست بمنزلة واحدة في إطار الكون؛ بل فيها اثنان فاعلان، هما: الحرارة والبرودة، واثنان منفعلان، هما: اليبوسة والرطوبة؛ فصور لنفسك كرة تدور على محور، يكن سطح الكرة بمثابة الحرارة، ويكن المحور بمثابة البرودة؛ فإذا ما دارت الكرة نتج عن دورانها يبوسة ورطوبة ؛ وبهذا تتكامل الأوليات الأربعة،
10
أعني يتكامل «الفلك» أو إن شئت فقل يتكامل الإطار.
وبعدئذ يجيء ما يملأ ذلك الإطار، وأول ذلك هو الأركان الأربعة التي أسلفنا لك القول فيها، وهي: النار والهواء والماء والأرض، ولا يفوت جابرا هنا أن ينبه إلى أن «الفلك» - أي الإطار الأولي - ليس بذي مادة في ذاته، فهو كالمفاهيم الهندسية: الدائرة والخط والنقطة، كلها تصورات عقلية؛ فالدائرة هي ما يحيط بغض النظر عن الجرم الذي تحيط به، والخط طول بلا عرض ولا جسم بغض النظر عن طبيعة الشيء الذي يمتد خطا، والنقطة شيء يتصوره العقل لا الحواس؛ لأنها هي ما ليس له أبعاد، وليس فيما تحسه الحواس شيء بغير أبعاد، فكما نقول عن الدائرة أنها تحيط بلا جسم، فكذلك نقول عن الفلك - الذي هو الأوليات الأربعة - إنه هو الذي يحيط بالكون دون أن نذكر ماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الكون المحوط.
على أنه لا مندوحة لنا من افتراض وجود «جوهر» ما، ليكون هو نواة التكوين؛ فكأنما هذا الجوهر هو بمثابة طبيعة خامسة تضاف إلى الطبائع الأولية الأربع؛ «فالجوهر هو القابل لكل شيء، وهو الذي في كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه يعود كل شيء كما خلقه بارئه تعالى ربنا ومولانا، جعله في كل، وكل إليه راجع.»
11
وما نكاد نبدأ في تصور هذا الجوهر كيف يتشكل ويتعين في صور معلومة، حتى نرانا ملزمين بالضرورة العقلية أن نفرض قيام ضروب من التشكل والتعين، هي التي نسميها بالمقولات، والتي قسمها أرسطو إلى عشرة؛ فهل بوسعك أن تتصور شيئا يتخذ شكلا معينا دون أن تفرض أنه لا بد أن يكون ذا كم معلوم، وذا كيف معلوم، وذا زمان يحدث فيه، وذا مكان يتخذ حيزه في أبعاده، وذا علاقات متصلة بسواه، وذا لواحق تتبعه، وذا وضع يتخذه، وذا فعل يصبه على غيره، وذا انفعال يتلقى به فعل غيره عليه؟ هذه إذن هي المقولات العشر التي تفرض نفسها على العقل فرضا، إذا أراد هذا العقل أن يتصور أن شيئا ما سيطرأ عليه تشكل وتعين.
ويحدد جابر المراد بهذه المقولات؛ فأما الجوهر فهو - كما أسلفنا - الشيء القابل للتشكل على أي صورة، فيه كل شيء ومنه كل شيء يتركب، وإليه ينحل كل شيء؛ فلئن اختلف الحيوان والنبات والجماد في خصائص تميزها، فهي كلها مشتركة في جوهر واحد يدرك بالعقل لا بالحس، «فليس يمكن أحدا لمسه، ولا إذا مسه وجد له لمسا، ولا يقدر أن يأخذ منه شيئا بيده.»
12
هذا الجوهر من شأنه أن يحمل الصفات الأولية: يحمل الحرارة أو البرودة أو اليبوسة أو الرطوبة؛ ولئن كانت هذه الصفات الأولية تجريدات وليست أجساما ألا أنها ذوات وزن، وأما الجوهر فهو جرم وذو وزن؛ نعم أن هنالك من الفلاسفة من يدرجون الجوهر مع الأوليات ويجعلونها بلا وزن، لكن «هذا كلام من لم يستغرق في العلم حق استغراقه، وإنما نظر فيه صفحا».
13 «فإنه قد وجب الآن على التحقيق أن للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أوزانا وأن للجوهر وزنا، لا بد من ذلك، وإلا فوجب أنا إذا جمعنا ما لا يرى ولا يوجد - مثلا في الحرارة واليبوسة - إلى ما لا يرى ولا يوجد، ولا وزن لأحد منهم، لم يكن منه شيء؛ وكذلك إذا جمعنا لا شيء إلى لا شيء كان من الجمع لا شيء؛ وكذلك لو جمعنا ما لا يوجد ولا يرى ولا وزن له - وهو مثل البرودة واليبوسة - إلى ما لا يوجد ولا يرى ولا له وزن، كان منه شيء لا يرى ولا يوجد ولا له وزن، وبطل سائر تلك المحمولة عليه؛ لأن قولنا: لا يوجد ولا يرى ولا وزن له، إنما هو حد اللاشيء.»
14
ويمضي ابن حيان في حديثه هذا فيقول: إننا إذ نقول عن الطبائع الأولية إنها لا توجد وعن الجوهر إنه لا يوجد، فما ذاك إلا لأن كلا منها لا يوجد منفردا، ولا يرى منفردا؛ وإذا حسبنا أنه لا وزن له، فذلك للطافته ودقته؛ وأما أن نسمع فلاسفة يعدمون هذه الأشياء وزنها ووجودها ورؤيتها فذلك قول منهم بلغ من الخطأ أقصاه.
وأما الكمية فهي الحاصرة المشتملة على كل ما نقوله عن المقدار العددي لشيء ما، وعن الأعداد بصفة مطلقة، كأن تقول: إن عددا مساو لعدد، أو إن عددا مخالف لعدد، مع تطبيق هذا التساوي والاختلاف العدديين على الأوزان والمكاييل وما إلى ذلك.
وأما الكيفية فهي التي تتناول الشيء من حيث كونه طويلا أو قصيرا، منحرفا أو قائما، حارا أو باردا، وسائر ما فيه من صفات؛ فلئن كان الكم منوطا بمقداره، فالكيف منوط بأوصافه؛ فإذا سألنا عن الأول سألنا بكلمة: كم؟ وإذا سألنا عن الثاني سألنا بكلمة: كيف؟ فإذا سألت عن إنسان: كم هو؟ كان الجواب: هو واحد، أو سألت كم يكون وزنه؟ قيل لك إنه كذا وكذا رطلا؛ أما إذا سألت عنه بقولك: كيف هو؟ كان الجواب: هو يقوم ويقعد ويتكلم ويضحك، وهو أسمر أو أبيض أو أسود أو أحد الألوان، وله شعر وله جلد وله عروق ... فما كان من صفة دخل تحت الكيفية، وما كان من مقدار دخل تحت الكمية.
15 «وأما الزمان فهو الذي يقطع به من حال إلى حال؛ مثل أن تكون قاعدا فأنت في زمانك قاعد ثم تقوم، فذلك الذي منه ابتداء قيامك من جلوسك هو الزمان، وهو واحد ما دمت قائما، وإذا جلست فهو أيضا زمان وأنت فيه؛ والزمان واحد.»
16
فليس اختلاف أزمنة الحوادث في الأشياء المختلفة بمقتضى التعدد في الزمان من حيث طبيعته؛ إذ هو زمان واحد وفيه يحدث التغير من حال إلى أخرى؛ وللزمان كم وكيف، فكميته هي التي يجاب بها عن مثل سؤالنا: كم مقدار ما كان زيد قاعدا؟ وأما في الكيف فهو أن تقول: كان الزمان حارا أو باردا؛ ولذلك وجب أن نقدم الكم والكيف على الزمان والمكان.
17 «وأما المكان فهو الذي ليس يخلو شيء من أن يكون في مكان بتة.»
18
فلا مندوحة للشيء عن أن يكون في موضع ما حتى يتاح له أن يحمل هذه الصفة أو تلك. (4) خمسة فروض لتركيب الكائنات
وقف جابر عند خمس من المقولات، هي: الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان، وقف عندها وقفات قصارا ليشرح مفاهيمها؛ لأنه يراها شروطا لا مندوحة عن توافرها لكي يتكون في العالم شيء ما، ثم استطرد بعد ذلك ليقول إن هذه المقولات لا تنطبق على درجة سواء في كل حالة من الحالات ، بل يمكن تصورها على خمس صور من التركيب:
19 (1)
أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن يكون جوهره قد حمل ما حمله من الصفات في دفعة واحدة؛ فلا زيادة قد طرأت عليه بعد ذلك ولا نقصان، وأن يكون زمان حدوثه معادلا لمكانه ... فإذا توافرت في شيء هذه الشروط، فما أقل ما يكون انحلاله وفساده، فهو لا يبلى ولا يزيله شيء، حتى يهلكه بارئه؛ ذلك لأنه إذا توافرت هذه الشروط في شيء ما، كان الشيء طبيعيا في تكوينه، وليس مصنوعا؛ وفرق كبير بين الشيء يصنعه الخالق عز وجل، وبينه إذ يجيء من صنعة الإنسان؛ فالشيء على صنعة الله يكون متكافئ الكم والكيف، متعادل الزمان والمكان، حاملا لصفاته كلها في غير اعتساف ولا تصنع. قل هذا في النبات وفي الأحجار وفي الحيوان على حد سواء. (2)
أن تكون كيفية الشيء مخالفة مباينة لكميته، وأن تكون الصفات التي يحملها جوهره قد جاءته على دفعات، فأخذ يزداد صفة بعد صفة على مر الزمن، وأن يكون بين زمانه ومكانه تنافر ... وفي مثل هذه الحالة يكون الشيء معرضا للفساد والتغير والتحول من لون إلى لون ومن مقدار إلى مقدار؛ ذلك لأن الشيء المركب على هذا النحو المتنافر يكون مصيره إلى انحلال، سواء كان نباتا أو حجرا أو حيوانا؛ فالتنافر في الكائن الحي - مثلا - معناه العلة والمرض، وبالتالي قصر العمر؛ وقد تدب فيه العلة وهو بعد جنين، أو تدب فيه في مرحلة تالية من العمر، حسب نوع التنافر الذي يكون بين عناصر تكوينه. (3)
أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن تكون الطبائع المحمولة على جوهره قد حملت عليه دفعة واحدة، أي أنه يكون طبيعيا في طريقة تكوينه وصفاته، لكن زمان حدوثه يجيء غير متسق مع مكان حدوثه ... في مثل هذه الحالة يكون عدم الصلاحية كائنا في الزمان أو في المكان؛ فإن كان في الزمان صار الكائن قلقا غير مستقر؛ لأنه ليس في زمانه المناسب، وإن كان في المكان وجب أن يغير مكانه إلى مكان أنسب لطبيعته. إنه لا جدوى في أن يكون الشيء سليم التكوين في ذاته، ثم يوضع في جو لا يلائمه أو يوضع في زمان لا يناسبه. (4)
أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته، إلا أن جوهره قد حمل طبائعه دفعة واحدة، وجاء زمانه موافقا لمكانه ... في مثل هذه الحالة يكون التكوين من حيث الخصائص والزمان والمكان لا عيب فيه، لكن العيب إنما يكون في حجم الشيء أو في مقداره بالنسبة لتلك الكيفيات، فعندئذ لا نستطيع أن نحدد له حدودا معينة معلومة؛ كأمساخ الحيوان تزيد في الحجم أو تنقص بنسبة يتعذر ضبطها. (5)
أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته، وأن يكون جوهره قد حمل طبائعه على دفعات متتالية على مر الزمن، غير أن زمان حدوثه يجيء موافقا لمكان حدوثه ... في هذه الحالة يكون الشيء مصطنعا متكلفا مرقعا ملفقا؛ لأن طبائعه ستزاد له طبعا بعد طبع على غير ما يلزم بالضرورة عن حقيقة جوهره؛ فلا يجدي أن يكون متناسب المكان والزمان؛ إذ إن تركيبه باطل وفساده محقق.
شكل 1
هذه خمس صور من التركيب (انظر شكل
1 )، يذكرها جابر على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، ليبين متى يكون تركيب الشيء كاملا ومتى يكون ناقصا، وأين تكون أوجه النقص؛ ومن أهم ما نراه هنا جديرا بالاهتمام تفرقته بين المطبوع والمصنوع، ولو لم تكن هذه التفرقة قد وردت في ذكر صريح، لكنها تستنتج استنتاجا قريبا من أقواله السابقة.
فلعلك قد لاحظت أنه يفترض أحيانا أن الجوهر قد حمل طبائعه دفعة واحدة، ويفترض أحيانا أخرى أن الجوهر قد حمل طبائعه على دفعات؛ فالحالة الأولى هي حالة الشيء إذ يكون من صنعة الله، والحالة الثانية هي حالته إذ يكون من صنعة الإنسان؛ والمهم هنا هو أن نعرف إن كان في مكنة الإنسان أن يحاكي فطرة الله في صنعه. يقول جابر: «إن الجوهر إما أن تحمل عليه الطبائع دفعة واحدة، وقد بينا أنه مثل خلق البارئ جل وعز ما لم يكن، والثاني فعلنا نحن في الجوهر وحمل الطبائع عليه في دفعات؛ فكأن الأول يكون متخلصا، وإنما يحصل لنا وزنه ولا يحصل لنا تخليصه على تحقيق، والثاني أن يحصل لنا وزنه ويمكننا تخليصه على تحقيق، فافهم ذلك لتكون لك به دربة أولا، وشارك المصنوع بغيره ...»
20
ونحن نفهم من هذه الفقرة أن الرأي عند جابر هو أننا إزاء الشيء الطبيعي الفطري، كقطعة من الذهب الطبيعي - مثلا - أو فرد من أفراد الحيوان أو النبات، نستطيع دراسة عناصره وطريقة تكوينه، لكننا لا نستطيع حله وتفكيكه ورده إلى أصوله الأولى التي منها قد تركب، وأما إزاء الشيء المصنوع ففي مستطاعنا أن نحله كما ركبناه، وأن نعود إلى تركيبه كما حللناه. وأهم ما في الفقرة السالفة هو قوله: «وشارك المصنوع بغيره». ومعناها كما نفهمه هو أن في مستطاع الإنسان - بعد درس وتدريب - أن يحاكي بالصناعة كل ما قد حوته الطبيعة من صنعة الله؛ لكن جابرا يستدرك مسرعا فيقرر وجود التفاوت بين الصنعتين؛ فقد أمد الله الإنسان بالقدرة على أن يفعل بالطبائع ما شاء، وأن يستخدم الجوهر والزمان والمكان والكمية والكيفية على أي نحو أحب، ولكنه بعد أن أمد الإنسان بهذه القدرة، أعجزه عن أن يعمل كعمله هو، فالله قادر على أن يحيي الموتى وليس الإنسان على ذلك بقادر.
21 (5) الحيوان والنبات والحجر
هذه هي الموجودات الثلاثة المتركبة من الأربعة المركبة «وهذه الأربعة المركبة مقصود بها النار والهواء والماء والأرض، وهي مركبة من البسائط الأولية الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة».
أما الحيوان فهو أربعة أقسام: ماش، وزاحف، وطائر، وسابح؛ وكل من هذه الأقسام مؤلف من: نفس، وجوهر، وحرارة، وبرودة، ويبوسة، ورطوبة، محصورة كلها في مكان وفي زمان، اللهم إلا الإنسان وحده من صنوف الحيوان فيزيد عنصرا وهو العقل،
22
كما يتضح من القائمتين الآتيتين: (أ) الحيوان (ب) الإنسان
المكان
الزمان
المكان
العقل
الزمان
النفس
النفس
الجوهر
الجوهر
الحرارة
الحرارة
البرودة
البرودة
اليبوسة
اليبوسة
الرطوبة
الرطوبة
وأما النبات «فالقول فيه كالقول في الحيوان»
23
وهو حلقة وسطى بين الحيوان في طرف والحجر في طرف آخر؛ أما أنه كالحيوان فذلك من حيث إن له نفسا وجوهرا وحرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة، وكلها محصورة في مكان وفي زمان، فلا ينقصه إلا العقل الذي خصصنا به القسم الشريف من الحيوان، وأعني به الإنسان؛ «فكل موجود ذو نفس، وليس ذا عقل.»
هذا ما يقوله جابر عن النبات في كتاب التصريف، لكنا نراه في كتاب آخر (هو كتاب التجميع) يقول قولا آخر؛ إذ يقول ما معناه: «إن النبات فيه ما في الحيوان من جوانب إلا شيئين، فإن النبات غير محتاج إليهما، وهما النفس والعقل.»
24
وهو في كتاب التجميع يعقد موازنة بين الحيوان والنبات من حيث تفصيل الأعضاء في كل منهما؛ ففي النبات الورق والثمر واللحاء، كما أن في الحيوان العظام والعروق واللحم وغير ذلك، ولعله أراد بالموازنة أن يبين أن الدماغ في الحيوان لا يقابله شيء في النبات مما يستلزم أن نخص الحيوان بالنفس وحدها، أو بالنفس والعقل معا، ولا نجعل هذه الصفة للنبات.
وكذلك يوازن بين النبات والحيوان من حيث الطبائع،
25
وها هنا يجد تشابها بينهما في أن كلا منهما ينقسم ثلاثة أقسام في مراحله التطورية، وهي: الأول، والبليد، والذكي. وهو تقسيم قريب الشبه جدا بما نجده عند كثيرين من الفلاسفة الذين يقسمون الكائنات الحية الشاعرة على أساس درجة الإدراك مثل الذي نراه عند ليبنتز واسبينوزا، فهنالك نجد المرحلة الأولى هي مرحلة اللاشعور، وهي المرحلة التي تتمثل في النبات مثلا، ثم مرحلة الشعور، وهي التي تتمثل في الحيوان، ثم مرحلة الشعور بالذات، وهي التي تتمثل في الإنسان الذي يشعر ويكون على وعي بأنه شاعر. ونعود إلى جابر في تقسيمه للحيوان والنبات إلى: أول، وبليد، وذكي؛ وها هنا نجد لمحة منهجية رائعة، حين يقول ما معناه: إنني لم أقسم النبات إلى هذه الأقسام الثلاثة لمجرد علمي بأن الحيوان ينقسم إليها، بل إنني قسمته إلى هذه الأقسام لأنني وجدته كذلك. ومعنى هذا أن جابرا لا يقيم أحكامه العلمية على تأمل، بل يقيمها على تجربة، وأيا ما كان الأمر، فالتقابل هنا تام بين الحيوان والنبات؛ الأول في الحيوان كالأول في النبات، والبليد هنا كالبليد هناك ، وكذلك الذكي، وبليد النبات عنده هو الذي يبقى برهة من الزمان يسيرة ثم يذهب، كما قد نجد في الحيوان مثل ذلك؛ ولم يضرب لنا جابر من النبات أمثلة تحدد ماذا يعني بالجانب الذكي منها.
وأما الحجر - أي الجماد - فهو ينقسم ثمانية أنواع، وكل واحد من تلك الأنواع الثمانية ينقسم ثلاثة أقسام،
26
وذلك على الوجه الآتي: (أ)
متحجر، منسحق، غير ذائب. (ب)
متحجر، غير منسحق، غير ذائب. (ج)
متحجر، غير منسحق، ذائب. (د)
متحجر، منسحق، ذائب. (ه)
غير متحجر، غير منسحق، غير ذائب. (و)
غير متحجر، غير منسحق، ذائب. (ز)
غير متحجر، منسحق، غير ذائب. (ح)
غير متحجر، منسحق، ذائب.
ويعتقد جابر أن المركبات الثلاثة: الحيوان والنبات والحجر، تتفاوت صعوبة تكوينها على هذا الترتيب نفسه؛ فالحيوان أسهلها والنبات وسط بين السهولة والصعوبة والحجر أصعبها جميعا. (6) بنية الكون
27
شكل 2
إنه ينبغي أن نتصور دائرة لا نهاية لآخرها، ذات صلة مباشرة بأول طبقة من طبقات الأشياء الداخلة فيها؛ فهذه الدائرة هي ما يسميه الفلاسفة بالعلة الأولى، وهي علة فاعلة تتصف بأنها قادرة على العقل، وأنها عاقلة، وأنها لا تعقل إلا الصواب والخير والعدل، وما فيه للنفس فرح وراحة وأمثال ذلك، إلى ما لا آخر له مما توصف به هذه الدائرة ... ولو قلنا هذا المعنى بعبارة أقرب إلى أفهامنا، كانت العلة الأولى لا متناهية، فاعلة، تدرك الحق، وتفعل الخير، وتخلق الجمال، فهي عاقلة لا بمجرد قابليتها واستعدادها، بل هي عاقلة بالفعل، والعقل عندها مداره قيم الحق والخير والجمال؛ فالحق في أنها لا تدرك إلا الصواب، والخير في أنها لا ترى ولا تفعل إلا الخير والعدل، والجمال في أنها لا تفعل إلا ما يعود على النفس بالنشوة والفرحة والراحة.
شكل 3
ودون هذه الدائرة دائرة أخرى لها الإدراك العقلي لكن ليس لها القدرة على الفعل، فهي تعلم ولا تعمل، هي تتصور الأمور كلها؛ باطنها وظاهرها، جليلها ودقيقها، عامها وخاصها، لكنها لا تخلق ولا تحرك.
وفي جوف هذه الدائرة الثانية دائرة ثالثة، وهي - على خلاف الثانية - تعمل ولا تعلم، فهي فاعلة قادرة، لكنها جاهلة؛ فالدائرة الثالثة تساوي الأولى في فعلها وفي قدرتها، لكنها تختلف عنها في أنها جاهلة والأولى عاقلة، وتختلف الثالثة عن الثانية في الوجهين معا: العلم والفعل؛ فالثانية ذات علم والثالثة جاهلة، والثانية عاطلة عن الفعل والثالثة فاعلة؛ وهذه الدائرة هي النفس.
