المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فهذه هي السلسلة الرابعة من "السلسلة السلفية للرسائل والكتب النجدية" أُقدمها لإخواني طلبة العلم المحبين للسُّنَّة وأهلها. وتتمثل هذه
1 / 5
السلسلة في رسالة للإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رد بها على عبد اللطيف الصحاف - أحد المناوئين للدعوة السلفية.
بين الإمام المبجل، والشيخ الجليل المفضل عبد اللطيف بن عبد الرحمن- ﵀ – في هذه الرسالة الموجزة، ضلال الصحاف، ومخالفته لمنهج الأنبياء والمرسلين، وذلك بالقول الساطع، والبرهان القاطع.
فبين – ﵀ – معنى "لا إله إلا الله"، وماذا تقتضي، وتكلم عن التكفير، وأنواعه، وحكم كل منها. فتكلم عن حكم التكفير إذا صدر من متأَوِّل مخطئ ممن يسوغ له التأويل.
وعن حكمه إذا صدر ممن يستند في تكفيره إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
وعن حكمه إذا صدر من أعداء الله ورسوله أهل الإشراك والإلحاد في أسمائه وصفاته.
وعن حكمه إذا صدر لمجرد عداوة أو هوى أو لمخالفة لمذهب.
وعن حكمه إذا كان فيما دون الشرك من الذنوب كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر.
ثم بين – ﵀ – الكفر المنافي لكلمة التوحيد، وأن كلمة التوحيد وحدها لا تعصم صاحبها.
وأبان المؤلف – ﵀ – في ثنايا هذه الرسالة عن حكم بعض الأحاديث، والذكر المشروع، وحكم السماع، وفتنة المبتدعة بمشايخهم وعلمائهم.
1 / 6
(ويا لله كم في هذه الرسالة من الأصول الأصيلة والمباحث الجليلة التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها، وأن له من الميراث النبوي الحظ الأوفر، وأن ينابيع علومه تتفجر من ذلك البحر الزاخر) (١) .
(وقد موه هذا) الصحاف الجاهل (بهذه السفسطة والجعجعة، وهرقع بهذه المخرقة والقعقعة، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم، كلا والله إن الليث مفترش على براثنه لحماية حمى التوحيد وقاطنه، فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي، ويهدم منه الرعان الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة، فرحمه الله من إمام جهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها، وأوقد منها للورى نبراسها، وسقى علالا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها، وأينعت بحمد الله ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد.
إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها
فبلوا الصدى من صفوها وتضلعوا ... وضعضع من تيارهن مهينها
كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها
فضعضعها بالرد والهد جهبذ ... وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها
وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى منونها
فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها
_________
(١) "مجموعة الرسائل والمسائل": (٣/١٨٦) .
1 / 7
وجلى ظلام الجهل بالعلم مدحضا ... ضلالات كفر غثها وسمينها
وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمري للبرية دينها
وقد سمعت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها
ورد على من رد سنة أحمد ... ورام سفاهًا بالهوى أن يشينها
وختاما أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي إمامنا الشيخ عبد اللطيف خير الجزاء، وأن يرفع درجاته في عليين، وأن يجعل ما نقوم من خدمة نشر علم أهل السنة خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز بجنات النعيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
"الرياض" – ٨/١٠/١٤١٤هـ
_________
(١) "مجموعة الرسائل والمسائل": (٣/٢٣٩) .
1 / 8
الإتحاف فى الرد على الصحاف
ترجمة موجزة للمؤلف
اسمه ونسبه:
هو الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام، البحر الفهامة، والفاضل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵏ بمنه وكرمه.
مولده:
ولد سنة ١٢٢٥هـ في بلدة العلم والعلماء: الدرعية.
حياته:
نقل الشيخ عبد اللطيف مع والده آنذاك إلى مصر، إثر الدمار الذي أصاب الدرعية، على يد الهالك إبراهيم بن محمد علي باشا عليه من الله ما يستحق، وكان عمره قرابة الثمان سنوات ونشأ بمصر وتزوج بها، وتمكن من الاشتغال بطلب العلم، والتزود منه، ثم بعد ذلك خرج إلى نجد وذلك في سنة ١٢٦٤هـ، وقدم مدينة الرياض واستقر فيها بضعة أشهر درس فيها بعض الدروس، ثم انتقل بعد ذلك إلى الأحساء معلما وداعيا، ومكث فيها فترة من الزمن، ثم عاد إلى الرياض مرة أخرى.
شيوخه:
قد علم فيما سبق أن الشيخ ﵀ مكث في مصر مدة من الزمن، درس فيها على عدد من المشايخ فمنهم:
١ - والده الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن.
1 / 9
٢ - والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
٣ - والشيخ العلامة محمد بن محمود بن محمد الجزائري.
