تذكرت هذه الأسطورة وأنا أتابع هبوط القوات البريطانية على أرض الكويت كما نقلته بعثة التليفزيون العربي. لأول مرة أحس أن الكاميرا يمكن أن تتحول في اليد الماهرة إلى سلاح أشد فاعلية من القلم ، ومن السيف أحيانا؛ فالحقيقة أني ظللت أتأمل العساكر البريطانيين الهابطين إلى الأرض العربية، وتتداعى في نفسي آلاف المعاني، وأسترجع الذكريات. إن لهم نفس أردية الإنجليز ودباباتهم ومدافعهم، ولكن شتان، شتان بين إحساسنا بهم أيام الحرب الثانية وأيام كانوا يحتلون أرضنا وإحساسنا بهم الآن. أبدا لم يعد لهم وقع القوة القاهرة المحتلة. لأول مرة أحس بهم جنودا في جيش مرتزق لا يدافع عن إمبراطورية أو وطن أو عدالة وإنما يسفح دمه وبالأجر دفاعا عن شركات وأصحاب شركات. ما أخيبه من هدف! والعساكر أنفسهم. لقد رحت أعجب، أهذا هو الجيش الذي يدوخ الشعوب ويسجن كينياتا ويلقي الرعب في مساحات شاسعة من أراضي المستعمرات وغير المستعمرات. إنهم حفنة من الصبية، من الجيل الإنجليزي الجديد، شبان صغار يمضغون اللبان وتحس لهم بنعومة ورقة النساء. ما لهؤلاء وللصحراء وللرمال؟! جيل جديد شقي بنفسه وبالظلم الذي يدافع عنه دفاع الحق، وبالبترول الذي يموت من أجله ولا يهمه في قليل أو كثير. لقد خيل إلي أنه لو قدر لفارس عربي، على حصان حتى، أو برمح، أن يخرج عليهم من قلب الصحراء ويصرخ فيهم، مجرد صراخ، لولوا الأدبار.
اللهم إنها لشماتة؛ فلقد عشنا حتى رأينا جيش الإمبراطورية بلا إمبراطورية أو هيلمان، بلا أعلام أو إطار ضخم يحيط به، بلا شنة أو رنة أو اسم يدوي: جنود الملكة! فجنود الملكة ها هم نراهم عرايا لاهثين مذعورين، شبانا صغارا يلهون بالسلاح بلا إحساس بالسلاح، بل حتى برغبة ملحة أن يلقوه أو يبيعوه أو يقايضوا عليه بمثلجات أو بقطع لبان.
ومع هذا فهناك بلاد لا تزال تتم فيها عملية التناسخ الاستعماري، وللإنجليزي فيها مندوب سام وسفراء فوق العادة وكأن كل شيء لا يزال كما كان، والهيلمان هو الهيلمان. لقد انتهى الإنجليز أيها السادة وما ترونه ليس سوى خيال المقاتة والميت الواقف وسليمان الذي لا تسنده سوى عصاه، وحتى عصاه انقرضت وسقط، من خمس سنوات، السقطة التي لا قيامة له بعدها، والبركة في جمال عبد الناصر، والبركة في بورسعيد.
إني لفرحي لا أكاد أصدق أن هذا كله حدث، وأننا نحن الذين أسقطنا الإمبراطورية بجرة معركة واحدة، جثة لا حراك بها؛ فليست حركاتها الآن سوى حركات ميت، ليس مبعثها عودة الحياة إليها، ولكن مبعثها الشمس الساطعة اللافحة التي غربت عنها وأشرقت علينا، شمس لا تملك معها حتى وهي في ميتتها إلا أن تتململ وتتلظى.