وفي داخل دائرة النفس دائرة رابعة، لا تعلم ولا تجهل، ولا تفعل ولا تنفعل، وهي عالم الجوهر - عالم الهباء المنثور - الذي منه بنية هذا العالم، وهو الذي يسميه قوم بالهيولى (انظر شكل
2 ،
3 ).
وبعد تصورنا لهذه الدوائر التي يحتوي بعضها على بعض: الدائرة الأولى وفي جوفها دائرة العقل، وفي جوف هذه دائرة النفس، وفي جوف هذه دائرة الجوهر، لنتصور أيضا أن الزمان والمكان قائمان في جوانب هذه الدائرة الأخيرة، وفي جوفها - أعني في جوف دائرة الجوهر - فلنتصور دائرة أخرى، هي دائرة العناصر البسائط، وهي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. أما كيف ترتب هذه العناصر داخل دائرة الجوهر فأمر مختلف عليه؛ فطائفة تقول إن دائرة الجوهر تنقسم بخطين متقاطعين إلى أربعة أرباع فيكون كل ربع منها مقاما لواحد من العناصر الأربعة، كما يتضح من الرسم الآتي:
شكل 4
وطائفة ثانية تذهب إلى أن دائرة الجوهر تضم في جوفها أربع دوائر منفصل بعضها عن بعض، وكل دائرة منها تمثل واحدا من العناصر الأربعة كما يتضح من الرسم الآتي:
شكل 5
وطائفة ثالثة تقول إن داخل دائرة الجوهر دوائر، الأوسع منها تضم في جوفها الأضيق، وهكذا، بحيث تكون أوسعها دائرة الحرارة - وهي أحد العنصرين الفاعلين: الحرارة والبرودة - وتليها دائرة العنصر الذي هو منفعل الحرارة، وأعني به اليبوسة، ثم تليها دائرة ثالثة هي دائرة العنصر الفاعل الثاني، وهو البرودة، وأخيرا تجيء دائرة رابعة للعنصر المنفعل للبرودة، وهو الرطوبة؛ وبهذا تكون الصورة على النحو الآتي:
شكل 6
وفي داخل دائرة الرطوبة دائرة أخيرة قيل عنها إنها خلاء، وقيل إنها ليست خلاء، ويفضل جابر أن يختار لها الفرض الأول.
وأما النفس التي هي الدائرة الثالثة بعد دائرة المبدأ الأول ودائرة العقل، فإنها قد تشبثت بالدائرة التي دونها، وهي دائرة الجوهر تشبثا جعلهما شيئا واحدا مرئيا، وهو أول ما انفعل من أشياء، ويعد بدءا للعالم المحسوس.
هكذا تكون بنية الكون كما يتصورها جابر بن حيان: دوائر يحوي بعضها بعضا؛ فدائرة العلة الأولى تتلوها من الداخل دائرة العقل، وهذه تتلوها من الداخل دائرة النفس، وهذه تتلوها من الداخل دائرة الجوهر، وهذه تتلوها من الداخل دوائر للعناصر الأربعة، وأخيرا تجيء دائرة خلاء، ولقد اتخذ الكون شكل الدائرة؛ لأن الدائرة أكمل الأشكال الهندسية، وما جاء على صورتها يكون قليل الآفات وغير هالك إلا أن يشاء الله صانعه أن يهلكه، وهو الذي فوق العلة الأولى وتحت مركز الدائرة الصغرى من هذا العالم؛ ولذلك كان هو الأول والآخر.
ولا أحسبني بحاجة إلى ذكر الشبه التام بين هذا التصور للعالم وبين الصورة التي تصورها أفلوطين - مؤسس الأفلاطونية الحديثة في الإسكندرية إبان القرن الثالث الميلادي - فمن الله الواحد انبثق العقل، ومن العقل انبثقت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للانقسام، ولهذه النفس ميلان؛ فتميل علوا إلى الواحد الأسمى، وتميل سفلا إلى عالم الطبيعة، ومن امتزاجها بالجوهر وما ينحصر فيه من عناصر أربعة تكونت الكائنات الحسية.
فعل البروج والكواكب
(1) البروج والكواكب
فلك البروج قطعة واحدة منقسمة بطبيعتها اثني عشر قسما، كل قسم منها ينقسم بدوره ثلاثين قسما، فيصبح مجموع الأجزاء ثلاثمائة وستين جزءا؛ وإن هذا الفلك بأجزائه هذه ليسير بالنسبة إلى ساكن الأرض من المغرب إلى المشرق بحركة خفيفة، ويعلوه فلك آخر هو الأثير، وهو يتحرك في اتجاه مضاد لاتجاه فلك البروج؛ إذ يتحرك من المشرق إلى المغرب، ثم يأتي فلك ثالث هو ما يسمى بفلك الكواكب المتحيرة التي تسلك مسارات يحتوي بعضها على بعض، وأوسعها مدارا هو زحل، وأصغرها مدارا هو القمر،
1
وفيما بين هذا وذاك يكون المشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد على هذا الترتيب بادئا من زحل ومنتهيا إلى القمر.
أما البروج الاثنا عشر، فهي: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت. وإن الراصد من سكان الأرض ليرى الشمس في سيرها تقيم في كل برج من هذه الأبراج الاثني عشر ثلاثين يوما على وجه التقريب، كما يرى زحل مقيما في كل برج ثلاثين شهرا، والمشتري مقيما في كل برج عاما، والمريخ مقيما في كل برج أربعين يوما، ومثله عطارد والزهرة، وأما القمر فيقيم في كل برج يومين ونصف يوم.
2
وإن هذه البروج الاثني عشر لتنقسم مجموعات أربعا على أساس الطبائع الأربع، وذلك على الوجه الآتي: (1)
الحمل، الأسد، القوس ...
بروج نارية حارة يابسة، تتدرج في حرارتها هابطة من الحمل إلى القوس. (2)
الثور، السنبلة، الجدي ...
بروج أرضية باردة يابسة، تتدرج في برودتها على هذا الترتيب. (3)
الجوزاء، الميزان، الدلو ...
بروج هوائية حارة رطبة، تتدرج في رطوبتها على هذا الترتيب. (4)
السرطان، العقرب، الحوت ...
بروج مائية باردة رطبة، تتدرج على هذا الترتيب.
والكواكب السبعة موزعة على هذه البروج، فلكل من الشمس والقمر برج واحد؛ أما الشمس فبرجها الأسد، وأما القمر فبرجه السرطان؛ وتبقى عشرة بروج لخمسة كواكب، لكل كوكب منها برجان، أحدهما على يمين الشمس والقمر، والآخر على يسارهما، وذلك على الوجه الآتي:
المريخ برجه الحمل، والعقرب.
زحل برجه الدلو، والجدي.
الزهرة برجها الثور، والميزان.
المشتري برجه الحوت، والقوس.
عطارد برجه الجوزاء، والسنبلة.
وإن الكواكب السبعة لتختلف في مقدار الحرارة التي تستمدها من الشمس باختلاف قربها منها أو بعدها عنها؛ فالشمس هي التي تمد الكواكب كلها بالحرارة والنور؛ ولذلك كانت الكواكب كلها على درجة من الحرارة صغيرة أو كبيرة، برغم أنها تنقسم بين الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ إذ إن منها ما ينتمي إلى البرودة - مثلا - مع كونه مزودا بقليل من حرارة الشمس.
لهذا جعلت الشمس وسطا بين الكواكب لتصل حرارتها إلى الكوكب الأول والكوكب الأخير على تفاوت في الدرجة، ولولا الشمس وإمدادها لسائر الكواكب بشيء من الحرارة يقل أو يزيد، لبطل وجود الفلك بسبب البرد الذي لا حرارة فيه.
والذي يلي الشمس في الحماء هو المريخ؛ لأنه أولا حار بطبعه، وهو قريب من الشمس ثانيا، فأعطته الشمس من الحماء الجزء الأكبر؛ ثم يلي ذلك المشتري، فهو دون المريخ في الحماء لبعده عن الشمس، على أنه أقوى حماء من زحل؛ إذ يقع المشتري وسطا بين حماء المريخ وبرودة زحل؛ فزحل أقل الكواكب حرارة لأنه أبعدها عن الشمس. ولما كانت الحرارة والحركة قرينين، والبرودة والسكون متلازمين، كان زحل أشد الكواكب سكونا لأنه أقلها حرارة.
وأما الزهرة فتكاد تقرب في الحماء من المريخ، وكذلك عطارد يكاد يقرب من المشتري؛ وكذلك يقرب القمر من زحل في درجة البرودة، لأنهما هما الطرفان. (2) خواص النجوم وأفعالها
إنه إذا كانت ظواهر الطبيعة مرتبطة في حدوثها بأزمنة معينة، كان لا بد لدراسة كل ظاهرة من تحديد زمنها الملائم لحدوثها؛ لكن تحديد الزمن مرهون بوضع الأرض بالنسبة إلى أجرام السماء، وإذن ينتج عن هذا نتيجة طبيعية لازمة، وهي أن ثمة علاقة ضرورية بين أوضاع النجوم من جهة ومختلف الظواهر الطبيعية من جهة أخرى؛ والأمر بعد ذلك أمر ملاحظة دقيقة وتصنيف من شأنهما أن نصل بكل جرم سماوي مجموعة الظواهر التي تقترن بظهوره. وفيما يلي ما يقوله ابن حيان في تلازم الظواهر الطبيعية والكواكب، وأساس التلازم هو طبيعة الكوكب وما تستتبعه من أحداث تلائمها: (1)
زحل، وهو بارد يابس، بطيء الحركة:
فمما يتفق وطبيعته سواد اللون وحدة الطبع وسرعة الانحلال، والطعوم الحامضة والمرة، والوباء، وظهور ما في بطن الأرض إلى ظهرها من نبات الجبال والعشب، والأحجار السوداء والزرقاء والخضراء، ومن المعادن: الأسرب والماس والرمل والزجاج، ومن البحار: ما كان منها نتنا يئوي السلاحف، والجمال، والجاموس، والفيلة، وكبار الدواب العسيرة الحركة البطيئة السير، ذوات الفطنة، ومن النبات: كبار الشجر والنخيل، وما يطول زمانه ويقل نوعه ويكثر التفافه وتشتد صلابته، وكثيرا ما يكون شجرا بغير نفع للإنسان.
3 (2)
المشتري، وهو حار رطب نير مشرق:
ومما يتفق وطبيعته ما كان من البلاد ساطع النور، يكثر فيه اللون الأصفر والدري الصافي من الأخضر، والأبيض الناصع والأحمر الخفيف، والطعوم الطيبة، والروائح الزكية المعتدلة، والطعوم الحلوة؛ وتتفق مع طبيعته كثرة الزهر والحجارة ذوات اللون الأصفر والأحمر الرقيق؛ كالرصاص والبلور، واللؤلؤ، والدر؛ ومن الحيوان: الإنسان والقردة والكلاب والثعالب؛ ومن الأشجار ما كان منها معتدلا في طبيعته كالتين والنبق والفاكهة الكبيرة.
4 (3)
المريخ:
ويتفق وطبيعته الأشياء الحمراء والحادة، وتكثر فيه الذبائح وفورة الدم كالشياه والماعز والسخلان وما يذبح ويسلخ ويعذب، ومن المواد: الكبريت والمغنيسيا والياقوت الأحمر، ومن الأشجار: الحادة والحريفة، ومن الصناعات: الإمارة وقيادة الجيوش، وصناعات الجلادين والحدادين والوقادين وكل عمل يتصل بالنار.
5 (4)
الشمس:
يتفق معها الأشياء المشرقة النيرة، والملك، ونشوء العالم، وما فيه من نفس وماء وحياة؛ ومن الأشجار: اللوز والجوز والأشياء الدهنية كالزيتون والصنوبر، ومن الحيوان: الغزلان والأسد، ومن الحجارة: الذهب والياقوت المورد؛ والشمس أكثر الكواكب فعلا في العالم.
6 (5)
الزهرة:
يوافقها الأشياء ذوات الحسن والجمال، وبخاصة من النساء، وكذلك يوافقها اعتدال الأمور ورقة القلوب؛ ومن الحجارة: النحاس، ومن الأشجار: الرياحين والفاكهة الطيبة، ومن ظواهر المجتمع: الأعراس والولائم، واللهو والغناء واللعب، ومن الحيوان: الطيب والعنبر والمسك، ومن الأشجار: الكافور والصندل.
7 (6)
عطارد:
من لوازمه الحب والدعابة وسرعة الحركة، والانطباع بكل طبع والعدول إلى كل مذهب وقول، ويوافقه من الناس والحيوان: أهل الجبل، والثعالب، وكل ذي مكر وحيلة؛ كالمحتالين واللصوص، ومن الأشجار: الصفصاف، والأشجار ذوات الأثر اللطيف في الأدوية والعقاقير، ومن الحجارة: الزيبق والأدهان الصافية، ومن الصناعات: الأشياء الدقيقة العسيرة؛ كالكتابة والهندسة وعلوم الصور وجميع الأجهزة اللطيفة الدقيقة.
8 (7)
القمر:
ويوافقه الكذب والنميمة والظلم والسرعة وقلة الصبر على حال واحدة، ومن الأشياء: الظلمة والماء والجواهر السوداء الرطبة الخسيسة؛ كالطين والحمأة والفضة، ومن الناس: المراءون والمصابون كالعميان وغير ذلك من ذوي العاهات، ومن الأشجار: الحشيش وبعض السموم، ومن الأيام: أشرها وأقبحها يوم الإثنين؛ وذلك لأنه يقابل الشهوة وجوانب النقص؛ فالأول الكامل هو الواحد، وأما الثاني فهو للناقص العاجز؛ ولهذا ترى يوم الإثنين هو يوم الأسفار، ويوم الفتن، ويوم الآفات.
9 (3) تفاعل البروج والكواكب
لقد مر بنا أن للبروج خصائص وللكواكب خصائص؛ وإذا قلنا البروج والكواكب فقد قلنا أيام السنة وشهورها وفصولها؛ ونحن الآن ذاكرون فعل البروج والكواكب مجتمعين؛ لأنه قد يكون الكوكب الواحد ذا أثر معين وهو في برج معين، وذا أثر آخر وهو في برج آخر؛ وقد أسلفنا لك القول بأن لكل كوكب من الكواكب السبعة - فيما عدا الشمس والقمر - برجين يظهر فيهما على دورة فلكه. (1)
فإذا وقع كوكب حار يابس في برج حار يابس، نتج عن اجتماعهما: ثوران النيران، وإحراق القيظ، وجفاف الشجر والنبات، ويبس الأشياء وارتفاع حرارتها، وثوران الصفراء في الأجسام، واحتراق الألوان وسمرة الصغار الذين هم في الأرحام وسوادهم، ونقص المياه، وتجمد الماء والأرض، وهبوب الرياح الوبيئة المحرقة والمتلونة؛ كالرياح الحمراء والصفراء وتلهب البحر، وانعقاد الأحجار الشريفة كالكبريت والياقوت.
10 (2)
وإذا وقع كوكب حار رطب في برج حار رطب، نتج عن اجتماعهما اعتدال الزمان والدم، وازدهار الشجر، وصفاء السماء والرياح، وإشراق الألوان؛ وترعرع الحيوان والنبات؛ فالفصل عندئذ هو فصل الربيع.
11 (3)
وإذا وقع كوكب بارد يابس في برج بارد يابس، نتج عن اجتماعهما فصل الخريف، وفيه يكون هبوب الرياح السوداوية، وغلبة السوداء في أبدان الحيوان، وجفاف الأرض، وانعقاد المياه واستحالتها إلى عناصر أرضية، وكثرة المواشي الكبار كالجمال والفيلة والجاموس.
12 (4)
وإذا وقع كوكب بارد رطب في برج بارد رطب نتج عن اجتماعهما فصل الشتاء والبرد؛ فتهب الرياح الباردة، ويثور البحر، ويخرج ما في جوف البحار إلى سطحها؛ وتلين الأرض وتتحول الأشياء بانحلالها.
13 (5)
وإذا وقع كوكب حار يابس في برج رطب بارد، نتج عن اجتماعهما الصواعق والبروق والرعود والرياح مع مطر قليل وغيم كثير، هذا إذا كانت الغلبة للكواكب على البروج، أما إذا كانت الغلبة للبروج على الكواكب، فعندئذ تكثر الأمطار وتقل البروق والرعود والصواعق وتكثر الزلازل؛ فإذا اعتدلا اعتدل الزمان وتكافأت الطبائع كما وكيفا، وهنا يكون ظهور الأنبياء.
14 (6)
وأخيرا إذا وقع كوكب حار رطب في برج بارد يابس، كان الزمان أصلح زمان للفلاسفة والعلماء.
15 (4) طبائع البلدان
البلدان لا تشذ عن بقية كائنات الطبيعة في تأثرها بالعناصر الأولية، وبمواضع النجوم ومختلف البروج؛ وفي تقسيم البلدان على هذه الأسس. يقول جابر إن الناس قد انقسموا في ذلك فريقين، ثم انشعب أحد الفريقين شعبتين: (1)
أما الفريق الأول فقد قسم البلاد أربعة أقسام على أساس الطبائع الأربع المركبة؛ لأن البلدان في رأيهم هي صنيعة هذه الطبائع التي هي: النار والهواء والماء والأرض؛ فإن صح هذا يكون التقسيم كما يلي: فالمغرب من فعل الحرارة، والمشرق من فعل البرودة، والشمال من فعل اليبوسة، والجنوب من فعل الرطوبة - وإنا لنلاحظ هنا عدم اتساق في القول، فبعد أن قرر جابر أن الطبائع المتحكمة في البلدان هي الطبائع الثواني المركبة: النار والهواء والماء والأرض، راح من فوره يقسمها على أساس الطبائع الأوائل البسائط، وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ مع أن كل واحد من الطبائع المركبة - كما قد أسلفنا القول مرارا - مؤلف من طبيعتين بسيطتين؛ فالنار مؤلفة من الحرارة واليبوسة معا، والهواء مؤلف من الحرارة والرطوبة معا، والماء مؤلف من البرودة والرطوبة معا، والأرض مؤلفة من البرودة واليبوسة معا. (2)
وأما الفريق الثاني فينشعب شعبتين: إحداهما تقسم البلاد حسب الكواكب السبعة، والأخرى تقسمها حسب البروج الاثني عشر: (أ)
فإن قسمت حسب الكواكب، كان تقسيمها كما يلي: (1)
زحل يقابل المشرق كله وأقاصي البلاد ومواضع البرد الغالب. (2)
المشتري يقابل مواضع الشمال حيث الاعتدال. (3)
المريخ يقابل المغرب والحماء واستدامة طلوع الشمس. (4)
الشمس تقابل المواضع الطاهرة المحرقة. (5)
الزهرة تقابل المواضع المعتدلة. (6)
عطارد يقابل البلاد المتقلبة المتغيرة من طبع إلى طبع. (7)
القمر يقابل المواضع المظلمة وبطون الأرض. (ب)
وإن قسمت البلاد حسب البروج، كان التقسيم كما يلي: (1)
الحمل يقابل البلاد المعتدلة. (2)
الثور يقابل المواضع التي تكثر فيها الحرب. (3)
الجوزاء تقابل الفيافي. (4)
السرطان يقابل مواضع الماء والبخار. (5)
الأسد يقابل مواضع الإحراق والحرارة. (6)
السنبلة تقابل مواضع الصحاري والعمارة (؟) (7)
الميزان يقابل الأماكن الواقعة بين المدن. (8)
العقرب يقابل الأنهار الكبار.
ويكتفي جابر بذكر هذه الثمانية، ثم يقول: وعلى مثل ذلك تكون الأربعة الباقية على سبيل التجربة ،
16
وأيسر نقد نوجهه لجابر في تقسيماته هذه، أنه لا يراعي فيها ثبات الأساس الذي يقوم عليه التقسيم؛ فمثلا يجعل البلاد المعتدلة قسما، والمواضع التي تكثر فيها الحرب قسما آخر، كأنما الحرب لا يجوز لها أن تكثر في البلاد المعتدلة، وكذلك يجعل البلاد الحارة قسما، والبلاد ذوات الأنهار الكبيرة قسما آخر، كأنما الأنهار الكبيرة لا يجوز أن تجري في البلاد الحارة، وهكذا، لكننا معنيون أولا وقبل كل شيء بعرض علم جابر وفلسفته عرضا يقدم للقارئ صورة الواقع كما وقع.
علم الكيمياء
(1) جابر العلم
جبر الشيء يجبره فهو جابره، إذا أعاد تنظيم الشيء وأصلح فاسده وقوم بناءه. ولقد قيل إن جابرا سمي باسمه هذا؛ لأنه هو الذي أعاد تنظيم العلم الطبيعي وأعاد بناءه على نحو ما كان عليه عند أرسطو، قبل أن يصيبه الفساد بامتزاجه بالسحر في العصور الوسطى.
كان أرسطو أول من دعا في إصرار إلى أن تكون المشاهدة والتجربة أساس علمنا بالطبيعة، وذهب الزمن بالمعلم الأول، وبقيت بعده آثاره وذكراه، فلقي من العصور الوسطى إجلالا هو به جدير، لكن عوامل كثيرة فعلت في عقول الناس فعلها، حتى لقد تنوسي اللباب الذي من أجله كان شيخ الفلاسفة الأقدمين حقيقا بالتقدير والتوقير، وبقيت القشور دون لبابها تحظى بالنصيب الأوفر من إجلال الناس لمعلمهم الأول؛ فنشأت أرسطية مزيفة سلطت على العقول، وبعد أن كانت الفلسفة الأرسطية في روحها الحقيقية حافزا إلى العلم الصحيح، أصبحت بديلتها الزائفة حائلا دون الوصول إلى ذلك العلم الصحيح، وقيدا يقيد أصحاب الفكر فلا يخلي بينهم وبين الحركة الطليقة الحرة، ولبثت الحال على هذا النحو في أوروبا حتى قامت النهضة في القرن السادس عشر.