٤ - والشيخ إبراهيم الباجوري. وغيرهم.
تلاميذه:
تتلمذ على يد الشيخ عدد من التلاميذ منهم:
١ - تلميذه الشيخ العلامة "حسان السنة" الشيخ سليمان بن سحمان.
٢ - وابنه العلامة الشيخ عبد الله.
٣ - وأخوه الشيخ إسحاق، وغيرهم.
مؤلفاته:
توفي الشيخ - رحمه الله تعالى - وترك لنا العديد من المؤلفات منها:
١ - "مصباح الظلام في الرد على من افترى على الشيخ الإمام"
٢ - "منهاج التأسيس"
٣ - "رد على الشبهات الفارسية"
٤ - "الرد على الصحاف"، وهو كتابنا هذا الذي نحن بصدد تحقيقه.
٥ - العديد من الرسائل التي قد جمعها تلميذه النحرير العلامة سحمان بن سحمان ﵀.
وفاته:
توفي ﵀ في مدينة الرياض في اليوم الرابع عشر من شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٣هـ ﵀ رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى.
1 / 10
التعريف بالنسخ الخطية
توفر لدي عند الشروع في تحقيق هذه الرسالة ثلاث نسخ، وهي:
النسخة الأولى:
* نسخة خطية كاملة، حصلت عليها من مكتبة الرياض السعودية.
* وتقع تحت رقم: (٣٥٩/٨٦) .
* وعدد صفحاتها: تسع عشرة صفحة.
* ومسطرتها: ٢٣ سطرا.
* وتاريخ نسخها: في شهر ربيع الآخر بعد مضي أحد عشر يوما منه، سنة ١٣١١هـ.
* ولم يكتب على هذه النسخة اسم ناسخها، والذي يظهر لي - والله أعلم - أن ناسخها هو الشيخ سليمان بن سحمان.
* ورمزت لها بحرف"أ".
النسخة الثانية:
* مطبوعة ضمن كتاب "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" في (٣/٤٣٠) .
* وتقع في اثنتين وعشرين صفحة.
* وقام بنسخها الشيخ صالح بن سليمان بن سحمان ﵀.
* وتاريخ نسخها سنة ١٣٣٨هـ في شهر ربيع الآخر.
* ورمزت لها بحرف "ب".
1 / 11
النسخة الثالثة:
* مطبوعة ضمن "الدرر السنية" لابن قاسم في (٩/٤٠٤-٤١٧) .
* وتقع في ثلاث عشرة صفحة.
* ورمزت لها بحرف "ج".
1 / 12
توثيق نسبة الرسالة إلى مؤلفها
تأكد لنا نسبة الرسالة إلى المؤلف بالآتي:
١ - ما كتب في آخر النسخة "ب": "أملاه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب..".
٢ - ما كتبه الشيخ سليمان بن سحمان في تقديمه للرسالة فقد قال: ".. للشيخ الإمام والحبر الهمام قدوة الأنام، الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀ في الرد على عبد اللطيف الصحاف نزيل البحرين..".
٣ - أن مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد"، ومؤلف كتاب " علماء نجد خلال ستة قرون" قد ذكرا هذا الرد من ضمن مؤلفات الإمام عبد اللطيف.
٤ - أن جامع كتاب "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" قد ذكر الرسالة من ضمن مؤلفات الشيخ وفتاواه، وتلك المجموعة معروفة لدى علماء الدعوة فلم ينكروا الرسالة بل أقروها.
٥ - أن الشيخ سليمان بن سحمان قد ذكر هذا الرد للشيخ عبد اللطيف، في كتابه "كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس"، ونقل منه من قوله: "وإن كان المكفر ... " إلى قوله: " وهذا
1 / 13
بين بحمد الله" (١) .
٦ - أن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ﵀ قد ذكر تلك الرسالة في "الدرر السنية"، ووضعها من ضمن مؤلفات الشيخ عبد اللطيف، ومعلوم أن "الدرر" قد قام بتقريظها عدد من العلماء الأجلاء.
_________
(١)
1 / 14
عنوان الرسالة
لم تنص جميع النسخ على عنوان الرسالة، وليس فيها سوى أن هذه الرسالة هي "الرد على الصحاف".
ونص مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد" على أن عنوان الرسالة هو: "الإتحاف في الرد على الصحاف"، وبما أن مع المثبت زيادة علم، وليس هناك ثمة عارض يمنع من إثبات ما أثبته صاحب"المشاهير"، لذا فإني آثرت تسميتها بما أثبته صاحب "المشاهير".
أما مؤلف كتاب: علماء نجد خلال ستة قرون" فضيلة الشيخ / عبد الله البسام، نص على أن الرد هو: "الرد على عبد المحسن الصحافي".
