اللعبة القادمة
الحقيقة أني لا أكاد أصدق ما حدث في عالمنا العربي خلال الشهور القليلة الماضية. ثلاث ثورات في أقل من نصف عام، ثلاث ثورات زلزلت حكومات واقتلعت أنظمة وغيرت في مجرى التاريخ، وكل هذا في أقل من نصف عام؟! إنها حقائق لا تكاد تصدق، أحقا تحررت بغداد وسقطت عنها القيود؟ أحقا أخرست أصوات الضلال في دمشق إلى الأبد وارتفع صوتها ينادي القاهرة والجزائر وبغداد وصنعاء؟ أحقا انتصرت الثورة في اليمن رغم كل جحافل الظلام؟!
إنها ليست أعيادا جماعية شعبية فقط، ولكنها أعياد شخصية خاصة لكل عربي. امش في الشوارع، اركب القطارات، تنقل بين تعز وكربلاء ودير الزور ووهران والكويت والأقصر وحدق في كل عين تجد الغبطة والسعادة، بل اذهب إلى عمان ذاتها وعاصمة سعود ونجران تجد الفرحة أيضا والأمل، الأمل في الخلاص. أخيرا جدا أصبحت أحلام العرب قاب قوسين أو أدنى من التحقيق. أخيرا جدا تحررت معظم الدول العربية كبلاد لتثبت وجودها كأمة واحدة موحدة. كل الأماني التي طال عليها الكبت في الصدور. كل ساعات الألم ولحظات الهزيمة والنكسة وسني الاحتمال، كلها آن لها تتبلور وتتجسد وتصبح حقيقة هائلة رائعة أجمل من كل واقع عشناه وأرحب من كل أمل تصورناه.
ولكن.
ولكنني لا أريد، ولا أرجو لأحد أن يسكر بخمر الانتصار. العكس بالضبط هو ما أريد؛ اليقظة والحذر والوعي هي الشعارات. إن جراب الاستعمار لم تفرغ منه الحيل بعد، والأسطول الإنجليزي لا يزال «يزور» بيروت، وأعداؤنا أقوياء أذكياء خبيثون جدا يعرفون منا كل نقط الضعف وينتهزون الفرصة ويضربون.
وأعداؤنا اليوم - الاستعمار وإسرائيل - إن كانوا في ورطة وأزمة فلن يظلوا هكذا في الغد، إنهم من الآن يجهزون ويحضرون وفقط ينتظرون أن تحين اللحظة.
فما هي اللعبة القذرة التالية يا ترى؟
إننا بقليل جدا من التفكير نستطيع إدراكها، وبقليل من الجهد نستطيع إحباطها. لقد قطع جمال عبد الناصر على الاستعمار الطريق وحكاية أن يلعبوا بورقة التناقض وإذكاء اللهيب بين القاهرة وبغداد.
ولكن، من يستمع إلى لندن وإسرائيل، ومن يتأمل التعليقات، يستطيع حتى لو كان متوسط الذكاء أن يدرك أنهم يستعدون منذ الآن للعب بورقة أخرى، بتناقض يخلقه ويزعمه يوقع على أمل أن ينقلب كل هذا إلى عداء ذات يوم وحرب.
إنني لا أريد وسط الفرحة الشعبية الكبرى أن أقوم بدور النذير، ولكنني أريد أن أقول إن المعركة لم تنته بعد، وإننا لا نزال محاطين بالأعداء، بل في قلبنا أعداء، وإن فرحتنا لا تمنع من أن نحذر وأن نعي وأن ندرك.
Unknown page