كان أرسطو - ومعه آخرون من فلاسفة اليونان الأقدمين - لا يأخذ بالرأي القائل إن الطبيعة تنحل إلى وحدات صغيرة هي الذرات، وهو الرأي الذي كان قد ذهب إليه ديمقريطس وأتباعه؛ إذ كان الرأي عند أرسطو في ذلك هو أن المادة الأولية - ويطلق عليها اسم الهيولى - قد اكتسبت صورا أربعا، هي الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ، فنشأ عن ذلك أربعة أجسام بسيطة، هي النار والهواء والماء والتراب. ومن هذه تتألف سائر الأشياء؛ وإنما نشأت الأجسام الأربعة البسيطة بالتقاء الكيفيات الأربع الأولى اثنتين اثنتين؛ فالنار حرارة ويبوسة، والهواء حرارة ورطوبة؛ إذ الهواء ضرب من بخار الماء، والماء برودة ورطوبة، والتراب برودة ويبوسة؛
1
على أن الأجسام المركبة في الطبيعة تتألف من الأجسام البسيطة مجتمعة دائما؛ فما من شيء إلا وفيه النار والهواء والماء والتراب بدرجات؛ فهي كلها على درجة من الحرارة معينة، ويتغلغل فيها الهواء، وهي كلها أيضا مشتملة على ماء وهو الذي يجعلها قابلة للتشكيل، ثم هي كلها مشتملة على أرض؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما دام كل شيء قابلا للصيرورة والتحول، فإنه لا بد أن يكون مشتملا على أضداد؛ لأنه لو كان - فرضا - مؤلفا من حرارة مطلقة فقط، لما كان هنالك سبيل إلى تحوله إلى ما ليس بحرارة؛ إذ من أين يأتيه ما ليس فيه؟ فوجود النار - وهي حرارة ويبوسة - يقتضي بالضرورة وجود ضدها وهو الماء - لأنه برودة ورطوبة - كما أن وجود الأرض - وهي برودة ويبوسة - يقتضي بالضرورة وجود ضدها وهو الهواء - لأنه حرارة ورطوبة؛ فحسبك أن تقول عن شيء أن فيه أرضا وماء، لتقول ضمنا إن فيه كذلك الضدين الآخرين، وهما الهواء والنار، ما دمت تعترف لذلك الشيء بإمكان التحول والتغير؛ ومن هنا لزم أن نقول عن كل جسم مركب إنه يشتمل على كل الأجسام البسيطة في آن معا.
2
فلما انتقل مركز العلم إلى الإسكندرية بعد أفول نجمه في اليونان، امتزج العلم النظري بالروح التصوفية السائدة هناك، فكان أن امتزجت الكيمياء بالسحر امتزاجا عاق تقدمها - في أوروبا - إبان العصور الوسطى؛ لكن ظهور الإسلام في الشرق الأوسط، وغزو العرب لمصر وسوريا وفارس، قد غير من الموقف؛ إذ: «نفض المسلمون الأولون عن أنفسهم كثيرا من الإلغاز الصبياني الذي كانت مدرسة الإسكندرية قد أدخلته على العلم، وقاموا بتنقية الجو العقلي - لفترة من الزمن - فكانوا باحثين عن المعرفة يشتعلون حماسة وجدا ... فترجمت كتب لا عدد لها من اليونانية، وخصوصا في حكم هارون الرشيد (786-809) والمأمون (813-833)، وظفرت الكيمياء بنصيبها من العناية في غمرة هذه الحماسة الشاملة للعلوم ... وكان الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (مات سنة 704ه) أول من أشاع علم الكيمياء بين المسلمين، غير أن شهرته قد خسفتها شهرة تلميذه جابر - أبو موسى جابر بن حيان - الذي هو جدير - لأسباب كثيرة - بأن يعد أول من يستحق لقب الكيماوي».
3 «كان فلسفة جابر - شأنه شأن جميع المسلمين - أرسطية معدلة، ونظريته في تكوين المادة هي نفسها - في جوانبها الهامة كلها - نظرية أرسطو؛ ولم تكن عبقرية جابر ترضى له بالاستسلام للتأمل العقيم المنقطع الصلة بالواقع المشاهد؛ فآثر - كما آثر كثيرون من المسلمين الذين جاءوا بعده - المعمل على شطح الخيال؛ فجاءت آراؤه - على وجه الإجمال - واضحة ودقيقة؛ والإضافات التي أضافها إلى الكيمياء هي التي سوغت بحق - لقيمتها - أن ينعت باسم «جابر»؛ لأنه هو الذي «جبر» العلم - أي أعاد تنظيمه - وأقامه على أساس ثابت.»
4 (2) الوجود بالقوة والوجود بالفعل
الوجود بالقوة والوجود بالفعل فكرتان ترتدان إلى أرسطو؛ وذلك أن أرسطو إذ رد الوجود والموجودات إلى مبدأين أساسيين هما: الهيولى والصورة، أي المادة التي منها يصنع الشيء والشكل الوظيفي الذي تكتسبه المادة لتصبح ذلك الشيء؛ فقد تصور المادة الأولية مستعدة أن تكون أي شيء، فهي تتلقى الصورة التي تنطبع بها لتتعين بفضل تلك الصورة شيئا فعليا معينا؛ كقطعة الخشب غير المصنوع فيها استعداد أن تكون منضدة أو مقعدا، حسب الصورة التي يخلعها عليها النجار، وإذن فقطعة الخشب فيها منضدة «بالقوة» وفيها مقعد «بالقوة»، لكنها تصبح منضدة «بالفعل» أو مقعدا «بالفعل» حين تتم صناعتها وتشكيلها.
وكل فيلسوف يأخذ بفكرة قابلية تحول الأشياء بعضها إلى بعض؛ فهو يأخذ تبعا لذلك بفكرة الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ لأنك إذا قلت إن هذه الأرض قد تتحول نباتا، فقد قلت في الوقت نفسه إن النبات موجود في الأرض «بالقوة» وينتظر الظروف المواتية ليصبح نباتا موجودا «بالفعل»؛ وكذلك الرجل الذي سيخرج من طفل ما، موجود في الطفل «بالقوة» حتى إذا ما اكتمل الرجل تكوينا، أصبح رجلا موجودا «بالفعل» وهكذا، والفكرة الأساسية عند عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان هي أن العناصر يتحول بعضها إلى بعض - كما سنذكر تفصيلا فيما بعد - فالنحاس - مثلا - قد يتحول بتدبير المدبر ذهبا، ومعنى ذلك أن الذهب كان موجودا في النحاس «بالقوة» حتى إذا ما خرج منه أصبح الذهب موجودا «بالفعل».
ويشرح جابر هذين النوعين من الوجود، بقوله: «الشيء الذي هو بالقوة هو الذي يمكن أن يكون وجوده في الزمان الآتي المستقبل؛ كقيام القاعد وقعود القائم.»
5
فالقاعد قاعد بالفعل لكنه قائم «بالقوة»؛ لأن فيه استعدادا أو قدرة على أن يحيل قعوده قياما؛ وكذلك القائم قائم بالفعل، لكنه قاعد «بالقوة»؛ لأن فيه استعدادا أو قدرة على أن يحيل قيامه قعودا؛ ويمضي جابر في الشرح فيقول: «الشيء الذي بالقوة، ما هو فيه هو الذي يمكن أن يتأتى منه الشيء الذي بالفعل ... كما نمثل لك أن الفضة التي لا فرق بينها وبين الذهب إلا الرزانة والصفرة يمكن أن تصير ذهبا؛ فللفضة - بالقوة - أدنى قبول للرزانة حتى تصير في قوام الذهب، ولها أدنى قبول للصفرة حتى تكون بلون الذهب؛ ولو لم يكن ذلك لها بالقوة لم يتأت ذلك عنها في الفعل ... وكما أن للنار أن تصير هواء بالقوة، وللهواء أن يصير ماء بالقوة، وللماء أن يصير أرضا بالقوة، فللنار أن تصير أرضا بالقوة، لأن «أ» إن كانت في بعض «ب»، و«ب» في بعض «ج»، و«ج» في بعض «د»، ف «د» في بعض «.» ضرورة، «أ» في بعض «د» - هذا ما لا شك فيه؛ وكذلك ما يستوعب الكليات إذا عكس هذا القول - لا عكسا منطقيا، بل عكس التناقض والتقابل، فإنه يكون: (أ) في كل (ب)، (ب) في كل (ج)، (ج) في كل (د)؛ ف (أ) - ضرورة - في كل (د).»
6
أما الوجود بالفعل فيقول عنه جابر: «الشيء الذي بالفعل هو الموجود في الزمان الحاضر من سائر الأفعال الكائنة؛ كقعود القاعد وقيام القائم.»
7
أي أن الموجود وجودا فعليا هو الشيء كما هو كائن في اللحظة الحاضرة؛ فالقاعد قعوده يكون موجودا بالفعل، والقائم قيامه يكون موجودا بالفعل، وهكذا.
ولا يكون الشيء موجودا بالفعل إلا إذا كان من قبل ذلك موجودا بالقوة ثم ظهر؛ وهنا ينشأ هذا السؤال الهام: هل كل ما هو موجود بالقوة سيخرج حتما إلى وجود بالفعل، أم أن من بينه ما هو خارج، ومن بينه ما هو ممتنع الخروج، وما هو ممكن الخروج، فربما خرج إلى الفعل وربما لبث على كمونه؟
هذا سؤال هام؛ لأنه يحدد مدى ما يستطيع العالم أن يتناوله بالتحويل في تجاربه العلمية، حتى لا يحاول المستحيل، وحتى لا ييأس مما هو ممكن؛ وقد أجاب ابن حيان عن السؤال إجابة دقيقة شاملة موجزة؛ إذ يقول إن الأشياء انقسمت قسمين؛ فهي إما بسيطة وإما مركبة، على أن كل ما نراه في الطبيعة من أشياء هو من قبيل المركبات، وتركيبها يكون على درجات؛ فمنها مركب أول، ومنها مركب ثان، ومنها مركب ثالث أو مركب المركب.
فأما العناصر الأولية البسيطة فمحال أن يخرج كل ما فيها بالقوة إلى وجود بالفعل؛ وذلك لأن العنصر البسيط هو بحكم بساطته هذه غير متناه، وهو لذلك غير فان - فالذي يتناهى إلى حدود معينة ويجوز عليه الفساد والفناء هو المركب - فإذا كان أمر العنصر البسيط هو كما ذكرنا، فليس كل ما فيه بالقوة خارجا إلى الفعل؛ إذ لو حدث ذلك لصار إلى انتهاء، وقد قلنا إنه غير متناه.
وأما المركب: الأول والثاني والثالث، فهو الذي يجوز عليه الخروج كله من القوة إلى الفعل؛ فجميع ما في الطبيعة يمكن خروج كل ما فيه من حالة الكمون إلى حالة العلن؛ أما ما يسمى بالمركب الأول، فهو الطبيعة على إطلاقها، وأما المركب الثاني فهو النار والهواء والأرض والماء، وأما المركب الثالث - أي مركب المركب - فهو الأجناس الثلاثة: الحيوان والحجر والنبات.
8
فمتى يمتنع خروج كائن من كائن آخر؟ يجيب جابر بقوله: «إن الأشياء التي يمتنع ويعسر خروجها من القوة إلى الفعل على ضربين: إما أن يرام من الأشياء ما ليس فيها بالقوة ... وإما أن يرام من الأشياء ما فيها بالقوة ولكن عسر خروجه إلى الفعل ... كالذي يروم خروج الماء من النار من أول وهلة: «فإن هذا (أي الماء) وإن كان لها (أي للنار) بالقوة ممتنع، إلا أنهم عملوه على ترتيب ... فأما أن يكون ذلك من أول وهلة فلا؛ وكذلك القائم القاعد بالقوة، ولكن بعد تقضي زمان القعود وانتهائه بحركة القاعد للقيام، وحركة الإرادة، وأمثال ذلك».» «وإذ قد بان ذلك، فإن في الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الاستخراج؛ فإن النار في الحجر كامنة لا تظهر، وهي له بالقوة؛ فإذا زند أوري فظهرت، وكذلك الشمع في النحل؛ ولو أخذنا مائة ألف نحلة أو ألف كو نحل، ثم عصرناها وطبخناها ودبرناها تدبيرنا للعسل الذي فيه الشمع، لم يخرج منه دانق شمع، ولكن النحل إذا تغذى غذاء معتدلا، وعملت له الكوى التي يأوي إليها، وعمل العسل، واجتني ذلك العسل، خرج منه الشمع.» «فقد وضح من هذا القول أن التدبير على القصد المستقيم هو الذي يخرج ما في قوى الأشياء - مما هو بالقوة إلى الفعل - فيما يخرج هو بطبعه، وفيما لا يخرج حتى يخرج». «لأن في قوى الأشياء ما يخرج بغير تدبير مدبر، ولكن الطبيعة علة خروج الطلع وخروج الرياحين البرية التي لا تعالج بالسقي واللقاح وأمثال ذلك، فتخرج من القوة إلى الفعل بأنفسها وفي زمانها، وأما غير ذلك مما علته إخراج التدبير للأشياء «فهو محتاج إلى تدبير طريقة لإخراجه».»
9
في هذا النص الدقيق الواضح نجد فلسفة الكيمياء كلها عند ابن حيان؛ وأساسها هو أن الكيموي يحذو حذو الطبيعة في تكوينها للأشياء، وكل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها، وأما الكيموي فيعمل عمله بتجربة مدبرة، لكن كل ما تؤديه الطبيعة من عمليات تحويل الأشياء بعضها إلى بعض، هو في مستطاع الكيموي أن يؤديه؛ غير أن الأمر يحتاج من الكيموي إلى تبصر وحذر؛ فقد لا يكون التحويل ممكنا بضربة واحدة، بل يتطلب خطوات متدرجة تنتهي آخر الأمر إلى النتيجة المطلوبة؛ ولو أتقن العالم دراسة موضوعه وما يحتاج إليه من خطوات في عملية تحويله، لأمكنه لا أن يحاكي الطبيعة في فعلها فقط، بل أن يعمل ما تعمله الطبيعة في وقت أقصر؛ إذ قد يتطلب تكوين الذهب في حضن الطبيعة آلاف السنين، لكن الكيموي في مستطاعه أن يعمل العملية نفسها في فترة وجيزة. ويلخص جابر فلسفته الكيموية هذه في جملة واحدة ترد في «كتاب السبعين» يقول فيها: «في قوة الإنسان أن يعمل كعمل الطبيعة.»
10
لا فرق في ذلك بين حجر ونبات وحيوان وإنسان، وسنذكر تفصيل ذلك في حينه.
فلعلنا بعد هذا نفهم مراد جابر عندما عرف الكيمياء بقوله: «حد الكيمياء إظهار ليس في أيس ... إذ «ليس» عندهم عدم، و«أيس» عندهم وجود، وكذلك الكيمياء إنما هي إعطاء الأجسام أصباغا لم تكن لها.»
11
ولئن كنا نألف في كلامنا اليوم أن نسمع وأن نستخدم كلمة «ليس» لندل بها على نفي شيء عن شيء، كأن تقول - مثلا - ليس القمر مضيئا، فلسنا نألف مقابلتها الدالة على إيجاب، وهي كلمة «أيس» التي تشير إلى وجود شيء وجودا فعليا؛ فضوء القمر حين يضيء «أيس»، وهذا القلم في يدي الآن «أيس» وهكذا، ومهمة الكيمياء هي أن توجد في الشيء صفة ليست قائمة فيه بالفعل (وإن تكن طبعا قائمة فيه بالقوة، وإلا لما أمكن إخراجها من العدم). (3) الإكسير
قلنا إنه كما جاز للطبيعة أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض، فتتحول الأرض والماء نباتا، ويتحول النبات في النحل شمعا وعسلا، ويتحول الرصاص في جوف الأرض ذهبا وهكذا، فكذلك يمكن لعالم الكيمياء أن يحاكي الطبيعة في صنيعها بتجارب يصطنعها فيؤدي بها نفس الذي تؤديه الطبيعة، ولكنه يؤديه في مدة أقصر؛ فإذا اهتدى العالم إلى الوسيلة التي يخرج بها شيئا من شيء كانت تلك الوسيلة هي الإكسير.
فالأمر في معالجة شيء ما معالجة ترده إلى ما يراد رده إليه، هو كالأمر في معالجة المريض، يركب له الدواء الذي يرده من حالة المرض إلى حالة الصحة، بإضافة ما ينقصه أو بحذف ما قد زيد عليه؛ وبهذه الإضافة أو الحذف نحصل على التوازن لما كان قد اختل توازنه، وبديهي أن يكون للدواء صفة مضادة للصفة التي جاوزت حدها نقصا أو زيادة، فهو الذي يزيد ما قد نقص وينقص ما قد زاد، وهكذا يفعل عالم الكيمياء إزاء المعدن الذي يريد تحويله، يعطيه «الدواء» الذي يكسبه توازنا من شأنه أن يجعل منه معدنا آخر، هو المعدن المقصود؛ «فالدواء» في هذه الحالة هو ما يسمى بالإكسير.
وواضح أن مثل هذا التحويل من حالة قائمة إلى حالة أخرى مطلوبة، يتوقف على علم العالم علما كاملا بعناصر التركيب في كلتا الحالتين، فيعلم مم يتركب الشيء المراد تحويله وكيف يتركب، كما يعلم مم يتركب الشيء المراد الحصول عليه وكيف يتركب؛ وهذا هو ما يسمى عند جابر بالموازين - وسنتحدث عنها في فقرة تالية - وأن نظرية جابر في الإكسير وفي الميزان لهي موضع الأصالة الحقيقية التي تنسب إليه في علم الكيمياء.
12
وهو يشتق الإكسير الذي يستخدمه في عملياته الكيموية من أنواع الكائنات الثلاثة مفردة ومجتمعة؛ فتراه يقول: إن ثمة سبعة أنواع من الإكسير: (1) إكسير يشتق من المعادن. (2) إكسير يشتق من الحيوان. (3) إكسير يشتق من النبات. (4) إكسير يشتق من امتزاج المواد الحيوانية والنباتية معا. (5) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والنباتية معا. (6) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والحيوانية معا. (7) إكسير يشتق من امتزاج المواد المعدنية والنباتية والحيوانية معا.
13
ونكتفي في هذه الفقرة بذكر وجه واحد من أوجه التحويل الذي يقوم به الكيموي، وهو تحويل المعادن بعضها إلى بعض، فعلى أي أساس يكون ذلك، وكيف؟
المعادن الرئيسية سبعة: الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والأسرب،
14
وهي التي تكون «قانون الصنعة» كما يقول جابر، أي أن عليها تتوقف قوانين علم الكيمياء؛ غير أن هذه المعادن السبعة نفسها قد تكونت في جوف الأرض من معدنين أساسيين، هما الكبريت والزيبق، فهذان المعدنان إذ يمتزجان بنسب مختلفة يتكون منهما بقية المعادن المذكورة؛ فكأنما هذه المعادن لا تتباين إلا في الكيفيات العرضية التي طرأت نتيجة للنسبة التي مزج بها الكبريت والزيبق في باطن الأرض؛ على أن الكبريت والزيبق تتفاوت طبيعتاهما باختلاف تربة الأرض التي نشآ فيها، وباختلاف الكواكب «أي المقومات الزمنية» التي أحاطت بتكوينهما؛ مثال ذلك أن يكون جزء الأرض الذي فيه نشأ الكبريت أو الزيبق معرضا لحرارة الشمس؛ فقد يجيء الكبريت نقيا لطيفا، وهو ما يسمى بكبريت الذهب؛ لأنه هو الكبريت الذي إذا ما مزج معه الزيبق في مركب واحد سليم التوازن في مقاديره، نتج عن امتزاجهما الذهب؛ فلأن اتزان عناصر المزج في الذهب قد جاء على أتمه تراه يقاوم النار، فلا تقوى النار على إحراقه كما تحرق سائر المعادن.
15
ونعود إلى المعادن السبعة الرئيسية التي هي مدار علم الكيمياء، (وقد تسمى بالأحجار السبعة): الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والقصدير؛ فنقول: إن نظرية جابر هي أن كل معدن من هذه المعادن يظهر في خارجه كيفيتين من الكيفيات البسيطة الأربع (الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة)، ويخفي في باطنه الكيفيتين الأخريين؛ وبالكيمياء نستطيع إظهار الباطن وإخفاء الظاهر فيتحول المعدن القائم معدنا آخر، ولو قلنا هذا الكلام نفسه بعبارة أخرى، قلنا: إن لكل معدن من هذه المعادن صفتين موجودتين بالفعل، وصفتين أخريين موجودتين فيه بالقوة؛ فلو استخرجنا ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، تبدل المعدن معدنا آخر.