وتبعه على ذلك محقق كتاب: "تحفة الطالب والجليس"، الأخ/عبد السلام آل عبد الكريم، وذلك عند ترجمته للشيخ عبد اللطيف في مقدمة تحقيقه للكتاب.
ولي هنا وقفة مع الأخوين الجليلين، فأقول:
إن الإمام عبد اللطيف مؤلف الرسالة قد نص في مقدمة الرسالة على أن اسم المردود عليه: " عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف".
وكذا الشيخ سليمان بن سحمان، نص على أن اسمه عبد اللطيف الصحاف، وليس عبد المحسن الصحافي، وهذا معارض قوي ينقض
1 / 15
ما أثبته الأخوان الجليلان.
وقد حاولت قدر المستطاع أن أقف على ترجمة لـ "عبد المحسن الصحافي"، وكذا "عبد اللطيف" فلم أظفر بشيء، ولكني في أثناء بحثي وقفت على رجل اسمه" عبد المحسن الصحاف"، ترجم له الزركلي في "الأعلام": (٤/١٥٣)، وذكر: أن اسمه "عبد المحسن بن يعقوب الصحاف"، لكن ليس هو المراد قطعا، لأن الزركلي قد أرخ سنة ولادته عام ١٢٩١هـ، أي قبل وفاة الإمام عبد اللطيف بسنتين، فكيف يكون قد رد عليه وهو لم يبلغ من العمر إلا سنتين.
فبهذا يظهر أن المردود عليه هو " عبد اللطيف الصحاف"، وليس: "عبد المحسن الصحافي". والله أعلم.
1 / 16
منهجي في التحقيق
١ - حاولت قدر الاستطاعة أن تخرج الرسالة على الصورة التي وضعها المؤلف.
٢ - قمت بالمقابلة بين النسخ الثلاث، واختيار النص الأقرب للصواب.
٣ - عزوت الآيات إلى سورها.
٤ - خرجت الأحاديث الواردة فيها.
٥ - ما كان بين معقوفتين هكذا [] فهو من إضافتي.
٦ - الإشارة إلى بدء أوراق المخطوطة ليسهل الرجوع إليها.
1 / 17
الإتحاف فى الرد على الصحاف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين (١)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
أما بعد:
فإن بعض الإخوان، ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف ابن عبد المحسن الصحاف، فيها تعرض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، ومدح (٢) لبعض شيوخه المارقين، وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين، وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين.
وقد طلب مني من ناولنيها، أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل، ونسأل (٣) الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك.
_________
(١) ليست " وبه نستعين" في: "أ"، و"جـ"
(٢) في "ب": "وقدح"، وهو خطأ.
(٣) في "ب": "فاسأل..".
1 / 21
فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده: ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره"
من ذلك: أنه يصف بالعلم من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف والموضوع (١)، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع، ليست له ملكة في نقد الثابت من الموضوع (٢)، يتأول كل حاذق فقيه، عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم (٣)، ورياسة الغمر، وكلامه من أظهر الأدلة / على ما قلناه، عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله، فلذلك اكتفينا بالإشارة، عن بسط القول والعبارة.
فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) (٤) .
_________
(١) في "ب": " الضعيف الموضوع" بدون واو العطف.
(٢) في "ب": "المضوع"، وهو خطأ، وفي "جـ": "المصنوع".
(٣) ولفظه" " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
أخرجه البخاري في العلم، باب كيف يقبض العلم: (ح/١٠٠)، ومسلم في العلم، باب رفع العلم وقبضه ...: (ح/٢٦٧٣) .
وبنحوه أخرجه البخاري في الاعتصام، باب أتم ما يذكر في ذم الرأي وتكلف القياس: (ح/٤٣٠٧)، ومسلم في المصدر السابق: (ص٢٠٥٩)، وفيه قصة.
(٤) قال الدميري والزركشي وابن حجر والسيوطي عن هذا الحديث: " لا أصل له". =
1 / 22
وقوله: (نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها (١) في سبيل الله، وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة) (٢) .
كذلك قوله: (إن العالم أو المتعلم (٣) إذا مر على قرية، فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا) (٤) .
وقوله: (إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل) .
فهذه الآثار ونحوها، ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز أو ممارسة (٥)، وإنما يلتفت إليها ويحكيها، أهل الجهالة والسفاهة، من القصاصين والكذابين.
وأما أهل العلم والدين: فبمجرد النظر إليها، والوقوف عليها، يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة، التي لا تروج إلى على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام.
_________
= انظر "المقاصد الحسنة": (ص٤٥٩)، و"تمييز الطيب من الخبيث": (ص١٢١،و"كشف الخفاء ": ٢/٦٤، و"الأسرار المرفوعة: (ص٢٤٧) .
(١) في "أ": "به".