الشعر والبوتاجاز
لثالث مرة أعيد قراءة الديوان والديوان للشاعر العربي الكبير رغم سنه الصغير صلاح عبد الصبور، والديوان مطبوع في بيروت؛ لأن القاهرة لم يعد بها دار نشر واحدة تقبل أن تجازف بنشر الشعر. وكأن الناس في بلادنا لم يعودوا في حاجة إلى هذا اللون من ألوان الفن، ولكنها للأسف الحقيقة. في الخارج يضعون دواوين الشعراء جنبا إلى جنب مع الأناجيل في كل بيت، وهنا تجد المنزل عامرا باسم الله ما شاء الله بالصالون الذي لا يستعمله أحد، وبأدوات المائدة والمطبخ الأنيقة الغالية والصواني الفضة، ولن تجد فيه كتابا واحدا عدا الكتب المدرسية التي يستخدمها الأولاد، بله ديوان شعر. الناس هنا مشغولون بالمظهر، باللهث وراء الفريجيدير والبوتاجاز والتمتع بمباهج الحياة و«الفرجة» على الأفلام وأنواع الفن التي لا تكلف صاحبها مشقة أكثر من مشقة الاستلقاء المريح و«استقبال» النكتة، وربما لهذا لا أحد يريد الشعر؛ فالشعر يثير الشجن والفكر والخيال، وهي مناطق داخلية لا يراها أحد ولهذا لا يهتم أحد بسترها أو إضاءتها. هم جميعا يهتمون بجلودهم الظاهرة يبحثون لها عن أكثر الجوارب أناقة، أما الرءوس والصدور والأعماق فما الحاجة إلى الإنفاق عليها، وعريها في مجتمعنا لا يعد عورة ولا يسخر منه أحد.
وما أكثر ما رأيت بعض هؤلاء الناس؛ اللاهثين وراء الكرفتات الأنيقة والجوارب، ما أكثر ما رأيتهم إذا ابتعدوا عن الآخرين وانفردوا بأنفسهم ومكنون إحساسهم، حزانى، واجمين، لا حول لهم ولا قوة، أعماقهم سوداء كظلام الليل لا يضيئه شعاع من نور، وأرواحهم من الداخل عاجزة عن أن ترى أو تتأمل أو تفكر. إنهم رجال كبار، وسيدات يرتدين أكثر الأزياء أناقة، ولكنهم من الداخل مراهقون وقاصرون من الداخل ، أطفال جهلة لم يتعلموا حكمة الحياة ولا أنضج نفوسهم فن أو ثقافة؛ ولهذا رغم كل المظهر العظيم والفريجيدير والبوتاجاز يظلون حزانى، حزن الأعمى في عالم يرى بالميكروسكوب والتلسكوب. ورغم الطعام الجيد والحلوى لا ينقشع ما يعشش في نفوسهم من ظلام؛ فهو ظلام لا يذهب به إلا الفكر والشعر والتثقيف.
إن الشاعر لم يوجد في المجتمع البشري عبثا. لقد أوجدته الجماعة ليكون لها قرن الاستشعار، لينمي لديها الخيال، ليقول ما يصبح به الإنسان أكثر إنسانية، ويحيل به نوازع الحيوان إلى أرقى نوازع البشر، ليصبح به الرجل أقوى من كل ما حوله، أقوى من العقبات والمشاكل، لينغم خطوات القوم، ليحدو القافلة، ليظل الركب ماضيا في روعة وانتصار.
إني أقترح على كل أولئك الملهوفين لتدبير القسط وتجميل المطابخ بأدوات حديثة، أقترح عليهم أن يغامروا مرة ويقوموا بحماقة بشرية لن تكلفهم غير قروش لا تعادل ثمن «طاسة» أو فردة جورب؛ مغامرة يشتري فيها أحدهم ديوان شعر، أو كتابا، أي كتاب، يذهب إلى المكتبة، ويتفرج وينتقي، ثم يشتري كتابا واحدا فقط وحبذا لو كان ديوان شعر. إني لواثق أنه بعد قراءته سيصبح حتى من هذه الناحية، أكثر قدرة على الكسب وعلى شراء «الطاسة» وإكمال ثمن النجفة.
وليعتبر الصديق محمد بشير مدير شركة الإعلانات والأخ عبد الحميد حمروش أن ما سبق إعلان سافر عن الشعر وكتب الشعر؛ إذ ماذا أفعل وقد وصلنا إلى حد أصبح من الواجب علينا فيه أن نعلن عن الشعر وفوائد الشعر ليقرأه الناس، حقيقة، ماذا نفعل؟!
Unknown page