16
والقائمة الآتية تبين لكل معدن صفتيه الظاهرتين وصفتيه الباطنتين:
اسم المعدن
صفتاه الظاهرتان
صفتاه الباطنتان
الذهب
حار، رطب
بارد، يابس
الفضة
بارد، يابس
حار، رطب
النحاس
حار، يابس (أقل يبوسة من الحديد)
بارد، رطب
الحديد
حار، يابس جدا (صلب)
بارد، رطب (رخو)
الرصاص
بارد، يابس (قليل اليبوسة جدا)
حار، رطب (صلب)
الزيبق
بارد، رطب (رخو)
حار، يابس (صلب)
القصدير
بارد، رطب (رخو)
حار، يابس (صلب)
ومعنى هذا أن كل معدن يشتمل في جوفه على معدن آخر يناقضه في صفاته؛ فالفضة من داخل هي نفسها الذهب من خارج؛ فلو أخرجنا ما هو مكنون في باطن الفضة إلى ظاهرها ودسسنا ظاهرها في باطنها، كان لنا بذلك معدن الذهب؛ فإذا أراد الكيموي تحويل الفضة إلى ذهب، كان عليه أولا أن يزيح برودتها الظاهرة لتخرج بدلها الحرارة الكامنة، ثم يزيح - ثانيا - يبوستها الظاهرة لتخرج بدلها الرطوبة الكامنة، حتى إذا ما اجتمع في الظاهر حرارة ورطوبة معا كان ما بين أيدينا ذهبا.
ولو أجرى الكيموي تجاربه على قطعة من الحديد - مثلا - ظاهرها حرارة ويبوسة شديدة، فله أن يزيح اليبوسة وحدها إلى الداخل لتخرج مكانها الرطوبة، وبذلك يصبح الظاهر حرارة ورطوبة؛ أي أن المعدن يصبح ذهبا؛ أو أن يزيح الحرارة الظاهرة إلى الداخل لتخرج مكانها البرودة الكامنة، وبذلك يصبح الظاهر برودة ويبوسة، أي أن المعدن يصبح فضة؛ أو أن يزيح الحرارة واليبوسة الظاهرين كليهما، ليخرج مكانهما البرودة والرطوبة الكامنان فيكون الناتج زئبقا (أو قصديرا حسب درجة الليونة، أي درجة الرطوبة التي تظهر).
وبنفس الطريقة يمكن رد أي معدن إلى أي معدن آخر، وبصفة خاصة يمكن رد أي معدن إلى ذهب؛ إذ ما علينا لكي نحول معدنا ما إلى ذهب إلا أن نجعل الكيفيتين الظاهرتين هما: الحرارة والرطوبة؛ فإن كان المعدن المراد تحويله نحاسا - وظاهر النحاس حرارة ويبوسة - كان أمامنا كيفية واحدة هي التي نحتاج إلى دسها في الداخل ليخرج ضدها من الداخل فيحل محلها؛ فالنحاس والذهب يشتركان في الحرارة، ويختلفان في أن الذهب رطب والنحاس يابس، فإذا أخرجنا للنحاس رطوبته الدفينة فيه كان ذهبا.
أما إن كان المعدن المراد تحويله رصاصا، فها هنا نجد التضاد بين الرصاص والذهب في الكيفيتين معا؛ فالرصاص بارد والذهب حار، والرصاص يابس والذهب رطب، فعندئذ علينا أن نعالج الصفتين جميعا، فندخلهما إلى الباطن، ليخرج مكانهما الضدان وبذلك يصير الرصاص ذهبا، وهكذا.
وأود أن أعيد هذا الذي قلته في تحويل المعادن بلغة جابر نفسه، كما ساق الموضوع في المقالة الثانية والثلاثين من كتاب السبعين؛ قال: «... لا يخلو كل موجود أن يكون فيه طبعان - فاعل ومنفعل - ظاهران، وطبعان - فاعل ومنفعل - باطنان،
17 ... ولذلك سهل عليهم وقرب رد الأجسام إلى أصولها في أقرب مدة، وهو أن يقلبوا الطبائع في الأجسام، فيجعلون الباطن ظاهرا والظاهر باطنا؛ فأما الحديد فإن ظاهره فاسد وباطنه فاسد؛ لأن ظاهره حديد، وهو فاسد عند الفضة والذهب، وباطنه زيبق وهو فاسد عندهما أيضا؛
18
فإذا قلبوا الحديد على الزيبقية صار ظاهره باردا رطبا وباطنه حارا يابسا، فأظهروا حرارته وأبطنوا برودته، فصار الظاهر حارا رطبا وذلك ذهب، وصار باطنه باردا يابسا وذلك فضة أو رصاص؛ لأن منهم من قال إن باطن الذهب رصاص ومنهم من قال إن باطنه فضة، وهي قولة حسنة، ونحن نذكر ذلك كله وكيف يقلب فاعرفه.» «إن الأصل في ذلك أن تعلم أولا أن من هذه الأجسام ما ينبغي أن تبطن عنصريه الظاهرين وتظهر عنصريه الباطنين حتى يكمل ويصير جسما غير فاسد على ما يراد من ذلك - وهو سرهم - وبعض هذه الأجسام ينبغي أن يستخرج له عنصر من باطنه فيظهر، ويبطن فيه ضد ذلك العنصر، ونحن نذكر ذلك لتعرفه.» «إن الأسرب (= الرصاص) بارد يابس في ظاهره رخو جدا، وهو حار رطب في باطنه صلب؛ ومعنى رخو وصلب أن كل جسم خلقه الله تعالى باطنه مخالف لظاهره في اللين والقساحة؛ والدليل على ذلك أنه إذا قلبت طبائعه فرجع ظاهره باطنا وباطنه ظاهرا إن كان رطبا قسح، وإن كان قاسحا ترطب؛ فهذا ما في الأسرب من الكلام.» «وأما القلعي (= القصدير) فإن أصله المتركب عليه أولا الأربع طبائع: فظاهره بارد رطب رخو، وباطنه حار يابس صلب ... فإذا أبطنت ظاهره، وأظهرت باطنه قسح فصار حديدا ...» «وأما الحديد فأصله المتكون عنه الأربع طبائع، وخص ظاهره من ذلك بالحرارة وكثرة اليبس، فباطنه إذن على الأصل بارد رطب، وهو كذلك، وهو صلب الظاهر رخو الباطن، وما في الأجسام أصلب منه ظاهرا، فكذلك رخاوة باطنه على قدر صلابة ظاهره على الأصل، وكذلك يكون بالتدبير إذا قلبت أعيانه، والذي على هذا المثال الزيبق؛
19
فإن ظاهره (أي ظاهر الحديد) حديد وباطنه زيبق؛ فالوجه في صلاحه أن تنقص يبوسته فإن رطوبته تظهر فيصير ذهبا؛ لأن رطوبته إذا ظهرت بطنت يبوسته ... أو فانقص حرارته فإن برودته تظهر وتبطن الحرارة بظهور البرودة فيصير فضة يابسة، أو فانقص يبوسته قليلا فإنه يصير فضة لينة، فهذا ما في الحديد من الوصف والحد.» «وأما الذهب فحار رطب في ظاهره بارد يابس في باطنه، فرد جميع الأجساد إلى هذا الطبع؛ فإنه طبع معتدل ...» «وأما طبع الزهرة (= النحاس) الذي هي عليه فالحر واليبس، وهو دون الحديد؛ لأن أصله حار رطب ذهب، فلما لحقه اليبس في المعدن أفسده، فاقلع يبسه فإنه يعود إلى طبعه.»
20 «وأما الزيبق فإن طبعه البرد والرطوبة في ظاهره والرخاوة، وباطنه حار يابس صلب بلا شك؛ فظاهره زيبق وباطنه حديد، كما أن باطن الحديد زيبق وظاهره حديد؛ فإن أردت نقل الزيبق إلى أصله، فالوجه أن تصيره أولا فضة، وهو أن تبطن رطوبته وتظهر يبوسته، فإنه يصير حينئذ فضة، وقد تمت المرتبة الأولى، فإن أردت تمام ذلك فاقلب الفضة كما هي حتى يرجع ظاهرها باطنا وباطنها ظاهرا في الطبيعتين جميعا: الفاعلة والمنفعلة، فيكون ظاهرها حارا رطبا ذهبا، وباطنها باردا يابسا حديدا، فهذا ما في الزيبق.»
21 «وأما الفضة فأصلها الأول ذهب، ولكن أعجزها البرد واليبس فأبطنت في باطنها الذهب فظهر الطبع الذي غلب فصار ظاهرها فضة وباطنها ذهبا؛ فإن أردت ردها ذهبا فأبطن برودتها فإن حرارتها تظهر، ثم أبطن بعد ذلك اليبس فإن الرطوبة تظهر وتصير ذهبا؛ فهذا ما في الأجسام كلها من التدابير والسلام.»
هذه مقالة بأسرها نقلناها لك بنصها عن جابر بن حيان؛ لأنها في صناعته أساس ومحور؛ فالأساس - كما ترى - هو أن الطبائع الرئيسية لشتى المعادن - بل للكائنات كافة - هي أربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فلو عرفت طبع الشيء الذي تريد أن تحصل عليه، كان في وسعك أن تلتمسه بتحويل طبائع المادة التي بين يديك حتى ترتد إلى الطبع المقصود؛ وهو كلام بعيد عما تألفه آذاننا اليوم؛ لكننا لو أردنا أن نسبغ عليه من الألوان ما يقربه إلى مفاهيمنا العلمية اليوم - وليس هذا بالأمر الضروري في تاريخ الفكر؛ فليس عالم الأمس مسئولا أمام عالم اليوم مهما يكن بينهما من اختلاف بعيد، لكنه لولا عالم الأمس لما كان عالم اليوم - أقول برغم ذلك إننا لو أردنا أن نسبغ على نظرية جابر - وهي نظرية العلم القديم كله - لونا يقربها إلى عقولنا اليوم، لما كان علينا إلا أن نتذكر أساس النظرية الطبيعية في عصرنا الراهن، وهو أن كل ما تحويه الطبيعة من أشياء مركب من ذرات، ومهما اختلفت هذه الذرات في أوزانها، فمادتها الخامة مؤلفة من ثلاثة أصول: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات؛ أما الأولى فمشحونة بشحنة كهربية سالبة، وأما الثانية فمشحونة بشحنة كهربية موجبة؛ وأما الثالثة فمتعادلة كهربيا. ومن هذه الأصول الثلاثة يتألف كل شيء، حتى ليجوز من الوجهة النظرية أن تحول العناصر بعضها إلى بعض إذا عرفت كيف تزيد هنا وتنقص هناك من هذه الأصول الأولية، حتى تحصل على النسب المطلوبة التي منها يتكون الشيء المقصود؛ فلو كان ابن حبان قد تكلم بلغة الحرارة والبرودة، وعلماء هذا العصر يتكلمون بلغة الكهارب السالبة والموجبة، فقد يكون الفرق أقرب مما تتوهم، إذا ترجمنا الحرارة إلى معناها الحقيقي، وهو الحركة، فالحرارة حركة سريعة في الذرات، والبرودة حركة بطيئة؛ فإذا كانت الحرارة والبرودة - أو إن شئت فقل إذا كانت درجات الحرارة المتفاوتة هي في الحقيقة درجات من الحركة متفاوتة، ثم إذا كانت هذه الحركة بدرجاتها المتفاوتة هي طاقة - إن لم تكن الطاقة الكهربية بذاتها - فيمكن تحويلها إلى طاقة كهربية، إذن فيكاد يتشابه القولان في الطبيعة: القول الذي يقول إن الأصول الأولية للأشياء حركة بدرجاتها المتفاوتة؛ والقول الذي يقول إنها كهرباء - ولم نذكر الرطوبة واليبوسة من الطبائع الأربع التي أخذ بها جابر؛ لأنهما صفتان منفعلتان، أي أنهما تتفرعان عن الصفتين الفاعلتين اللتين هما: الحرارة والبرودة.
ولا يقتصر الإكسير - تحويل الكائنات - على المعادن عند جابر، بل إن الأمر عنده ليمتد إلى الكائنات جميعا؛ فلا فرق بين رد النحاس إلى ذهب، وبين رد المريض إلى إنسان سليم البدن، فكلتا الحالتين تحويل للطبائع الفاسدة القائمة إلى طبائع سليمة؛ ومن هنا كانت العلاقة وثيقة بين الكيمياء والطب؛ فالأولى معالجة المعادن الخسيسة لترد معدنا نفيسا، والثاني معالجة الأبدان المريضة لترتد صحيحة، وأساس العمل في الحالتين واحد، هو ما يطلق عليه اسم «الإكسير».
وسأذكر فيما يلي شيئا مما يرويه جابر عن نفسه فيما كان يؤديه في تطبيب المرضى:
قال مخاطبا سيده
22
الذي كثيرا جدا ما يوجه إليه الخطاب: «وحق سيدي لقد خلصت به (أي بالإكسير) من هذه العلة أكثر من ألف نفس، فكان هذا ظاهرا بين الناس جميعا في يوم واحد فقط.» «ولقد كنت يوما من الأيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم، وبخدمة سيدي عند يحيى بن خالد،
23
وكانت له جارية نفيسة لم يكن لأحد مثلها جمالا وكمالا وأدبا وعقلا وصنائع توصف بها، وكانت قد شربت دواء مسهلا لعلة كانت بها، فعنف عليها بالقيام ثم زاد عليها، إلى أن قامت ما لم يكن من سبيل مثلها الخلاص منه، ولا شفاء له، ثم ذرعها مع ذلك القيء، حتى لم تقدر على النفس ولا الكلام البتة؛ فخرج الصارخ إلى يحيى بذلك، فقال لي: يا سيدي، ما عندك في ذلك؟ فأشرت عليه بالماء البارد وصبه عليها، لأني لم أرها ولم أعرف في ذلك من الشفاء للسموم ولقطعه مثل ذلك؛ فلم ينفعها شيء بارد ولا حار أيضا؛ وذلك أني كمدت معدتها بالملح المحمي وغمرت رجليها؛ فلما زاد الأمر سألني أن أراها، فرأيت ميتة خاملة القوة جدا؛ وكان معي من هذا الإكسير شيء، فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين صرف - مقدار ثلاث أواق - فوالله وحق سيدي لقد سترت وجهي عن هذه الجارية؛ لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية؛ فأكب يحيى على رجلي مقبلا لهما، فقلت له: يا أخي، لا تفعل. فسألني فائدة الدواء، فقلت له: خذ ما معي منه، فلم يفعل؛ ثم إنه أخذ في الرياضة والدراسة للعلوم وأمثال ذلك إلى أن عرف أشياء كثيرة، وكان ابنه جعفر أذكى منه وأعرف.» «وكانت لي جارية فأكلت زرنيخا أصفر - وهي لا تعلم - مقدار أوقية، فيما ذكرت، فلم أجد لها دواء بعد أن لم أترك شيئا مما ينفع السموم إلا عالجتها به، فسقيتها منه وزن حبة بعسل وماء، فما وصل إلى جوفها حتى رمت به بأسره وقامت على رسمها الأول ...» «وكنت يوما خارجا من منزلي قاصدا دار سيدي جعفر،
24
صلوات الله عليه؛ فإذا أنا بإنسان قد انتفخ جانبه الأيمن كله، واخضر حتى صار كالسلق - لا بالمثال ولكن بالحقيقة - وإذا قد بدت الزرقة منه في مواضع؛ فسألت عن حاله فقيل لي: أفعى نهشته الساعة فأصابه هذا؛ فسقيته وزن حبتين بشدة في سقيه بماء بارد فقط؛ لأني خفت أن يتلف سريعا، فوالله العظيم لقد رأيت لونه الأخضر والأزرق وقد حالا عما كانا عليه إلى لون بدنه؛ ثم ضمرت تلك النفخة حتى لم يبق منها شيء البتة، وتكلم وقام وانصرف سالما لا علة به ...» (4) الخواص والموازين
دراسة خواص الأشياء - حية كانت أو جامدة - أمر لا مندوحة عنه للعلم كله؛ فمهما تكن طبيعة الجسم المراد تغييره، ومهما تكن طبيعة الجسم المراد الحصول عليه، فلا مناص للعالم من معرفة تحليلية يعرف بها نقطة البدء ونقطة الانتهاء. وإلا لجاء عمله خبطا على غير هدى؛ ولقد أفرد ابن حيان لدراسة الخواص أكثر من كتاب، أهمها كتابه «الخواص الكبير»
25
فيقول جابر في المقالة الأولى من كتاب الخواص الكبير: «إن جملة كتبه التي كتبها في الخواص واحد وسبعون كتابا، منها سبعون كتابا ترسم الخواص، ومنها كتاب واحد يعرف بخواص الخواص، وهو أشرف هذه الكتب.» «والخاصية كلمة شاملة للأسباب التي تعمل الأشياء الوحية السريعة بطباعها؛ وإن فيها نوعا آخر يعمل للأشياء بإبطاء، وإنها قد تنقسم أقساما؛ فمنها ما يكون تعليقا، ومنها ما يكون شربا، ومنها ما يكون نظرا، ومنها ما يكون مسامتة، ومنها ما يكون سماعا، ومنها ما يكون شما، ومنها ما يكون ذوقا، ومنها ما يكون لمسا ...»
26
ويضرب لنا جابر الأمثلة لهذه الأنواع المختلفة، فيقول عن «التعليق» إن العنكبوت إذا علق على صاحب حمى الربع (؟) أبرأه بإبطاء، والذراريح تفعل مثل ذلك؛ فإذا جمعا وعلقا على صاحب الحمى، أبرأه سريعا، وكذلك مما يعمل بالتعليق «البيوت التسعة»
27
التي فيها خمسة عشر من العدد كيف قبلت، فهي نافعة لتيسير الوضع للحبالى، وهذه هي صورة «البيوت التسعة»:
ويضرب مثلا على «المشروب» فيقول: إن السقمونيا يخرج الصفراء، كما يضرب المثل على خواص «النظر»، فيقول: إن الأفعى البلوطي الرأس إذا رأى الزمرد الخالص عمي وسالت عينه لوقتها وحيا سريعا ؛ وأفاع بوادي الخرلخ إذا رأت أنفسها ماتت وإذا رآها الناس ماتوا، وكذلك جميع الحيوان؛ والصناجة - وهي الدابة العظمى - لها عينان كأعظم ما يكون من الخلجان، يكون مقدار كل عين منها ومدار حماليقها نحو فرسخ، فتعمد هذه الأفاعي لتقتلها خاصة، فتوافي هذا الوادي من بلاد دواخل التبت، فترفع أحداقها إلى أدمغتها حتى لا تنظر إليها، فتقصدها هذه الأفاعي لتنهشها، فتقابلها بأعينها وهي صافية فتنظر إلى صورتها فتموت، فتأكلها تلك الدابة؛ ولقد خبرت أن وزن الأفعى منها نحو خمسين ألف رطل.
وأما عن «المسامتة» فيقول جابر: إن الكلب والضبعة العرجاء إذا سامت فيئها فيئه (أي إذا جاء ظلها عموديا على ظله) والكلب على سطح الجبل سقط سريعا من غير مهلة حتى تأكله؛ وأما «السماع» فإن الحيات والأفاعي وغير ذلك إذا سمعن صوت البومة هربن من وطنهن؛ وأما «الشم» فإن الأسد والحمار - خاصة من جميع الحيوان - إذا أخذ من مني الأنثى منهما شيء وطلي به ثوب أو لحم أو جسد إنسان أو غير ذلك وشمم لأحدهما منيه بعينه، يتبع الشام له أي وجه توجه إليه؛ وأما «الذوق» فالزاج والزيبق يفلج اللسان إذا وقع عليه، والسموم وأفعالها وأمثال ذلك مما لا يحصى تعداده، وأما «اللمس» فجبهة الأرنب البحري إذا لمست لحم الإنسان فتقته.
28
ويحدد لنا جابر معنى «الخاصية» تحديدا يكاد يجعل هذه الكلمة مرادفة لما يسمى في الفلسفة بالماهية؛ فهو يقول: إن «الشيء الخاصي هو الذي يفعل الشيء بعينه ما يفعله بكلام أهل الجدل.»
29
وهو يريد بهذه العبارة أن يقول: إن خاصية الشيء هي الوظيفة التي يؤديها؛ فخاصية الحصان هي مجموعة الوظائف العضوية التي يؤديها الحصان ولا يؤديها حيوان سواه، وإذن فخاصية الحصان هي «صورة» الحصان - بالمعنى الأرسطي لكلمة «صورة» - أو هي الماهية التي تجعل الحصان هو ما هو؛ ولهذا ترى ابن حيان يستمر في عبارته السابقة فيقول عن الشيء الخاصي أيضا: إن «لوجوده ما يوجد فعله معه - بكلام أهل المنطق.» فهاتان عبارتان يردف إحداهما بالأخرى، مستمدا الأولى من مصطلح أهل الجدل، ومستمدا الثانية من مصطلح أهل المنطق - كما يقول - والمعنى فيهما واحد، وهو أن خاصية الشيء هي فعله؛ فلا وجود لها بغير وجود هذا الفعل، ولا وجود لهذا الفعل بغير وجودها. ويزيدنا جابر تعريفا بالشيء الخاصي فيقول في السياق نفسه: «والشيء الخاصي لا يجوز أن يحول عن حاله على مرور السنين.» وهذا بديهي ما دامت خاصية الشيء هي ماهيته، وهي جوهره، وهي صورته، وهي وظيفته؛ فمحال أن يبقى الشيء وتزول خصائصه الجوهرية التي أكسبته حقيقته ووضعته موضعه الصحيح بين سائر الأشياء.