(٢) وقفت على نحو من هذا بلفظ: "نظر ة إلى وجه العالم أحب إلى الله من عبادة ستين سنة صياما وقياما"، وقد ورد هذا في نسخة سمعان بن المهدي، وهو أحد الوضاعين، عن أنس مرفوعا بمعناه، قال السخاوي: لا يصح.
انظر: "المقاصد الحسنة": (ص٦٩٦)، و"الأسرار المرفوعة": (ص٣٥٦)، و"كشف الخفاء ": (٢/٣١٨) .
(٣) في "أ": "والمتعلم".
(٤) قال السيوطي عن هذا الحديث: "لا أصل له"، انظر: " الأسرار المرفوعة": (ص١٤٢)، و"كشف الخفاء ": (١/٢٢١) .
(٥) في "ب"، و"جـ": "وممارسة".
1 / 23
وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما ينيف (١) على مائة وخمسين دليلا، كما قرره صاحب "مفتاح دار السعادة"، وقد مر ﷺ في رهط من أصحابه، وهم سادات العلماء والمتعلمين على قبرين يعذبان، فشق جريدة ووضعها عليهما، وقال: "لعله أن (٢) يخفف عنهما ما لم ييبسا" (٣) ولم يقل لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما، كما زعمه هذا الجاهل.
وكأي من قرية عذبت، وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إذ لم يؤمنوا بآيات الله، وأصابهم من العذاب ما أصابهم (٤) .
وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه وأن يعطي القوس باريه شعرا/:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وأما قوله: إن في الحديث:
_________
(١) في "أ": "ما ينوف".
(٢) سقطت "أن" من: "جـ".
(٣) في "أ": "تيبسا"، والمثبت من: "ب"، ومصادر التخريج.
والحديث أخرجه مسلم في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه: (ح/٢٩٢) .
(٤) في "أ": "وأصابهم ما أصابهم من العذاب".
1 / 24
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم" (١) .
فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم؛ بل ذكروا أنه موضوع.
قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: (حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد (٢) أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت (٣) قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي ﷺ: "أصحابي كالنجوم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي ﷺ .
وقال ابن قيم٤ لجوزية٥ بعد أن ذكر طرق هذا الحديث:
(لا يثبت شيء منها) ٦.
_________
(١) أخرجه ابن عبد البر في "جامع العلم": (٢/٩١)، وابن حزم في "الإحكام": (٦/٢٤٣، و٢٤٤)، كلاهما من طريق سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا. قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول". وقال ابن حزم: " وأما الرواية: "أصحابي كالنجوم" فرواية ساقطة". ثم ساق الحديث بسنده ثم قال: "أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك". وذكر الحافظ الذهبي في "الميزان": (١/٤١٣) تحت ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، نحوا من هذا الحديث من رواية أبي هريرة، وقال: " ومن بلاياه عن وهب ابن جرير عن أبيه ... " فذكره.
(٢) في "ب"، و"جـ": "سعد".
(٣) في "ب": "المصموت"، وهو خطأ، وانظر: "الأنساب" (٨/٨٩)، و"نزهة الألباب في الألقاب":١/٤٢٨) .
(٤) في "جـ": "ابن القيم الجوزية".
(٥) انظر: "إعلام الموقعين": (٢/٢٣٩) .
(٦) في جميع النسخ: "منه"، والمثبت من "إعلام الموقعين"، ولعله أولى.
1 / 25
ثم قال ما معناه: " إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخير في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر، ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر، وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها١ بين الاعتداد بالوضع وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه، كعلي، ومن يقول بمنعه" كعمر ومن وافقه.
وبالجملة فإطلاق هذه يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٢، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالاقتداء بأحد من الخلق كائنا من كان، وأما مع عدم النص المخالف فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب، كما قال تعالى: / ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ ٣.
_________
(١) سقطت "زوجها"من: "أ".
(٢) سورة النساء، الآية:٥٩.
(٣) سورة الأنعام، الآية:٩٠.
1 / 26
وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم.
فيقال له: هذه الدعوى، وهذا الثناء، هو بحسب ما عندك وما ظهر لك، ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة، الذين يكفرون أهل لا إله إلا الله "لا إله إلا الله"، ويجعل عباد الأولياء والصالحين، الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين هم أهل "لا إله إلا الله" كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعرا:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وشهادة من لا يعرف العلم، أو النحو، أو الهندسة، أو الطب مثلا لشخص بأنه عالم، أو نحوي، أو مهندس، أو طبيب: شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل: (لا يعرف الفضل إلا ذووه)، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله، والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان.
وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم، ما يقتضي-إن صح - أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين.
ويقال لهذا١ أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه، فادعتها الجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة، والروافض، والنصيرية، ونحوهم من كل مبتدع ضال، فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها
_________
(١) سقطت"لهذا" من: "ب"، و"جـ".
1 / 27