ويمضي ابن حيان في كلامه عن الخاصي فيقول: إن «الشيء اليسير منه هو الفاعل على مثل الشيء الكثير منه، ولكن القول في الكمية على مقدار ذلك، كوزن الحبة من المغناطيس تجذب اليسير من الحديد، وكالرطل يجذب على قدره؛ والأكثر فيه القوة التي يجذب بها ما جذب الأصغر لقلة كميته ودخولها في كميته، وليس ذلك في الأصغر لقلته، وأن ليس كمية الأكثر داخلة في كمية الأقل.» هذا نص نافذ ومفيد، وهو يحتاج إلى بعض التوضيح لالتواء عبارته اللفظية؛ فمؤداه أن العنصر المعين ذو فعل معين لا يتغير من حيث نوع الفعل بتغير الكمية التي تأخذها منه؛ فالمغناطيس - مثلا - يجذب الحديد، ولا فرق في ذلك بين مغناطيس كثير ومغناطيس قليل؛ فالفعل واحد في نوعه، وكل الفرق هو أن المغناطيس الكثير يجذب قطعة كبيرة من الحديد، والقليل يجذب قطعة صغيرة، على أن الكثير يفعل فعل القليل أيضا، والعكس غير صحيح، أي أن القليل لا يفعل فعل الكثير.
إن هذه الأقوال التي أسلفناها، والتي حاول بها جابر أن يحدد معنى «الخاصية» عندما نزعم أن للشيء المعين «خاصية» معينة، إنما تنصرف إلى ما هو ذاتي في طبيعة الشيء، ولا تنصرف إلى صفات أخرى قد يطلق عليها هي أيضا اسم «الخواص » لكنها قد تكون سريعة الزوال أو بطيئته؛ ولهذا نرى ابن حيان يذكر لنا في موضع آخر
30
ثلاثة أنواع للخواص، هي: (1)
سريع الزوال، ويسمى حالا. (2)
بطيء الزوال، ويسمى هيئة. (3)
ذاتي فيما هو فيه.
فالتحديدات السالفة مقصود بها النوع الثالث، أي ما يكون ذاتيا في الشيء، وليس المقصود بها حال الشيء ولا هيئته.
وهنا يورد جابر عبارة أراها بالغة الأهمية في وصف الروح المنهجية عنده، وهي:
31 «الخاصية تابعة لعملها ... لأن الخواص لا تتفق في جوهرين مختلفين بوزن واحد، ولكنها إذا اتفقت في جوهرين أو جواهر عدة كان حدها مثل الجوهر الأول سواء في الكيفية وجميع الحدود؛ لأنه من الممتنع وجود جوهرين حدهما حدان مفردان يقال عليهما خاصية واحدة ... لأن المستحدين بحد واحد متفقان في الجوهرية والعرضية.» «الخاصية تابعة لعملها»: هذا هو بعينه المبدأ الذي تدور عليه الفلسفة البراجماتية المعاصرة كلها، وهو تعريف موجز لما يسمونه اليوم «بالتعريف الإجرائي»؛ ومعناه أنك إذا أردت أن تعرف كلمة ما، وجب أن ينحصر التعريف في مجموعة الأفعال التي يسلك بها الشيء المسمى بتلك الكلمة؛ فلا فائدة للعلوم إذا أنت عرفت كلمة بكلمات، وهذه بسواها؛ لأنك عندئذ ستدور في كلمات، ولا تجاوزها إلى حيث الطبيعة الواقعة؛ فأولا - إذا لم يكن للكلمة مدلولها الخارجي الذي يكون ذا عمل يؤدى، فالكلمة عندئذ تكون لغوا لا يدخل في مجال العلم، وثانيا - لو كان لهذه الكلمة مدلولها الخارجي، ثم أردنا تحديد معناها تحديدا لا يدع مجالا للاختلاف بين مختلف الباحثين، وجب أن يكون أساس التحديد هو السلوك المشاهد للشيء الذي أطلقت عليه تلك الكلمة، فإذا اتفقنا على أن ذلك السلوك هو: أ ب ج د، كانت أ ب ج د هي ما يحدد الكلمة المراد تحديدها؛ فإذا اختلف اثنان في معناها كان الفيصل بينهما هو ما يشاهدانه معا من الجانب الأدائي للشيء. ومعنى هذا كله هو أن «العمل» يأتي في المشاهدة أولا، وبعد ذلك يجيء علمنا بحقيقة الشيء الذي كان من شأنه أن يؤدي ذلك العمل - وثالثا - لو اختلفت عبارتان لفظيتان في مضمونهما، لكن «العمل» الذي تنطوي عليه إحداهما هو نفسه «العمل» الذي تنطوي عليه الأخرى، لوجب أن تكون العبارتان مترادفتين في المعنى مهما بدا في ظاهرهما من تباين؛ لأن العمل الواحد لا يصدر عن شيئين مختلفين جوهرا ، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه محال علينا أن نصرف معنى واحدا إلى شيئين مختلفين في الجانب الأدائي؛ لأنه ما دام الأداء قد اختلف، فقد اختلفت خاصية الشيء المؤدي - وهذا كله متضمن في عبارة جابر بن حيان التي أسلفناها: (أ)
فالخاصية تابعة لعملها. (ب)
الخاصية الواحدة (أي العمل الواحد) لا يكون في شيئين مختلفين. (ج)
إذا اتفق شيئان في خاصية واحدة (أي في عمل واحد) كانا في الحقيقة شيئا واحدا من حيث جوهرهما. (د)
إذا كان لشيئين تعريفان مختلفان، فمحال أن يتحدا في فعل واحد. (ه)
إذا كان لشيئين تعريف واحد، كان الشيئان متفقين في الخصائص، أي فيما يحدثانه من أثر.
تلك لمحات عن خصائص الأشياء وحدودها، وعلى أساس هذه الخصائص تنبني موازين الأشياء، وميزان الشيء هو الحكم عليه لا من حيث كيفه بل من حيث مقداره؛ وبغير معرفة المقادير، ينسد طريق العمل أمام العالم الذي يتناول الأشياء بتدبيره وتصريفه.
ولعل فكرة «الميزان» أن تكون أدق وأعسر وأهم فكرة لجابر بن حيان، وسأحاول هنا عرضها عرضا مبسطا أتخلص فيه من التفصيلات التي تعقد الفهم ولا تفيد كثيرا في رسم الصورة العامة التي نحاول أن نقدمها عن جابر.
يقول جابر - على سبيل الإجمال: إن «العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكل فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع.»
32
ومعنى ذلك أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كل شيء آخر متفرعا عنه، لكننا لا نتصور ما هو أسبق منه، هو العقل؛ فلولا وجود العقل بادئ ذي بدء، لما كان كون؛ وإذا كان هذا هكذا، فكل شيء في العالم إنما يسير وفق مبادئ العقل، وليس الأمر متروكا للمصادفة العمياء؛ «فالعلة الأولى هي العقل»، والعقل والعلم اسمان مترادفان على مسمى واحد، فما تسميه عقلا هو نفسه ما يصح أن تسميه علما؛ لأن العلم عقل جسد وتبلور في قوانين تسير عليها الطبيعة؛ وما كانت هذه القوانين لتصاغ إلا إذا عرفنا طبائع الأشياء ومقدار هذه الطبائع في كل شيء على حدة، ومن هنا كان «الميزان هو العلم»، لولا أن كلمة «ميزان» أعم من كلمتي علم وفلسفة؛ لأن كل حصر لمقادير الأشياء ميزان، وبعض هذه المقادير يندرج تحت عمل الفيلسوف وبعضها يندرج تحت عمل العالم؛ «فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته، هي وكل ما يتصل بها من فروع.» وفي هذا المعنى نفسه يقول جابر في موضع آخر: «إن قواعد الفلسفة هي قواعد الميزان، أو بعض قواعدها قواعد الميزان.»
33
أي أن عمل الفيلسوف إما أن يجيء متطابقا مع العلم بالموازين تطابق المتساويين، وإما أن يكون علم الموازين شاملا للفلسفة بجانب منه دون جانب.
وخشية أن يختلط أمر «الميزان» في الأفهام، بسبب تعدد معاني هذه الكلمة، قال ابن حيان منبها: إن هنالك نوعين من الميزان؛ فهو إما ميزان للطبائع، وإما ميزان وزني؛ فأما ميزان الطبائع فهو العلم الذي نعلم به كم من الطبع الفلاني (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) موجود في الكائن الفلاني؛ هل تغلب عليه الحرارة أو البرودة، واليبوسة أو الرطوبة؟ فإن كانت الحرارة غالبة عرفنا أن البرودة فيه مستكنة مستبطنة، وإن كانت البرودة غالبة عرفنا أن الحرارة فيه هي المستكنة المستبطنة، وكذلك قل في صفتي اليبوسة والرطوبة؛ وما دمنا قد عرفنا أي الطبائع قد غلب فظهر، وأيها قد انكمش فاختفى، فإن طريق العمل ينفتح أمامنا لإجراء التجارب التي نحول بها الجسم على أي نحو أردنا، فنقلل من حرارته لنزيد في برودته، أو نقلل من صلابته لنزيد من ليونته، وهكذا؛ وسنذكر بعد قليل لمحة من وزن هذه الطبائع بمقادير كمية متفاوتة كيف يكون.
هذا هو ميزان الطبائع، وأما «الميزان الوزني» فهو أن يكون مقدار الوزنين في الميزان مقدارا واحدا؛ على أن «للميزان الوزني» معنى آخر ، وهو أن يتماثل الشكلان؛ فإن كان أحدهما مدورا كان الآخر مدورا كذلك، أو مسطحا كان مسطحا.
ومن معاني الميزان كذلك أن يحلل الشيء المركب المخلوط إلى عناصره التي منها ركب وخلط، وفيها يقول جابر: «أما موازين الأشياء التي قد خلطت، مثل أن يخلط زجاج وزيبق على وزن ما ... فإن في قوة العالم في الميزان أن يكون لك كم فيه من الزجاج وكم فيه من الزيبق، وكذلك الفضة والذهب، والنحاس والفضة، أو ثلاثة أقسام أو أربعة أو عشرة أو ألف إن جاز أن يكون ذلك، فإنا نقول: إن هذا من الحيل على تقريب الميزان وهو حسن جدا، ولو قلت إنه كالدليل على صحة هذا العلم - أي علم الموازين - لكنت صادقا ...»
34
ويسوق لنا جابر مثلا كيف نصنع «الميزان الوزني»، وكيف نستخدمه، وفي أي البحوث العلمية نستخدمه، وسأثبت هنا قوله بنصه لدلالته أولا على دقته التجريبية، وثانيا على سداد منهجه للوصول إلى نتائج علمية في موضوع كالوزن النوعي للمعادن، وما أشبهه بعالم اليوم؛ إذ يثبت تجاربه فيصف أجهزته التي استعان بها، ثم يصف الطريقة التي استخدمها بها، بالإضافة إلى النتائج التي يوصل إليها. قال جابر في استخراج الوزن النوعي للذهب والفضة: «فاستعمل ميزانا على هيئة الأشكال، ويكون بثلاث عرى خارجة إلى فوق، واعمل بهذه الكفتين كعمل الموازين، أعني من شدك بها الخيوط وما يحتاج إليه؛ ولتكن الحديدة الواسطة التي فيها اللسان في نهاية ما يكون من الاعتدال حتى لا يميل اللسان فيها أولا - قبل نصب الخيوط عليها - إلى حبة من الحبات، ويكون وزن الكفتين واحدا وسعتهما واحدة ومقدار ما يملؤهما واحدا، فإذا فرغت من ذلك على هذا الشرط، فلم يبق عليك كثير شيء؛ ثم شد الميزان كما يشد سائر الموازين، ثم خذ إناء فيه ما يكون عمقه إلى أسفل نحو الشبر أو دونه أو أكثر كيف شئت؛ ثم املأه ماء قد صفي أياما من دغله وقذره وما فيه - كما تصفى البنكانات
35 - ثم اعمد إلى سبيكة ذهب أحمر خالص نقي جيد، ويكون وزنها درهما ، وسبيكة فضة بيضاء خالصة صرفا، ويكون وزنها درهما؛ ويكون مقدار السبيكتين واحدا، ثم ضع الذهب في إحدى الكفتين والفضة في الأخرى، ثم دل الكفتين في ذلك الماء الذي وصفنا إلى أن تغوصا في الماء وتمتلئا من الماء ؛ ثم اطرح الميزان، فإنك تجد الكفة التي فيها الذهب ترجح عن الكفة التي فيها الفضة؛ وذلك لصغر جرم الذهب وانتفاش الفضة، وذلك لا يكون إلا من اليبوسة التي فيها، فاعرف الزيادة التي بينهما بالصنجة ...» «وكذلك يقاس كل جوهرين وثلاثة وأربعة وخمسة وما شئت من الكثرة والقلة، مثل أن تعرف النسبة التي بين الذهب والنحاس، والفضة والنحاس، والذهب والنحاس والرصاص، والفضة والرصاص والنحاس، والفضة والذهب والرصاص ... وكذلك إن شئت واحدا واحدا، وإن شئت اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة أو كيف أحببت.»
36
وبعد أن استطردنا قليلا في الحديث عن المعاني المختلفة «للميزان» نعود إلى «ميزان الطبائع» لنفصل فيه القول تفصيلا لا نستوعب به كل شيء، لكنه يكفي لتقديم فكرة عن هذا الركن الهام من كيمياء جابر بن حيان.
لقد سبق لنا أن ذكرنا - عند الحديث عن الحروف وأوزانها - أن تحليل الاسم دال على طبيعة المسمى؛ فتحليل كلمة «ذهب» - مثلا - دال على طبيعة الذهب العيني الذي سمي بذلك الاسم؛ لكن كيف يكون تحليلنا للاسم لنستدل به على طبيعة مسماه؟
ليست الحروف كلها سواء في المنزلة، بل منزلاتها متفاوتات القيمة؛ ويقسم جابر هذا السلم سبعة أقسام، وكان يستطيع أن يكتفي بأقل من ذلك، كما كان يستطيع أن يزيد من هذه الأقسام، لكنه يرى أن السبعة الأقسام تحقق قدرا من الدقة العلمية يكفل سلامة النتائج؛ وهو يطلق على هذه المنازل المتدرجة الأسماء الآتية، بادئا من أعلاها إلى أدناها: المرتبة وجمعها مراتب، الدرجة وجمعها درج، الدقيقة وجمعها دقائق، الثانية وجمعها الثواني، الثالثة وجمعها الثوالث، الرابعة وجمعها الروابع، والخامسة وجمعها الخوامس؛ وحروف الأبجدية تنقسم إلى هذه الأقسام السبعة على هذا النحو:
أ، ب، ج، د المراتب.
ه، و، ز، ح الدرج.
ط، ي، ك، ل الدقائق.
م، ن، س، ع الثواني.
ف، ص، ق، ر الثوالث.
ش، ت، ث، خ الروابع.
ذ، ض، ظ، ع الخوامس.
على أن كل هذا التقسيم يتكرر بأسره أربع مرات، تسمى أولاها بالمرتبة الأولى، وثانيتها بالمرتبة الثانية، وثالثتها بالمرتبة الثالثة، ورابعتها بالمرتبة الرابعة؛ وفي كل مرتبة من هذه المراتب الأربع تقسم الحروف أربع مجموعات، كل مجموعة منها سبعة أحرف، لتقابل الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة.
فالحرارة يقابلها دائما: أ ه ط م ف ش ذ.
والبرودة يقابلها دائما: ب و ي ن ص ت ض.
واليبوسة يقابلها دائما: ج ز ك س ق ث ظ.
والرطوبة يقابلها دائما: د ح ل ع ر خ غ.
وما دامت هذه المجموعات مقسمة على هذا النحو، تتكرر أربع مرات، هي المراتب الأربع، فمعنى هذا هو أن الحرف الواحد، مثل حرف «ذ» - مثلا - تختلف قيمته باختلاف موضعه؛ لأن موضعه قد يكون في مرتبة أولى، فتكون له قيمة معينة، وقد يكون في مرتبة ثانية فتكون له قيمة أخرى، وقد يكون في مرتبة ثالثة فتكون له قيمة ثالثة، وقد يكون في مرتبة رابعة فتكون له قيمة رابعة.
وفيما يلي قوائم أربع، لكل مرتبة من المراتب الأربع قائمة، تبين موازين الحروف المختلفة في كل حالة منها:
37 (1) المرتبة الأولى
مرتبة
درهم ودانق
ب
درهم ودانق
ج
درهم ودانق
د
درهم ودانق
درجة
ه
نصف درهم
و
نصف درهم
ز
نصف درهم
ح
نصف درهم
دقيقة
ط
دانقان ونصف
ي
دانقان ونصف
ك
دانقان ونصف
ل
دانقان ونصف
ثانية
الحرارة
م
دانقان
البرودة
ن
دانقان
اليبوسة
س
دانقان
الرطوبة
ع
دانقان
ثالثة
ف
دانق ونصف
ص
دانق ونصف
ق
دانق ونصف
ر
دانق ونصف
رابعة
ش
دانق
ب
دانق
ث
دانق
خ
دانق
خامسة
ذ
قيراط
ض
قيراط
ظ
قيراط
غ
قيراط (2) المرتبة الثانية
مرتبة
أ
درهم
ب
درهم
ج
درهم
د
درهم
درجة
ه
درهم
و
درهم
ز
درهم
ح
درهم
دقيقة
ط
درهم
ي
درهم
ك
درهم
ل
درهم
ثانية
الحرارة
م
درهم
البرودة
ن
درهم
اليبوسة
س
درهم
الرطوبة
ع
درهم
ثالثة
ف
دانق
ص
دانق
ق
دانق
ر
دانق
رابعة
ش
درهم
ت
درهم
ث
درهم
خ
درهم
خامسة
ذ
دانق
ض
دانق
ظ
دانق
غ
دانق (3) المرتبة الثالثة
مرتبة
أ
5 درهم
ب
5 درهم
ج
5 درهم
د
5 درهم
5 دانق
5 دانق
5 دانق
5 دانق
درجة
ه
درهم
و
درهم
ز
درهم
ح
درهم
دقيقة
ط
2 درهم
ي
2 درهم
ك
2 درهم
ل
2 درهم
1 قيراط
1 قيراط
1 قيراط
1 قيراط
ثانية
الحرارة
م
1 درهم
البرودة
ن
1 درهم
اليبوسة
س
1 درهم
الرطوبة
ع
1 درهم
4 دانق
4 دانق
4 دانق
4 دانق
ثالثة
ف
1 درهم
ص
1 درهم
ق
1 درهم
ر
1 درهم
دانق
دانق
دانق
دانق
رابعة
ش
5 دانق
ت
5 دانق
ث
5 دانق
خ
5 دانق
خامسة
ذ
دانق
ض
دانق
ظ
دانق
غ
دانق (4) المرتبة الرابعة
مرتبة
أ
9 درهم
ب
9 درهم
ج
9 درهم
د
9 درهم
2 دانق
2 دانق
2 دانق
2 دانق
درجة
ه
4 درهم
و
4 درهم
ز
4 درهم
ح
4 درهم
دقيقة
ط
درهم
ي
درهم
ك
درهم
ل
درهم
ثانية
م
2 درهم
ن
3 درهم
س
2 درهم
ع
2 درهم
الحرارة
4 دانق
البرودة
4 دانق
اليبوسة
4 دانق
الرطوبة
4 دانق
ثالثة
ف
2 درهم
ص
2 درهم
ق
2 درهم
ر
2 درهم
رابعة
ش
1 درهم
ت
1 درهم
ث
1 درهم
خ
1 درهم
2 دانق
2 دانق
2 دانق
2 دانق
خامسة
ز
4 دانق
ض
4 دانق
ظ
4 دانق
غ
4 دانق
وعلى سبيل التطبيق الموضح لاستخدام هذه القوائم، نقول: افرض أن الكلمة التي تريد وزنها هي كلمة «ذهب»، فانظر في حرف «ذ» أين يقع من الكلمة؟ تجده يقع في مرتبة أولى، فراجع قائمة المرتبة الأولى تجد حرف «ذ» يساوي قيراطا؛ وانتقل إلى الحرف الثاني من الكلمة وهو «ه» فراجع قائمة المرتبة الثانية تجد حرف «ه» يساوي درهما ونصف درهم؛ ثم انتقل إلى الحرف الثالث من الكلمة، وهو «ب»، فراجع قائمة المرتبة الثالثة تجد حرف «ب» فيها يساوي خمسة دراهم وخمسة دوانيق، وإذن فكلمة «ذهب» تزن: قيراط + درهم ونصف درهم + خمسة دراهم وخمسة دوانيق.
خذ مثلا آخر، كلمة «فضة»؛ فابدأ بحذف الأحرف الزوائد، وهي: التاء، فيبقى لك منها «ف ض ض» (فض) «الفاء» مرتبة أولى تساوي دانقا ونصفا، «والضاد» مرتبة ثانية تساوي دانقا ونصفا، والضاد مرتبة ثالثة تساوي دانقين ونصفا؛ اجمع هذه المقادير يكن لك وزن الفضة.
ويحذرك جابر أن «لا تعط المرتبة الأولى ولا شيئا من أجزائها ما قد حكم به للمرتبة الثانية ولأشياء من أجزائها، لئلا يدخل بعض في بعض.»
38
هذه صورة مبسطة غاية التبسيط لطريقة الحساب التي يوزن بها شيء ما، تمهيدا لتحويله إلى شيء آخر، أو لتحويل شيء آخر إليه - لا فرق في هذا بين جماد ونبات وحيوان.
ويلخص هولميارد.
39
نظرية جابر في طبيعة المعادن تلخيصا موجزا ومفيدا، فيقول: إن جابرا قد تقدم تقدما واضحا على النظريات العلمية التي خلفها اليونان، وعلى الصوفية الملغزة التي تركتها مدرسة الإسكندرية؛ فللمعادن - عنده - مقومان: «دخان أرضي» و«بخار مائي»، وتكثيف هذه الأبخرة في جوف الأرض ينتج الكبريت والزيبق، واجتماع هذين يكون المعادن، والفروق بين المعادن الأساسية ترجع إلى فروق في النسب التي يدخل بها الكبريت والزيبق في تكوينها؛ ففي الذهب تكون نسبة الكبريت إلى الزيبق نسبة تعادل بين هذين العنصرين، وفي الفضة يكون العنصران متساويين في الوزن. أما النحاس ففيه من العنصر الأرضي أكثر مما في الفضة، وأما الحديد والرصاص والقصدير ففيها من ذلك العنصر أقل مما في الفضة. ولما كانت المعادن مكونة من مقومات مشتركة، فإن تحويل بعضها إلى بعض يصبح أمرا مستطاعا، وعندما يقوم الكيموي بهذا التحويل فإنه يؤدي في وقت قصير ما تؤديه الطبيعة في وقت طويل؛ ولهذا يقال إن الطبيعة تستغرق ألف عام في صناعة الذهب؛ على أن جابرا - فيما يظهر - لم يأخذ نظرية الكبريت والزيبق هذه مأخذا حرفيا، بل فهمها على أنها صورة تقريبية لما يحدث؛ إذ هو يعلم علما تاما بأن الزيبق والكبريت العاديين إذا خلطا ومزجا لم ينتجا معدنا، بل إنهما عندئذ ينتجان كبريتور الزيبق الأحمر؛ ولهذا فالكبريت والزيبق اللذان يتكون منهما المعادن ليسا هما الكبريت والزيبق المألوفين؛ بل هما عنصران افتراضيان يكون الكبريت والزيبق المألوفان أقرب شيء إليهما.
وأن جابرا ليسوق في هذا الصدد ملاحظات تدل على إلمامه بالنظرية الذرية القديمة التي أخذ بها ديمقريطس وأتباعه؛ ولو نظرنا إلى ملاحظاته تلك على أنها تعبر عن رأيه في طبيعة التفاعل الكيموي لألفيناها جديرة بالذكر، بل لوجدناها على درجة مذهلة من الدقة والوضوح.
يقول جابر ما معناه: إنه حين يتحد الزيبق والكبريت ليكونا عنصرا واحدا، فالظن هو أنهما يتغيران تغيرا جوهريا أثناء تفاعلهما، وأن شيئا جديدا ينشأ عن ذلك التفاعل، لكن الأمر على حقيقته هو غير ذلك؛ ذلك أن الزيبق والكبريت كليهما يحتفظان بطبيعتهما؛ وكل الذي حدث هو أن أجزاء كل منهما قد طرأ عليها من التهذيب ما قربها من أجزاء الآخر تقريبا جعلهما يبدوان للعين كأنما هما متجانسان؛ لكننا لو أوتينا الجهاز العلمي الملائم الذي نفصل به أجزاء أحدهما عن أجزاء الآخر، لتبين أن كلا منهما قد ظل محتفظا بطبيعته الأصلية الثابتة، فلم يطرأ عليه تحول ولا تغير، فمثل هذا التغير والتحول محال عند الفلاسفة الطبيعيين.
وأن علم الكيمياء ليسجل لجابر كشوفا هامة، فهو مكتشف «الماء الملكي»
Aqua Regia ، و«زيت الزاج» - حامض الكبريت -
Sulphuric Acid ، وماء العقد
Nitric Acid ، و«حجر جهنم» - نترات الفضة -
Nitrate of Silver ؛
40
ويرجح أنه هو الذي ركب الزرنيخ، وحجر الكحل من الزرنيخ، والإثميد
Ithmid ، وهي ما يرمز إليه في علم الكيمياء بالصيغ الآتية على التوالي: أس
2
س
2 ، أس
2
س
3 ، س ب
2
س
3 .
41 (5) تكوين الحيوان
الرأي عند جابر بن حيان هو أن العالم الكيموي في مستطاعه أن يحول أي كائن على أي كائن آخر، ما دامت هذه الكائنات من المركبات وليست هي من العناصر الأولية البسيطة؛ فليس الأمر بمقصور على تحويل معدن إلى معدن وحجر إلى حجر، بل إنه ليتعدى ذلك إلى عالمي النبات والحيوان بغير استثناء الإنسان نفسه؛ وكل الفرق بين حالة وحالة هو في طريق السير في التجارب التي نجريها للتحويل؛ فما يخرج من الحجر يرتد إلى حجر بطريق مباشر، أما ما يخرج من النبات أو الحيوان فلا يرتد نباتا ولا حيوانا إلا إذا مر أولا بمرحلة الحجرية؛
42
أي أنك إذا أردت تحويل كائن حي إلى كائن حي آخر، كان لا بد في ذلك من تحويل الكائن الحي المراد تحويله إلى جماد خال من الحياة أولا - أي إلى حجر - ثم بعد ذلك تجرى التجارب التي تعيد تشكيل هذا الجماد على الصورة التي تكسبه الحياة على النحو المطلوب.
ولعل أغرب ما في هذا الموضوع هو محاولة جابر صناعة الإنسان على أي صورة شاء، وموضع الغرابة عندي هو أن يصدر هذا عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الإنسان من شأن الله وحده؛ فلا بد أن يكون ثمة وجه لتبرير ذلك عند جابر ولكني لا أراه؛ وما أقرب الشبه بين الأحلام التي ساورت جابرا في زمانه من حيث محاولته خلق تكوينات حية شاذة عن الكائنات المألوفة، أقول ما أقرب الشبه بين هذه الأحلام وبين ما قد تحقق هذه الأيام من «تطعيم» الحيوانات بعضها ببعض، فيركبون أعضاء حيوان في جسم حيوان آخر وهكذا؛ فانظر - مثلا - إلى جابر وهو يحدثنا عن الطريقة التي يمكن بها أن ننقل وجه رجل إلى جسم جارية، أو أن ننقل بها عقل رجل إلى جسم صبي صغير.
43
ويعرض جابر عدة مذاهب في تكوين الكائن الحي - بما في ذلك الإنسان - فمنها: (1)
مذهب يجعل التكوين قائما على أساس آلي؛ وذلك بتكوين الأجزاء، ثم حلها وتركيبها على النحو المراد.
44 (2)
ومذهب يلجأ إلى طريقة التعفين؛ وذلك بأن يوضع المثال المراد التكوين على صورته في جوف دائرة مصنوعة من نحاس وملؤها ماء؛ ثم توضع دائرة النحاس في دائرة من الطين، إلى آخر تفصيلات التجربة.
45 (3)
ومذهب يرى أن روح الكائن الحي لا يتولد إلا من الهواء؛ وأصحاب هذا الرأي يجعلون المثال المراد التكوين على صورته في دائرة معدنية مثقوبة ثقوبا كثيرة، وتكون فارغة، ثم يضعونها في دائرة نحاسية مملوءة ماء، وتوضع هذه الأخيرة بدورها في دائرة من طين، وتوقد عليها النار ... إلخ.
46 (4)
ومذهب يقول إنه لا تكوين إلا بالمني داخل الصنم؛ فيوضع مني الحيوان المطلوبة صورته في جسم من طين؛ فإذا أريد - مثلا - صنع إنسان ذي جناح، وضعنا مني الطائر صاحب ذلك الجناح في العجينة المصنوعة ... إلخ.
47 (5)
وطائفة ترى أن التكوين يكون بالعقاقير والميزان
48
وأحسب أن عالمنا جابر بن حيان هو من هؤلاء.
49 (6)
وطائفة ترى أنه يكون باستخدام دم الجنس المراد التكوين على مثاله.
50
ويفيض جابر القول في صنوف الحيوان كيف تصنع، مما لا نرى موجبا لذكره مفصلا؛ وحسبنا أن نشير إلى أن التقسيم الرباعي هو دائما أساس الصناعة عنده؛ فالحيوان - كغيره من الكائنات - منه ما تغلب عليه الحرارة ومنه ما تغلب عليه البرودة؛ فما تغلب عليه الحرارة يكون ذكيا سريعا، وما تغلب عليه البرودة يكون بطيئا بليدا؛ ويمكن تصنيف الحيوان على الفئات الأربع المعروفة: النار والهواء والماء والأرض؛ فمنها ما هو في طبيعته أقرب إلى طبيعة النار، ومنها ما هو أقرب إلى طبيعة الهواء، وهلم جرا.
ويهمنا الإنسان من بقية الحيوان، فهو - على وجه الإجمال - من صنوف الحيوان التي تندرج تحت طبيعة الهواء؛ ففيه عقل ونفس وبدن، بالعقل يفهم، وبالنفس يتحلى بصفات مثل الكرم والبخل والعلم والجهل وما إلى ذلك، وأما البدن فهو مصنوع من العناصر الأربعة المعروفة. ولما كانت الجوانب المميزة للإنسان مقرها الدماغ، كان الأصل الذي منه يتكون هو الدماغ؛ والدماغ ثلاثة أقسام: قسم للخيال، وقسم للفكر، وقسم للتذكر.
51
ويضع جابر قاعدة عامة لتكوين الحيوان وانحلاله، وهي: «أن ما يتولد من شيء ما، يكون هذا الشيء قوامه»؛ فلو وضع في طبيعة تضاد طبيعته هلك. ويتناول جابر عددا كبيرا من صنوف الحيوان فيصف لكل حيوان أنسب ظروف لتوليده؛ فالحيات تتولد من الشعر الموضوع في زجاج؛ والعقارب من التراب وعكر الدبس؛ والزنابير من اللحم كثير التخريم، أعني اللحم الميت، والدود من اللحم الذبيح، والبق من ثخين الخل، والذباب من الأشياء الحلوة، وهكذا ... ملاحظات يجمعها جابر، ولو كان أدق تحليلا لملاحظاته، لرد هذه الظروف التي يتولد فيها هذا الحيوان أو ذاك إلى عواملها الأولية؛ فكأني به قد اكتفى بتسجيل المشاهدات الشعبية السائدة بين عامة الناس، فلم يتميز منهم بدقة العلماء.
جدل الفيلسوف
(1) الفلسفة وقواعدها
كان جابر بن حيان فيلسوفا يصطنع جدل الفلاسفة، بالإضافة إلى كونه عالما يؤسس علمه على مشاهدات وتجارب؛ وهو يصرح بما يفيد أن مثله الأعلى من بين الفلاسفة الأقدمين هو سقراط؛ إذ يصفه بأنه: «أبو الفلاسفة وسيدها كلها».
1
كما يقول عنه في موضع آخر:
2
إنه مثال الإنسان المعتدل، مع تعريفه للشخص المعتدل بأنه هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة.
إن جابرا ليؤمن بقيمة الفلسفة إيمانا يجعل الفلسفة عنده شرطا لا مندوحة عنه لارتقاء الإنسان في مدارج العقل، حتى لتختلط عند جابر طائفة الفلاسفة بطائفة الأنبياء، فهؤلاء من أولئك وأولئك من هؤلاء؛ يقول: «إنه ليس براق من أغفل صناعة الفلسفة، ولكنه راسب مضمحل إلى أسفل دائما.»
3
وكذلك يقول: «إن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط؛ إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء؛ كنوح وإدريس وفوثاغورس وثاليس القديم، وعلى مثل ذلك إلى الإسكندر.»
4
ويلخص جابر أصول التفكير الفلسفي في المبادئ الآتية:
5 (1) إن الأشياء لا تخلو من أن تكون قديمة أو محدثة. (2) والقديمة والمحدثة لا تخلو من أن تكون مرئية أو غير مرئية. (3) والمرئي وغير المرئي لا يخلو من أن يكون مركبا أو بسيطا. (4) وإن جزء المركب ليس هو كمثل المركب ولا يحكم به عليه، وإن جزء البسيط كالبسيط وحكمه حكمه. (5) وإن كان عظم فإنه متجزئ إلى ذاته بهذا، يعني جابر: أن كل بعد من الأبعاد يتجزأ إلى أجزاء من نوعه؛ فالجزء من الخط خط، والجزء من السطح سطح، والجزء من الجسم ذي الأبعاد الثلاثة جسم ذو أبعاد ثلاثة. (6) لا يكون تركيب إلا من جزأين، ولا يكون تركيب الجزأين إلا بمركب لهما (ومعنى ذلك أن وجود الأشياء المركبة يستلزم وجود العلاقات التي تصل الأطراف بعضها ببعض). (7) كل مركب لا بد من أن يكون ذا جهات. (8) ولا يتصور في العقل أنه يمكن أن يكون عظم لا نهاية له؛ فإن ذلك سخف، ولا ينبغي أن ينازع فيه ولا يمارى، فإنه مسلم في العقول السليمة، وهي توجب ذلك. (9) وأيضا فإن المسافة التي لا نهاية لها لا يمكن أن تقطع في زمان ذي نهاية البتة. (10) وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون شيء لا نهاية له، لا جرما ولا فعلا ولا قوة. (10أ) وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون لجرم لا نهاية له قوة ذات نهاية؛ لأن ذلك يكون كالقائم القاعد في حالة واحدة. (10ب) ولا يمكن الجرم الذي لا نهاية له أن يتحرك بكله أو ببعضه. (10ج) وينبغي أن تعلم بالضرورة أن العلة قبل المعلول بالذات. (10د) وأنه لا يمكن أن يكون ذات ما لا يكون لا علة ولا معلول. (10ه) وأيضا فإنه لا يمكن أن يرتفع عن جرم مركب صفة وضدها لا واسطة بينهما، ولا أن يحكي أيضا (أي أن ذلك ممتنع في الأعيان وفي الأذهان في آن معا). (10و) وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون الفعل للشيء بالقوة أبدا، ولا يتصور. (10ز) الذي لم يزل لا يبطل ولا يضمحل (أي أن الكائن إذا كان أزليا غير ذي بداية زمنية، كان أبديا لا يطرأ عليه تغير ولا يزول). (10ح) ولا يمكن أن تكون الحياة لجرم إلا بالنفس. (10ط) ولا يمكن أن يكون جرم قابلا للنفس بالفعل لا يكون حيا. (11) لا يمكن أن يدخل جرم على جرم إلا ومكانهما جميعا أكبر من مكان أحدهما. (11أ) وأيضا أنه لا يمكن فراغ من جرم (أي أن المكان الخلاء محال). (11ب) وأنه لا يمكن أن تكون الأجرام كوامن بعضها في بعض؛ فإذا حدث بعضها من بعض كان حدوثها لعلة غير الكمون.
تلك هي المبادئ الفلسفية العقلية الأولية، التي لا يكون فكر سليم إلا في حدودها. (2) الوجود واحد مطلق
ليس يخضع الوجود المطلق لما تخضع له الموجودات الجزئية المتناهية من اندراج تحت المقولات؛ فهو منزه عن الكم والكيف والمكان والزمان والفعل والانفعال وغير ذلك مما تتميز به الأشياء؛ فإذا فرضنا جدلا أن الواحد المطلق متصف بما تتصف به الكائنات الجزئية، انتهينا إلى تناقض:
الجوهر
فلو فرضنا أن ثمة وجودين، فلن يخلو هذان الوجودان من أن يكونا:
إما - أ - جوهرين.
وإما - ب - عرضين.
وإما - ج - أحدهما جوهرا والآخر عرضا.
وإما - د - كل واحد منهما أو أحدهما جوهرا وعرضا.
وإما - ه - كل واحد منهما أو أحدهما لا جوهرا ولا عرضا لكنهما لو كانا: (أ)
جوهرين بلا أعراض، وجب أن تكون الأعراض محدثة ؛ إذ هي موجودة، وإن كانت موجودة محدثة، فلا يخلو الأحداث من أن يكون نابعا من الجوهرين أو صادرا عن غيرهما.
فإن كان من غيرهما، فقد أصبحت الأصول ثلاثة أو أكثر - وفي الأصول الثلاثة ما في الاثنين من تناقض - وإن كان الأحدث منهما، فيكون فيهما ما ليس فيهما؛ إذ المحدثات أعراض، وهما جوهران بلا أعراض - وإذن فافتراض وجود جوهرين افتراض فاسد، والحق واحد. (ب)
ولو كانا عرضين، فالعرض لا يقوم إلا في غيره، وكل ما لم يقم إلا في غيره، وكان غيرها هذا معدوما فهو أيضا معدوم؛ إذن فالعرضان الأولان معدومان؛ لكننا فرضنا أنهما وجودان، فكأننا وصفنا المعدوم بالوجود، وهو من أشنع المحال. (ج)
ولو كان أحدهما جوهرا والآخر عرضا، فالعرض لا يقوم بذاته، ويحتاج إلى غيره ليكون قوامه به؛ ولا بد أن يكون غيره هذا جوهرا، وإذن يكون في الأصل جوهران وعرض وفي ذلك من التناقض ما أوضحناه في «أ». (د)
ولو كان كل واحد منهما أو أحدهما جوهرا وعرضا، لكان - بحكم كونه عرضا - متناهيا محدثا؛ وهو مما يتنافى مع كونه جوهرا. (ه)
ولو كان كل واحد منهما أو أحدهما لا جوهرا ولا عرضا، لكان ذلك محالا؛ لأن جميع المقولات إما جواهر وإما أعراض؛ فإذا فرضنا أنهما من المحسوسات وليسا من المقولات، كانا معدومين، لكننا فرضنا أنهما موجودان، فكأننا فرضنا أنهما موجودان معدومان معا، وهو من أشنع المحال.
6
الحركة والسكون
إذا فرضنا أن ثمة وجودين لا وجودا واحدا، فلا يخلو هذان الوجودان من أن يكونا:
إما - أ - متحركين.
وإما - ب - ساكنين.
وإما - ج - أحدهما متحركا والآخر ساكنا.
وإما - د - كل واحد منهما أو أحدهما متحركا ساكنا.
لكنهما لو كانا: (أ)
متحركين فهما متناهيان؛ لأن المتحرك يقتضي أن يكون محدودا بشيء سواه؛ وبهذا يكون هنالك أكثر من الاثنين اللذين فرضنا وجودهما. (ب)
ساكنين، فلا حركة، لامتنع امتزاج العناصر بعضها ببعض - لأن الامتزاج يقتضي الحركة - وإذن فلا عالم؛ لأن العالم نتيجة مزاج، لكن العالم موجود. (ج)
أحدهما متحركا والآخر ساكنا، كان المتحرك متناهيا، وكان تناهيه إلى شيء سواه أو أكثر من شيء؛ وإذن فيكون الموجود أكثر من اثنين.
وكذلك يكون الساكن منهما مواتا لا فعل له؛ ويكون معنى هذا أن الكائنات ذوات الأنفس ميتة، وهو محال.
7 (د)
أحدهما متحركا وساكنا معا، فلن يخلو ذلك من أن يكون ذلك في لحظة واحدة بعينها، أو في لحظتين مختلفتين؛ ومحال أن يجتمع الحركة والسكون في وقت واحد، ومحال كذلك أن يتحول السكون في وقت ما إلى حركة في وقت آخر ما لم يكن هناك شيء يحرك؛ ففي كلتا الحالتين تناقض.
8
الحياة والموت
لو فرضنا وجود كونين، فلا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - حيين.
وإما - ب - ميتين.
وإما - ج - أحدهما حيا والآخر ميتا.
وإما - د - كل واحد منهما حيا ميتا.
لكنهما لو كانا: (أ)
حيين، وليس في الوجود سواهما، لامتنع الموت، لكن الموت موجود، فكأننا نقول إن الموت معدوم موجود، وهو محال. (ب)
ميتين، وليس في الوجود سواهما، لامتنعت الحياة، لكن الحياة موجودة، فكأننا نقول إن الحياة معدومة موجودة، وهو محال. (ج)
أحدهما حيا والآخر ميتا، فلا يخلو الميت من أن يكون يقبل الحياة من الحي أو لا يقبلها منه: (1)
فإن كان لا يقبلها منه، فليس يصير حي إلى الموت البتة؛ لأنه لا موات في جوهره؛ فموت الحي إذن معدوم، لكن موت الحي موجود، فكأننا قلنا عن الموجود إنه معدوم. (2)
وإن كان الميت قابلا للحياة، فلا يخلو قبوله هذا من أن يكون دائما أو غير دائم: (أ)
فإن كان دائما، كان الموجود حيين حياة دائمة، فلا موت، مع أن الموت موجود. (ب)
وإن كان غير دائم، فلا يخلو ذلك من أن يكون إما من ذاته وإما من الحي؛ فإن كان من ذاته فقد حدث في الأزلي ما لم يكن فيه؛ إذ تكون بمثابة من يقول عنه إنه في أزليته كان قابلا للحياة وغير قابل لها؛ أي أنه يحمل الضدين وهو محال؛ وأما إن كان ذلك من الحي - لا من ذاته - فكأن الحي يفعل ما يمنع الحياة وهو محال. (ج)
ولو كان كل واحد من الكونين الأولين حيا ميتا معا، فلا يخلو أن يكون ذلك إما في الكل وإما في أحد أجزائه؛ فإن قلنا: إنه حي ميت في جزء دون جزء، كان بين الجزء الحي والجزء الميت من الكون الواحد، ما يكون بين الكونين اللذين يكون أحدهما حيا والآخر ميتا؛ وأما إن كان ذلك في الكل، فلن يخلو ذلك من أن يكون هذا في وقت واحد، أو في وقتين مختلفين: (1)
فإن كان الكون الواحد حيا ميتا في وقت واحد، كان هذا محالا. (2)
وإن كان حيا ميتا في وقتين مختلفين، اقتضى ذلك أن يتحول الكائن الأزلي إلى صفة لم تكن فيه؛ إذ لو كان في أزليته حيا ثم تحول ميتا، أو كان ميتا ثم تحول حيا، لحدث له ضد ما كان له في الأزل، وهو محال.
9
الزمان
إذا فرضنا وجود كونين، فليس يخلو الكونان الأزليان من أن يكونا:
إما - أ - دائمين.
وإما - ب - لا دائمين.
وإما - ج - أحدهما دائما والآخر لا دائما.
وإما - د - كل واحد منهما دائما ولا دائما.
لكنهما لو كانا: (أ)
دائمين، وكل دائم غير فان، وما لم يكن فانيا فليس بمتغير، وكل ممتزج متغير، إذن لكان المزاج - أي مزج العناصر - معدوما، لكنه موجود، فكأننا نقول عن المزاج إنه معدوم موجود معا، وهو محال.
وإذا فرضنا أن حالة المزج هي التي كانت قائمة في الأزل، لوقعنا في تناقض؛ لأن العناصر لكي تمتزج، لا بد لها أن تكون قبل مزجها منفردة صرفة؛ فالمزاج يأتي بعد الصرفية، وإذن فكأننا نقول إن المزاج أزلي والصرفية قبله، وبهذا تجعل الأزلي مسبوقا بشيء سواه، وهذا محال. (ب)
غير دائمين وهما أزليان؛ فكأننا نقول عما هو أزلي إنه يبطل ويضمحل، مع أن ذلك محال على الأزلي؛ وبهذا نكون كمن يقول عن الأزليين إنهما يفنيان وإنهما دائمان، وهو محال. (ج)
أحدهما دائما والآخر غير دائم، وجب فيما هو دائم منهما ما ذكرناه في حالة الفرض بأن الكونين دائمان، ووجب كذلك فيما هو غير دائم منهما ما ذكرناه في حالة الفرض بأن الكونين غير دائمين. (د)
كل واحد منهما - أو أيهما - دائما وغير دائم؛ فقد وجب أن الأزلي يتحول إلى ما ليس من صفاته. وهذا محال.
10
الفعل
إذا كان هذا العالم مزيجا من كونين قديمين لم يكن في الوجود سواهما، وإذا كان امتزاج العناصر بعضها ببعض نتيجة حدثت عنهما؛ وإذا كان هذا الحدوث هو فعلهما، فلا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - كل واحد منهما يفعل المزاج في صاحبه.
وإما - ب - أحدهما فقط هو الذي يفعل المزاج في صاحبه.
وإما - ج - لا يفعل أي منهما المزاج في صاحبه.
فلو كان: (أ)
كل منهما يفعل المزاج في صاحبه، فلا يخلو الأمر من أن يكون هذا الفعل منهما أزليا أو محدثا. (1)
فإن كان أزليا، كان المزاج أزليا؛ والمزاج هو العالم بما فيه من كائنات، إذن فالعالم أزلي، وذلك رأي باطل. (2)
وإن كان المزاج محدثا، كان ذلك بمثابة القول بأن شيئا نشأ عن لا شيء، وهذا محال.
وكذلك إذا كان فعلهما المزاج محدثا، فليس يخلو الأمر من أن يكون: إما أنهما يتفاعلان في وقت واحد، وإما أن أحدهما سبق بفعله فعل الآخر: (1)
فإن كان فعلهما المزاج معا وفي دفعة واحدة، فكل واحد منهما مازج صاحبه وممزوج صاحبه؛ والمازج غير الممزوج؛ إذن فكل منهما غير نفسه وغير صاحبه في آن معا، وهذا محال. (2)
وأما إن كان أحدهما سبق الآخر بفعله، فلا يخلو السابق من أن يكون قد استنفد قوته الفاعلة فوقف فعله ثم بدأ الآخر يفعل؛ أو أن يكون السابق لم تتناه قوته الفاعلة، وفعل الآخر معه في وقت واحد.
فإن قلنا إن السابق قد تناهت قوته قبل أن يبدأ الآخر فعله، فقد قلنا بالتالي إن اللامتناهي قد أصبح متناهيا. وهذا باطل؛ وأما إن قلنا إن الثاني بدأ فعله في نفس الوقت الذي كان الأول فيه ماضيا في فعله، لزم عن ذلك ما أسلفناه، وهو أن يكون كل منهما فاعلا في غيره ومنفعلا بغيره ، أي أنه غير نفسه وغير صاحبه في آن واحد (غير نفسه لأنه ينفعل فيتغير عما كان، وغير صاحبه لأنه فاعل فيه وصاحبه منفعل به) وهذا باطل. (ب)
أما إن كان أحدهما فقط يفعل المزاج في صاحبه، فلا يخلو هذا الفعل من أن يكون إما أزليا وإما محدثا: (1)
فإن كان أزليا كان المزاج أزليا، وكان العالم أزليا كذلك. وهذا باطل.
11 (2)
وإن كان ذلك الفعل محدثا، فمعنى ذلك أنه كان مسبوقا بحالة لا فعل فيها، ثم جاء الفعل من عدم، مع أن الفعل وجود - والفعل هنا هو الطبيعة - فكأننا نقول إن الطبيعة وجدت من عدم. وهذا باطل. (ج)
فإن لم يكن أي منهما يفعل المزاج في صاحبه فلا فعل، مع أن المزاج فعل، إذن فإذا لم يكن فعل فلا مزاج؛ ولما كان العالم مزاجا، فلا عالم، لكن العالم موجود، وهذا تناقض.
12
الانفعال
إذا كان هذا العالم مؤلفا من كونين، فلا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - مركبين.
وإما - ب - لا مركبين.
وإما - ج - أحدهما مركبا والآخر لا مركبا.
وإما - د - كل واحد منهما مركبا لا مركبا، أو أحدهما كذلك.
لكنهما لو كانا: (أ)
مركبين، كانا قابلين للانحلال إلى ما قد ركبا منه، وإن كانا منحلين إلى ما ركبا منه كانا دائرين؛ وإن كانا دائرين فقد سبقهما وقت لم يكونا فيه كائنين، وسيلحقهما وقت لن يكونا فيه كائنين، وإذن فهما محدثان، مع أنهم زعموا أنهما قديمان فكأنهم بذلك يقولون: إنهما قديمان محدثان. وهو محال. (ب)
لا مركبين، فلا انفعال لهما - لأن البسيط غير المركب غير قابل للتغير - فإذا كانا لا انفعال لهما فلا تركيب منهما، وإذا كانا لا تركيب منهما فلا مزاج منهما، وإذا كانا لا مزاج منهما - وليس سواهما شيء - فلا مزاج البتة، أي أن المزاج يكون معدوما، مع أن العالم بما فيه مزاج؛ وبهذا يكون العالم معدوما مع أنه موجود، فكأننا نقول إن المعدوم موجود. وهو محال. (ج)
وإذا كان أحدهما مركبا والآخر لا مركبا، وجب في المركب ما قد أسلفنا ذكره في حالة أن يكون الكونان مركبين، ووجب في اللامركب إما أن يكون هو الذي ركب المركب وإما لا يكون: (1)
فإن كان هو الذي ركبه - وإذا لم يكن هناك غيرهما - فالمركب محدث، والمركب أزلي، وإذن فالأزلي واحد وبطل القول إنه اثنان. (2)
وإن لم يكن هو الذي ركب المركب - وإذا لم يكن هناك غيرهما - كان المركب هو الذي ركب ذاته، ولا يخلو الأمر من أن يكون ركب ذاته بصفة كونه موجودا، أو أن يكون ركبها بصفة كونه معدوما: (أ)
فإن كان ركبها بصفته موجودا، إذن فقد كان موجودا قبل أن يركب ذاته، فلا معنى لتركيبها. (ب)
وإن كان ركب ذاته وهو غير موجود، كان معنى ذلك أن ما هو غير موجود ذات، والذات هي ذات ذلك المعدوم. وهو محال. (ج)
أو يكون كل واحد منهما مركبا لا مركبا - أو أحدهما كذلك - فأيما كان منهما كذلك فلا يخلو من أن يكون كذلك بالكم أو بالزمان (أي أنه يكون كذلك إما دفعة واحدة، وإما على وقتين متعاقبين؛ فآنا هو مركب وآنا هو غير مركب): (1)
فإن كان كذلك بالكم (أي أن بعضه مركب وبعضه الآخر غير مركب) وجب في بعضه المركب ما وجب في الكل المركب (وقد أسلفنا ذلك) ووجب في بعضه اللامركب ما وجب في الكل اللامركب (وقد أسلفنا ذلك أيضا). (2)
أما إن كان كذلك بالزمان (أي أنه آنا مركب وآنا غير مركب) كان معنى ذلك أن شيئا أزليا هو أسبق من شيء أزلي آخر. وهو محال.
13
العلم
إذا كان العالم مؤلفا من كونين، فلا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - أن يحيط كل واحد منهما علما بذاته.
وإما - ب - ألا يحيط أي منهما علما بذاته.
وإما - ج - أن يكون علم أحدهما محيطا بذاته، وعلم الآخر غير محيط بذاته.
وإما - د - أن يكون علم كل منهما محيطا بذاته وغير محيط بذاته.
لكنهما لو كانا: (أ)
بحيث يحيط علم كل منهما بذاته، لكانا متناهيين؛ لأن العلم يحيط بهما، وإذا كانا متناهيين فهما محدودان، وما حدهما غيرهما - سواء كان غيرهما جرما أو عدما - فهما إذن أكثر من اثنين. (ب)
لا يحيط علم الواحد منهما بذاته؛ فقد جهلا ذاتهما، وإذن فلا فرق بين أن يقال عنهما إنهما لا متناهيان أو إنهما متناهيان. (ج)
أحدهما يحيط علمه بذاته والآخر لا يحيط علمه بذاته، لوجب في الذي يحيط علمه بذاته ما وجب في «أ»، ووجب في الذي لا يحيط علمه بذاته ما وجب في «ب». (د)
ولو كان علم كل منهما محيطا بذاته وغير محيط بها، فلا يخلو أن يكون هذا الاجتماع في وقت واحد أو في وقتين؛ فإذا كان في وقت واحد كان اجتماع النقيضين محالا، وأما إذا كان في وقتين، وجب في حالة إحاطة العلم بالذات ما وجب في «أ»، وفي حالة عدم إحاطة العلم بالذات ما وجب في «ب».
14
التناهي
إنه لا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - متناهيين.
وإما - ب - لا متناهيين.
وإما - ج - أحدهما متناهيا والآخر لا متناهيا.
وإما - د - كل واحد منهما متناهيا لا متناهيا.
لكنها لو كانا: (أ)
متناهيين، فهما محدودان، وإن كانا محدودين فحادهما غيرهما - جرما كان أو عدما - وبهذا تبطل الاثنينية؛ لأن الموجود يصبح أكثر من اثنين. (ب)
وإن كانا لا متناهيين فلا مكان لهما، وإن كان لا مكان لهما فلا ذهاب لهما في جهة من الجهات، وبالتالي فلا حركة لهما، وإن كان لا حركة فلا امتزاج. ولما كان العالم مؤلفا من مزاج وإذا لم يكن امتزاج فلا عالم؛ وبهذا يصبح العالم معدوما، لكنه موجود. (ج)
وإن كان أحدهما متناهيا والآخر لا متناهيا، كان المتناهي محدودا، وما حده غيره؛ وبهذا يكون الموجود أكثر من اثنين؛ وكان اللامتناهي بغير أطراف، وما لا أطراف له لا فراغ منه، وما لا فراغ منه لم يدع مجالا لغيره، أي أنه يكون قائما وحده، وبهذا أيضا يبطل الفرض بوجود اثنين. (د)
وإن كان كل منهما متناهيا ولا متناهيا - أو كان أحدهما كذلك - فلن يخلو الأمر من أن يكون ذلك في وقتين مختلفين أو في وقت واحد: (1)
فإن كانا كذلك في وقتين مختلفين، كان الكائن الأزلي مشتملا على ضدين. وهو محال. (2)
وإن كان ذلك في وقت واحد، كان الأزلي أيضا على حالين متضادين في وقت واحد وهو محال.
15
الاتصال والانفصال
ليس يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - متصلين.
وإما - ب - منفصلين.
وإما - ج - متصلين منفصلين.
وإما - د - لا متصلين ولا منفصلين.
لكنهما لو كانا: (أ)
متصلين، فهما ذات واحدة، وبطلت الاثنينية. (ب)
منفصلين، ففاصلهما الحاجز بينهما هو شيء غيرهما، وبهذا يصبح الموجود أكثر من اثنين.
16 (ج)
متصلين منفصلين، فلا يخلو ذلك من أن يكون في جهة واحدة منهما، أو في جهتين: (1)
فإن كان في جهتين، وجب في الجهة التي فيها الانفصال وجود ثالث كما بينا في «ج». (2)
وإن كان في جهة واحدة، فلا يخلو من أن يكون ذلك في وقت واحد أو في وقتين، وهنالك تناقض في كلتا الحالتين كما بينا في مواضع كثيرة سابقة. (د)
لا متصلين ولا منفصلين، فهما بكونهما لا متصلين يصبحان ثلاثة بإضافة الحاجز بينهما، كما بينا في «ب»؛ وبكونهما لا منفصلين يصبحان واحدا لا اثنين، كما بينا في «أ».
17
الكيف
إذا فرضنا وجود كونين؛ أحدهما منيرا من الأزل والآخر مظلما من الأزل، فلا يخلو الأمر من أن يستمد الكونان النور والظلام، إما من ذاتيهما وإما من غيرهما: (أ)
فإن كان من غيرهما، فلا يخلو من أن يكون الذي منه النور هو الذي منه الظلام، أو يكون الذي منه النور غير الذي منه الظلام، وعلى أي فرض من الفرضين، فسيكون هنالك ثالث ورابع، وتبطل الاثنينية كما تبطل أزلية الكونين؛ لأن «الأول» عندئذ لا يصبح «أولا». «هذه أولة في العقل »، أعني بديهية أولية يقبلها العقل بفطرته، ولا تحتاج إلى برهان وما دمنا قد سلمنا بها لزم أيضا أن نسلم بأن لكل شيء طباعه الأصلية الموجودة فيه منذ الأزل، والتي لا تحتاج إلى ردها إلى أصل أسبق منها في الوجود. (ب)
أما إن كان مصدر النور نورا ومصدر الظلام ظلاما، فلا يخلو من أن يكون كل واحد منهما صرف الطبيعة - أي نورا صرفا وظلاما صرفا - أو أن يكون كل واحد منهما مشوب الطبيعة: (1)
فإن كان كل واحد منهما مشوب الطبيعة، كانت طبيعته قد خالطتها طبيعة أخرى غيرها، أي أنه ممزوج، ومزجه أزلي، مع أن المزج يقتضي أن تتحد الطبيعتان بعد أن كانتا متباينتين، فكأننا نقول بهذا إن أزلا قد جاء بعد أزل أسبق منه. وهو تناقض.
18 (2) (لم يذكر جابر تحليل الفرض الثاني، وهو أن يكون النور والظلام غير مشوبين، أي أن يكون النور نورا صرفا والظلام ظلاما صرفا).
الكم
لا يخلو الكونان من أن يكونا:
إما - أ - كليين.
وإما - ب - جزئيين.
وإما - ج - أحدهما كليا والآخر جزئيا.
وإما - د - كل واحد منهما أو أحدهما كليا جزئيا.
وإما - ه - كل واحد منهما أو أحدهما لا كليا ولا جزئيا.
لكنهما: (أ)
إن كانا كليين فلهما أجزاء، وإن كانت لهما أجزاء فلكل جزء أطراف، وإذن فهذه الأجزاء محدودة بحدود، وكل ما كان محدود الأجزاء فهو محدود الكل، والمحدود متناه إلى غيره، وإذن يكون مع الكونين غيرهما، لكننا فرضنا وجودهما وحدهما ولا شيء غيرهما. وهذا محال. (ب)
إن كانا جزأين فلهما كلان، أو كل واحد يجمعهما، وعلى أي الحالتين وجب ما قد وجب في الكل كما بينا في «أ». (ج)
وإن كان أحدهما كليا والآخر جزئيا، ولم يكن ثمة سواهما، فالجزء منهما هو جزء الكل، والكل منهما هو كل للجزء، فهما - إذن - ذات واحدة، أحدهما جزء من الكل، ومتى أفرد الجزء صار ما بقي من الكل جزءا أيضا، فيكون الكل كلا جزءا من جهة واحدة. وهذا محال. (د)
وإن كان كل منهما جزئيا كليا؛ فإما أن يكون ذلك من جهة واحدة، أو من جهتين مختلفتين: (1)
فإن كان من جهتين مختلفتين فهو جزء لما هو أكثر منه، كل لما هو أقل منه، وهذا يجعله لا متناهيا من جهة ومتناهيا من جهة أخرى، كما يجعل هناك لا متناهيا أكثر من لا متناه آخر. وهو محال . (2)
وإن كان ذلك من جهة واحدة، فهو كل وجزء معا. وهذا محال. (ه)
وإن كانا - أو كان أحدهما - لا كليا ولا جزئيا، فقد ثبت جرم لا كل له ولا جزء. وهذا محال.
19
الكمون والظهور
ونختم بهذه الفقرة مختاراتنا من أمثلة الجدل الفلسفي عند جابر بن حيان، وهو كله جدل أراد به إثبات الواحدية وإنكار التعدد؛ فلو كان العالم مشتملا على أجناس كثيرة وأنواع كثيرة، فلا يخلو ذلك من أن يكون:
إما أن بعض الأشياء كامنة في بعضها الآخر؛ كالجنين يكمن في النطفة، والشجرة كامنة في الحبة وهكذا؛ وإما أن يكون ظهور بعض الأجناس إبداعا وخلقا من عدم.
فأما الفرض الأول فيقتضي إنكار وجود الخالق الذي يخلق الكون من عدم؛ لأنه فرض يحيل الأمر إلى تطور يرتد إلى الوراء حلقة بعد حلقة حتى تنتهي إلى طبائع أولية؛ وأما الفرض الثاني فيجعل فاصلا بين سلسلة الكائنات المتطور بعضها من بعض، وبين الخالق الذي أنشأها بعد أن لم تكن. ويحدثنا جابر بأن الرأي الأول هو قول «المنانية»، وأما الرأي الثاني فهو الذي يأخذ هو به ويقيم عليه البرهان، «فأهل الإبداع هم القائلون بالتوحيد، والمبطلون قول المنانية وغيرهم ممن قال بقولهم في كمون بعض الأشياء في بعض.»
20 (3) القديم والمحدث
الله خالق وهو أزلي، والطبيعة مخلوقة وهي حادثة؛ فعلى أية صورة يجوز لنا أن نتصور الصلة بين الخالق والمخلوق؟ بين القديم والمحدث؟ يجيب ابن حيان عن ذلك بما معناه:
21
اعلم أن الكلام في القديم والمحدث - عافاك الله - من أصعب الأمور عند جلة الفلاسفة وقدمائها، ولو قلت إن أكثرهم مات بحسرته لكنت صادقا؛ فأرباب هذا العلم هم أشد الناس تعظيما لعلمهم هذا وصيانة له وحفظا عن غير مستحقه ؛ وإن يكن تحصيله سهلا عليهم يسيرا لديهم؛ لأنهم يدركون الحقيقة بالشهود المباشر، ويفيضون بها فيضا، فلا يحتاجون في ذلك إلى إعمال فكر في إقامة الدليل على ما قد أدركوا، ولا إلى استعمال لفظ في التعبير عما قد أدركوا؛
22
غير أنهم وإن كانوا كذلك في شهودهم للحق وإدراكهم له ، فإن علمهم لا ينتقل إلى سواهم إلا إذا كان هؤلاء في منزلة قريبة من منزلتهم؛ فليس الناس في إدراك الحق سواء، بل منهم من يحتاج لواسطة، ومنهم من يتصل بالحق صلة مباشرة لا واسطة بينه وبينه.
وإذا أدركنا «القديم» استطعنا أن ندرك خصائص المحدث بالاستدلال؛ لأن القديم والمحدث ضدان، والعلم بأحد الضدين هو علم بالضد الآخر؛ فطريق الفكر هو من القديم إلى المحدث، ندرك الأول إدراكا مباشرا ثم نستدل الثاني منه، وليس العكس كما ظن «جهلة المتكلمين» في هذا الباب؛ إذ استدلوا على الغائب (القديم) بالشاهد (المحدث) على بعد ما بينهما؛ فكأنهما استشهدوا بالجزء على وجود الكل برغم ما في هذا المنطق من فساد.
23
إن أخص صفة «للقديم» هو الوجود الذي يستغنى به عن الفاعل، أي أنه وجود بغير موجد؛ وذلك لأنه موجود وجودا أزليا؛ ولو كان موجودا بفعل فاعل لكان هذا الفاعل أسبق منه وجودا، وأي كائن يتقدمه غيره في الوجود يكون محدثا وغير أزلي؛ لكنه إذا كان الوجود صفة من صفات القديم، فهو كذلك صفة من صفات المحدثات؛ بل إن وجود المحدثات ليس عرضا، بل هو وجود بالضرورة أيضا؛ وذلك لأن الآثار تكون شبيهة بمؤثرها، وإذا كان الأمر كذلك، وجب الوجود للمحدث عن وجود القديم، والفرق بين الوجودين هو أن وجود القديم يستغني عن الفاعل، ويكون علة لوجود غيره، وأما وجود المحدث فهو يحتاج إلى فاعل يكون علة لغيره.
ومن خواص القديم أيضا أن تكون جميع المحدثات من فعله وأثره؛ إذ لا بد لجميعها من انتهاء إليه ورجوع إلى كونه علة لها - إما قريبة وإما بعيدة - فليس للقديم سوى هاتين الخاصتين، وهما في الحقيقة واحدة؛ وذلك أن الوجود له هو الصفة التي بها أوجد آثاره، أي أن وجوده تضمن أن يكون علة لوجود المحدثات.
ولما حدثت الطبيعة عن الجوهر الأول - وهو العلة الأولى - حدث عنها شيئان ضدان: هما الحركة والسكون؛ أما الحركة فهي من الطبيعة محيطها، وأما السكون فهو منها المركز؛ لهذا كان بين الحركة والسكون ما بين المحيط والمركز من تباعد وتضاد؛ ولهذا التباين بينهما تباينت صفاتهما؛ فللمحيط الصفاء والخير والحسن والجمال والنور والبهاء، ومن ثم فهو أقرب جوانب الطبيعة إلى الله، والفرق بينهما هو أن الجوهر القديم لم يكن محتاجا إلى الحركة، وأما الكائنات التي هي في محيط الطبيعة فمحتاجة إلى الحركة؛ وإنما تحركت حركتها لمنفعة الإنسان، الذي خلق بطبعه مفتقرا إلى اجتلاب المنافع ودفع المضار؛ ففي الإنسان شهوة ترغب في شيء وتنفر من شيء.
على أن الإنسان يسير بشهوته في أحد طريقين: فإما هي شهوة يشتاق بها أشياء خسيسة، وإما هي شهوة يتطلع بها إلى ما هو صاف رفيع؛ ولكي يجعل الجوهر القديم طريقا مفتوحا أمام شهوة الإنسان أن تتجه إلى الصفاء والخير، فقد جعل في الأفلاك شوقا، حتى يمكن الاتصال بين المتجانسين، وأعني بهما الشوق عند الإنسان والشوق عند الأفلاك، ليتصل الشوق بالشوق، ويغلب أحدهما الآخر؛ لأن في أحدهما حركة وفي الآخر سكونا، والحركة تغلب السكون.
وإذا وصل الإنسان نفسه بالأعلى، بلغ من العلم غايته، «فوحق سيدي إنه لغاية العلم، ولو شئت لبسطته فيما لا آخر له من الكلام؛ ولكن هذه الكتب - يا أخي - معجزات سيدي، وليس - وحقه العظيم - يظفر بما فيها من العلم إلا أخونا؛ فأما من سواه من إخواننا الذين لم ندخر هذا من أجلهم ولا صنفناه لهم، فإنما يظفر منها بما ظهر من علومنا فيها، وصنائعنا التي صنعناها وأودعناها إياها؛ وأما غير هؤلاء من الأضداد والسفلة والأرذال والسفهاء المظلمي النفوس الأقذار العقول فما يزيدهم الله بها إلا عمى وضلالة وجهلا وبلادة ...»
بين العلم والخرافة
(1) فعل الطلاسم
الطلسمات عند جابر علم من العلوم المعترف بها؛ بل إنها لعلم ذو أهمية بالغة؛ لأنه بالطلسم يخرج العالم ما يريد إخراجه من أشياء كانت كوامن، وظهورها مرهون بفعل الطلسم الفعال؛ وإنما يتم فعل الطلسمات عن أحد طريقين؛ فإما عن طريق المماثلة وإما عن طريق المقابلة.
والمماثلة هي مشاكلة الأشياء بعضها إلى بعض؛ كمماثلة الكبريت للنار؛ والمقابلة هي مباينة الأشياء بعضها لبعض، وبعدها عنها ومنافرتها لها ؛ والمثيل إنما يستخدم لاستجلاب مثيله، وأما المقابل فيستخدم لإبعاد مقابله؛ والاستجلاب والإبعاد كلاهما فعل الطلسمات.
والمماثلة والمقابلة تكونان في طبائع الأشياء الأولية: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فالحرارة تماثلها حرارة وتقابلها برودة، واليبوسة تماثلها يبوسة وتقابلها رطوبة؛ وليست هذه الطبائع الأربع من منزلة واحدة، بل إن منها اثنتين فاعلتين هما: الحرارة والبرودة، واثنتين منفعلتين هما: اليبوسة والرطوبة؛ وذلك لأن الحرارة أسبق منطقيا من اليبوسة، والبرودة أسبق منطقيا من الرطوبة.
فالمماثلة بين الأشياء تكون على مرتبتين: (1)
مماثلة في الكيفيتين الفاعلتين، وهي أقوى من المماثلة التي تكون في الكيفيتين المنفعلتين؛ أي أنه لو كان عندنا شيئان: أحدهما حار يابس والآخر حار رطب، كان هذان الشيئان متماثلين في الحرارة، وهي كيفية فاعلة؛ ولذلك فالتماثل بينهما أقوى مما يكون بين شيئين: أحدهما حار يابس والآخر بارد يابس؛ إذ المماثلة هنا تكون في اليبوسة التي هي كيفية منفعلة. (2)
الأشياء التي تتماثل بالطرفين معا - الفاعل والمنفعل - أقوى مماثلة من الأشياء التي تتماثل بطرف واحد؛ فالنسبة بين شيئين أحدهما حار يابس والآخر حار يابس كذلك، هي أوثق عرى وأمكن صلة من النسبة بين شيئين: أحدهما حار يابس والآخر حار رطب، ومن النسبة بين شيئين آخرين: أحدهما حار يابس والآخر بارد يابس.
وكذلك قل في المقابلة، فهي أيضا على مرتبتين: (1)
فالأشياء التي تتقابل بالكيفية الفاعلة أقوى مباينة من الأشياء التي تتقابل بالكيفية المنفعلة؛ فالتباين بين الحار اليابس والبارد اليابس أشد وأقوى وأمكن من التباين بين الحار اليابس والحار الرطب. (2)
والأشياء التي تتقابل بالطرفين معا، يكون التباين بينها أقوى وأمكن من الناحية التي تتقابل بطرف واحد؛ فالتباين بين شيئين: أحدهما حار يابس والآخر بارد رطب، أبعد من التباين الذي يكون بين الحار اليابس من جهة والبارد اليابس من جهة أخرى، أو بين الحار اليابس من جهة والحار الرطب من جهة أخرى.
1
قلنا إن الطلسمات يكون فعلها إما استجلابا واستكثارا لما يراد استجلابه واستكثاره، وإما نفيا وإبعادا لما يراد نفيه وإبعاده.
وطريق الاستجلاب هو المماثلة، وطريق الإبعاد هو المقابلة؛ فإذا أردت استجلاب شيء؛ كالعقارب والحيات والضفادع والسمك والناس والوحوش، كان عليك أن تماثل بين صفة الشيء المطلوب وبين الكواكب والبروج، وأما إذا أردت أن تبعد شيئا كأن تطرد عن مدينة ما كل ما فيها من عقارب أو حيات أو ضفادع ... إلخ، كان عليك أن تباين بين الشيء المراد إبعاده وبين الكواكب والبروج؛ فللكواكب والبروج طبائع أسلفناها لك في حينها،
2
وكذلك لكل شيء طبائعه، وإنما تكون المماثلة والمباينة بين هذه الطبائع وتلك، إما مباشرة وإما بوساطة عقار يعد لذلك.
فالمماثلة بين البروج تكون بين أولها وخامسها وتاسعها وهكذا على الصور الآتية: (1) الحمل (5) الأسد (9) القوس ...
حارة يابسة (2) الثور (6) السنبلة (10) الجدي ...
باردة يابسة (3) الجوزاء (7) الميزان (11) الدلو ...
حارة رطبة (4) السرطان (8) العقرب (12) الحوت ...
باردة رطبة
والمقابلة بين البروج تكون بين أولها وسابعها، وثانيها وثامنها، وهكذا، على الصورة الآتية:
الحمل ضد الميزان.
الثور ضد العقرب.
الجوزاء ضد القوس.
السرطان ضد الجدي.
الأسد ضد الدلو.
السنبلة ضد الحوت.
ونسوق فيما يلي أمثلة للمماثلة والمقابلة: (أ)
المماثلة: (1)
تريد استجلاب الأسد إلى مدينة من المدن، فليكن الرصد إلى برج حار يابس، ويكون في ذلك البرج نجم حار يابس كذلك؛ والبروج الحارة اليابسة هي - كما قدمنا - الحمل والأسد والقوس، والكواكب الحارة اليابسة هي: الشمس والمريخ والزهرة وعطارد. (2)
تريد استجلاب السمك إلى ماء في مكان معين؛ فالرصد عندئذ يكون إلى برج بارد رطب، ويكون في ذلك البرج نجم بارد رطب ...
ويضاف إلى فعل البروج والكواكب أدوية تؤخذ إما من الحيوان وإما من النبات وإما من الحجر، لكن المأخوذة من الحيوان والنبات تجف وتتحول فيبطل عملها، وأما المأخوذة من الحجر فثابتة؛ فعلينا أن نختار الحجر الذي يناسب طبعه طبع البروج والكواكب من حرارة ويبوسة وبرودة ورطوبة. (ب)
المقابلة: (1)
تريد أن تطرد العقارب من موضع ما، فما دامت العقارب باردة الطبع، فيجب أن يكون الرصد إلى برج حار وإلى كوكب حار، وأن يكون الدواء المستخدم من حجر حار. (2)
تريد أن تطرد الأفاعي، والأفاعي حارة، فيجب أن يكون البرج باردا والكوكب باردا والحجر الذي تأخذ منه الدواء باردا.
3
هكذا «تسلط» على الشيء المستجلب ما يماثله فيظهر، وعلى الشيء المبعد ما يقابله فيختفي.
وهنا نذكر قصة طريفة يرويها جابر مفسرا بها كلمة «طلسم» كيف جاءت؟
قال جابر يروي عن شيخ له: «... قال: يا جابر! فقلت: لبيك يا مولاي؛ فقال: أتدري لم يسمى الطلسم طلسما؟ قلت: لا والله يا مولاي ما أدري؛ فقال: فكر فيه، فإنه من علمك؛ ففكرت فيه سنة فلم أعلم ما هو؛ فقلت: لا والله يا مولاي، ما أدري ما هو. فقال: لولا أني غرستك بيدي وأنشأتك أولا وآخرا إلى وقت هذا، لقلت إنك مظلم؛ ويلك اقلبه! فقلت: نعم يا مولاي، فإذا معناه مسلط من جهة الغلبة والتسليط؛ فخررت ساجدا، فقال: لو كان سجودك لي - وجدك - لكنت من الفائزين؛ قد سجد لي آباؤك الأولون؛ وسجودك لي يا جابر سجودك لنفسك؛ أنت والله فوق ذلك. فخررت ساجدا، فقال: يا جابر، والله ما تحتاج إلى هذا كله، فقلت: صدقت يا مولاي، فقال: قد علمنا ما أردت، وعلمت ما أردت ... فاشرح هذا في كتابي إخراج ما في القوة إلى الفعل؛ فالطلسم - عافاك الله - مسلط في فعله، قاهر غالب بموازاة المماثلة والمقابلة.»
4 (2) طبيب البحر
ذلك ما يقوله جابر في الطلسمات وكأنما ليس هو جابرا الكيموي العالم المدقق في مشاهداته وتجاربه؛ فانظر إلى قصة أخرى يرويها جابر في الطب والعلاج:
زعم بعضهم أن حيوانا في البحر، جبهته من حجر أصفر؛ فإذا صيد ذلك الحيوان - وهو على خلقة الإنسان - وذبحه ذابح وأخذ من الحجر الذي في جبهته قيراطا فألقاه على عشرة أرطال قمرا، قلبه شمسا ... وهذا الحيوان يعرف بطبيب البحر؛ وذلك أنه إذا مرض كائن حي، وجئناه بذلك الحيوان البحري فمسحنا على موضع العلة منه مرتين أو ثلاثا بالحجر الذي في جبهته، عرق المريض وبرئ من مرضه وعاد سليما؛ ولقد عرف عن «طبيب البحر» أنه إذا صيد، لبث يلتمس الوسيلة التي تعيده إلى الماء ... ولقد رأيت قوما من البحرانيين الملججين العلماء، وسألتهم عن «طبيب البحر» فإذا أمره أشهر مما كنت أظن؛ وضمنوا إلي أن يروني إياه؛ فلما أن لججنا في البحر وصلنا إلى جزيرة تدعى سنديات، إذا نحن بجماعة من «أطباء البحر» فقلت: اعملوا الحيلة في صيد واحد منها؛ وألقينا الشبكة، وحصرناهم، فوقع واحد منهم فيها؛ فلما لم يجد لنفسه مخلصا، جعل يلطم - كلطم المرأة - على خديه شديدا، وتبينت جبهته، فإذا هي حجر يلمع، فأخذته، فإذا هي جارية حسناء، كأحسن ما يكون من الصور؛ فبنيت له بيتا في المركب وحبسته فيه؛ وعرض لبعض أهل المركب تشنج، فأخرجته - أي طبيب البحر - ومررت به على ذراعي المتشنج وساقيه، فأبرأه لوقته؛ ورآه غلام معي، فعشقه، ولم يزل يلح فيه، إلى أن خفت عليه الهلكة منه؛ فجعلته معه في البيت، فصبر الغلام معها على ذلك، وزواجها، وأحبلها، فولدت غلاما، وتربى، إلا أن خلقته كخلقة الإنسان؛ وفي جبهته شيء يلمع، ليس كالأم؛ فلم أر شيئا قط أعجب من أمره، فلما أن كبر الصبي ورأيت ميل الأم إليه ميلا عظيما، وهي مع ذلك لا تتكلم مع طول المدة بكلمة واحدة أكثر من الهمهمة شيئا لا صوت له إلا خفي جدا، أمنا أن ترمي بنفسها في الماء؛ فجعلت تدخل وتخرج، وللمركب جوانب عالية ليس تلحق أن تظفر منها؛ فلم تزل تؤانسنا وترتقي من موضع إلى موضع، حتى إذا وثقت بأنا أمناها صعدت ورمت بنفسها في الماء، فجزع الغلام - زوجها - عليها، فأخذ الغلام ابنه معه، وهو مع ذلك لا يتكلم؛ فلما أن سرنا بعد ذلك، وقعنا في شدة عظيمة لا فرجة لها فإذا نحن بالطبيب - طبيب البحر - جالس على الماء، ليس منه شيء غائصا؛ وإذا هي تومئ بالسلام، فأومأ الناس إليها كلهم؛ وأقبل القوم يقولون لها: ما الحيلة؟ وقوم يدعون ، وقوم يبكون، وكل قوم في فن من الفنون؛ فأومأت إليهم بشيء من الأشياء، فإذا الغلمان قد ألقوا الأناجر، وإذا الأناجر لا تثبت، إلى أن ثبت منها ثلاثة أناجر؛ وإذا البحر قد انقلب، وإذا هي سمكة قد فتحت فمها والماء يدخل إليها كأعظم ما يكون من البحار؛ وإذا نحن قد توهمنا أن شق فمها الأعلى جبل عظيم في البحر، قد أخذ البحر من أوله إلى آخره، فلم نشك حين رأيناها أنها تطبق فمها علينا فنكون في بعض أضراسها إلى أن كفى الله تعالى، ثم انفلت الصبي فوقع إلى الماء، فلما أن كان من غد، ظهر، فإذا جبهته قد صارت حجرا؛ فلم أزل إلى أن صدت من الأطباء ثلاثة، فأخذت جبهة واحد وألقيته، فنظرت إلى صبغه، ففكرت حينئذ في قدرة البارئ عز وجل كيف عدل هذا الموضع من هذا الحيوان بما لما يمكن أحدا من الناس، أو كلهم لو اجتمعوا على ذلك ما قدروا عليه؛ فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فناديت أن لا إله إلا أنت سبحانك؛ ربنا وتعاليت عما يقول المبطلون.
5 (3) ابتهال العلماء
أتريد أن تكون باحثا عالما؟ إذن فهاك وصية يراها جابر كبيرة النفع للسالكين في سبيل العلم، علم الموازين وتركيب الطبائع على الجوهر تركيبا من شأنه أن ينتج لنا كل ما أردناه من كائنات. يقول جابر في ذلك:
إني كنت آلفت سيدي
6 - صلوات الله عليه - كثيرا، وكنت لهجا بالأدعية وبخاصة ما كان يدعو به الفلاسفة، وكنت أعرضه عليه، وكان منها ما استحسنه، ومنها ما يقول عنه: الناس كلهم يدعون بهذا وليس فيه خاصية؛ فلما أكثرت عليه علمني هذا الدعاء، وهو من جنس دعاء الفلاسفة، بل إنه لا فرق بينه وبين ما يدعو به الفلاسفة، غير أنه قد اختار من دعاء الفلاسفة أجزاء، وأضاف إليه أجزاء، وقال لي: لا يتم لك الأمر إلا به. وعندي أنه لا يتم لأحد ممن قرأ كتبي خاصة إلا به، إن أزال صورة الشيطان عن قلبه وترك اللجاج واستعمل محض الإسلام والدين والنية الجميلة، وأما ما دام الشيطان يلعب به، ويزله قصدا، فليس ينفعه شيء؛ وذلك أن اللجاج ليس هو من الشيطان وحده، إنما هو من فساد النية، فاتق الله يا هذا في نفسك، واعمد إلى ما أوصيك به ... وهذه هي الوصية:
ابدأ بالطهر؛ بأن تفيض على بدنك ماء نظيفا في موضع نظيف؛ ثم تلبس ثيابا طاهرة نظيفة، لا تمسها امرأة حائض، ثم تستخير الله ألف مرة، وتقول في استخارتك: «اللهم إني أستخيرك في قصدي، فوفقني وأزغ الشيطان عني، إنك تقدر عليه ولا يقدر عليك.» فإذا قلت ذلك ألف مرة، عمدت إلى موضع طاهر نظيف، وابتدأت فكبرت الله وقرأت الحمد، و«قل هو الله أحد» مائة مرة، وركعت وسجدت، ثم قمت وصليت مثل ذلك، ثم تشهدت وسلمت، ثم قرأت في الركعتين الثانيتين مائة مرة «إذا جاء نصر الله والفتح»، وإذا سلمت أعدت مثل الركعتين الأوليين، وقرأت «قل هو الله أحد» مائة مرة، ثم أعدت اثنتين أخرى ب «إذا جاء نصر الله والفتح»، ثم صليت ركعتين أخريين، وهما تمام العشر، وقرأت سورة سورة، ثم أتممت صلاتك؛ وإياك أن تكلم أحدا في خلال ذلك، ويشغلك شاغل؛ وأحرى المواضع بك الصحاري الخالية حتى لا يكلمك أحد البتة، ثم اجلس وقل بعد أن تمد يديك إلى الله تعالى: «اللهم إني قد مددتهما إليك طالبا مرضاتك، وأسألك ألا تردهما خائبتين؛ وتبدأ وتقول: اللهم أنت أنت، يا من هو هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، اللهم أنت خالق الكل، اللهم أنت خالق العقل، اللهم أنت واهب النفس النفسانية، اللهم أنت خالق العلة، اللهم أنت خالق الروح، اللهم أنت قبل الزمان والمكان وخالقهما، اللهم أنت فاعل الخلق بالحركة والسكون وخالقهما، اللهم إني قصدتك فتفضل علي بموهبة العقل الرصين، وإرشادي في مسلكي إلى الصراط المستقيم، اللهم بك، فلا شيء أعظم منك، نور قلبي وأوضح لي سبيل القصد إلى مرضاتك، اللهم إني قصدتك ونازعتني نفساي: نفسي النفسانية نازعتني إليك، ونفسي الحيوانية نازعتني إلى طلب الدنيا، اللهم فيك، لا أعظم منك، يا فاعل الكل، صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى آله وأصحابه المنتخبين، واهد نفسي النفسانية إلى ما أنت أعلم به من مرادها منها، وبلغ نفسي الحيوانية منك غاية آمالها فتكون عندك، إذا بلغتها ذلك فقد بلغتها الدنيا والآخرة، إنه سهل عليك؛ اللهم إني أعلم أنك لا تخاف خللا ولا نقصانا يوهنك برحمتك وكرمك، هب لي ما سألتك من الدنيا والآخرة؛ اللهم يا واهب الكل فاجعل ذلك في مرضاتك ولا تجعله فيما يسخطك؛ اللهم واجعل ما يرزقني عونا على أداء حقوقك وشاهدا لي عندك، ولا تجعله شاهدا علي ولا عونا على طلب ما يعرضك عني؛ اللهم يا خالق الكل أنت خلقت قلبي، وأنت خلقت الشيطان ولعنته بما استحقه وأمرتنا أن نلعنه، فاصرفه عن قلب وليك أنت، وأعني على ما أقصد له من كيت وكيت - واذكر حاجتك في هذا الموضع - فإذا فرغت من سائر ما تريده فعفر خديك على الأرض، ثم قل في تعفيرك: خضع وجهي الذليل الفاني لوجهك العزيز الباقي، قله عشر مرات، ثم اجلس مليا، وقم فتوجه وكبر واقرأ الحمد وسورة ألم نشرح لك صدرك، واقرأها في الركعة الثانية، فإذا سلمت قل: يا سيدي، ما اهتديت إلا بك ولا علمت إلا بك ولا قصدت إلا إليك، ولا أقصد ولا أرجو غيرك؛ اللهم لا تضيع زمام قصدي ورجائي لك، إنك لا تضيع أجر المحسنين، وإنك تقضي ولا يقضى عليك، قد وعدت الصابرين خير الجزاء فيك، ولأصبرن بك لما خففت عني وصبرتني على امتحانك؛ اللهم قد وعدت بعد العسر يسرا، اللهم فامح أوقات العسر واجعلها زيادة في أوقات اليسر، واجعل ذلك حظا من الدنيا وحظوظا من الآخرة؛ اللهم إن وسيلتي إليك محمد وصفوة أهل بيته، آمين آمين آمين.»
قال سيدي لي في ذلك: إن الله عز وجل أكرم من أن يتوسل إليه إنسان بنبيه فيرده خائبا؛ فإذا تممت ذلك فصدق في أثره درهمين وثلثين، واجعله أربعة أقسام، كل قسم أربعة دوانيق؛ فأول من يلقاك ممن يقبل الصدقة فأعطه قسما، وكذلك الثاني والثالث والرابع، فإن الله تعالى يحمدك العاقبة في سائر أمورك، ويزجر الشيطان عن وجهك، واقصد لما أنت تشتهيه، فإنك ترى فيه الرشد ... ويرزقك الله قريبا إن شاء الله.
Unknown page